تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
عصر ابن تيمية وأثره فيه
20-02-2017, 12:20 PM
عصر ابن تيمية وأثره فيه
د. بليل عبد الكريم



الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



دراسة أيَّة شخصيَّة علميَّة أو دعويَّة، تقضي التنويه بالعصر الذي نشأَت فيه، ومدى التأثُّر والتأثير، فالإنسان ابن بيئته، وملاحظة تأثير العصر في تكوين الشخصيات الإصلاحية له أهميَّة قُصوى في فَهْم مَنهجها العلمي والدعوي، ومقارنة الكلام النظري بالممارسة الفعليَّة، وفَهْم الجو المحيط ببعض المواقف، فالمصلحون لا يخرجون عن إطار عصرهم الزماني والمكاني.
وإن كان البعض يُسالِم ويَستسلم للأمر الواقع، والبعض الآخر يسعى للتوفيق والمسايرة، وآخر يبغي التغيير والتجديد، وإحياء ما أُمِيت وانْدَرَس، والنهوض بالهِمم، وقليل ما هم؛ فالإصلاح يبغي التصدِّي للعَقَبات، والخروج عن إلْف الفساد واعتياد الباطل.

وأعلام العلماء أصناف:
• منهم عالِمُ جمهور، يَنساق وأهواء العامَّة، لا يبغي غير كثرة السَّواد، والصِّيت بين العباد.
• وعالِمُ بلاطٍ، يتملَّق أُولي السلطان، ويتسلَّق المناصب أينما كان، خبير في الرُّقي للمناصب العُلى.
• ومن الأعلام مَن هو عالِم ربَّاني، غايته الدعوة لله لا لنفسه أو طائفته، يتحرَّى مواقع الخَلل ومواطن الزَّلل في الأُمَّة الإسلاميَّة، ثم يَبحث الشفاءَ في دين الله ورسوله فيَعرضه، ولو قيل: هو مُرٌّ، لا يَخشى لوْمَةً بين الملأ، ولا غَضْبة أُولِي الملأ.
ولعلَّ مِن هؤلاء:( شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة) رحمه الله الذي عاش في النصف الثاني من القرن السابع، والثُّلُث الأوَّل من القرن الثامن الهجري؛ أي: في عصرٍ ابْتُلِي فيه المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم، وحلَّت عليهم فِتنٌ دينيَّة من تحتهم، ودنيويَّة من فوق رؤوسهم.

عصر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:
زمن شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: زمنٌ خارَت فيه قُوَى الأُمَّة، وتفكَّكت وَحْدتها، واسْتُبِيحت بَيْضتها، وانْدَرَست معالِمُ في الإسلام، وشاعَت بِدَعٌ؛ حتى ظنَّ الناشئة أنها من عُرى الإسلام، وتكالَبَت الباطنيَّة على الإسلام والمسلمين، وتداعَت أُممُ الكفر على حِياض الأُمة، وتهاوَت ثغور العِزَّة، وانْتُزِعَت هيبة المؤمنين من أعدائهم، وفشَا الهوان بين المسلمين.
يَصِف شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: أهْلَ زمانه وقت ظهور التتار؛ فيقول: "أمَّا الطائفة بالشام ومصر ونحوهما، فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم مِن أحقِّ الناس دخولاً في الطائفة المنصورة، التي ذكَرها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: ((لا تزال طائفة من أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالَفهم ولا مَن خَذَلهم حتى تقوم الساعة))[1]، وفي رواية لمسلم: ((لا يزال أهل الغرب))[2].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - تكلَّم بهذا الكلام في مدينته النبويَّة، فغَرْبه ما يَغرُب عنها، وشَرْقه ما يَشرق عنها، فإنَّ التشريق والتغريب من الأمور النسبيَّة؛ إذ كلُّ بلدٍ له شرق وغرب، وكان أهل المدينة يُسَمون أهل الشام أهل الغرب، ويسمون نجدًا والعراق أهْلَ الشرق، ومن يتدبَّر أحوال العالَم في هذا الوقت، يَعلم أنَّ هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: عِلمًا، وعملاً، وجهادًا من شرق الأرض وغربها، فإنهم هم الذين يقاتلون أهلَ الشوكة العظيمة من المشركين، وأهل الكتاب، ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من التُّرك، ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم؛ كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة - معروفة معلومة قديمًا وحديثًا، والعِزُّ الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزِّهم، وذلك أنَّ سُكان اليمن في هذا الوقت ضِعاف عاجزون عن الجهاد، أو مُضيِّعون له، وهم مُطيعون لِمَن ملَك هذه البلاد، حتى ذَكروا أنهم أَرْسَلوا بالسمع والطاعة لهولاء، وملك المشركين لَمَّا جاء إلى "حلب" جَرَى بها من القتل ما جرَى، وأمَّا سُكَّان الحجاز، فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البِدَع والضلال والفجور ما لا يَعلمه إلاَّ الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مُستضعفون عاجزون، وإنما تكون القوَّة والعِزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد، فلو ذلَّت هذه الطائفة - والعياذ بالله تعالى - لكان المؤمنون بالحجاز من أذلِّ الناس، ولا سيَّما وقد غلَبَ فيهم الرَّفضُ، ومُلك هؤلاء التتار المحاربين لله ورسوله الآن مرفوض، فلو غَلَبوا لفَسَد الحجاز بالكُليَّة، وأمَّا بلاد إفريقيَّة، فأعرابُها غالبون عليها، وهم من شرِّ الخَلْق، بل هم مستحقون للجهاد والغزو، وأمَّا المغرب الأقصى، فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم، فلا يقومون بجهاد النصارى هناك، بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصُّلبان خَلْق عظيم، لو استولى التتار على هذه البلاد، لكان أهل المغرب معهم من أذلِّ الناس، ولا سيَّما والنصارى تدخل مع التتار، فيَصيرون حزبًا على أهل المغرب.
فهذا وغيره مما يُبَيِّن أنَّ هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم: كتيبة الإسلام، وعِزُّهم عِزُّ الإسلام، وذُلُّهم ذُلُّ الإسلام، فلو استولى عليهم التتار، لَم يَبق للإسلام عِزٌّ ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية، يَخافها أهل الأرض، تقاتل عنه[3].

