(4/5)
(ز)- موضوعات مسجدية:
سحر الخطيب وجاذبيته:
إن خطبة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام التي لم تُعطَّل على مدى عُمر هذا الدِّين، ولو أنصفنا لشهِدنا بأن أثر هذه الخُطب في توعية الشباب وإرشاد المجتمع قد يصل إلى أبعد مدى، شريطة أن يحسن اختيار الخطيب، واختيار منهج خطبه الأسبوعية.
أورد ابن حجر في كتابه:"فتح الباري شرح صحيح البخاري"حديثَ ابن عمر:"جاء رجلان من المشرق فخطبا"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لَسحرًا)).
وكان مما أورده في التعليق عليه:
"البيان نوعان: الأول: ما يبين به المراد، والثاني: تحسين اللفظ حتى يستميل قلوب السامعين، والثاني هو: الذي يشبَّه بالسحر، والمذموم منه ما يقصد به الباطل، وشبَّهه بالسحر؛ لأن السحر صرف الشيء عن حقيقته. قال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحُجة من صاحب الحق، فيسحر الناسَ بيانه، فيذهب بالحق".
وليس عيبًا أن يكون الخطيب بمستوى متواضع، إذا كان في بداية حياته الدعوية، أو كان طالب علم، أو تضيق عليه ظروف الحياة، بحيث لا يستطيع أن يبحث بالدرجة الكافية لإعداد خطبته الأسبوعية؛ لكن العيب: أن يُقنع الخطيب ذاتَه بأنه لا يستطيع التحسن إلى أفضل من هذا، ويسوق من الكلام ما يعلن به أنه ليس أهلاً لهذا الموضع، وأنه إنما يقوم بذلك ريثما يتاح خطيب آخر بدلاً عنه.
إن من المتَّفق عليه أن العالِم لا يولد عالمًا،كذلك المخترع، والعبقري، والمبدع، والأديب، والقصاص، والمحترف في أي أمر من أمور الحياة.
وهنا نستطيع أن نقول: إن الخطيب الناجح لم يفتح عينيه في يوم من الأيام لِيجدَ نفسه واقفًا على المنبر يخطب في الناس بأفضل مستوى، وأجمل حديث؛ بل إن العلم بالتعلُّم - كما يقال - وما دام الخطيب يستطيع التحصيل والتقدم، فإن التقصير بالتراجع عن ذلك يعدُّ ذنبًا، كما قال أبو الطيب:
ولم أرى في عيوب الناس عيبا÷ كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
ولا يُقبل من داعية - صغيرًا كان أو كبيرًا - أن يظل على مستواه الذي وجد نفسه عليه في بداية دعوته.
لقد كان"واصل بن عطاء":ألثغ اللسان، لا يستطيع نطق حرف الراء بطريقة سليمة، وكان خصومه يعيبون عليه ذلك، فأراد أن يلقي خطبته خالية من حرف الراء، وبالفعل استطاع أن ينظم خطبة بليغة، لا تكاد تشعر وأنت تقرؤها أنه يتجنب فيها هذا الحرف، فكانت دليلاً على تمكنه من لغته، وثقته في نفسه، وهذا نص خطبته:
"الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوِّه، ودنا في علوِّه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يَؤُوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق؛ بل أنشأه ابتداعًا، وعدَّله اصطناعًا، فأحسن كل شيء خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه! لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كلُّ شيءٍ لعظمته، وذل كل شيء لسلطانه، ووسع كلَّ شيء فضلُه، لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا مثيل له، إلهًا تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، علا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعصى فيحلم، ويُدعى فيسمع، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون، وأشهد شهادة حق، وقولَ صدق، بإخلاص ونية، وصدق طوية: أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخالصته وصفيُّه، ابتعثه إلى خلقه بالبينات والهدى ودين الحق، فبلَّغ مألكته(أي رسالته)، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضيًا على سنته، موفيًا على قصده، حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجلّ وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أوصيكم - عباد الله - مع نفسي بتقوى الله والعمل بطاعته،والمجانبة لمعصيته، فأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها؛ فإنها متاع قليل، ومدة إلى حين، وكل شيء منها يزول، فكم عانيتم من أعاجيبها، وكم نصبتْ لكم من حبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها، أذاقتهم حلوًا، ومزجت لهم سمًّا.
