عميد الأغنية البدوية الشيخ حمادة الفنان الذي أحدث “ربيعا عربيا” في الأغنية البدوية
02-09-2013, 04:45 PM
عميد الأغنية البدوية الشيخ حمادة الفنان الذي أحدث “ربيعا عربيا” في الأغنية البدوية




عميد الأغنية البدوية الشيخ حمادة
الفنان الذي أحدث “ربيعا عربيا” في الأغنية البدوية


من دوار أولاد طواهرية بمستغانم إلى مدينة الجن والملائكة فعاصمة ألمانيا برلين، كانت رحلة المغني البدوي الشهير باسم الشيخ حمادة، الذي دوّى صوته في الآفاق وسجّل اسمه بأحرف من ذهب في عالم الأغنية البدوية.. غنّى لكبار شعراء البدوي، وكان مدرسة لكل الأجيال التي لحقته سواء في مدرسة البدوي وحتى الشعبي..

في يوم 9 أفريل 1968 فقدت الساحة الفنية أحد أعمدة ورواد الأغنية البدوية ذات الطابع الوهراني، الشيخ حمادة، واسمه الحقيقي قوعيش محمد بن عبد اللّه، من مواليد 1889 ببلاد طواهرية ذات الطابع الفلاحي، التي تبعد عن مدينة مستغانم بحوالي 18 كلم.. عمل وهو صبي في مزارع المعمّرين بالمنطقة، وعانى الأمرّين من ظلم واضطهاد المعمرين للعمال الجزائريين، كما تحمّل المسؤولية العائلية بعد وفاة والده عبد اللّه وهو صبي، وكان يعبّر عن همومه وأحزانه وظروفه الاجتماعية العسيرة، أثناء ساعات العمل بمزارع المعمّرين، مرددا مقاطع من قصائد كبار شعراء البدوي، التي كان يتغنى بها كبار فناني ذلك العصر.

كما كان الشيخ حمادة سريع الحفظ وكثير التردد على الحفلات والسهرات والولائم التي كانت تقام هنا وهناك، وكانت بمثابة الخزّان الذي أثـرى به فيما بعد رصيده الفني، قبل أن يقرر الرحيل، سنة 1919، إلى مدينة مستغانم بعد أن سئم الحياة بمسقط رأسه والاستقرار بحي تيجيدت العتيق أو بالمدينة العربية، مثلما كان تسمى في عهد الاستعمار. وهناك ترعرع الشيخ حمادة بين أفراد عائلته وبين أصدقاء الحي، وكانت عائلته تقيم بالشارع رقم 21، الذي لا يزال شاهدا على تلك الحقبة التاريخية من حياة ومسار الشيخ. دخل في طفولته المدرسة الفرنسية وتتلمذ على يد معلمه الشيخ إبراهيم فاتح، وأخذ مبادئ اللغة العربية عن معلمه الشيخ بلقاسم بن طيفور.

الولع بالفن الأصيل منذ نعومة الأظافر

كان الشيخ حمادة منذ الصغر مولوعا بالفن البدوي، الذي تشتهر به المنطقة وأريافها، والحاضر بقوة في المناسبات الدينية والأفراح. أخذ الطفل حمادة أولى مبادئ فنه عن شيوخ كبار في الأغنية البدوية الأصيلة، عندما استقر بمستغانم، والتقى بهم ونسج علاقات محبة وطيدة معهم، على غرار الشيخ دحمان بوطرفة، الشيخ قدور ولد العجال والشيخ المنور ولد يخلف، الذي سجل أول أسطوانة 33 لفة سنة 1908.

تعرّف عن قرب على شعراء الأغنية الشعبية والأندلسية، منهم الشيخ سعيد لولو اليهودي والشيخ عبد الرحمان، وكذا مشايخ الشعر الملحون الذين غنى الكثير من قصائدهم. كما غنى لأبرز شعراء تلك الفترة كمصطفى بن براهيم والخالدي وابن قانون وابن طبجي المستغانمي صاحب رائعة عبد القادر يا بوعلام. وصقل الشيخ حمادة موهبته الفنية بالنهل مما يسمعه في السويقة بحي تيجديت، عندما كان يلتقي سنويا مختلف شعراء المنطقة، بمن فيهم شعراء مازونة، حيث تلقى آخر ما جادت به قرائح هؤلاء، في جو تنافسي بين المبدعين في الشعر الملحون، وكان ذلك في مطلع سنة 1920.

