رحلة أبي زيد السيرافي
12-09-2019, 11:30 AM


رحلة التاجر سليمان السيرافي هي أشهر الرحلات العربيَّة إلى بلاد الشرق الأقصى في الهند والصين، وهي تلك التي تلقَّفها عنه ورواها وهذَّبها الرحالة أبو زيد السيرافي، كانت تلك الرحلة مصدرًا مهمًّا للباحثين في مجال الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والحضارة العربيَّة في القرنين الثالث والرابع الهجريَّين.

أبو زيد السيرافي

أبو زيد الحسن السيرافي هو الذي أعطى رحلة التاجر سليمان الشكل المعروف لنا الآن، واسمه أبو زيد الحسن بن يزيد السيرافي، ونحن لا نعرف شيئًا عن حياته أو عن تاريخ ولادته ووفاته سوى أنَّه كان يعيش في النصف الأوَّل من القرن الرابع الهجري، قضى أبو زيد فترة الطفولة والمراهقة في مسقط رأسه سيراف، ثم هاجر عام (330هـ=942م) إلى البصرة وأقام فيها، وهو لم يكن في الحقيقة رحَّالة ولا عالمـًا؛ بل كان على ما يظهر من المغرمين بأمثال هذه القصص التي كان من السهل جمع روايات كثيرة منها سواء في مسقط رأسه سيراف أو في البصرة.

رحلة أبي زيد السيرافي

وأبو زيد السيرافي لا يحكي في رحلاته قصص رحلات قام بها هو؛ بل يحكي -كما ذكرنا- عن رحلة سليمان التاجر وابن وهب القرشي، وجمع أيو زيد تاريخ وقصص رحلاتهما ونسبها إلى نفسه، إلَّا أنَّه أدَّى الأمانة وذكر أنَّ هذه القصص رواها سليمان التاجر وابن وهب، وهذه الرحلة كتبها أبو زيد بعد وفاة الرحَّالة الحقيقيِّين بأكثر من مائة عام، امتلأت بالقصص الغريبة والعجيبة، وحيث إنَّ الخرافة كانت سيِّدة القصص والروايات فإنَّ الكاتب حاول بقدر استطاعته تنقية الوقائع من الخرافات التي يرى أنَّه يصعب التصديق بها، ويقول: إنَّه كتب ما يُمكن تصديقه ولم يثبت في كتابه إلَّا ما وافق عليه رجالٌ ثقاة استشارهم وناقش معهم هذه القصص.
ونحن في زماننا الحاضر نرى أنَّ بعض هذه القصص غير معقولة، ولكنَّه كتبها في زمانه الذي مضى عليه الآن أكثر من ألف ومائتي عام، وله العذر في ذلك؛ فإنَّ الأعاصير التى كانت تهبُّ على السفن في المحيط الهندي وتُسمَّى (التيفون) في عصرنا الحاضر كانت حقيقة يتحدَّث عنها الجميع، ولكنَّه وصفها وسجَّلها كحقيقةٍ كما يلي: "وربَّما رؤي في هذا البحر سحابٌ أبيضٌ يظل المراكب، فيشرع منه لسانٌ طويلٌ رقيقٌ حتى يلصق ذلك اللسان بماء البحر، فيغلي له ماء البحر مثل الزوبعة، فإذا أدركت الزوبعة المركب ابتلعته، ثم يرتفع ذلك السحاب فيمطر مطرًا فيه قذى البحر، وكلُّ بحرٍ من هذه البحار تهيج فيه ريحٌ تُثيره وتُهيِّجه حتى يغلي كغليان القدور، فيقذف ما فيه إلى الجزائر التي فيه ويكسر المراكب، ويقذف السمك الميِّت الكبار العظام، وربَّما قذف الصخور والجبال كما يقذف القوس السهم". فهنا تختلط الحقيقة بالخرافة!
الكتاب عبارة عن قصص قصيرة، وهي سجل ويوميَّات رحَّالة وما يحدث لهم وما يُشاهدونه وما يسمعون به أو يُقال لهم، تتزاوج فيها علوم التاريخ والجغرافيا والطبيعة والإنسان، لتخرج علينا قصص تتوالى واحدةً بعد أخرى كما يلي: "وفي الطريق إلى جزيرة سرنديب، جزيرة يقال لها (النيان)، سكَّانها لهم ذهبٌ كثيرٌ وأكلهم النارجيل، وبه يأتدمون ويدهنون، وإذا أراد أحدهم أن يتزوَّج لم يزوَّج إلا بقحف (جمجمة) رأس رجلٍ من أعدائهم، فإذا قتل اثنين تزوج اثنتين، وكذلك إن قتل خمسين تزوَّج خمسين امرأة بخمسين قحفًا، وسبب ذلك أنَّ أعداءهم كثيرون، وفي هذه الجزائر أعني (الرامني) فيلةٌ كثيرة ... وفيها قومٌ يأكلون النَّاس".

