الدونمة بين اليهودية والإسلام: خلفيات خرافية أنتجت الحركة الصهيونية
05-02-2009, 11:16 AM
خلفيات خرافية أنتجت الحركة الصهيونية


«الدونمة».. واحدة من أغرب العقائد في التاريخ



لندن: كريم عبد




قليلة هي الكتب العربية التي تسلط ضوءا تاريخيا موثقا على الشتات اليهودي الطويل ومحطاته الرئيسية، خصوصا في القرون الأخيرة، وتلك التي اتصفت بالهستيريا الدينية ذات الطابع العاطفي، التي خالطتها الخرافات معتمدة على الإرث الأسطوري لليهود في تاريخهم البعيد وشتاتهم الطويل، والتي شكّلت لاحقا أسس الآيديولوجيا الصهيونية و(مبررات) التطرف الديني الذي اتصفت به، والذي جسدته إسرائيل لاحقا بسياساتها المعروفة. إن كتاب (الدونمة بين اليهودية والإسلام) للباحث والمؤرخ العراقي د. جعفر هادي حسن، هو أحد تلك الكتب التي تضع القارئ أمام حقائق وغرائب ومفارقات ذلك التاريخ الطويل. فعبر عشرات المراجع بالإنجليزية والعربية يسلط المؤلف الضوء على تاريخ يكاد يكون خفيا على القارئ العربي.


* ما هي الدونمة؟


* (الدونمة) كلمة تركية أطلقها الأتراك المسلمون على أتباع (شبتاي صبي)، الذين تظاهروا بالإسلام كما تظاهر هو. وهي تعني «المتحولون عن دينهم» أو «المرتدون عنه». بينما تطلق الجماعة ذاتها على نفسها (مئامنيم)، وتعني «المؤمنون» أو «المصدقون» بـ(شبتاي صبي). ويعتبر الدونمة أنفسهم مجموعة مختارة متميزة لأنهم تابعوا شبتاي في تظاهره بالإسلام، وقبلوه بينما لم يفعل ذلك البقية من أتباعه. وكان عدد الدونمة قليلا عندما كان شبتاي حيا، وكان أكثرهم من يهود تركيا ودول البلقان. ففي منتصف ثمانينات القرن السابع عشر، أي بعد وفاة شبتاي بسنوات، أظهر ما يقارب من ثلاثمائة عائلة من أتباع شبتاي إسلامها في سالونيك - اليونان، ثم هاجر أكثر من كان في تركيا منهم إليها، فأصبحت سالونيك منذئذ المركز الرئيسي لهذه الفرقة.


لا يكاد دين أو عقيدة، عبر التاريخ، تخلو من فكرة (المخلّص) أو (الإمام المنتظر)، والدونمة هي تجسيد اتسم بتصاعد هستيري حول شخص اسمه (شبتاي صبي)، يجد القارئ شرحا وافيا عنه في الكتاب. يقول المؤلف: «عقيدة الدونمة تتركز في الواقع حول شبتاي نفسه... إن عقيدة الدونمة لا تعني شيئا لهم - أي أتباعه - بدون شبتاي، فهو المسيح وهو المخلّص وهو المنتظر والمؤمل، كما أن تقاليدهم وتعاليمهم وأعيادهم تتركز أيضا حوله وحول ما شرعه لهم». ص 131


امتدت حياة شبتاي صبي من 1626، حيث ولد في مدينة أزمير التركية لأبوين يهوديين مهاجرين من اليونان، إلى 1676 تاريخ وفاته، منفيا من قبل السلطان العثماني في مدينة أولفن في ألبانيا. نصف قرن محتشد بالتحولات والمخاطر والتقلبات والألاعيب التي حولت الخرافات إلى حقائق في أذهان أتباعه، ولم يأت تحويل الخرافات إلى (حقائق) اعتباطا، لأن التاريخ اليهودي، كما في كل تاريخ، هو في الواقع تاريخان يتداخلان هنا ويفترقان هناك. فالأول هو تاريخهم الواقعي كجماعة دينية عاشت في بلدان متعددة وتعرضت كما تعرضت الجماعات الأخرى إلى تقلبات الحياة الإنسانية وامتحاناتها الكثيرة. أما التاريخ الثاني فهو تاريخ أساطير وخرافات تتعلق بانتظار المخلّص الذي جسّده شبتاي صبي خير تمثيل.