أين الملوك الذين بنوا المدائن،وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا العباد، واستخدموا التلاد؟، قبضتهم بمخالبها، وطحنتهم بكلكلها، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم عن السعة ضيقًا، ومن العز ذلاًّ، ومن الحياة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا تعاين إلا مساكنَهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لهم نبسًا، فتزوَّدوا عافاكم الله؛ فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه،ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب، إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين - كتاب الله، الزكية آياته، الواضح بيناته، فإذا تلي عليكم، فاستمعوا له وأنصتوا؛ لعلكم تهتدون.
أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم، بسم الله الفتاح المنان: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾.
نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم،وبالآيات والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم، وأدخلنا وإياكم جنات النعيم".اهـ.
ولا يخفى في هذه الخطبة العجيبة حرص"واصل"على الإتيان بمرادفات الكلمات واسعة الانتشار التي بها حرف الراء، وحين يريد الاستدلال بآية تحتوي على حرف الراء، فإنه يلجأ إلى ذكر معناها، أفيعجز خطباء اليوم عن الارتقاء بمستواهم التعبيري،وهم أفضل حالاً من واصل؟.
صراخ الخطيب وألفاظهغير اللائقة:
إن لغة الصراخ والتأنيب والتوبيخ: لم تَعُدْ تُجْدي نفعًا في خطبة اليوم، والحق أن هذا الصراخ: ما هو إلا تنفيس شخصي، ينبعث من نفس الخطيب، ليفرضه فرضًا على جموع المصلِّين والمستمعين لخطبته، على غير رغبة منهم في الاستماع إليه!!؟.
ولو علم إخواننا الخطباء: أن مكبرات الصوت اليوم قد أغنتهم عن صراخاتهم المتواصلة في معظم خطبة الجمعة، لكفُّوا عن ذلك، واستبدلوا بها معلومة جديدة تؤثر في القلوب قبل أن تسمع بها الآذان.
فهل يُعقل مثلاً أن يصرخ خطيب جمعتنا قائلاً:" اسمع أيها الغافل، أيهاالمغفل!!؟".
والله، إنك لتسترجع حين تسمعه ينفِّر الناس من كلماته؛ بل ومن جنس الخطابة والخطباء، ليصدق عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((إن منكم مُنَفِّرِين))؛"صحيح البخاري".
ويزيد الأمرُ عليك حين تسمع لهذا الخطيب،وهو يستنفر كل طاقاته وأصوات حناجره، ثم تجده يخطئ أخطاء فاحشة، ويكررها مرة بعد مرة، كأن يقول: هذه تعاليم القرآن منذ ألفٍ وأربعِمائة وثمانيةٍ و(عشرون)عامًا!!؟.
ويكررها مرة أخرى قائلاً:أقول لكم مرة أخرى: هذه تعاليم القرآن منذ ألف وأربعمائة وثمانية و(عشرون)عامًا!!؟.
وهنا تجد نفسك مستحضرًا قول حافظ:
يَا عَيْنُ سُحِّي يَا قُلُوبُ تَفَطَّري÷ يَا نَفْسُ رِقِّي يَا مُرُوءَةُ وَلِّي
عقول الشباب والخطيب المبالِغ:
إن عقول الشباب اليوم لا تستسيغ المبالغة اللفظية ممن يستقبلون منه المعلومة، فقد أضحى هذا مجافيًا لعصر المعلومات والمكتشفات المتجددة، وحري بدعاة المساجد: أن يَعُوا ذلك، فمِن المؤسف: أن بعض الناس يجعلون من حياتهم مهرجانات للمبالغة في الأقوال والأفعال، وتجد الغالب في أساليبهم"أفعل التفضيل"، فتسمع منهم دائمًا - أو غالبًا - مثل هذه الكلمات:( أكبر، أشد، أفظع، أكثر، مهم جدًّا، إلى حد لا يطاق، بطريقة غريبة، لا يمكن احتماله، لم يفعل خيرًا قط، لا يحبه أحد على الإطلاق، لم يَسلم أحدٌ من أذاه، لا يمكن الاستغناء عنه، مستحيل...) إلى آخر هذا القاموس الذي يصرُّ هؤلاء على إحياء جميع ألفاظه في كل تعبيراتهم، مهما كان الموضوع المطروح للحوار.
