مبروكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
19-09-2018, 05:50 PM
الريف السخي يبهرني بشمسه المشاكسة دائما.. وبحقوله الناضرة أبدا.. و جداوله الدافقة بسخاء...
تشدني رائحة العرق المتسللة من جلابيب الفلاحين ... يسحرني طعم الماء الذي تحضنه الحسناوات في قلالهن حين يرجعن من النبع...
في الريف يصافحني الهواء الرطيب ليبث الربيع في رئتي و يقتلعني من شقوق الضجر البغيض...
الهواء هنا له طقوس و مفردات سحرية. انه مختلف كل الاختلاف عن هواء المدينة المتوحش الذي يوشك أن يفترس القصبة الهوائية و يقمع الدورة الدموية كما يقمع الديكتاتور شمعة الحرية...
هنا في حضن الريف الهواء وادع رقيق مثل أهل الريف تماما...يكاد المرء أن يتذوق طعمه اللذيذ و المفعم بالنقاوة و المشرب بعطر المروج الخصيبة.
كنت مسترسلا في هذه الأفكار و الخواطر و أنا مسترخي تحت شجرة السرو العملاقة و مستعرضا خلايا جسدي أمام حمام شمسي لا ينضب...
هنا قطع علي جدي شريط التأملات المتمردة. و قال في أناة أهل الريف و صفاءهم:
–ها هو الشاي المضمخ بالنعناع يا ولدي –
ثم قال و هو يرتشف الشاي بلذة و تفكر :
- أكيد في وسط جلبة المدينة لن يتاح لك مثل هذا الضرب من الشاي-
- قطعا يا جد إن شايكم لا يقاوم – لم أكد أتم حديثي إلا و كان الشيخ قد أسلم جسده لنشوة الشاي الطاغية و احتضنه سلطان النوم...
و راح يختلس ثواني من النوم تحت دفء تلك الشمس الحانية.
يده الخشنة أماطت العمامة عن صلعة سمراء تختزن كل تجارب الحياة...لكن الشيخ خاطبني و عيناه مغمضتان:
– هنا في الريف كل شجرة و حجرة و ذرة تراب إلا و قارعت الاستعمار بضراوة-
-بلى يا جدي و أنت سيد المجاهدين. كل الريف يشهد لبسالتك –
ثم أردفت:
- و كيف حال ساقك و ذراعك الآن ؟؟-
أجابني مغمض العينين :
- أملي في شفاءهما كبير يا ولدي -
صمت قليلا و أردف:
– رصاص فرنسا لم يفلح في الإطاحة بهما لكن ضغط الدم أتيح له ذلك-
لقد كان الشيخ يتوكأ على عكازه بصعوبة...ألم به شلل نصفي أقعده الفراش طويلا. إنني أختلف إلى الريف كل حين لأقف على علاج جدي...
لكن حالته تحسنت كثيرا بفضل الرياضة و التدليك المتواصلين..
أن الشيخ الودود لم يكن يحفل بذلك الشلل المقيت و لم يكن برما بآلامه قط..
-أنظر يا طارق إلى شجرة الزيتون الجاثمة هناك وسط الحقل- همس الشيخ في سكون شديد...و أرسلت بصري إلى حيث أشار .
آآآآآآآآآآآآآآآآه. تملكني ذهول طويل للمشهد المأساوي الماثل أمامي ...إنها مبروكة...هكذا يروق للشيخ أن يخاطب شجرة الزيتون تلك.
لقد فقدت مبروكة نضارتها و يبس عودها و تخشبت أفنانها و أمست شبحا منتصبا في يأس بوجه الرياح العاتية...
سألت الشيخ في ألم :
– ما الخطب يا جدي؟ ماذا ألم بشجرة الزيتون هذه؟-
رد في تأثر شديد :
– يومين فقط بعد أن أصبت بالشلل تسلل الموت بطيئا إلى مبروكة - و تحدرت على الفور دمعة حارة على وجه الشيخ..
اعتصرني ألم قاتل لمشهد الشيخ و لمشهد مبروكة. لقد كانت بينهما حكاية حب صادقة أرق من قصص الحب التي ترويها الكتب...
قال جدي في حزم واضح:
– غرستها بيدي منذ خمسة عقود أو يزيد. كانت فسيلة رخوة كما الوليد ساعة الولادة و كان اليوم ماطرا-
ابتسم الشيخ و أخاديد الدموع لا تزال قابعة على وجنتيه و قال :
– في ذلك اليوم كشر الصقيع عن أنيابه وكنت مضطرا أن أوقد النار قرب الفسيلة كي تنعم بالدفء . يومها رمتني جدتك بالجنون –
استرسلنا في ضحك طويل حتى أظلنا المغرب...و مكثت في الريف شهرا أو بعض شهر لعلاج الشيخ.
تماثل أخيرا للشفاء بعد عناء و طلق عكازه للأبد و استعاد نشاطه و بريقه المعهودين...
احتفى الجميع بهذا الحدث السعيد و عم الفرح و السرور جميع الريف.
سمعت يومها جدتي تقول لصويحباتها :
– إنها سعادة غامرة لم نتذوق حلاوتها منذ يوم الاستقلال -
صباح يوم مشمس حينما كنت أتململ في فراشي بين النوم و اليقظة تناهى إلى سمعي نداء جدي هناك من جوف الحقل.
– طارق..طارق..طارق – هرعت من فراشي حافي القدمين أنشد مصدر النداء...وجدت الشيخ منتصبا قرب مبروكة. كان الفرح يوشك أن ينطق من بين قسمات وجهه...
ارتسمت على الفور ابتسامة آسرة كشفت عن صفين من الأسنان لما تعبث بهما أصابع الزمن بعد...
قال الجد بصوت أجش و هو يشير إلى مبروكة :
– شاهد يا بني كيف دبت الحياة مجددا في جسم مبروكة-
أبهرني المشهد حقا و هتفت ذاهلا:
– يا رب السماء سبحانك-
و تأملت الأغصان و حدقت فيها مليا . عشرات البراعم الخضراء كانت ترصع مبروكة إيذانا بعودة الخضرة و النضارة و الحياة إلى الشجرة العجوز..