لقد قدم جعفر هادي حسن هذه السيرة المضطربة والخطيرة بطريقة يمكن تسميتها بالروائية، حيث تتبع تفاصيلها ونمو شخصياتها وأحداثها استنادا إلى خلفياتها وأصدائها المحلية والدولية، حيث أثرت دعوة شبتاي صبي على جميع اليهود في مختلف بلدان تواجدهم سلبا وإيجابا، فلم يكن هذا الرجل موضع ترحيب من قبل جميع اليهود، خاصة بعض الحاخامات الكبار، ولكن لم تؤثر اعتراضاتهم على انتشار دعوته، خصوصا تحت تأثير (ناثان المتنبئ) الذي سرعان ما ظهر في حياة صبي وسانده وروّج له. ويعتبر ناثان صانع خرافات ومصعّدا لها بطريقة دراماتيكية مثيرة للانتباه.


يقول المؤلف: «عقيدة الدونمة هي واحدة من أغرب العقائد التي يصادفها الباحث.. ووجه الغرابة فيها هو أن أتباعها التزموا ظاهرا واختيارا بالشعائر الإسلامية التي لا يؤمنون بها، وآمنوا باطنا بمعتقدات يعتقدونها ولا يظهرونها للناس، وهم على الرغم من التزامهم الظاهري بالمعتقدات الإسلامية فإنهم يمقتون الإسلام. ويفسر علماء الدونمة إظهار شبتاي الإسلام على أنه مرحلة مقدمة لخلاص اليهود.. ولقد ظلت عقائد الدونمة ردحا طويلا من الزمن سرا من الأسرار لا يعرفها إلا هم، وبقي الناس لا يميزون بين الدونمة وبين غيرهم من المسلمين، وكيف يميزونهم وهم يؤدون ما يؤديه المسلمون ويتسمّون بما يتسمّون به من أسماء؟». بقي الدونمة 250 سنة يعيشون خلف جدار صيني سميك في معزل عن الناس في مجتمع مسلم في سالونيك - اليونان. «وقد طوروا عقيدتهم من خلال حياتهم السرية، وعن طريق تقاليدهم الخاصة وأعرافهم الدينية الغريبة، وبطريقة سرية تماما.. ولم تبدأ أسرار هذه الفرقة تنكشف إلا في بداية القرن العشرين، حيث حصل بعض الباحثين والمختصين على بعض كتبهم التي تضم عقائدهم وتعاليمهم» ص 131.


ولأن فرقة الدونمة قد نشأت أساسا على الإيمان بفكرة (المسيح المخلّص في اليهودية)، نجد في الكتاب من ص 17 إلى ص 41 شرحا تفصيليا لهذه الفكرة وخلفياتها في الديانتين اليهودية والمسيحية، ثم استعراضا تاريخيا لأهم الحركات والشخصيات التي ادّعت أنها المسيح المخلّص قبل ظهور شبتاي صبي بقرون. واستنادا إلى هذا التاريخ الطويل من الخرافات التي سكنت خيال قسم من اليهود، وخالطت معتقداتهم رغم تساقطها عبر الزمن الواحدة تلو الأخرى، استطاع شبتاي أن يجد منفذا للخيال الجمعي لهؤلاء، مبلورا دعوته حسب ما ذكره لأحد الحاخامات قبيل وفاته بسنتين: «أنه في أحد الليالي من عام 1648 هبط عليه الروح القدس عندما كان يتمشى في الليل، على بعد ساعتين من المدينة، حيث سمع صوت الله يقول له: أنت مخلّص إسرائيل، أنت المسيح، ابن داوود المختار من قبل رب يعقوب، وأنت المقدّر لك إنقاذ إسرائيل وجمعهم من أركان الأرض الأربعة إلى أورشليم» ص 84.


ولم يبق ادعاء شبتاي سرا محصورا بين طلابه وأصحابه، إذ سمع به الحاخامات فأثار غضبهم وحنقهم، فاستدعوا شبتاي للمثول أمامهم للتأكد مما كان يدعيه، إلا أن شبتاي رفض ذلك، بل وسخر منهم. فتدارسوا أمره بينهم واتفقوا على أن يصدروا قرار طرد من اليهودية بحقه. وكان من بينهم أستاذه جوزيف أسكافا الذي كان يدعو إلى قتله، قائلا: «إن من يقتله سيجازى بكل خير، لأنه سيقود اليهود إلى الضلال ويبتدع دينا جديدا».