غنى لأكبر شعراء البدوي

كانت سنة 1920 بداية انطلاق المسار الفني للشيخ حمادة، رفقة الشيخ عبد اللّه بوطرفة رفيق دربه في أحياء الحفلات والأعراس. ويروي ابنه، الأستاذ قوعيش عبد اللّه رئيس بلدية مستغانم سابقا، وأحد أعيان المدينة حاليا، أن والده كان يغني إلى جانب الشيخ بوطرفة كلّما أتيحت له الفرصة في الأعراس، فبدأ يسطع نجمه. كما كان ذا صوت جميل شدّ الانتباه وقتها، فأسس فرقته الشخصية نهاية سنة 1923 وبداية سنة 1924، محدثا بذلك ثورة في الأغنية البدوية، بداية بالقصابة مشترطا انسجام صوت آلة النفخ ونغمة الصوت ونوعية القصيدة المغناة، حتى لا يفر المستمع.

ومن أشهر “قصابة” الشيخ حمادة الذي رافقه لمدة طويلة في مسيرته الفنية عدة ولد لكحل، الشارف بن ساسة، وسي بوعلام بن التكوك شقيق الشاعر عبد اللّه بن التكوك صاحب المدائح النبوية والتوسلات وبوديسة، وابن فريحة قدور الذي رافق الشيخ حمادة من سنة 1952 إلى سنة 1963. أما “القصابان” اللذان لازماه إلى آخر رحلة فنية قبل وفاته هما الحاج بوديسة وبلقاسم الخدوسي.

ومن أشهر “البراحين” بوحسيون والحبيب المعسكري، كما “برّح” له مشاهير أثناء تسجيلاته الكثيرة، منهم محي الدين بشطارزي، رشيد القسنطيني ورفيقته ماري سوزان، الشيخة يمينة بنت الحاج المهدي، والشيخة طيطمة التلمسانية. وقد صادف ذلك تواجدهم أثناء تسجيلاته.

ويسجل للشيخ حمادة، يقول أقاربه، أنه أول من اقتحم عالم القصيدة الشعبية وغناها بالطابع البدوي بـ«القصبة” و«الڤلال” والانتقال بذلك بالأغنية البدوية من عوالم الأرياف إلى عوالم المدينة والحضر، وذلك بشهادة الفنان الكبير عميد الأغنية الشعبية معزوز بوعجاج.

البداية الفنية للشيخ حمادة لم تختزل في مدينة مستغانم وضواحيها، فراح يبحث عن الشهرة والبروز في وهران، وبالذات في أكبر فضاء يلتقي فيه شعراء وفنانو الأغنية البدوية “الطحطاحة” بالمدينة الجديدة، وكان ذلك سنة 1925، حين التقى بالشاعر الكبير الخالدي عبد القادر، وغنيا معا لأول مرة أغنية “يا الميلود” في أداء ثنائي فريد من نوعه أبهر الحضور، ولم يتكرر بعدها ذلك الثنائي في مسيرة الشيخ. كما التقى بالشاعر والفنان القدير الشيخ المدني وآخرين.

من دوار “أولاد طواهرية” إلى باريس وبرلين

كانت بداية النجومية ودخول عالم الفن والشهرة من بابه الواسع. وجاء الرد سريعا بعد أن أصبح الشيخ حمادة نجما لامعا في مجال الأغنية البدوية، فانتشر خبره وبات محل اهتمام المعجبين به، فسارعت مؤسسات الإنتاج الأجنبية لاستغلاله فنيا، لا حبا في الأغنية البدوية الجزائرية كتراث وموروث حضاري، وإنما من أجل الربح المادي، فعرضت عليه التسجيل، منها غراموفون، فيليبس، وباتي، التي لا تملك أستوديوهات للتسجيل بالجزائر، فعرضت على الشيخ السفر إلى فرنسا وألمانيا للتسجيل هناك. وكانت الفرصة لإبراز الأغنية البدوية ونشرها في الوسط الشعبي، فسافر إلى العاصمة الفرنسية باريس سنة 1930 لتسجيل أول أسطوانة له، إلا أن القدر أراد عكس ذلك بسبب عطب تقني بالأستوديو فتنقل إلى عاصمة ألمانيا برلين، وهناك بأستوديوهات بوليفون سجّل أغنية “يا عودي اللّه” رفقة “القصابين” الشارف بن ساسة وسي بوعلام بن التكوك من شعر الحبيب بن قنون، التي لقيت نجاحا وشهرة واسعة في وسط محبي الفن البدوي.