الجانب السياسي:
كان عصر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله [4]: زمنًا ضَعُف أمْرُ الخلافة العباسية فيه، وتَدَهورت أحوالها السياسيَّة، فكان الخليفة لا يَسوس غير حاضرة البلاد، وسُلطانه لا يُباعد أسوار بغداد، وما حوْله مُقَسَّم مَمالِك ودُويلات، تدين بالولاء للخليفة اسمًا لا أكثر، شعارًا، لا أمْرَ له عليهم من بعدُ، ولا حتى من قبلُ، فكأنما فيه قيل مَنطق:( يَملِك ولا يَحكم)، وزادَ سوء الأمر دُويلات الأقزام بدوامها متناحرة، لا يَرفق أكبرُها بأصاغرها، إلاَّ وقطَع منه أرضًا أو إقليمًا، أو غزَاه وأزالَ مُلكه، "يُحَفِّزهم الطمع في سَعة المُلك وعَظَمة السلطان إلى مقاتلة بعضهم"[5]، فطَغى بعضهم على بعضٍ، وجُعِل بأْسهم بينهم، حتى لَم يَدُر لهم قتال إلا بينهم، وما دَخَلوا قرية إلا أفْسَدوها، وجعلوا أعزَّة قومها أذِلَّة، وزادَ ظُلمهم للرعيَّة بالضرائب والمُكوس، وعَمَّ الفساد والرِّشوة للرأس والمرؤوس.
ومثل أولئك لا يؤمَن عليهم مَكْرُ الله: أن يأتِيَهم بياتًا وهم نائمون، فنزَل بساحتهم الفرنج ببلاد الشام عام 490هـ، في عهد الدولة العُبيدية (الفاطميَّة) بمصر، والسلاجقة ببغداد والشام، واقْتَطعوا ممالك وأراضِيَ، وسَلَبوا بيت المقدس عام 492هـ، وأذاقُوهم سيِّئات ما عَمِلوا، و"رَكِب الناس السيف، ولَبِث الفرنج في البلدة أسبوعًا يَقتلون فيه المسلمين، واحْتَمى جماعة من المسلمين بمحراب داود فاعْتَصَموا به، وقاتَلوا فيه ثلاثة أيام، وقتَل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعُلمائهم، وعُبَّادهم وزُهَّادهم، ممن فارَق الأوطان، وجاوَر بذلك الموضع الشريف"[6].
بعدها بزَغ نجم عماد الدين زنكي (ت541هـ)، وبسَط نفوذ الدولة الإسلاميَّة على أراضٍ شاسعة من الشام، وبدأ يُجهِّز لاسترجاع بيت المقدس، وإن لَم يُكتب له الفِعل، فقد كُتِب له الأَجْر، ثم تولَّى الأمر ابنه نور الدين محمود زنكي، فحرَّر الثغور، وقضى على إمارة الرُّها بشمال الشام، ومَلَك غالب أنطاكية، ومهَّد لصلاح الدين ليتولَّى ملك مصر عام 568هـ، صاحب موقعة حطين (583هـ)، ثم اسْتِرداد بيت المقدس وإجلاء النصارى، بعدها تولَّى بنو أيوب من ذُريَّة صلاح الدين حُكْمَ الشام ومصر، فخَلَفَ من بعد الصلاح خَلْفُ فسادٍ، أضاعوا الأمانة، واتَّبعوا الشهوات، فسوف يَلْقون غيًّا؛ لِمَا أطْمَعوا الأعداء فيهم بهوانهم، فعاد الفرنج إلى الشام، وكَثُر الخلاف وافْتَرَقت مصر والشام قطعًا، كلُّ جزءٍ منها مُلْك مَقسوم، عليه رجلٌ يُقال له: سلطان، يَحكم مَرْمى بَصَره، وإنْ زادَ، فُقِعت عيناه من جاره السلطان، فحال المسلمون شيعًا وأحزابًا، فِرَقًا وطوائفَ، دُويلات ومَمالك، ومع ذي الفِتن لَم يتَّعظ أقزام الملوك، وظنُّوا أن حصونَهم تَمنعهم من أمر الله، فأمِنوا أن يأتِيَهم مَكْرُ الله ضحًى وهم يَلعبون، فخَسَف بهم قومٌ لا يرحمون دابَّة تَمشي على أربع أو اثنين، ولو زحَفَت رَفَسُوها، يزعم أنهم بشرٌ، غير أن مُناهم إفناءُ نوع البشر، هبَّت رياح إعصار بُعد المَشرقين بجحافل المغول، لَم يَذكر أهل الأخبار مَن هم أشدُّ منهم في الدَّمار، في بضْع سنين أقام عظيمُهم "جنكيز خان" مُلكًا يأوي ضِعْفَي ما حكَم الإسكندر الأعظم، وأربعًا ما كان لسلطان الروم، ولَم يَشهد أحدٌ أنَّ قومًا حاكَوْهم في الفظائع، وسفك الدماء، وما وَطِئ زبانية المغول بأوَّلهم مساكنَ قوم، إلاَّ حكَى آخِرُ جَحافلهم: أن يُحكى بذي الأرض كان بشرٌ فمَحوا أعراقًا وأجناسًا وقُرًى ومُدنًا، حتى توهَّم أُولي الأخبار أنَّ هؤلاء يأجوج ومأجوج، وحان وقتُ الخروج، ودان آخر الزمان، ودقَّت نهاية الأوان، فأزالوا دويلات الأقزام واحدةً تلو الأخرى، ما بين 617 و624هـ[7]، وتواتَر عن بَطْشهم أهل الخبر، يَمرُّون على الممالك، فتكون خبرًا بعد أثَر، وَيْكأن يَنتزعون قصب السكر، والرُّعب منهم قد أبْكَر، نحو حاضرة الخلافة توجَّهوا، فلا مَفَرَّ، وما وَقَفوا على باب ملك، أو والٍ، إلاَّ فُتحَت لهم الأبواب، وسُلِّمت لهم الرِّقاب، حتى تسارَع القوم يَمدُّون رِقابهم قبل مُلكهم، وعلى السيرة لَحِق الخليفة وذُريَّته، فمَحوا خلافةً كانتْ تَحكم من أقاصيها إلى أدانيها، في أيام معدودات من عام 656هـ، يَسبقهم رُعبهم إلى القلوب الخاوية، من قبل وصول سيوفهم للرِّقاب المُتدلية، ما سَمِع أهل بلدٍ مسلم أنهم نحوهم قادمون، إلاَّ طارَت العقول، وأزِفَت الآزفة، وفَزِعت النائحة.
بعد بغداد كان فراق المغول للعراق، يَقصدون الذين يَلونهم من الأرض، فتحرَّكوا يبغون دمشق الشام، وقاهرة مصر، أمَلُهم أن يَدري عظيمهم مغرب الشمس، ولا يَتركوا على البسيطة نفسًا، غير أنَّ الله سَلَّم؛ وظهَرت دولة المماليك، وساسَ الأمر رجالٌ من بعد الصعاليك، صدُّوا زَحْفَ التتار، ورَحِموا البسيطة من هوْل الدَّمار، وبعين جالوت أُجْلِيَت جحافل المغول، ووَلَّوا مُدبرين، وانحصَرَت فَيَالِقُهم عن الشام.
وقَوِيَت دولة المماليك واشتدَّ نفوذُها، غير أنَّ حُكَّامها حامَت حول شرعيَّتهم تُهَمٌ، كانت مثارَ فِتَنٍ لها، فأُمَراؤها من مماليك الأيوبيين، ترقَّوْا في المراتب العسكرية، ولَمَّا اشتدَّ عودُهم، أزالوا مُلك الأيوبيين غصبًا، وهم في الجملة من رقيق الأتراك الذين اشتراهم الملك الصالح نجم الدين الأيوبي (ت647هـ)، وسمَّاهم البحريَّة.
فقَتَلوا آخِرَ ملوك الأيوبيين الملك توران شاه عام 648هـ، واجتمَع أمْرُهم على الأمير عز الدين أيبك التُّركماني مَلِكًا، وتلقَّب بالملك المُعز، فحكَم إلى أن قُتِل عام 655هـ، ليَخلفه ابنه الملك المنصور نور الدين لسنتين، بعدها تمكَّن من الحُكم سيف الدين قطز، وفي عهده بدَأ زحْف التتار على الشام ومصر، وكان له النصر في موقعة عين جالوت 658هـ، ودحر زحفهم، فتَمَّ بعدها توحيد مصر والشام تحت سلطان المماليك، وفي سنة 658هـ قتَل الأمير بيبرس البندقداري الملك المظفر قطز، وتولَّى الحُكم وتلقَّب بالظاهر بيبرس، وفي عهْده شَهِدت الدولة نموًّا وقوَّة، وجعَلها مَهيبة الأركان، وكان بيبرس قويًّا صلب المِراس، ساعيًا نحو مجد الدولة، وتوحيد حُكم المسلمين، فقطَع دابر التتار والغُزاة الفرنج، والممالك النصرانيَّة في الشام، ثم استقْدَم الأمير أبا القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر بأمْر الله عمَّ الخليفة المستعصم؛ ليَكسِبَ شرعيَّة الحُكم، مُجدِّدًا آمال استعادة الخلافة من جديد، فسُمِّي الخليفة، وبايَعه الأُمراء والعلماء والعامة من بعدهم[8]، غير أنَّ الخليفة كان تحت سلطانه لا كلمة له.
ولَم يَعرِف حُكم المماليك الاستقرارَ إلا حينًا من الدهر، فجُلُّ مَن تولَّى الأمر هو له غاصِبٌ؛ بخَلْع الملك، أو خَلْع رأس الملك، فكان الأمن مفقودًا بين أُولي الأمر من أُمراءَ وقادةِ جيشٍ، حتى كَثُرت الدَّسائس، فما إن يُدرَى بالسابق حتى يُخَمَّن مَن هو اللاحق، والملك بين شَرَّين: القتل، أو العَزْل.
وأشدُّ ملوك المماليك بأْسًا وقوَّةً الظاهر بيبرس؛ ثارَ عليه بعض الأُمراء، وسَعوا في النَّيْل منه، غير أنَّه أخْضَعهم بالقوة، وبعد وفاته 676هـ، خلَفه ابنه السعيد بن الظاهر بيبرس، ثم خلَع أُمراء العسكر السعيد بن بيبرس عام 678هـ، فخلَفه سلامش بن بيبرس وعُمره سبع سنين، وخُلِع بعد أربعة أشهر، فخلَفه قلاوون المنصور (689هـ) وكان حَسَن السيرة والحُكم، إلاَّ أنه تعرَّض لمخاطر العَزْل، ثم تَلَت اضطرابات في الحكم[9].