والحق أن هؤلاء إنما يلجؤون إلى هذا النوع من أسلوب التحدث مع الآخرين؛ليداروا به عوار النقص، أو عدم القدرة البيانية الموضوعية لأجل توصيل ما يريدون، وربما يكون السبب في اتخاذ هذا الأسلوب - من ناحية أخرى - الرغبةَ في لفت الأنظار، والتلذذ بجذب انتباهات الآخرين، والارتياح برؤية علامات الاستغراب على قسمات وجوههم!!؟، والشعور بالرضا عند رؤية ردود الأفعال التي أُريدَ لها أن تكون كذلك مِن قِبَل المبالغين في إيصال المعلومات.
وإذا تتبعتَ أسلوب النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - لما وجدت به شيئًا من هذه الظاهرة، خذ مثلاً حديث: ((المؤمن الذي يخالط الناسَ، ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم))، وقل لي بالله عليك: هل تجد فيه مبالغة؟.
الحديث صحيح وثابت بهذا اللفظ، أو بنحوه مما لا مبالغة فيه،فهل تجده حقَّق المعنى؟.
أنت تستغرب حينما تجد بعض الخطباء يتحدثون في موضوع عن الأخلاق مثلاً،فتجده ينبِّه على أن هذا الموضوع في غاية الأهمية، وأن الأمر خطيرجدًّا: إذا تم التفريط فيه، ثم حينما يتناول موضوعًا حول اليوم الآخر، تجده أيضًا ينبه على أن هذا الموضوع في غاية الأهمية، وأن الأمر خطير جدًّا: إذا تم التساهل فيه، ثم حينما يتناول موضوعًا في المعاملات، أو في الحث على العلم، أو في العلاقة بين الزوجين، تجده ينبه على أن هذا الموضوع في غاية الأهمية، وأن الأمر خطير جدًّا: إذا تم الإهمال فيه.
فقل لي بالله عليك:كيف يستقيم هذا!!؟.
والحق أنني لا أكاد أجد في كتب علمائنا - في كافة المصنفات - أمثالَ هذه الظواهر التي تصيب القارئَ بالشد والجذب دون فائدة علمية تذكر!!؟؛ بل إن علماءنا يفصِّلون الكلام في الموضوع ببلاغة وفصاحة، تبعث فيك الإعجابَ والتقدير لهؤلاء؛ لما بذلوا من جهد، وما ورثوا من علوم.
ألا فلنبذل من المجهود في أساليب الخطاب ما يحترم عقلية المتلقين،دون إهمال ولا مبالغة، وهذا إذا أردنا بحق أن نؤثر في طوائف مجتمعنا المختلفة، وخاصةً الشبابَ منهم.
الترفيه المسجدي:
النفس البشرية ملولة، وخاصة في فترة المراهقة والشباب، وهي لا تحتمل الجد على الدوام، وكثير من هؤلاء تستهويه الفكاهة والدعابة، وتصنع به أكثر من غيرها من الجِد والحسم، وقد جاء الإسلام موافقًا للفطرة السليمة حين حض على الترويح والترفيه، والتنزه والفسحة، والرياضة والفكاهة، بكل الأساليب النظيفة التي تمتع النفس، وتنشر البِشْر والفرح، وتزيح الحزن والهمَّ، وتشرح الصدور، وتبسم الثغور، وتضحك الأسنان، في فرح ونشاط، لا يأخذ من الهيبة، ولا يضيع من الوقار، ولا يقطع ما بين الصغار والكبار.
ولقد حفظ لنا التراثُ الإسلاميمبادئَ في الترويح،ومواقفَ في النزهة، ومن المفيد للغاية عند أصحاب الدعوة المسجدية: أن يجعلوا هذا الباب أصيلاً في الدخول إلى غيرهم، فتُعد الحفلات، وتُرسل الدعوات، ويُتفنن في الأداء، وينوع في الفقرات، ويُبتكر في الوسائل، مع تطعيم ذلك كله بالروح الإسلامية البريئة والجميلة والحبيبة.
