عسى أن يكون خيرا
20-03-2018, 01:20 PM
عسى أن يكون خيرا
سلطان بركاني


تقول إحدى الفاضلات: كنت في المسجد الحرام، فرأيت امرأة عجوزا تصلّي وتبكي وترفع يديها وتدعو بحرقة لم أرَ مثلها من قبل، فاقتربت منها وجلست بجوارها وسألتها:" مالك أيتها الأم؟، أراك تبكين بحرقة فما القصة؟"، قالت العجوز ودموعها تنهمر: " أبكي خوفا من عقاب الله وعذابه". قلت: لماذا؟، قالت:
" كان لي زوج أعيش معه في مودّة ورحمة، إلا أنّ الله لم يرزقني منه الولد، ما عكّر صفو حياتنا، فأشفقت عليه واقترحت عليه الزواج من امرأة أخرى، ولكنه رفض بشدّة، فألححت عليه أياما وشهورا حتى وافق، فتوجهت معه وذهبنا لخطبة إحدى النّساء، وتمّ الزواج...
لم تمرّ على الزّواج سوى أيام معدودات، حتى بدأت نار الغيرة تضطرم في صدري، خاصّة أنّي أحسست بأنّه يميل إليها أكثر منّي، وبدأ ميله يظهر أكثر عندما رُزق منها بطفل جميل. كظمتُ مشاعري في صدري إلى أن جاء ذلك اليوم الموعود، يوم أخبرني زوجي أنه سيذهب في سفر مع زوجته الجديدة، وأنه سوف يترك الولد معي، وافقت دون نقاش، لأنه لا أحد غيري يعتني بالطفل، وفى يوم السفر الأول كان الولد أمامي يلعب في ليلة شتاء باردة، فأشعلت بعض الحطب كي أدفئ الغرفة، كان الولد يلعب، وكانت نار الغيرة تأكل قلبي، تقدّم الولد إلى المدفئة وأمسك بالجمر، فأسرعت إليه، ولكنّي بدل أن انتزع يده من النار: وضعتها فيها حتى احترقت، فهدأت نار قلبي، ولكنها لم تنطفئ، ثمّ ما هي إلا ساعة حتى جاءني خبرٌ يا له من خبر!!؟.
" زوجي وزوجته الثانية أصيبا في حادث وماتا معا!!؟".
وجدت نفسي وحيدة ليس لي غير هذا الطفل مشوّه اليد، توالت السّنوات وعانيت ما عانيت، وكبر الطّفل، أحببته وأحبني وأصبح هو المسؤول عنّي، هو من يرعاني ويرعى طلباتي. كان يعاملني بلين ورفق ويراقب الله في معاملتي، كان يناديني يا أمي، وفي كلّ مرّة يناديني أمّي: كان قلبي يعتصر من الحزن، وفي كلّ مرة أرى فيها يده المشوّهة ينخلع قلبي وأبكي، ولا أعلم مِن دون هذا الطفل الذي صار شابا كيف تكون حالي.

إنّها قصّة يختصر العبرةَ منها: قولُ الله -جلّ وعلا- في كتابه الكريم ((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون))؛ فكثيرا ما يستعجل الإنسان في هذه الحياة، وينسى أنّ لهذا الكون خالقا مدبّرا عليما حكيما، حنانا منانا جوادا كريما، يستعجل الإنسان ويرى في كلّ ضيق وبلاء ينزل به شرا محضا لا خير فيه، وتسوَدّ الدّنيا في وجهته، وربّما يقوده الشّيطان إلى التسخّط على قضاء الله وقدره.
ربّما يبتلي الله عبدا من عباده بالفقر، فيغفل عن حكمة الله في ذلك، ويظنّ أنّ الله حرمه ما فيه مصلحتُه وما فيه خير دنياه وأخراه، ((وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاّهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن))، فيحزن ويغتمّ ويتنكّد عيشه ويظنّ السّوء بربّه الكريم، وهو لا يعلم أنّ الغنى سيفسد دينه ودنياه، ثمّ لا يزال يلحّ في طلب الدّنيا، فيفتح الله له بابا من أبواب الرّزق، ويغدق عليه، فينسى ما كان عليه من حال الفقر، وينسى شكر ربّه الكريم، بل ربّما يلهيه ماله عن الله وعن الصّلاة، وربّما ينفق ماله في معصية الله، ولو بقي فقيرا صابرا: لكان خيرا له من ذلك الغنى الذي أطغاه وألهاه: ((وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُون)).
ربّما يبتلي الله عبدا من عباده، فيحرمه الذرية والأولاد، فيتضجّر ويتبرّم، ويظنّ السّوء بربّه الكريم، وهو لا يعلم أنّ الله ربّما ما حرمه إلا لأنّه يعلم أنّ الذرية ستكون سببا لتعاسته في الدنيا وخسارته في الآخرة، لأنّه لن يحسن تربيتها وتأديبها.
لأجل هذا: ينبغي للعبد المؤمن أن يكون راضيا باختيار الله، مسلّما لقضائه، فرُبّ منحة في محنة، ومحنة في منحة، وربّ مرغوب في مكروه، ومكروه في مرغوب.
لا يدري العبد المؤمن: أين يكون الخير وأين يكون صلاح أمره!!؟: في الشدّة أم في الرّخاء؟، في العافية أم في البلاء؟.
لا تدري المؤمنة: أين يكون صلاح دنياها وأخراها؛ في الزّواج أم في العنوسة؟، مع الزّوج الفقير أم مع الزّوج الغنيّ؟ مع الذرية أم مع العقم؟. وأيّ شيء في حياة العبد المؤمن لم يعجبه: ربّما يكون هو أعظم خير في حياته، وأيّ شيء في حياته أعجبه واطمأنّ له: ربّما يكون سبب بلائه في الدّنيا أو في الآخرة: ((وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون)).
فعلى العبد المؤمن: أن يسعى لتحصيل ما يراه خيرا ودفع ما يراه شرا، وأن يتوكّل على الله، ويقدّم ما أمكنه من الأسباب المشروعة لذلك، فإن وقع شيءٌ على خلاف ما يحبّ، فليتذكرْ هذه القاعدة القرآنية العظيمة:
((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون))، ولْيُسلّم أمره لله وليرض باختياره، ولْيحسن الظنّ بربّه الكريم ولْيصبر، وسيرى من ربّه الحنّان المنّان: ما ينفعه ويرضيه.