وتكرَّر تهديد التتار لغزو الشام عامي 699هـ، 702 هـ، واحتلُّوا حلب وحماة ودمشق، والقدس وغزة، وبلَغ الرعب من التتار بالمسلمين أن خالَط دماءَهم من حقيرهم إلى أميرهم، وخرَج السلطان الناصر محمد بن المنصور قلاوون، وحال المسلمين لَمَّا تَرَاءَى الجمعان حين: "جاء العدو من ناحيتي عُلوِّ الشام وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغَت الأبصار زيغًا عظيمًا، وبَلَغت القلوب الحناجر لعِظَم البلاء، لا سيَّما لَمَّا استفاضَ الخبر بانصراف العسكر إلى مصر وقرب العدو، وتوجُّهه إلى دمشق، وظنَّ الناس بالله الظنون.
هذا يظنُّ أنَّ أرْضَ الشام ما بَقِيت تُسْكن، ولا بَقِيت تكون تحت مملكة الإسلام، وهذا يظنُّ أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر، فيستولون عليها، فلا يقف قُدَّامهم أحدٌ، فيُحَدِّث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهكذا قد استولَى عليهم الرعب والفزع، حتى يَمر الظنُّ بفوائده مرَّ السحاب، ليس عقل يتفَّهم، ولا لسان يتكلَّم"[10].
و شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: شُرِّد وأهله من بغداد؛ هروبًا من تغوُّل المغول في العراق، وقد وُلِد فوجَد الأرض تحت سلطان المغول، فلمَّا اشتدَّ الأمر بهم، تحرَّكت أُسرته نحو الشام، وهم قادمون لدمشق مرة ثانية، فكان شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: يرقُب ويتلظَّى بالأَسى؛ لِمَا حالت عليه دولة المسلمين، ويدري أنَّ هذا البلاء إنما هو: عقاب الفُرقة والاختلاف، والتناحر بين الأُمة الواحدة، وحَيْدتها عن المَحَجَّة البيضاء، فأُبِيحَت بَيْضتها، وهو يدري أنْ لا طاقة لأحدٍ أن يَنزع مُلك المسلمين فيُمحى، ولو اجتمَع أهل الأرض عليهم، غير أنَّ الوَهَن دبَّ بهم، وهزيمتُهم لضَعْفهم لا لقوَّة عدوِّهم، فرامَ إحياء السُّنن، وإصلاح أمر دين الأُمَّة، ولَم يكن ممن يَعتزل همومَها، ويتحلَّق عن مآسيها، بل خاضَ في الجهاد والدفاع داخليًّا وخارجيًّا، فنصَح أُولي الأمر، وطالَب بالإصلاح في أمور السياسة الشرعيَّة، وقاتَل الغُزاة، وكان له مع التتار مواقفُ محمودة تدلُّ على شجاعة نادرة، وشكيمة ثابتة[11]، وحرَّض على قتالهم، وخرَج لِمُلاقاتهم مع السلطان الناصر، فدُحِر المغول وانقلبوا صاغرين.
فكانتْ مشاركة شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: صادقة وإيجابيَّة، تُدير دَفَّة الأحداث في عصرٍ تلاطَمَت فيه المِحَن، وعمَّت البلوى على المسلمين، وكانتْ فُرصته التي وجَّه فيها الناس إلى دين الله، ونَهَج بهم إلى سُنة رسول الله [12].
بعدها عُزِل الناصر مرَّتين، وتولَّى الأمر حينها بيبرس، وبعد الناصر خلَف أبناؤه، فكانوا أصاغرَ بين قومهم.
ويُمكن إجمال الحال السياسيَّة لعصر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: في نقاط:
انقسام الخلافة إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، ثم زوال الخلافة.
ضَعْف الحُكَّام، وقِلَّة سيطرتهم على شؤون الدولة، وسُوء سياستهم لأمور الرعيَّة.
كثرة الدَّسائس والمؤامرات الداخليَّة للاستيلاء على الحُكم.
اضطراب في تدبير الدولة، فبين ليلة وضُحاها ينُصَّب ملكٌ، ويُخْلَع آخر، فتَمَيَّز الحُكم بغَلَبة السيف على الوراثة.
تناحُر وتنازُع الدويلات فيما بينها، وجَعْل هَمِّها في قتال جاراتها من أخواتها.
تربُّص النصارى الإفرنج بالشام.
زحْف التتار على الخلافة، وإسقاط رمز الوحدة السياسية "الخليفة".
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عصر ابن تيمية وأثره فيه
26-02-2017, 03:54 PM
الجانب العلمي:
بعد تدمير بغداد وتخريب مكتباتها ومدارسها، ودُورها وقصورها، وفِرار العلماء والأُدباء والفُضلاء منها: انتَقَلت الحركة العلميَّة والفكريَّة نحو الشام ومصر، فحَدَثَت نهضة علميَّة، بإقبال العلماء بهِمَّة عالية على نشْر العلم في حِلَق التدريس والتصنيف: استدراكًا لِمَا فُقِد بأرض خُرسان والعراق؛ إذ "لَمَّا خُرِّبت تلك الأمصار - وذهَبَت منها الحضارة التي هي سِرُّ الله في حصول العلم والصنائع - ذهَب العلم من العَجم جُملة، لِمَا شَمَلهم من البداوة، واخْتُصَّ العلم بالأمصار الموفورة الحضارة، ولا أوْفَر اليوم في الحضارة من مصر، فهي: أُمُّ العالَم، وإيوان الإسلام، ويَنْبوع العلم والصنائع، وبَقِي بعض الحضارة فيما وراء النهر؛ لِمَا هناك من الحضارة بالدولة التي فيها، فلهم بذلك حِصَّة من العلوم والصنائع لا تُنكَر"[13].
وتغيَّر حال مصر "من حين صارَت دارَ الخلافة، فعَظُم أمرُها، وكَثُرت شعائر الإسلام فيها، وعَلَت فيها السُّنة وعَفَت منها البدعة، وصارَت محلَّ سَكَن العلماء، ومَحطَّ رِحال الفُضلاء"[14].
وكان العلماء يتَّخذون من المساجد والمدارس مراكزَ لنشْر العلم بمختلف فنونه، وإن كانت المساجد اخْتُصَّت بحِلَق الوعظ والخطابة، وتحفيظ القرآن، بينما بَرَزت المدارس كمراكز متخصِّصة للتعليم.
والمدارس ظهَرت أوَّل أمرها بخراسان وفارس على يد أعيان المنطقة وعلمائها، ولَمَّا تولَّى:( نظام الملك) الوزارة في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري: قام بتشييد مدارس عدَّة بطريقة منهجيَّة مُنظَّمة تحت رعاية الدولة، فأنشأ مدارس ببغداد والبصرة، والموصل ونيسابور: لتدريس العلوم الشرعيَّة، وكان أوَّل عهدٍ للعالم بالمدارس النظاميَّة تحت رعاية الدولة، وأوَّل بداية للتعليمالمجاني العام لكلِّ أبناء الرَّعيَّة.
وفي:( العهد الأيوبي) تسارَع الأُمراء في تشييد المدارس السُّنيَّة: للقضاء على العقائد الباطنية الإسماعيليَّة التي أُكْرِه الناس عليها، ونشأ في ظلِّها مسلمون لا يدرون غيرها، فخاضَت المدارس مهمَّة القضاء على المدِّ العُبيدي الإسماعيلي الباطني الشيعي.
وفي:(عَهِد المماليك) تواصُل الجُهد في نشْر العلم بين الناس دون تفريقٍ بينهم، وجعَلوها تحت رعايتهم، وحبَسوا لها الأوقاف والأموال.
وأشهر المدارس: المدرسة العادليَّة الكبرى؛ نِسبةً للملك العادل، والمدرسة الظاهريَّة بالشام؛ نِسبةً للملك الظاهر، والمدرسة الصلاحيَّة والكامليَّة، والسكريَّة والعُمريَّة، وذي المدارس كان بعضها متعدِّدَ العلوم، وبعضها مُختصًّا بالحديث وآخر بالفقه، وبعضها خاصًّا بالحنابلة، وأخرى بالشافعية، وأخرى بالمالكيَّة، ومدارس كلاميَّة يُقابلها مدارس حنبليَّة، وأُخَر لأهل اللغة والأدب، وبعضها بالعراق وفارس لأهل الفلسفة والمنطق، والفلك والرياضيَّات.
وبرَز في هذا العصر علماءُ كِبار في علومٍ شتَّى - نقليَّة وعقليَّة وطبيعيَّة - مثل: الفقيه عز الدين بن عبد السلام (ت660): سلطان العلماء[15]، المؤرِّخ أبو شامة (ت665هـ) [16]، والمؤرِّخ المحدِّث ابن العديم (ت666هـ)[17]، الفيلسوف الفلكي نصير الدين الطوسي (ت672هـ)[18]، والإمام النووي (ت676هـ)[19]، والمؤرِّخ القاضي ابن خلكان (681 هـ)[20]، والإمام الفقيه الأصولي شهاب الدين القَرافي (ت682)[21]، والطبيب ابن النفيس (ت687هـ): مُكتشف الدورة الدموية[22]، الإمام الفقيه المحدِّث شرف الدين بن قُدامة الحنبلي (ت 687)[23]، والقاضي الفقيه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد (ت702هـ)[24]، وابن عطاء الله السكندري (ت709) صاحب الحِكَم العطائيَّة، والحافظ أبو الحَجَّاج المِزِّي (ت742هـ)[25]، والإمام المفسِّر النَّحْوي أبو حيَّان الأندلسي (ت745)[26]، والفقيه اللغوي النحوي ابن الوَردي (ت749هـ)[27]، والنحوي إمام العربية ابن هشام (761هـ)[28].