وتحتفظ لنا السيرةُ بمواقفَ للرسول العظيم - صلوات الله وسلامه عليه - وللصحابة الكرام - رضي الله عنهم - في الفكاهة والضحك والترويح، والنكتة الصادقة البريئة، ومن هذه المواقف ما لا يتصور كثيرون من شباب الدعوة المساكين أنه يحدث بين الصحابة؛ كبيع"نعيمان"- رضي الله عنه -"سويبط بن حرملة"على أنه عبد رقيق، وليس كذلك، وكذبح بعضهم ناقةَ ضيف حلَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقديمها لهم وليمةً سمينة، على أنه قد أكرمهم بها، ثم يكتشف الأمر، ويضحك الجميع، ويجزع صاحب الناقة؛ ولكنه يحصل على بديل لها، ويطيب خاطره.
فهذه كلها إشارات تشعل الضوءَ الأخضر؛للتفكير حثيثًا في تبني كل وسيلة تملأ النفس بِشرًا وسرورًا وفرحًا، وخاصة حين يكون في صحبة إخوانه الأبرار المؤمنين.
المسجد الإلكتروني:
لقد أصبح من اليسير اليوم تدشين موقع للمسجد على شبكة المعلومات الدولية"الإنترنت"، والحديث عن خطة هذا الموقع وما يراد منه قد يستغرق بحثًا مستقلاًّ؛ لكنه بلا شك سيفيد رواده أيما إفادة، وسيكون بمثابة المنفذ الإلكتروني لخطب المسجد ودروسه، وفعالياته وأنشطته واستشاراته، كما أنه سيعكس ردود أفعال المصلِّين والزائرين لما يجري في هذا المسجد بواقعية وشفافية؛ ليؤخذ ذلك بالاعتبار فيما هو آتٍ من الأنشطة، وهذا – لعمر الله - هو ما يجب أن يكون في هذه الحقبة الزمنية المفعمة بالوسائل الحديثة، ودون ذلك تخلف عن المستوى المعقول.
لقد سبقَنَا الأولون بالدعوة إلى الله – تعالى - والتمسوا لذلك أحسنَ السبل والوسائل، حتى فتحوا البلاد، واهتدى على أيديهم العباد، وها نحن في عصرنا نعيش ثورات هائلة في وسائل الاتصال، والتكنولوجيا المتطورة، التي لا يكاد المتابعون يدركون ما يُستجد منها كل يوم.
ويستوجب هذا على دعاة العصر أن ينفضوا من على كاهلهم تلكم الوسائلَ النمطية التقليدية،التي كانت تصلح في أزمنة منصرمة، فأصبح لزامًا عليهم أن يوجهوا الدعوة إلى مجتمعاتهم بلسانهم الذي يفهمون، ووسيلتهم التي يحبذون، ما دامت هذه الوسيلة مباحة في شرع الله، والأصل في شرع الله الإباحة.
ولقد ضرب القرآن العظيم، والأنبياء والمرسلون - عليهم الصلاة والتسليم - للدعاة أمثلةً رائعة في تنويع الحوار، وجذب الأنظار، وتحريك الفكر والوجدان، والتذكير بالنعماء، والتفكير بالأكوان، حتى توصلوا مع أقوامهم إلى الحقيقة الناصعة، ومع ذلك لم يؤمن لأكثرهم إلا قليلٌ، فما يئسوا ولا قنطوا، فكانوا ينتقلون من قوم إلى قوم، ومن أرض إلى أرض، ليبدؤوا من جديد.