وأثناء التسجيل التقى بالفنانة فضيلة الدزيرية وبالفنان المصري الكبير محمد عبد الوهاب، وحسب ابن الشيخ حمادة، الأستاذ عبد اللّه، فقد بلغ عدد الأسطوانات المسجلة، منذ سنة 1930 إلى غاية وفاته، 500 أسطوانة 78 و45 لفة، وأغلب عناوينها مدوّن بخزانة الإذاعة الوطنية.

عاشق المسرح وموسوعة الشعر

كما كان للشيخ حمادة حضورا دائما في المناسبات والسهرات الفنية التي تحتوي على فصل أول خاص بالعروض المسرحية وعرض ثان خاص بمشاهير الطرب، كان من بينهم الشيخ حمادة، فربطته جراء ذلك علاقة وطيدة مع الكثير من فناني المسرح، على غرار كلثوم ومحي الدين بشطارزي وكاكي، لذا كان اهتمامه كبيرا بالمسرح والسينما، وكان عبارة عن موسوعة يحفظ العشرات من القصائد لكبار شعراء الجزائر، من الخالدي إلى مصطفى بن إبراهيم إلى ابن كريو إلى ابن ڤيطون والزناتي، وكان حفاظا يقصده الشعراء والفنانين لتصحيح القصائد الغنائية.

ومن الفنانين الذين استعانوا به المسرحي ولد عبد الرحمان كاكي، المبدع المجدد المسرحي الموظف للتراث في المسرح، على غرار الڤوال والحلقة والأهازيج الشعبية، وكذا الفنان الكبير معزوز بوعجاج عميد الأغنية البدوية. كما كان شيخ الأغنية الشعبية الحاج محمد العنقى والحاج منور وفضيلة دزيرية من ضيوف الشيخ حمادة، كلما حلّوا بمستغانم، حيث كان يزوّدهما بالقصائد والأشعار التي تزخر بها مستغانم.

غنى في عيد العرش الملكي ورفض القيام لتحية الباشا

أحيى الشيخ حمادة العديد من السهرات الفنية الخاصة بالطرب البدوي، في جهات مختلفة من المغرب الأقصى بداية من سنة 1942. وبدرجة خاصة كان يستدعى لأحياء الأعراس أثـرياء وأعيان مدينة وجدة المغربية. كما غنى في عيد العرش الملكي في عهد الملك محمد الخامس، بعد أن تلقى دعوة رسمية من الديوان الملكي، وهناك احتك بالفنانين والشعراء المغاربة، خاصة شعراء الملحون والأغنية الشعبية، وحمل معه مجموعة من القصائد المغربية التي نالت إعجابه، فلحّنها وغناها، منها ما نالت شهرة واسعة على غرار “هاجو لفكار”، “العيد الكبير”، “يا لوشام”، “بنات البهجة”، “يابوي كيراني”، و«يوم الخميس واش أداني”. الأغاني نفسها أعادها الفنان الشعبي الكبير محمد العنقى في الطابع الشعبي. وأحيى الشيخ حمادة سنة 1951 حفلا فنيا بمدينة وجدة أثناء السهرة الفنية، وفجأة قام الجميع من أماكنهم لتحية “الباشا”، إلا حمادة بقي جالسا في مكانه بوقار متربعا، فهمس أحدهم في أذن الشيخ “قم لتحيي سيادة الباشا”، فردّ عليه بجواب الواثق وبعزة نفس: “أنا جئت لأغني لشعب المغرب الذي يكنّ وأكنّ له الاحترام والتقدير الذين رفعوني إلى قمة السماء بكرمهم وحبهم لي وتذوّقهم الراقي إلى الأغنية البدوية الجزائرية الأصيلة، ليس لكي أقف وأنحني أمام الباشا لتحيته”.

وواصل الشيخ حمادة الغناء غير مبال بوجود الباشا الذي جلس يتأمل في حمادة وهو يؤدي أغنية “هاجو لفكار”، وما إن انتهى، طلب منه الباشا غناءها مرة ثانية، فرفض الشيخ وغادر المكان بكل أناقة واعتزاز بالنفس، غير مبال بوجود الباشا أمام حيرة ودهشة الحضور الذين بقوا في حزن بعد أن أفسد الباشا الحفل.