قيمة رحلة السيرافي

تأخذ رحلة سليمان التاجر إلى الصين أهميَّةً كبيرةً في أدب الرحلات العربي الإسلامي؛ كونها الرحلة الأولى التي تُوَفِّر معلومات جديدة لم تكن من قبل في متناول الناس عن بلدان الشرق الأقصى وأحوال أهلها والطريق إليها، وعلى الرغم من أنَّه لم يصلنا من الرحلة سوى القليل من المعلومات التي نقلها ابن الفقيه (ت 290هـ=902م) صاحب كتاب "البلدان"، وابن خرداذبه (ت 300هـ=912م) صاحب كتاب "المسالك والممالك"، والمقدسي (ت 380هـ=990م) صاحب كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وأبو حامد الأندلسي الغرناطي (ت 565هـ=1169م) صاحب كتابي "تحفة الألباب" و"المعرب"، وغيرهم جاءوا ممَّن بعده من الجغرافيِّين والرحَّالة العرب المسلمين، فمن الواضح أنَّه كان كثير الأسفار، واسع الاطِّلاع؛ إذ قدَّم لنا وصفًا دقيقًا للطريق، واهتمَّ بذكر أحوال البلدان والشعوب التي مرَّ بها في طريقه إلى الصين، ولقد صاغ ملاحظاته ومشاهداته بأسلوبٍ قصصيٍّ رائع يغلب عليه في بعض الأحيان الطابع الأسطوري، وقد اهتمَّ برحلات سليمان التاجر العديد من الرحَّالة والتجَّار والجغرافيِّين العرب المسلمين، واستفادوا واقتبسوا منها وجعلوها مصدرًا أساسيًّا لهم فيما كتبوه عن بلاد الصين والمناطق المتاخمة لها.
إنَّ أهمَّ ميزات رحلة سليمان التاجر المنهجُ الذي سار عليه صاحب الرحلة في وضعه لمصنَّفه؛ حيث ذكر المعلومات المتعلِّقة بالبلدان والجزر، ومسالكها وحيواناتها وعجائبها وغرائبها، ويُعدُّ سليمان التاجر من أوائل من صنَّف في الرحلات البحريَّة إلى الهند والصين، وقسَّم المؤلِّف الكتاب إلى فصلين، ورتَّب الكتاب ترتيبًا جغرافيًّا؛ حيث تحدَّث في البداية عن البحار وبيَّن أسماءها، وتناول المظاهر الطبيعيَّة فيها، ثم تعرَّض لجوانب مختلفة من حياة الشعوب التي مرَّ عليها، ووصف المجتمعات فيها، وتناول عاداتها وتقاليدها، كما تعرَّض إلى الطرق التجاريَّة البحريَّة إلى الهند والصين، وقدَّم لنا وصفًا تميَّز بالدِّقَّة والتفصيل، وزوَّدنا بمعلوماتٍ قيِّمةٍ لا تُوجد عند غيره من الرحَّالة المسلمين عن المحطَّات والمراكز التجاريَّة، والمسافات بينها بالأيَّام، وأماكن التزوُّد بالمياه العذبة.
والرحلة يغلب عليها الإيجاز لكنَّها تفيض بالمعلومات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والدينيَّة القيِّمة، ومؤلِّفها يتمتَّع بدقَّة الملاحظة والتصوُّر، وبحاسَّةٍ جغرافيَّةٍ وملاحيَّةٍ جيِّدة نلمسهما في قدرته على تمييز البحار وبيان امتدادها واتِّصالها ببعضها البعض، كما نلمسهما كذلك فيما يُورده في الفصل الثاني من معلومات قيِّمة عن أخبار أهل الهند والصين وملوكهم وطقوسهم وما يتفرَّدون به عن غيرهم.
ولكن يؤخذ عليه استخدام الأسلوب العامِّي أحيانًا، والترتيب غير المحكم والتداخل وعدم الربط بين الموضوعات والإيجاز الشديد، كذلك أنَّه لم يذكر مصادره التي استقى منها معلوماته التاريخيَّة والجغرافيَّة والملاحيَّة.
تتميَّز رحلة التاجر سليمان من وصفٍ صادقٍ للطرق التجاريَّة، وذكر بعض العادات، والنظم الاجتماعية والاقتصاديَّة، مع بيان أهمِّ منتجات الهند وسرنديب وجاوة والصين، وعلاقة المسلمين بالصين في القرنين الثالث والرابع الهجريَّين، وبطبيعة الحال لعبت الخرافات والأساطير دورها في تلك الرسالة القيِّمة وخصوصًا في وصف ظواهر الجوِّ الخارقة مثل: نافورة الماء، وفي وصف حيوانات البحر مثل: الحوت أو العنبر.
وتُعتبر رحلة التاجر سليمان هذه أوَّل مرجعٍ لعلوم البحار، وهي مخطوطةٌ فريدةٌ في مكتبة باريس، تحمل اسم رحلة التاجر سليمان، ولم يكن سليمان وحده صاحب الرسالة؛ بل أضاف اليها أبو زيد حسن السيرافي ما جمع من معلومات وما استقى من أخبار على ألسنة التجَّار ورجال البحر في بلده سيراف.