وها هي الأرض اليوم متصلة الأطراف،متقاربة المسافات، قد انهارت فيها جل الحواجز، فطارت فيها الدعوات، كل الدعوات، من أقصاها إلى أقصاها، وليس من عذر يُقبل الآن من دعاة اليوم - والحال هذه - حتى يلتمسوا لإبلاغ دعوة الله إلى خلق الله كلَّ وسيلة، فيُعذروا إلى ربهم – سبحانه - ولتكن النتائج على صاحب هذا الكون وحده، فهو - سبحانه - المتفرد بالملك، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
إن استلهام الماضي يُعين على تخطي الحاضر،واستشراف المستقبل، وليس بين الأمم جميعها أمةٌ تمتلك من التراث الإيماني كما تمتلك أمة الإسلام، فنحن - بفضل من الله - خير أمة أخرجت للناس، إذا أمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، وآمنا بالله، ونحن الذين ورثنا الإيمان بالله وملائكته وكتبه، وجميع أنبيائه ورسله، نستلهم ماضينا من لدن آدم حتى خاتم النبيين: محمد بن عبد الله - عليهم جميعًا أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
وأول ما يجب على دعاة المساجد استكشافُه هو: منهجالأنبياء والمرسلين في دعوة أقوامهم،ودراسة الوسائل التي بها استعانوا، واستجلاء المراحل التي لها تخطوا، والصعوبات التي بها جوبهوا، وكيف تغلبوا عليها ونصرهم الله وأظهر دينه.
كما يجب على أولي الأمر في بلاد المسلمين، وكذلك الذين يتحملون أمام الله هذه الأمانة - أن يعملوا على تدشين الهيئات والمؤسسات التي تُعِد هؤلاء الدعاةَ، وتمدهم بأفضل المناهج والوسائل العصرية، ولقد أصبح هذا - اليوم - مرتقى سهلاً، وخاصة في ظل التواصل الجبار بين أطراف الأرض، وبأحدث التقنيات وأقلها كلفة.
المسجد الفضائي:
إذا استكمل المسجد أركانَ بنائه - الأرضية، والفضائية، والعنكبوتية - فإن ذلك سيطوي الزمان، ويقرب المسافات، فإذا تضافرت هذه الأركان، وتناسقت تناسق الأزهار والرياحين في الدوحة الباسقة، لفاحت منها عطورٌ تملأ الكونَ شذًى، ونقاء، ومحبة، بطريقة طبيعية تلقائية، لا يشوبها كدر، ولا يعطلها حقود، كيف وهي دعوة الله في أرضه، ورسالة الأنبياء والمرسلين، والعلماء ورثتهم، والدعاة بإحسان أحبتهم ورفقتهم.
المسجد الهادئ:
الهدوء سمة حضارية إسلامية، دعا إليها القرآن العظيم والسنة النبوية؛ يقول الله – تعالى -: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾، ويستنكر القرآن على المشركين علوَّ أصواتِهم عند الكعبة، وطريقة عبادتهم الهمجية؛ يقول الله – تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، وحين رفع بعض الصحابة أصواتهم بالدعاء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تَدْعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم))؛ متفق عليه.
ولا شك أن للمدن المزدحمة أحكامًا شرعية،تتفق مع طبيعتها، وتُلَبِّي احتياجاتِها الإنسانيةَ، وتضمن بقاء العلاقة بين الناس هادئة ونظيفة، لا يشوبها كدر، ولا يعكرها عناد، فلا يصح أبدًا أن تصدر ضوضاء من المسجد، وهو: بيت الله، ومقرُّ العبادة، بينما يجد الناس من الهيئات الأخرى النظامَ والهدوء والسكينة، إن ذلك يُعَدُّ تناقضًا فاضحًا بين المبادئ الإسلامية الراسخة من ناحية، وبين السلوكيات الصادرة عمَّن ينادون بها، ألا فليتقوا الله فيما يصنعون.
ومما لا يكاد يخفى على أحد:تداخُل أصوات المساجد المتجاورة، والتسابق في توجيه مكبرات الأصوات؛ ليطغى بعضها على بعض، وليلغي بعضها بعضًا، برغم أن ذلك ليس من أخلاقيات الإسلام في شيء.
وقد يجد جيرانُ العديد من المساجد عنتًا كبيرًا في مجرد التفاهم مع القائمين على هذه المساجد،فيما يخص تنظيم الأصوات الصادرة عن بيوت الله - سبحانه وتعالى - ليتحول الأمر في النهاية إلى عقدة لا حل لها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
بل إن المجموعاتِ القائمةَ على خدمة المساجد المتجاورة، لا يكادون يتفقون فيما بينهم في شيء من ذلك؛ إلا ما رحم ربي.
إنها بلوى التنافس الوظيفي المحمومة، وليست روح الإسلام الخالصة.