لكن شبتاي لم يتأثر بهذا الموقف، ولكي يضمن نجاح مشروعه غادر أزمير إلى سالونيك، حيث كان فيها آنذاك جالية يهودية كبيرة، وما يزيد على ستة وثلاثين كنيسا، والكثير من يهود سالونيك كانوا قد تجمعوا فيها بعد طردهم من إسبانيا والبرتغال منذ نهاية القرن الخامس عشر. وفي مجتمع المطرودين والمهاجرين هذا وجد شبتاي ضالته، حيث هؤلاء متهيئون لتقبل ادعاءات المخلّصين والمنقذين بما ينطوي عليه الأمر من خلفية خرافية طويلة ومتراكمة.


وبعد أن وطّد أسس دعوته بدأ في التحرك نحو الشرق، حيث زار طرابلس ومصر وبلادا أخرى، ثم فلسطين، متحركا بين غزة وأورشليم ومدن أخرى، ووجد احتفالا خاصا به من قبل الكثيرين، خصوصا الحاخام ناثان الذي تحول إلى ساعده الأيمن، ليعلن لاحقا أن شبتاي صبي هو المسيح المنتظر!


لقد جاء ذلك بعد نشاطات كبيرة في صفوف الجاليات اليهودية في مختلف بلدان العالم، حيث أحدثت دعوته هزات كبيرة في صفوفهم، وصلت أحيانا إلى هستيريا دينية، فأخذ شبتاي يعد اليهود بالسلطة والثأر لهم من أعدائهم، وتحقيق دولتهم التي سيحكمون العالم من خلالها.


فبعد أن أقنع ناثان شبتاي صبي بأن «الوقت قد حان ليعلن للعالم أنه المسيح، كما أنه أعد العدة لذلك بأكثر من طريقة، اعتقد أنها ستكون مؤثرة على الناس. ففي ليلة عيد الشفعوت اليهودي ربيع 1665 دعا ناثان مجموعة من طلاب الشريعة وبعض الحاخامات أن يحيوا الليلة معه لدراسة التوراة، ولم يحضر شبتاي لأنه كان في - حالة استتار الوجه - وفجأة وعندما كانوا يدرسون نام ناثان نوما عميقا، ثم بعد ذلك قام ووقف على رجليه وأخذ يمشي في الغرفة جيئة وذهابا وهو يقرأ نصوصا طويلة من التلمود، ثم طلب من بعض الطلاب أن يغني بعض المدائح. فأخذ يقفز ويرقص، ثم قفز قفزة كبيرة سقط على إثرها منبطحا على الأرض، ولما فحصوه شكّوا في أنه ميت، فوضعوا منديلا على وجهه كما يُفعل مع الإنسان الميت. ولكن ما إن مرت برهة من الزمن حتى سمعوا صوتا خافتا يخرج من فم ناثان دون أن تتحرك شفتاه، ثم نطق قائلا: اعتنوا بابني المحبوب ومسيحي شبتاي صبي، اعتنوا بابني ناثان النبي» ص58.

وما إن نجحت هذه الهستيريا الممسرحة حتى تحولت إلى هاجس انتاب قسما من اليهود في الكثير من المدن الأوروبية والشرقية، «بل إن الأمر وصل ببعضهم إلى أن يستعدوا ويتهيأوا للذهاب إلى فلسطين..»، وقد وصفت إحدى اليهوديات من هامبورغ تلك الفترة بقولها: ليس من الممكن وصف فرحنا عندما كنا نتسلم الرسائل.. كان اليهود السفاريدم يلبسون أحسن الملابس وأجملها، ويضعون حزاما أخضر من حرير، وهو شعار شبتاي، ويخرجون في الشوارع يرقصون على ضرب الطبول كما كانوا في الأيام القديمة في عصر الهيكل. وقد باع بعضهم ما يملك، وكانوا ينتظرون يوم الخلاص. مما يسهل على المتابع مقارنة تلك الأيام البعيدة بالأيام اللاحقة في العقود الأولى من القرن العشرين، حيث عادت تلك الهستيريا التي دفعت بالآلاف من اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين كمقدمة لإعلان دولة إسرائيل.
التعديل الأخير تم بواسطة أرسطو طاليس ; 05-02-2009 الساعة 11:18 AM