وسادَ هذا العصر فريقان في الأُمَّة الإسلامية:( السنة والشيعة)، وكلٌّ يعادي الآخر، والسُّنة كانوا في الشام ومصر، والمغرب العربي، والعراق والحجاز، أمَّا الشيعة فغالب انتشارهم بفارس وخراسان، واليمن والبحرين، وليبيا وتونس، وجزء من الجزائر، إلاَّ أنَّ صلاح الدين الأيوبي قضَى على دولتهم، واجْتَثَّ مذهبهم من مصر، ومِن قبله قُضِي على دولتهم بالمغرب العربي كلِّه.
وأهل السُّنة هم جمهور المسلمين ممن يتولَّى عامَّة الصحابة أجمعين، ويتَّبعون السُّنن والآثار، وغالبهم على طريقتي الأشاعرة والحنابلة في باب العقائد، وفي الفقه على المذاهب الأربعة السائدة، غير أنَّ دولة الأيوبيين كانت أشْعَريَّة صوفيَّة شافعيَّة، فنَشَر الأيوبيُّون هذا المذهب في الشام ومصر، والحنابلة خلافهم في الفقه والعقيدة، وكانوا بالعراق والحجاز، ثم نَشَروا مذهبهم في الشام بعد سقوط بغداد، وفي شمال إفريقيا والأندلس ساد المذهب الأشعري والفقه المالكي.
بعد دولة الأيوبيين كانت دولة المماليك على عهْد سابقتها، حتى عَهْد السلطان بيبرس المملوكي؛ إذ صدَر مرسوم بتنصيب قاضي قُضاة من كلِّ مذهب، يقضي لأهل مذهبه بداية من عام 663هـ، فزاحَمت المذاهب الفقهيَّة المذهب الشافعي السائد منذ دولة الأيوبيين؛ يقول أبو زهرة: "وقد خَصَّ آل أيُّوب المدارس الشافعية بفضْلٍ وعناية، وبالَغ بنو أيوب في نشْر مذهب أبي الحسن الأشعري في العقائد، على أنه السُّنة التي يجب اتِّباعها، والطريقة التي يجب انتهاجها!!؟، حتى لَم يكن شيء يُخالفه إلاَّ ما كان عليه الحنابلة، وكان الحنابلة يسلكون في دراسة عقائدهم مسلكَهم في دراسة الفقه، يستخرجون العقائد من النصوص، كما يَستخرجون الأحكام الفرعيَّة من النصوص؛ لأنَّ الدين مجموع الأمرين، فما يُسْلَك في تعرُّف أحدهما، يُسْلَك لا مَحالة لاستخراج الثاني، أمَّا الأشاعرة فيَسْلكون في تعريف العقائد مَسْلَكَ الاستدلال العقلي والبرهان المنطقي؛ وذلك أنَّ شيخهم أبا الحسن الأشعري نشَأ في أُوْلَى حياته نشْأَةً اعتزاليَّة، فأتْقَن طرائقهم في الاستدلال، ثم خالَفهم في النتائج التي وصلوا إليها، ونازَلَهم بالحُجَّة والبرهان، وبالطريقة التي يُتقنونها؛ ولذلك كانت طرائِقُه تَتَّفق مع طرائقهم - وإن اخْتَلَفت النتائج، ولهذا الخلاف في المنهج - بين الحنابلة والأشاعرة في إثبات العقائد وفَهْمها - كانت المدارس الأشعريَّة متميِّزة في جانب، والحنابلة في الجانب الآخر، وبينهم بعض المناوشات الكلاميَّة، وكان للحنابلة بين المدارس الفقهيَّة والاعتقاديَّة مدارسُ خاصَّة بهم، مثل: المدرسة الجوزيَّة، والمدرسة السكريَّة، والمدرسة العُمريَّة، وفي هذه المدارس تخرَّج شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله ، ودرَس في كَنَف أبيه، وكان لا بدَّ قد رأى الأشاعرة وهم يهاجمون الحنابلة"[29].
وفي ذا العصر شاع التعصُّب المذهبي والتقليد بين أتْباع تلك المذاهب، بل سرَى الدَّاء حتى لكبار العلماء، فبينما عصر مَن سبَق عصر الصدور، صار مَن لَحِق عصر السطور، وهو: عهد التدوين، ويلي العصر الذي وُلِد فيه شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله عصْرُ الجَمْع والشرْح، والتعليقات والحواشي، والتفريع والتخريج، وانتشار التقليد بين العلماء، ثم بُلِيت الأُمَّة بقوم حَرَّموا الاجتهاد، وآخرون قالوا: ما ترَك الأوَّل للآخِر شيئًا!!؟، وطائفة وضَعوا شروطًا للمجتهد، لو أُنْزِلت على الأئمة الكرام ما وَسعتهم، وأوْسَطهم قال: لا طاقة لنا بالاجتهاد بعد أئمة المذاهب.
فالتجديد الفكري والعلمي لا أثَر له في بيئة كهذه؛ إذ العلوم قد قُعِّدت وأُصِّلت، والمذاهب الفكريَّة نَضِجت؛ لذا فالسِّمة البارزة لعلماء الفترة هي: التقليد المَحض، والاكتفاء بما ورثوه من كُتب الأوَّلين!!؟؛ ما آلَ بهم إلى تحريم حريَّة الرأي واستقلاله!!؟.
ودأَب العلماء على النقل والجمْع والشرْحِ، والتفريع على الأصول، والاختصار والاعتصار، والاستدلال والانتصار، كلٌّ يَخدم مَذهبه.
أما العقول، فقد أُصِيبت بالركود والجمود، فلا مناقشة للآراء المتقدِّمة ولا اختيار، ولا تنظير للنوازل؛ مما حدا بهم إلى أن ينفروا من كلِّ صحوة للإصلاح، أو صيحة:( حي على الاجتهاد والنظر)، وطغَى التقليد على جميع العلوم من الفقه الأصغر للأكبر، لعلوم الآلة.
والناس أكثرهم مُقلِّدٌ على مذهب الأشعريَّة الذي انتشَر بين العلماء، حتى إنهم لا يكادون يعرفون عقيدة غيرها، لا سيَّما بعد أن جعَلها صلاح الدين الأيوبي عقيدة الأزهر!!؟، فكلُّ عقيدة غيرها مستنكَرة، وقد غلَب التصوُّف على دنيا المسلمين، حتى لا تكاد تجد عالِمًا إلا ويَعتبر التصوف مما جاء به الإسلام!!؟، وكان للصوفيَّة مكانة كبيرة في نفوس العامَّة والحُكَّام، كل هذا وما عَمِلته الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي: شيءٌ آخر، فقد غلَب هذان العِلمان على أكثر علوم هذا العصر ومعارفه، وغدا مَن لا يُحيط بهما علمًا، أو له نصيبٌ فيهما، يُعَدُّ ممن لا يستحقُّ النسبة للعلماء.
وضِمن الكَبْت العلمي كانت تخرج طفرات لبعض العلماء، غير أنها لا تَسري مِن حولهم حتى تَخفت، أو تُطْفَأ بضجيج المقلِّدة، "وشَهِد هذا العصر تأليفَ أكبر دوائر المعارف الإسلاميَّة، وأعظم العلماء الموسوعيين كانوا في ذا العصر"[30]، و"هكذا عصور الضَّعف دائمًا، تمتاز بكثرة الجَمْع وغزارة المادة، مع نضوب البحث والاستنتاج"[31]، وكثرة الموسوعات والتجميع دواعيها: بلوغ العلوم قدرًا من الإشباع في البحث والتنظير، ومقامًا من التوسُّع؛ مما صَعَّب على طالبيها إدراكَها كلِّها، فقام العلماء بتجميع الدُّرر المنثور؛ لتكون كالعِقد في مُصنفٍ واحدٍ، وزاد التحفيز على ذلك غزو التتار والإفرنج، وتخريبهم للمكتبات، وقتْلهم للعلماء، فهبَّ العلماء الموسوعيُّون لتجميع الأقوال والنظريات والمذاهب من كتبٍ شتَّى؛ ألاَّ تَضيع.
في خِضَم ذاك كلِّه خاض شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله (حَملة إصلاحيَّة): لبَعْث رُوح البحث والاجتهاد، والنظر والاستنباط، ورَبَّى تلامذته على ذلك، فاشْتَهروا بمراتب الحُفَّاظ والمجتهدين والأئمة، ونَبْذهم للتقليد، وحَطِّهم من قدْر دُعاته، مما ألبَّ القلوب على شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله من:( عُصبة المقلِّدين)؛ إذ:" كانت الأزمة الفكريَّة قد بلَغَت أوْجَها في عصر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله ، واستفَحَل أمرُها، وامتدَّت امتدادًا سرطانيًّا، جعَلها تَبسُط ظِلَّها البغيض على جوانب التصوُّر والاعتقاد، والمنهج والمصادر، والعلاقات والمعاملات، والسياسة والاقتصاد، ونواحي العمران المختلفة، ومنها: السلوك والأخلاق وأساليب التديُّن، ولقد تغيَّر فَهْم الناس للدين ذاته تغيُّرًا شاملاً"[32].
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عصر ابن تيمية وأثره فيه
08-03-2017, 04:03 PM