توقّف عن الغناء وجنّد أبناءه في ثورة التحرير

كانت منطقة سيدي علي وضواحيها، عند اندلاع ثورة التحرير الكبرى في الفاتح من نوفمبر 1954، تحت قيادة البطل الشهيد ابن عبد المالك رمضان، مفجر الثورة بمستغانم وجبال الظهرة وأول شهيد يسقط في ساحة الشرف 4 أيام بعد اندلاعها، ثم الشهيد برجي مختار فيما بعد على موعد مع الحدث التاريخي الكبير في مسار ونضال الشعب الجزائري.

توقف الشيخ حمادة عن الغناء لمدة زمنية وتجنّد أبناؤه الثلاثة في صفوف جيش التحرير وهم الشارف، عبد القادر وأحمد. هذا الأخير نال الشهادة أثناء معركة ضارية بين ثوار جيش التحرير وعساكر العدو الفرنسي جرت بالحدود الجزائرية المغربية، وذلك سنة 1959، أما ابنه عبد القادر المغترب بفرنسا فكان مناضلا في صفوف جبهة التحرير الوطني “فيدرالية فرنسا”، ألقي عليه القبض وسجن بمدينة ليون سنة 1961 وأطلق سراحه في 19 مارس تاريخ توقيف القتال، إلا أنه اختُطف فيما بعد واختفى عن الأنظار إلى غاية اليوم.

توظيفه للأغنية البدوية في مختلف المجالات

تناول عميد الأغنية البدوية الشيخ حمادة، في سجله الحافل، الأفراح والأحزان والحب، وكان مواكبا لأحداث عصره الكبرى في الجزائر، كزلزال الأصنام سنة 1954، وكان متفاعلا مع ثورة التحرير وكل ذلك مدوّن في أغانيه، التي تعد تراثا هاما أثـرى المكتبة الوطنية للأغنية البدوية الجزائرية الأصيلة وإنقاذها من الضياع، بقيت أغانيه إلى اليوم ذات صدى واسع تردّدها الأصوات في كل مكان، رغم رحيله ذات يوم أربعاء 9 أفريل 1968، بعد أن أدى فريضة الحج.. وكان يوما حزينا وكئيبا في تاريخ مدينة مستغانم، وفي تاريخ الأغنية البدوية الجزائرية.


الباحث المختص في الأشرطة الوثائقية مصطفى عبد الرحمان
مستغانم لم تعط الشيخ حمادة حقه

قال مصطفى عبد الرحمان، الباحث في التاريخ والتراث المحلي، ومخرج العديد من الأشرطة الوثائقية التاريخية والثقافية ومن المهتمين بالحركة الثقافية والفنية بمستغانم، إن مستغانم لم تعط الرجل حقه إلى غاية اليوم بعد رحيله سنة 1968. كما لم يحظ من قِبل النخبة المستغانمية المثقفة بالبحث والكتابة، وكل ما أنجز عن الشيخ حمادة، حسبه، هو مسلسل من عدة حلقات في الثمانينيات من تأليف وإخراج الحاج أحمد منصوري، وإنتاج المحطة الجهوية للتلفرة الجزائرية بوهران، وهو العمل الوحيد. وأشار المتحدث إلى أن الوالي السابق، زوخ عبد القادر، أعاد الاعتبار إلى الشيخ حمادة، حيث كان من القائمين والمشرفين شخصيا على فعاليات “مهرجان الشيخ حمادة للأغنية البدوية”، بمسقط رأسه بأولاد طواهرية، مضيفا أنه أعاد الاعتبار من خلال الكم الهائل للفنانين والشعراء المشاركين من كل ربوع الجزائر، إلا أن التظاهرة أقبرت مباشرة بعد رحيله، ولا أحد اليوم يتذكر الشيخ حمادة، بل إن الكثير منهم لا يعرف حتى تاريخ وفاته. وأكد مصطفى عبد الرحمان أن الشيخ حمادة، الذي كان ينحني له الأوروبيون عندما يمرّون أمامه لتحيته بوسط المدينة، يعتبر من أعمدة مستغانم في الفن، إلى جانب المسرحي كاكي والفنان التشكيلي خدة، ومن الواجب أن يكونوا أحياء في الذاكرة، لأنهم جزء من تاريخ المدينة التي تعتز بهم ولو في صمت رهيب.


مستغانم: مدني بغيل
المصدر : http://www.elkhabar.com