المسجد المجمِّع:
بافتراض أن ثمة اختلافًا في التوجهات أو الآراء أو المذاهب أو ما يشابهها، فإن من المتوقع أن يُدار هذا الاختلاف بأسلوب حضاري، نابع من عظمة الإسلام وصفائه، ما دام أن هذه الاختلافات لا تُخرج من الملة، ولا تفضي إلى الكفر، والعياذ بالله.
إن مواقف الخلاف بين المؤمنين تكون بالغة الأثر في عامة الناس،وخاصة في نفوس الفتيان والشباب منهم، فإما أن تحزِّبهم أحزابًا وشيعًا، وإما أن تصرفهم بالجملة عن مبادئ الإسلام السامية في احتواء الآخر والتعامل معه، وكلا طرفي الأمور ذميم.
هل نلوم الناس حين لا يتفاهمون فيما بينهم بطريقة تحترم العقول والآدمية،وتوقر الكبير، وترحم الصغير، وتعظم شعائر الله – سبحانه - بينما نحن في المقابل تمور نفوسنا بأمراض مفتعَلة وهمية، نفخت فيها شياطين الإنس مرة بعد مرة، حتى صيرتها كأنها حقائق، وليست مجرد شبهات؛ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا﴾.
ما البأس في التنوع!!؟.
إن الاختلاف سُنة من سنن الله في هذا الكون، والمهم ألا يفضي إلى خلاف، وكما يقال:" لكل أرض غارس، ولكل علم قابس، ولكل ثوب لابس، ولكل جواد فارس".
منذ متى اتَّفق الناس؟! ألم تختلف الملائكة والأنبياء والصحابة والتابعون والأئمة؟!، ولكن هل أدى اختلافهم هذا إلى خلاف وفُرقة، إلا في حالات نادرة، ثم استدركوا بعدها قبل فوات الأوان؟!.
إن حال أمتنا اليوم لا يحتمل مزيدًا من تفريق الدين، وإذا ذهبْتَ لتقيم الناس على مذهب واحد، لَتكونن فتنة؛ ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ .
وما أجملَ الدعاءَ القائل:"اللهم أصلح ذات بيننا، وألِّف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور".
وما أجمل أن يتخذ مسجد اليوم: منهجَ التوحيد والوحدة!، حينها سنستبشر بقرب نصر الله لهذه الأمة.
مسابقات المسجد:
من التجارِب المسجدية الدعوية التي كان لها - ولا يزال - أثرٌ طيب في تربية الشباب وتوجيهه وتثقيفه: المسابقاتالقرآنية الصغيرة والكبيرة، إن سوادًا عظيمًا من الفتيان والشباب يظل يحتفظ في صدره باحترام وتبجيل لهذا المسجد أو ذاك، وكذلك للذين قاموا على رعايته وتحفيظه هنا وهناك، وأيضًا هؤلاء الذين كافؤوه بعد أن اجتهد وحفظ، وفاز على أقرانه، إنه شعور يحفر في الوجدان، ويؤثر في السلوك الإنساني العام، مهما تباعد ما بين هؤلاء وأولئك.
أما الذي يُكْتب لهم دوام المتابعة وحسن التربية والتوجيه، فهم أعظم حظًّا ولا شك من غيرهم، وسيكون منهم العلماء والأئمة والمميزون، كل في مجاله، مع الاحتفاظ برابط الإيمان الذي اكتسبوه من ريادة المساجد والمتابعة فيها لأوقات طويلة.
وأول ما يجب على دعاة المساجد أن يهيئوا نفوس الفتيان والشباب له - القرآنُ العظيم، وما يتصل به من صحة القراءة، وحسن فهم المعاني والمقاصد المستنبطة منه، والسنة النبوية الشريفة، وقصص الأنبياء وسير الأمم السابقة، وغير ذلك مما يتصل بكتاب الله تعالى.
ولا مانع من موازاة ذلك بالعلوم الشرعية الأخرى،على ألا تؤخر دراسة القرآن الكريم عن غيرها أو تهمل، فإن حدث هذا، فلا يؤمن فساد الأفهام، واضطراب الأحكام، وهو - للأسف - ما حصل مع شرائحَ عريضةٍ من شباب اليوم الذين يُظَنُّ بهم الالتزام.