الجانب الاجتماعي والاقتصادي:
الجانب السياسي والعلمي له الأثر الكبير على المجتمع، فالعامة تَسوسهم ملوكُهم وعلماؤهم، وهم أُولو الأمر في الدنيا والدين، وأُمَّة فيها اضطرابات وفِتن لا تتمتَّع بقِسْط من الأمان إلاَّ كذَنَب السِّرْحان!!؟، سيتعاقب على حُكمها الغِلمان، يتعاركون على العرش: عِراك الصِّبيان، ويَشِحُّ فيه العلم، ويَقِل العلماء، ويَنضَب أثَرُ الأتقياء، ويَعلو جَدَلُ الخصوم، وتُشْهَر المحاقة والخصومات.
وصَخَبُ هؤلاء وأولئك لا بدَّ له من صدًى على المجتمع، فالتلوث السياسي يصبُّ في مجاري التلوث الاجتماعي، والقنوات بينهما واصلة.
وحيث عمَّت الخرافة وانتشَر التصوف: زاد التخلُّف، وما انحصَرَت الحضارة عن قوم إلاَّ جَفَّ فيهم العلم، وما قُلِّد المناصب المُقَلِّدةُ، إلا توقَّفت حركة الاجتهاد، وتعطَّلت مصالح التغيير والمواكبة، وتأخَّرت عجلة النهوض والمُسايَرة، سُننٌ وأيَّام تُتداوَل.
وتركيب المجتمع عهد الأيوبيين والمماليك في الشام ومصر: خليطٌ من الأجناس والأعراق والطوائف، والنِّحَل والمِلل، وتقاليد وعادات، وطقوس وأعْرَاف، جَلَبتها القوميَّات التي هَجَّرها رُعبُ المغول عن أراضيها، وعادات نشَرها وجودُ النصارى الفرنج في الشام.
وجعَلت الحروب المتتالية والرعب الذي نشَره الفرنج، والهَلَع الذي بسَطه المغول - المجتمع في حالة اضطراب نفسي جماعي، ونُزوح دائمٍ، وفُقدان للأمل والأمن، خاصة بعد تَفَتُّت شَمْل الخلافة، وتَحطُّم الدويلات، ونُشوب الصِّراعات على المُلك، وكَثرة المؤامرات السياسيَّة الداخلية، وذا خَلَق آفاتٍ اجتماعيَّة، وانتشارًا للفواحش، وظهورًا لسلوكيَّات فرديَّة واجتماعيَّة، لَم تَعْهَدها الأُمَّة المسلمة، وفشَا النُّزوع نحو التملُّص من التكاليف الشرعيَّة، أو اعتزال الناس والحياة الاجتماعيَّة في قوالبَ صوفيَّة طُرُقيَّة حوَّلت الدِّين لشَطْحٍ ورَدْحٍ.
وبعد دَحْر التتار (عهد قطز): كَثُر أسرى المغول، وبعضهم أسْلم، فضُمُّوا للنسيج الاجتماعي، و"أيام الملك بيبرس كَثُرت الوافدية، وملَؤُوا مصر والشام، فغَصَّت أرضُ مصر والشام بطوائف المغول، وانتشَرت عاداتهم بها وطرائقهم، هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها، قد مُلِئت قلوبهم رعبًا من جنكيزخان وبَنِيه، وامتزَج بلحَمهم ودَمِهم مُهابتُهم وتعظيمهم، وكان التتار إنما رُبُّوا بدار الإسلام، ولُقِّنوا أحكام المِلَّة المحمديَّة، فجمَعوا الحقَّ والباطل، وضَمُّوا الجيِّد إلى الرديء"[33].
وباختلاط المسلمين بالإفرنج والتتار: شاعَت بِدَعٌ وفواحشُ، وانحلال أخلاقي، وكَثُر المَكر والخداع، والمُوبقات والكبائر، وتسرَّبت لبعض الطوائف الإسلامية خُرافات وأفكار إباحيَّة، وتصوُّرات هدَّامة، وأفكار مَوْبُوءَة، وعامَّة المجتمع اكْتَسَحته الطُّرق الصوفيَّة، واضطرد انتشار التصوُّف بتفشِّي التخلُّف في كلِّ جوانب المجتمع؛ من العقائد إلى العبادات إلى المعاملات، من الدين إلى الدنيا، وصارَت النفوس واهية مُعَطَّلة عن الجد والمعالي، وانطَفَأت أنوار التوحيد التي كانت باعثًا على قيام الدول الإسلاميَّة الرامية إلى بناء الهَيْبة والعِزَّة، وتكوين روابط اجتماعية متماسِكة بعقيدتها، متناسقة بين أفرادها.
فقد كَثُرت نظريَّات إسقاط الأحكام، وشاع الإرجاء وهو صورة للعلمانية الجزئية في تلك العصور، وشاعَت الخمر والفواحش، ولُبْس الذهب والحرير للرجال، وقِلَّةُ الرحمة بين أفراد البلد الواحد، وكَثْرة النَّعرة العِرقيَّة، والتشقُّقات الحِزبيَّة، فعمَّت الفوضى الاجتماعية، وكَثُر الغلاء، وأُثْقِلت العامة بالضرائب والمُكوس والجِباية؛ لقلة الاستِقرار والأمن، فهُدِم الاقتصاد، واضطربت مواسم المحاصيل زراعة وحصادًا؛ لكثرة الغارات على أراضي المسلمين، فنُهِبت أموال وموارد، وقلَّ الناتج، وندر المعروض؛ فارتفَع السعر، حتى ضاق الناس ذرعًا، فقلَّ التراحُم بينهم، وشاع الغشُّ والتطفيف في الميزان، فالمُهَجَّرون ترَكوا كلَّ مالهم خلفَهم، وأهل البلاد أرزاقهم تُنْهَب من العدو، أو تُجبى من السلطان بذريعة تمويل الجُند والعسكر، فحُشِر أهل الشام ومصر بين الفقر والفاقة، واجتمَع بلاء الدين ببلاء الدنيا؛ بطون خاوِية، وعقول فارغة، وذا كله يَخلق عفنًا اجتماعيًّا ونفسيًّا، ولا قوامَ لأُمَّةٍ في ذا المحيط النِّكد، فاشتدَّ أمْرُ الناس، وكَثُر الكسب الحرام، والمُجون والخمر، وكَثُر قُطَّاع الطرق واللصوص، وبين الفاقة والجهل تَنبت البدع والتُّرَّهات والخُرافات، ويقوى ساعدُ أهل الأباطيل.
وحلَّت الفيضانات والجفاف سنة 656هـ، واشتدَّ وَبَاءٌ بالشام؛ حتى عزَّ مُغَسِّلو الموتى، وفي سنة680هـ غَرَقت دمشق، وفي سنة694هـ جفَّت مصر جفافًا هائلاً، تَبِعه غلاءٌ فاحش؛ حتى أُكِلت المَيتة، وفي سنة718هـ وقَعت مَجاعة في شمال بلاد الشام والموصل، فمات خَلْق كثير، وهاجر آخرون، واشتدَّ الغلاء حتى بِيع الولدان، وعام720هـ زُلْزِلت مصر والشام، وفي عام724هـ فاضَت مصر وغَرَقت.
وتلك المصائب لا تنزل بقومٍ إلاَّ عُلِم أنْ عمَّ فيهم الخَبَثُ، وما مُنِعوا القَطْر إلا لِمَنْعهم الزكاة، وما أُخِذوا بالسنين والسِّنان إلاَّ بتفَشِّي الظلم والبِدع بينهم.
وبين ثنايا الفقر والظلم: كانتْ تَطلُع أصوات بعض العلماء، تَنصح الراعي بالكفِّ عن رعيَّته، وتدعو الرعيَّة بالتوبة لربِّها، وتنهاهم عن البِدع والخُرافات، تُحَذِّر أن:" كما تكونون يولَّى عليكم، وما سُلِّط العدو منَّا ومن غيرنا علينا، إلاَّ لذنوبنا".
وكان:( النووي والعز بن عبدالسلام، وابن دقيق العيد، وابن تيميَّة وغيرهم): يَنبرون للسلطان والأمراء؛ كيما يرفعوا أيديهم عن العامَّة، ويُزيلوا المُكوس والضرائب، ويُحاسبوا الظالمين من أُولِي الأمر، ويُكافحوا الرِّشوة والفساد بين دوائر الحُكم، ويعودون على الناس يَعِظونهم بالتقوى والتوبة.
فحرَصَ شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله على سلامة المجتمع الذي عاش فيه، وفتَح عليه عينيه، فوجَده صريعًا بين أعدائه من بين أيديه ومِن خلْفه، فهناك على الحِمى: تَثِب جحافل التتر، يُهدِّدون الدولة الإسلامية وحضارتها بزَحْفهم المتكرِّر على البلاد، وعلى الثغور: الفرنج يَكِرِّون ويَفِرون، فلم يدَّخِر جُهدًا في محاربة هذا العدوِّ الذي دمَّر البلاد، وجَثَم على صدور العباد، وأخَذ يُحرِّض المسلمين على ضرورة محاربته، وتطهير البلاد منه، والجهاد.
وهو ذو غَيْرة على دين الإسلام، أخَذت عليه تفكيره، فشمَّر يسعى لتنقيته مما عَلِق به من شوائب الخُرافات، وما دخَل عليه من البِدع والمُنكرات، "فالبدع أصَبَحت عُرفًا، والمنكر أصبَح عادة، ومن العسير على المُصلح: تغيير العُرف واستئصال العادة!!؟"[34].
واعتبَر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: ظهور البدع والمنكرات في أرض الإسلام مرضًا اجتماعيًّا؛ فحرَص على سلامة المجتمع منه؛ إذ انتشار الخرافات والبدع في مجتمعٍ ما نذيرٌ بفنائه، ومقدِّمة لانهياره وكَسْر شوكته في أعيُن أعدائه.
هوامش:
[1] رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالسُّنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة))، رقْم 7311، ومسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكمًا بشريعة نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رقْم 156، من حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنه.
[2] رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله: ((لا تزال طائفة من أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ))، رقْم 1925، من حديث سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه.
[3] مجموع الفتاوى؛ ابن تيميَّة، ج28، ص (530 - 534).
[4] امْتدَّت حياة ابن تيميَّة في عصر المماليك البحرية (648 - 784هـ).
[5] ابن تيميَّة السلفي، نقْده لمسالك المتكلمين والفلاسفة في الإلهيَّات؛ محمد خليل الهرَّاس، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1984، ص14.
[6] الكامل في التاريخ؛ أبو الحسن علي بن أبي الكرم ابن الأثير عز الدين؛ تح: أبي الفداء عبدالله القاضي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1987، ج 8، ص (189 - 190).
[7] الكامل في التاريخ؛ ابن الأثير، ج12، ص 359.
[8] البداية والنهاية؛ ابن كثير، ج13، ص (230 - 231)؛ بتصرُّف.
[9] التاريخ الإسلامي؛ محمود شاكر، المكتب الإسلامي: بيروت، ط 3، 1407هـ، ج7، ص 37؛ بتصرُّف.
[10] الكواكب الدُّريَّة؛ الكرمي، ص 148.
[11] ابن تيميَّة بطل الإصلاح الديني؛ محمود مهدي الإستانبولي، المكتب الإسلامي: بيروت، ط 2، 1983، ص 32.
[12] العقيدة السلفيَّة بين الإمام ابن حنبل والإمام ابن تيميَّة؛ سيد عبدالعزيز السيلي، دار المنار: القاهرة، ط 1، 1993، ص 226.
[13] أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم؛ صدِّيق بن حسن القنوجي؛ تح: عبدالجبار زكار، دار الكتب العلمية: بيروت، 1978، ج1، ص 231.
[14] حُسْن المحاضرة؛ السيوطي، ج2، ص 94.
[15] هو: سلطان العلماء، الفقيه المجتهد الشافعي، صاحب القواعد الكبرى والصغرى؛ حُسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة؛ جلال الدين السيوطي، (دون معلومات نشر)، ج1، ص 314.
[16] هو: عبدالرحمن أبو شامة (599 - 665 هـ)، (1202 - 1267 م)، شهاب الدين، أبو محمد، أبو القاسم محدِّث، حافظ، مؤرِّخ، مفسِّر، فقيه، أصولي، متكلم، مُقرئ، نحوي، من مؤلَّفاته الكثيرة: المقاصد السَّنية في شرْح الشيبانيَّة في علم الكلام، وإبراز المعاني في حرز الأماني في القراءات؛ شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب: أبو الفلاح عبدالحي بن العماد الحنبلي؛ تح: لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة: بيروت، د .ت، ج 5، ص (318 - 319).
[17] هو: عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي، كمال الدين ابن العديم، مؤرِّخ، مُحدِّث، من الكُتَّاب، وُلِد بحلب، ورحَل إلى دمشق وفلسطين، والحجاز والعراق، وتوفي بالقاهرة، من كُتبه: " بُغية الطلب في تاريخ حلب"، اختصره في كتاب آخر سمَّاه: "زُبدة الحلب في تاريخ حلب"؛ الجواهر المضيَّة في طبقات الحنفيَّة؛ محيي الدين بن سالم بن أبي الوفاء القرشي؛ تح: عبدالفتاح محمد الحلو، دار هجر: الجيزة، ط 2، 1993، ج1، ص 386.
[18] من خاصة هولاكو، شيعي رافضي من المنجِّمين، ألَّف في الفقه والفلسفة، والرياضيات والفيزياء، والفلك والطب، والمعادن والموسيقا، وأنشأَ مرصدًا فلكيًّا، كان رأسًا في علم الأوائل، لا سيَّما في الأرصاد والمجسطي، فقد فاق الكبار، كان ذا حُرمة وافرة، ومنزلة عالية عند هولاكو، فابْتَنى بمدينة "مراغة" قُبَّة ورصدًا عظيمًا، واتَّخذ في ذلك خَزانة عظيمة مَلأها من الكتب التي نُهِبت من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمَّع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد؛ الوافي بالوفيات؛ الصفدي، ج1، ص 80.
[19] هو: محيي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف بن مُرِّي الحزامي الحوراني الشافعي، ولد عام 631هـ؛ الأعلام؛ الزِّركلي، ج 8، ص (149 - 150).
[20] هو: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان البرمكي الإربلي، أبو العباس، المؤرِّخ الحُجَّة، والأديب الماهر، ابن خلكان، صاحب وَفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، وهو أشهر كُتب التراجِم، ومن أحسنها ضبْطًا وإحكامًا، وُلِد في إربل بالقرب من الموصل على شاطئ دِجلة الشرقي؛ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة؛ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1992، ج 7، ص 353.
[21] هو: أحمد بن إدريس، الشيخ الإمام العالِم الفقيه الأصولي، شهاب الدين الصِّهناجي الأصل المشهور بالقَرافي، كان مالكيًّا، إمامًا في أصول الفقه وأصول الدِّين، عالِمًا بالتفسير وغيره؛ المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي؛ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي؛ تح: محمد أمين، وسعيد عبدالفتاح عاشور، الهيئة المصرية العُليا للكتاب: القاهرة، ط 1، 1984، ج 1، ص 43.
[22] هو: بديع بن نفيس، الشيخ الإمام صَدْر الدين التبريزي، الحكيم الطبيب رئيس الأطبَّاء، كان إمامًا في الطب، كثير الحِفظ لمتونه، جيِّد التدبير، ماهرًا، مُقَرَّبًا عند الملوك والأكابر، رأسًا في صناعته، وهو صاحب التصانيف المشهور، مولده في دمشق ووفاته بمصر، له كتب عديدة في الطب؛ الأعلام؛ الزركلي، ج 4، ص 271.
[23] هو: أحمد بن أحمد بن عبيدالله بن أحمد بن محمد بن قُدامة، الإمام الزاهد شرف الدين بن الشرف أبي العباس المَقدسي الحنبلي، كان إمامًا فقيهًا مُحَدِّثًا؛ المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي؛ ابن تغري بردي، ج 1، ص 43.
[24] هو: أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مُطيع بن أبي الطاعة تقي الدين القُشيري، المعروف بابن دقيق، محدِّث من أكابر علماء الأصول ومجتهد، ولد 625هـ، وَلِي قضاء مصر؛ الوفيات؛ لأبي العباس أحمد بن حسن بن علي بن الخطيب بن قُنفذ؛ تح: عادل نويهض، مؤسسة نويهض الثقافية: بيروت، ط 3، 1982، ص (328 - 329).
[25] هو: أبو عبدالرحمن جمال الدين يوسف بن عبدالرحمن بن يوسف، أبو الحجاج المزي القُضاعي الكلبي، محدِّث الدِّيار الشاميَّة في عصره، وُلِد سنة 654هـ صاحب تهذيب الكمال وغيره؛ طبقات الشافعيَّة؛ عبدالرحيم الإسنوي؛ تح: كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية: بيروت، 1987، ج6، ص227.
[26] هو: محمد بن يوسف الأندلسي المصري صاحب البحر المحيط؛ طبقات الشافعية؛ الإسنوي، ج 6، ص 31.
[27] هو: زين الدين عمر بن المظفر بن عمر بن محمد الوردي المصري الحلبي الشافعي، إمام في الفقه واللغة والنحو والأدب، وَلِد عام691هـ؛ الأعلام: الزركلي، ج 5، ص 67.
[28] هو: عبدالله بن يوسف بن أحمد بن عبدالله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام: من أئمة العربية، مولده ووفاته بمصر، قيل عنه: إنه أنْحَى من سيبويه؛ الدُّرر الكامنة؛ ابن حجر العسقلاني: ج 2، ص 308.
[29] ابن تيمية؛ محمد أبو زهرة، ص (23، 24 ، 25).
[30] منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد؛ إبراهيم بن محمد بن عبدالله البريكان، دار ابن القيِّم: الرياض، ط 1، 2004، ص (29 - 30).
[31] ابن تيميَّة السلفي؛ خليل الهرَّاس، ص 20.
[32] ابن تيمية وإسلامية المعرفة؛ طه جابر علواني، الدار العالمية للكتاب الإسلامي: الرياض، ط 2، 1995، ص 17.
[33] الخُطط: المقريزي، ج 3، ص (147 - 148).
[34] الإمام ابن تيميَّة وقضية التأويل؛ محمد السيد الجليند، مكتبة عكاظ: الرياض، ط 3، 1983، ص (18 - 19).