عجائب وغرائب من رحلة السيرافي

نافورة الماء

تتحدَّث الرسالة عن صفات البحر الطبيعيَّة وعن أنوائه وأعاصيره وعن أحيائه ودوابِّه، وفي وصف النافورة يقول سليمان: "وربَّما رؤي في هذا البحر سحابٌ أبيضٌ يظل المركب، فيشرع منه لسانٌ طويلٌ رقيقٌ حتى يلصق ذلك اللسان بماء البحر، فيغلي له ماء البحر، فلا أدري أيستقي السحاب من البحر أم ماذا؟!".

الشاي

يُعتبر سليمان السيرافي أوَّل مؤلِّفٍ غير صينيٍّ أشار إلى الشاي، وذلك حين ذكر أنَّ ملك الصين يحتفظ لنفسه بالدخل الناتج من محاجر الملح، ثم من نوعٍ من العشب يشربه الصينيُّون مع الماء الساخن، وهو يبيع منه الشيء الوفير، ويُسمِّيه أهل الصين (ساخ).

وصف جزر الهند

قال في وصف بعض جزر الهند: إنَّ لأهلها ذهبًا كثيرًا، وأكلهم النراجيل، وبه يتأهَّدون، ومنه يدهنون، وإذا أراد أحدهم أن يتزوَّج لم يُزوَّج إلَّا برأس رجلٍ من أعدائهم، فإذا قتل اثنين تزوَّج اثنتين، وإن قتل خمسين يتزوَّج خمسين إمرأة بخمسين (قحفًا).

البال أو الحوت

يقول التاجر سليمان في وصف الحوت، وهو المعروف باسم البال أو القيطس أو العنبر: "رأى سمكًا مثل الشراع ربَّما رفع رأسه فتراه كالشيء العظيم، وربَّما يقع الماء من فيه، فيكون كالمنارة العظيمة، فإذا سكن البحر اجتمع السمك فحواه بِذَنَبِه، ثم فتح فاه فيُرى من جوفه يفيض كأنَّه يفيض من بئر، والمراكب التي تكون في البحر تخافه؛ فهم يضربون بالليل بالنواقيس مثل نواقيس النصارى مخافة أن يتَّكئ على المركب فيُغرقه".
ويضيف أبو زيد حسن السيرافي في قوله: "وهذا الحوت المعروف بالبال، ربَّما عُمِل من فقَّار ظهره كراسي يقعد عليها الرجل ويتمكَّن، وذكروا أنَّ في سيراف قريةً على عشرة فراسخ، بيوتًا عاديَّة لطافًا سقوفها من أضلاع هذا الحوت، وسمعت من يقول: إنَّه وقع في قديم الأيَّام إلى قرب سيراف منه واحدة، فقصد للنظر إليها فوجد قومًا يصعدون ظهرها بسُلَّمٍ لطيف، والصيادون إذا ظفروا بها طرحوها بالشمس وقطَّعوا لحمها، وحفروا لها حفرًا يجتمع فيها الودك ويغرف فيها الودك من عينيها بالحرارة إذا إذابتها الشمس، فيُجمع ويُباع من أرباب المراكب، ويُخلط بأخلاطٍ لهم يُمسح بها مراكب البحر ويُسدُّ بها خرزها ويُسدُّ -أيضًا- ما يتفق من خرزها".
_________________
المصادر والمراجع:
- أبو زيد السيرافي: رحلة السيرافي، تحقيق: عبد الله الحبشي، الناشر: المجمع الثقافي - أبو ظبي، 1999م.
- رحلة سليمان التاجر، صحيفة الخبر، أكتوبر، 2017م.
قصة الإسلام