يتبع إن شاء الله.

  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عصر ابن تيمية وأثره فيه
14-03-2017, 11:31 AM
عصر ابن تيمية وأثره فيه (2)

مكانة ابن تيمية بين أهل عصره:
تتجلَّى مكانة شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: العلميَّة في مرتبة مَن تخرَّج عليه، وما أخرَجه من عِلْمٍ في كُتبٍ، ومدى تأثير اختياراته في العلوم، ومَن زكَّاه وأثْنَى على عِلْمه، فجَمْهرة تلاميذه من أساطين العلم وأعلام عصرهم، وجمهور مَن أثنى عليه من أقطاب العصر علمًا وحكمًا، وأهل العلوم أدرى بشِعابها، وبِمَن تشبَّع بها.
مِن دلائل عُلو قَدْره في العلم وتأثيره في غيره: كثرة الكتب في سيرته، ومنها على التمثيل لا الحصر:( الانتصار في ذكر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين أحمد ابن تيميَّة: لمحمد بن أحمد بن عبد الهادي، واشتَهر بالعقود الدريَّة)، (الردُّ الوافر على مَن زعم أن مَن سَمَّى ابن تيميَّة شيخ الإسلام كافر: لناصر الدين محمد بن عبدالله الدمشقي)، (الأعلام العليَّة في مناقب ابن تيميَّة: للبَزَّار)،( الكواكب الدُّريَّة في مناقب شيخ الإسلام ابن تيميَّة: لمرعي بن يوسف الكرمي)، (القول الجَلِي في ترجمة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيميَّة الحنبلي: لأبي الفضل صفي الدين محمد بن أحمد البخاري)، (الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيميَّة: لمجموعة من الباحثين)، (حياة شيخ الإسلام ابن تيميَّة: لمحمد بهجة البيطار)، (ابن تيميَّة حياته وعصره وآراؤه: لمحمد أبو زهرة)،( ابن تيميَّة: لعبد العزيز المراغي)،( ابن تيميَّة: لمحمد يوسف موسى)،( ابن تيميَّة حياته وعقائده: لصائب عبد الحميد).
قال الإمام الذهبي رحمه الله عن مكانة شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله عند علماء عصره:
" كبارهم وأئمَّتهم خاضعون لعلومه وفِقْهه، معترفون بشغوفه وذَكائه، مُقِرُّون بندور خَطئه".
وبيَّن الإمام الذهبي رحمه الله مكانته العلميَّة، ودوره في نشْر العلم كتابةً وخطابة: و"برع في علوم الآثار والسُّنن، ودَرَّس وأفْتَى وفسَّر وصَنَّف التصانيف البديعة"[1]، ومِن عُلُو شأنه انقسَم الناس - ولا بدَّ - حوله، فما إنْ يَرِد منه ما يُخالف المألوف، حتى يُنال من قَدْره، وشيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:" انفرَد بمسائل، فنِيلَ من عِرْضه لأجْلها، وهو بَشَرٌ له ذنوب وخطأ، ومع هذا كان إمامًا مُتبحِّرًا في علوم الديانة، صحيحَ الذِّهن، سريعَ الإدراك، سَيَّالَ الفَهْم، كثير المحاسن، موصوفًا بفَرْط الشجاعة والكرَم، فارغًا عن شهوات المأكل والملْبَس والجِماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدوينه، والعمل بمقُتضاه"[2].
ورجل بذي السيمات هو: من آيات زمانه، وكلُّ مَن دَرَى السُّنن يوقِن أنه خاضَ معارك شاميَّة ومصريَّة؛ لإعلاء المَحَجَّة النبويَّة، وتطهير العقائد الإسلاميَّة مما لَحِقها من لوث الوثنيَّة، والخُرافات البدعيَّة، والله جعَله حُجَّة في عصره، ومعيارًا للحق والباطل، ومُريدَ الآجل وغير مؤثر العاجل، وهذا أمْرٌ قد اشتَهر وظهَر، وعصر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله عصرُ تقليدٍ ومسايرة للعامة، وشروح وحواشٍ، نَضَب فيه الاجتهاد، حتى عُدَّ خرقًا للمألوف، وبدعًا من الكلام مكشوفًا، فما إن ورَد منه بيان بُطلان فتاوى ومسائل وأقوال مشهورة بين أهل زمانه، حتى رُمِي في قصْده، وطُعِن في نيَّته، وأعداؤه - قبل أتباعه - مُقِرُّون أنه لا يُورِد ذلك تَشَهِّيًا، ولا يعلم أنه تكلَّم عن جهلٍ أو رَدَّ تَشَفِّيًا، بل هو لها أهل لِمَا قال، وحُجَّة فيما رأى، "فإنه - رضي الله عنه - ليس له مُصَنَّف ولا نصٌّ في مسألة ولا فتوى، إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرَّى قول الحقِّ المحض، فبرهَنَ عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سَمِع ذلك ذو الفطرة السليمة، يثلج قلبه بها، ويَجزم بأنها الحقُّ المبين"[3].
فهو يَنهج حيثما وَلَّى النص، يَعرض كلام المجتهدين على ميزان السُّنة، فما وافَق اتَّبع، وما خالَف ردَّ، ولو قال به جماهير العلم، فكلام الرسول عليه الصلاة والسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وأهل العلم يؤخذ المجتهد من كلامهم ويرد.
ومَن كانت هذه سيرته: أمِنَه العامة على دينهم، فأهل الحديث وَرَثة لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأعلم بكلامه وأفعاله وإقراره، وسيرته وغزواته، ومقاصده من جوامِع كَلِمه، فصاحب الحديث يُلَقَّى العلم من مَعينه، حتى إنَّ أهل البلد البعيد عنه كانوا يُرسلون إليه بالاستفتاء عن وقائعهم، ودليل ذاك:" فتاويه لأهْل واسط، وتدمر، وقُبرص، وأهل الثغور"، وتَرْك أهل مصر لغيره، وطَلَبُ فتواه وهو بالسجن، وله رسائل لأمصار وأقاليم بعيدة، أرْسَلوا بدلاً عنهم مَن يَستفتيه، والسائل المسافر لشيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله قد قطَع قُرًى ومُدنًا وأقاليمَ بها علماء، وبات في ممالك تَعج بالفقهاء، غير أنه لا يبغي لغير شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله وفتواه بديلاً.
قال الإمام الذهبي: "ومَن أراد تحقيقَ ما ذكرته، فليُمْعِن النظر ببصيرته؛ فإنه حينئذٍ لا يرى عالِمًا من أي أهل بلد شاء؛ موافقًا لهذا الإمام، معترفًا بما منَحه الله تعالى من صنوف الإلهام، مُثنيًا عليه في كل مَحفلٍ ومقام، إلاَّ ورآه مِن أتْبَع علماء بلده للكتاب والسُّنة، وأشْغَلهم بطلب الآخرة، وأرْغَبهم فيها، وأبْلَغهم في الإعراض عنها، وأهملهم لها، ولا يرى عالِمًا مخالفًا له، منحرفًا عنه، ملتبسًا بالشَّحناء له، إلا وهو من أكبرهم نَهمة في جمْع الدنيا، وأوْسَعهم حِيَلاً في تحصيلها، وأكثرهم رِياءً، وأطلبهم سُمعة، وأشهرهم عند ذي اللبِّ أحوالاً رَدِيَّة، وأشدهم على ذوي الحُكم والظلم دهاءً ومَكرًا، وأبْسَطهم في الكذب لسانًا، وإن نظَر إلى مُحَبِّيه ومُبغِضيه من العوام، رآهم كما وصَفت من اختلاف القبيلين الأوَّلين"[4].
فهذه شهادة أهل الحق والتُّقى، ممن شُهِد لهم؛ فشَهِدوا له، وأهل الفضل أعلم بالفُضلاء، وأُولُو الصَّنعة أدْرى بحُذَّاقها.
وأهل الحسد يسومون أهل الفضل مُرَّ الكلام، وأهل الباطل يقذفون أنصار الحقِّ بالبَغي، فكان من يقين أهل العلم ألاَّ يُرَى طاعنٌ في أهل السُّنة مُترصِّد لعَوَراتهم، إلاَّ عُلِم أنَّ به فسادَ نيَّة ولوثَ سجيَّة، وأن نُفورَه من السُّنة قادَه ليَمْقُت أهلها، وهذا مما تواتَر به كلام الأئمة، وهو دَيْدَن مَن طعَن في دين شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله وعِلمه، وله محبُّون من العلماء والصُّلحاء، ومن الجُند والأُمراء، ومن التجَّار والكُبراء، وسائر العامة تحبُّه؛ لأنه مُنتصب لنَفْعهم ليلاً ونهارًا؛ بقلمه ولسانه، ويده وسِنانه.

يتبع إن شاء الله.
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عصر ابن تيمية وأثره فيه
01-04-2017, 04:11 PM
موقف معاصريه ومَن تلاهم:
شَهِد لشيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: القاصي والداني، الموافق والمخالف بالملكة العلميَّة، واعترَف له أهل كلِّ فنٍّ بالشأن في فنِّهم، غير أنَّ طائفة عابوا عليه أمورًا وأقوالاً وأفعالاً، ورماه آخرون بالشذوذ في الأقوال، وخَرْق الإجماع، ومنهم مَن كفَّره، فهم بين: مَن عدَّه من أهل الباطل، ومَن ادَّعى أنْ لا اجتهاد له، و"مَن يقول له: أنت مُخطئ ولستَ سلفيًّا، زَلَّ لسانك، وأخطأ بيانك في حقِّ ربِّك، وفي حقِّ الأنبياء والمرسلين"[5].
وبعضهم رمَاه بالتناقض في الأقوال، والاضطراب في الأحكام، والتلاعب بالنصوص، والانتقائية في عَرْض كلام الخصوم، وتَشَهِّيه بالردِّ والنقد، وسبب ذلك:" طبيعته النقديَّة لمعظم الأئمة والعلماء، حتى لكأنَّه يُمارس لذَّةً كبيرة في ذلك، وهذا التحليل لهذا الاضطراب المتناقض في موقف ابن تيمية، هو أقرب ما يَنسجم مع الدفاع عن عقيدته الإسلاميَّة"[6].
وآخرون عرَّضوا بمكانته في الحديث، وزعموا أنَّ:" لابن تيميَّة مع الحديث النبوي مجازفات جريئة، لَم يَجرؤ أحدٌ قبله على مثلها، وله طريقة في إيهام القارئ؛ لَم يَسبقه إليها أحد"[7].
غير أنَّ أساطين أهل العلم تَدين له بالتبحُّر في العلوم والرسوخ في الفنون، وإن كانوا يردون بعض اجتهاداته، إلا أنَّهم لا يُنكرون مَلَكته ومكانته، و:
" قد يَنْقِمون عليه أخلاقًا وأفعالاً؛ منصفُهم فيها مأجور، ومُقتصدهم فيها معذور، وظالِمُهم فيها مأزور، وغاليهم مغرور، وإلى الله تُرجع الأمور، وكلُّ واحدٍ يؤخَذ من قوله ويُتْرك، والكمال للرُّسل، والحُجة في الإجماع.
فرَحِم الله امرأً تكلَّم في العلماء بعلمٍ، أو صمَت بحلمٍ، وأمْعَن في مضايق أقاويلهم بتُؤَدَة وفَهْم، ثمَّ استغفَر لهم، ووسَّع نطاق المعذرة، وإلاَّ فهو لا يدري، ولا يدري أنَّه لا يدري".
فما من إمام علمٍ إلاَّ وقد دُرِي له زَلَّة، ولا جَوَاد إلا وعُلِم له كَبْوة، "وإن أنت عَذَرت كبار الأئمة في مُعضلاتهم، ولا تَعذر ابن تيميَّة في مفرداته، فقد أقْرَرت على نفسك بالهوى، وعدم الإنصاف!، وإن قلت: لا أعذره؛ لأنَّه كافر، عدو لله تعالى ورسوله، قال لك خلقٌ من أهل العلم والدين: ما عَلِمناه والله إلاَّ مؤمنًا محافظًا على الصلاة، والوضوء، وصوم رمضان، مُعَظِّمًا للشريعة ظاهرًا وباطنًا، لا يؤتَى من سوء فَهْم، بل له الذكاء المُفرط، ولا من قلة علمٍ، فإنه بَحْرٌ زخَّار، بصير بالكتاب والسُّنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدِّين؛ فلو كان كذلك، لكان أسرعَ شيء إلى مُداهنة خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم".
فمَن أنكَر على شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: خلافه للأئمة في الاجتهاد، مثله كمثل الذي نَقَم على الشافعي خلافه لشيخه مالك بن أنس، وأنْكَر على ابن حنبل خلافه لأبي حنيفة ومالك والشافعي، فكلام الأئمة مرجع مُستأنس، لا مَصْدر مُقَدَّس، وأهل العلم لا يُخالفون الأئمة ومشايخهم للتسلِّي، وبيان مَزيد فضلٍ، بل يتبعون عن علمٍ، ويخالفون بعلمٍ، ولَم يُعْلَم عن شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: أنه اسْتَنَقص الأئمة والسلف الصالح، بل يُقَدِّم كلامهم على غيرهم، ويقدِّم كلام الوحي عليهم، وأقْرَب أقوالهم عنده ما قارَب منها السُّنة، فلا "يتفرَّد بمسائل بالتشهِّي، ولا يُفتي بما اتَّفق، بل مسائله المفردة يحتجُّ لها بالقرآن، أو بالحديث، أو بالقياس، ويُبرهنها، ويُناظر عليها، ويَنقل فيها الخلاف، ويُطيل البحث؛ أُسوة بمَن تقدَّمه من الأئمة، فإن كان قد أخطأ فيها، فله أجْرُ المجتهد من العلماء، وإن كان قد أصاب، فله أجران"، وذي سيرة الأئمة مع كلام مَن هم أعلى منهم كعبًا، وأرْسَخ قدمًا في العلم، وأقرب لعصْر النبوَّة من صحابة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورَبَّوا تلامذتهم على ذلك، بالوزن القسط، والردِّ لله ورسوله حال التنازع، ولَم يَذمَّهم غير جاهل، "وإنَّما الذمُّ والمَقت لأحد رجلين: رجل أفتَى في مسألة بالهوى، ولَم يُبْد حُجَّة، ورجل تكلَّم في مسألة بلا خميرة من علمٍ، ولا توسُّع في نقلٍ؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل".
فأهل الاجتهاد أدْرَى بما هو حقٌّ، وحُقَّ لهم طلَبُ الحق، وحقيق بهم نصْرُ السُّنة، لا نصْر مذاهبهم، فدعواهم لله لا شيء غيره، وإنِ اجتمَع عليهم الملأ، وسَخِط العامة، "ولا ريبَ أنه لا اعتبار بذمِّ أعداء العالم؛ فإن الهوى والغضب يَحملهم على عدم الإنصاف والقيام عليه، ولا اعتبار بمدْح خواصِّه والغُلاة فيه؛ فإن الحبَّ يَحملهم على تغطية هَنَاته، بل قد يَعدُّوها محاسنَ، وإنما العِبرة بأهل الوَرَع والتقوى من الطرَفين، الذين يتكلمون بالقِسط، ويقومون لله، ولو على أنفسهم وآبائهم"[8].
فأهل القسط يُثنون على أهل العلم، ويُلَقِّبونهم بما امتازوا به، ويُنزلون الرجال منازلهم، ويضعون الأكابر في مقاماتهم، فسَموا ابن تيميَّة بشيخ الإسلام، وجعلوه حُجَّة لأهل ذانك الزمان، وتصدَّر وَسْمه باللقب عُلماء وحُفاظ، وأئمة علمٍ ودين، وقُضاة وأهل فضْلٍ؛ قال ابن حجر[9](ت 852): "وتلقيبه بشيخ الإسلام باقٍ إلى الآن على الألسنة الزكيَّة، وسيستمرُّ غدًا ما كان بالأمس، ولا يُنكر ذلك إلا مَن جَهِل مقداره، وتَجنَّب الإنصاف"[10].
ومَن لقَّبه إنما راع عِلْمه ومكانته، ودرَى فضْلَه ومِنَّته، وقارَن وقارَب، فما رأى مَن يُزاحمه، ولا درَى مَن يُناهضه، فهو مع خصومه كأعراف الموج تلاطم فُلكًا، فلا هم عَلَوْا عليه، ولا هو استقرَّ بقاعها، ما ناظَره أهل باطل إلا دَعوا الله لأنْ أنْجَيتنا من مجلسنا هذا، لنكوننَّ من الشاكرين، فلمَّا نجَّاهم إلى البرِّ، إذا هم على شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله يفترون، ولو كانت لهم بضاعة أو أثارة من عِلْم، لأخرجوها له في مَجلسها، ولو راعوا للعلم حُرمته، لتبيَّنوا أهله من دُخلائه، غير أنهم هانوا، فأهانوا أهلَ العلم.
قالالواسطي (ت711)[11]: " فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة: مَن بيَّن لكم أعلامَ دينكم، وهداكم الله به وإيَّانا إلى نَهْج شريعته، وبيَّن لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصِرْتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم، وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة، الذين لا يضرُّهم مَن خذَلهم ولا مَن خالَفهم"[12].
وقال أحمد بن طرخان الملكاوي[13] (ت 803): "فوالله، إنَّ الشيخ تقي الدين شيخ الإسلام، لو دَرَوا ما يقول، لرَجعوا إلى مَحبَّته وولائه، وكلُّ صاحب بدعة ومَن يَنتصر له لو ظهروا، لا بدَّ من خمودهم وتلاشي أمرهم، وهذا الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة، كلَّما تقدَّمت أيَّامه، تظهر كراماته، ويَكثر مُحبُّوه وأصحابه"[14].

وذي نبذة مُنتقاة من ثناء بعض عدول أئمة العلم على شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله ، وأهل الاختصاص أدْرى بخاصَّتهم، وأمكن في أن يُميِّزوا الدخيل بزُمرتهم عن الأصيل:
بهاء الدين بن السُّبكي (ت763)[15]: قال لبعض مَن ذَكَر له الكلام في شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:
" والله يا فلان، ما يُبغض ابن تيميَّة إلا جاهلٌ أو صاحب هوًى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصدُّه هواه عن الحقِّ بعد معرفته به"[16].

محمود بن أحمد العيني (ت855): إمام الحنفيَّة في زمنه، قال فيمَن ذَمَّ شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:
" وليس هو إلا كالجُعَل[17] باشتمام الورد يموت حَتْف أنفه، أو كالخُفَّاش يتأذَّى ببُهور سَنا الضوء؛ لسوء بصَره وضَعْفه، وليس لهم سجيَّة نقَّادة، ولا رَوِيَّة وقَّادة، ومِن الشائع المستفيض أنَّ الشيخ الإمام العالم العلاَّمة تقي الدين ابن تيميَّة من شُمِّ العَرانين[18] الأفاضل، ومن جَمِّ براهين الأماثل"[19].

ابن سيِّد الناس (ت734)[20]: قال في شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:
" ألفيتُه ممن أدْرَك من العلوم حظًّا، وكاد أن يستوعِبَ السُّنن والآثار حفظًا، إن تكلَّم في التفسير، فهو حامل رايته، أو أفْتَى في الفقه، فهو مُدْرك غايته، أو ذاكِر في الحديث، فهو صاحب عِلْمه وذُو روايته، أو حاضَر بالمِلل والنِّحل، لَم يُرَ أوْسَع مِن نِحْلته، ولا أرفع من دِرَايته، برَز في كلِّ فنٍّ على أبناء جِنسه، ولَم تَرَ عينُ مَن رآه مثله، ولا رأتْ عينه مثلَ نفسه"[21].

تقي الدين ابن دقيق العيد (ت702)[22]: قال له بعد سماع كلامه:
" ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله تعالى بقي بخَلْقٍ مثلك".
وقال عنه:" رأيتُ رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويَدَعُ ما يريد"[23].

ابن الوردي زين الدين عمر (ت749)[24]، قال:
" حَضَرتُ مجالس ابن تيمية، فإذا هو بيت القصيدة، وأوَّل الخريدة، علماء زمانه فَلكٌ هو قُطبه، وجِسم هو قلْبُه، يَزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر".

أبو حيَّان الأندلسي النحوي (ت754)، قال:
" ما رأتْ عيناي مثلَ ابن تيميَّة"، ثم مدَحه على البديهة في المجلس، فقال:
لَمَّا أَتَيْنَا تَقِيَّ الدِّينِ لاَحَ لَنَا
دَاعٍ إِلَى اللهِ فَرْدٌ مَا لَهُ وَزَرُ
عَلَى مُحَيَّاهُ مِنْ سِيمَا الأُلَى صَحِبُوا
خَيْرَ البَرِيَّةِ نُورٌ دُونَهُ الْقَمَرُ
حَبْرٌ تَسَرْبَلَ مِنْهُ دَهْرُهُ حِبَرًا
بَحْرٌ تَقَاذَفُ مِنْ أَمْوَاجِهِ الدُّرَرُ
قَامَ ابْنُ تَيْمِيَّةٍ فِي نَصْرِ شِرْعَتِنَا
مَقَامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إِذْ عَصَتْ مُضَرُ
فَأَظْهَرَ الْحَقَّ إِذْ آثَارُهُ دَرَسَتْ
وَأَخْمَدَ الشَّرَّ إِذْ طَارَتْ لَهُ الشَّرَرُ
كُنَّا نَحُدِّثُ عَنْ حَبْرٍ يَجِيءُ فَهَا
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي قَدْ كَانَ يُنْتَظَرُ[25]

البرزالي (ت739)[26]: كتَب البرزالي بخطِّه:
" شيخنا وسيدنا، الإمام العالِم العلاَّمة الأوْحد القدوة، الزاهد العابد الوَرِع، الحافظ تقي الدين شيخ الإسلام والمسلمين، سيِّد العلماء في العالمين، حَبْر الأُمَّة مقتدي الأئمة، حُجَّة المذاهب، مُفتي الفِرَق، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميَّة، أدام الله برَكته، ورَفَع درجته"[27].

ابن رجب (ت795)[28]: قال في ترجمة شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:
"الإمام الفقيه المجتهد المحدِّث، الحافظ المفسِّر، الأصولي الزاهد، تقي الدين أبو العباس، شيخ الإسلام، وعَلَم الأعلام، وشُهرته تُغني عن الإطناب في ذِكره والإسهاب في أمره"[29].

ابن حجر العسقلاني (ت852): قال في تقريظه لكتاب لشيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:
"وقفتُ على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جُمِعَ لأجْلها جامع، فتحقَّقت سَعة اطلاع الإمام الذي صنَّفه، وتضلُّعه من العلوم النافعة، بما عظَّمه من العلماء وشرَّفه، وشُهرة إمامة الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باقٍ إلى الآن على الألسنة الزكيَّة، ويستمرُّ غدًا كما كان بالأمس، ولا يُنكر ذلك إلا مَن جَهِل مقداره، وتجنَّب الإنصاف، فما أعظم غلَطَ مَن تعاطى ذلك، وأكثر عِثاره"[30].

يتبع إن شاء الله.
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عصر ابن تيمية وأثره فيه
04-04-2017, 04:27 PM
أثره في عصره ومَن تلاه:
كانت الدعوة الإصلاحيَّة لشيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله:
باعثةً للهِمم على العوْد للمَعين الصافي، وبداية لتَهَلْهُل أسوار التقليد، وبُروز أهل الاجتهاد من تلاميذه وأصحابه وغيرهم، فقد أزالَ أفكارًا بالية، بشجاعته على عَرْض الحقِّ الذي يَصبو إليه، وإن عارَض الجمهور أو خالَف المشهور، فأسْقَط الهالة المُقامة حول مقام الاجتهاد، وحرَّك نفوس علماء كانوا بَلغوا درجة الاجتهاد، غير أنهم رضوا مسايرة الجماهير وفُقهاء التقليد؛ خوفًا من التشهير، ممن لهم حُظوة عند ذَوِي السلطان، والنفوذ ذانك الزمان، فقامَت حركة علميَّة نَشِطة.
وشمل النقد للفِرَق تحريرَ العقول من الخُرافات والبِدع، وأدَّى هدْمُ شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله: لجُدران الباطل؛ إلى عودة أهل الفِرَق؛ كيْمَا يُقيموا منهجًا يُمكِّنهم من الصمود للأعاصير التيميَّة، وهو قد ملأ الدنيا بفتاويه ومُصنَّفاته، وشغَل الدُّنا بتلامذة كلُّ واحدٍ منهم كالطَّوْد يُهاب جَنابه، وذا كله قاد إلى مراجعة لكثيرٍ من العلوم، وتأصيل جُملة من القواعد والأصول، واستدراكات على أقوال، واجتهادات في نوازل ذلك الزمان.
ومن المذاهب العقديَّة ما نسَفه شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله
في حياته، فلم يَدْرِ لها ولا أتباعه قيامًا بعدها، وأُخَر توارَت تَجرُّ أذيال الهزيمة، وأُخَر انْعَزَلت تُراجِع مناهجها؛ لعلَّ وعسى.
وأجْدَر مثال لأثر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله في عصره: كَثرة تنقيح الأقوال وعَرْضها على السُّنن، وتصنيف كُتُب الحديث والمصطلح، وتأصيل أصول الدين، وقواعد الردِّ على المبتدعة، فقد ألَّف تلامذته وأتْباع منهجه كتبًا لا تُحصى في الردِّ على الفلاسفة وأهل الكلام والصوفيَّة.
وشيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله سلك طريقةَ أهل الحديث ومذهب الإمام أحمد بن حنبل في الفقه والحديث؛ لأنه يرى أنَّ أهل الحديث هم: أعلم الأُمَّة بسُنة نبيِّها، ومذهب الإمام ابن حنبل أكثر المذاهب استنادًا على السُّنة، لعُلوِّ كعب الإمام في الحديث، ودعوة شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله الإصلاحية لَم تَقتصر على جانب منفرد، بل شَمَلت شؤون الناس كلَّها، وعَرْضَ الإسلام بشموليَّة متكاملة بين العلمي والعملي، نلخِّصها في نقاط:

أ- تصحيح العقائد: وذا هَمٌّ شغَل كثيرًا تفكيره وجُلَّ تصنيفه، واستحوَذ على أكثر كلامه؛ لِمَا له من أهميَّة قُصوى، وتَرْكه فيه خطورة بالغة؛ لِمَا قلَّ مِن تِبيان العقيدة الصحيحة، وماجَت الساحة بالأفكار الخُرافية، والمقالات الكلاميَّة، والمُهاترات الفلسفيَّة؛ حتى حارَ الناس في دينهم؛ إذ ركَّز المتكلمون على قضايا إثبات وجود الله، وهي: مسائل لَم تَفُت كفَّار قريش، فكيف بِمَن وُلِدوا في الإسلام!!؟، فكان نصيبهم من العلم لا يتعدَّى الربوبيَّة، فكَتَبوا ونظَّروا وناظَروا، وقرَّروا وأصَّلوا، وألَّفوا مصنَّفات وموسوعات ورسائل، وجَعلوا غاية المرام، ومَبلغ الكلام، ومرامي البرهان، إثبات أنَّ الله موجودٌ!!؟.
وذا أبان عدَمَ تفريقهم بين الربوبيَّة والألوهيَّة، وتقصيرهم في بيان الألوهيَّة أدَّى إلى الضمور الرُّوحي، وتفشِّي الجهل العَقَدي، وتحويل العقيدة إلى نظرٍ لا عمل يَنبني تحته، كما عمَّ لذلك الإرجاءُ، ورِقَّة الدِّين، وقلَّة التوجُّه للعبادات، وكَثُرت القُربى من البشر الأحياء والموتى.
لأجْل ذاك خاضَ شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله في الردِّ على أصولهم، وتقرَّر عنده أن يأتي على أُسِّها، وهو:"التأويل الفاسد"، ورَأْسه: "المجاز"، ثم قولهم بالتعارُض بين العقل والنقل، وأيُّهما يُقَدَّم حال ذاك!!؟.

ب – فتح باب الاجتهاد: بعد أن أُشيع غَلْقه، فحطَّم جِدار قُدسيَّة التقليد بفتْح باب البحث والتأصيل والتنظير على قواعد أهل الحديث.

ج – إصلاح السلوك: فالسلوك الفردي يَضبطه الكتاب والسُّنة، فيكون الظاهر بالاتِّباع، والباطن بالإخلاص.

د - السياسة الشرعيَّة: قوام صلاح الدولة ركيزتان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل، فمتى انهارَت أو ضَعُفت إحداهما: سَقَطت مكانة الدولة الإسلامية، وتسلَّط عليها غيرها.

وأقرب نموذج لتأثير شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله في عصره والعصور اللاحقة له: ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله التي نشَرَت العقيدة السلفية على منهج شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله ، وأعادَت إحياء السُّنن وتبليغَ التوحيد، وهَدْم البِدَع والخُرافات التي عمَّت الجزيرة العربية قبلها، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "حاوَل السَّيْر على نهجه في الإصلاح، وذلك بالردِّ إلى الأمر الأوَّل، والتشبُّث بما كان عليه السلف الصالح من الدعوة إلى التمسُّك بالكتاب والسُّنة، ودخَل فيما دخَل فيه شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله من صراعات مع الاتجاه الرسمي العثماني، والمؤسَّسات المذهبيَّة والصوفيَّة المحيطة بالرسميين الأتراك، وسَلَّطت السلطنة العثمانية كلَّ أجهزتها لمقاومة هذه الدعوة وإجهاضها، بما في ذلك استخدام القوَّة العسكرية، وأشاعَت الدولة العثمانية لقب "الوهَّابيَّة، والوهَّابيين"؛ لتنفير الناس من تبنِّي هذا المذهب، أو التأثُّر بدعوته، وقد نجَحَت الدولة العثمانيَّة في إيجاد أجواءٍ من الخوف من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأوساط الصوفيَّة، وأوساط علماء المذاهب الإسلاميَّة المختلفة، وتنفير هؤلاء والجماهير المسلمة من حولهم، وساعَدت عواملُ كثيرة على تهيئة الأجواء لمحاصرة هذه الدعوة التوحيديَّة، التي مثَّلت نوعًا من الإحياء والتجديد لفِكر شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله ، ودعوته إلى التوحيد الخالص، ورَفْض انحرافات الأفكار الجَبرية والحُلوليَّة والاتِّحادية والشِّركية بأنواعها، والتأكيد على كرامة الإنسان، ومسؤوليَّته عن أفعاله وتصرُّفاته"[31].
كما يتجلَّى مقام شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله في الدراسات والكُتب التي أُجْرِيَت حوله، من تراجِم إلى بحث في منهجه، وتأصيل لقواعده، إلى ردودٍ عليه، فقد أُجْرِيَت ما يُقارب 176 رسالة جامعيَّة حول شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله في جميع فنونه من العقيدة إلى الفقه، إلى السياسة والدعوة، ومسائل عِدَّة[32].
أمَّا الكُتب عنه، فلا أدري مَن أحصاها، وهي كثيرة تزيد عن 80 مؤلَّفًا مما رأيت؛ يقول أبو زهرة: "شَغَل ابن تيميَّة عصره بشخْصِه وفِكره وقوله، وحيث حلَّ كان حركة فكريَّة، دائمة دائبة، ولَم يَمُت إلاَّ وكان لاسْمه دَوِيٌّ في شرق البلاد الإسلامية وغربها، وكان له تلاميذ تخرَّجوا على رسائله، كما كان له تلاميذ تخرَّجوا على دَرْسه، وقد ترَك وديعة فكريَّة للأجيال من بعده، هي مجموع ما وصَل إليه من آراء على مُقتضى الهَدْي السلفي في اعتقاده، ثم أوْدَعها المجادلات والمساجلات التي قامَت بينه وبين خصومه الكثيرين؛ من فقهاء ومتكلِّمين، ومُتَصوِّفين وفِرَق، ولَم يَترك طائفة من هذه الطوائف، إلا ولقوله الحادِّ ندوبٌ في مذهبها، وقام على هذه الكتب والرسائل تلاميذُ قد آمنوا بكلِّ آراء شيخهم، وفيهم نشاطٌ، ولهم مَدارك، ثم وُجِد في الأجيال مَن اعتنَق هذه الآراء واتَّخذها مذهبًا له"[33].
أحدَث شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله دَوِيًّا في عصره، وتردَّد صداه في الأجيال اللاحقة، وما سُمِع عن طائفة أو صاحب مقالة إلا وبه ندوبٌ من كَلِم شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله ، فبين كاسرٍ لعَظْمه، وفاتِك به وبِمَن معه، وجريح يئنُّ من كلام الردِّ، ومكلوم من ردَّات النقد، ومتوارٍ سارب بالليل، مُستخفٍ بالنهار؛ حتى لأنك تجد فِرَقًا وطوائفَ ومقالات يقال عنها: يُحكى أنَّ، وبعد: لَم يُدْرَ ما جرى لأصحابها ومقالاتهم.
وآخر الدواء: الكَيُّ، ومن النفوس مَن تؤوب لربِّها بعد الصدمات، فكان من أهل البدع مَن رجَع وصار صاحبَ سُنة بعد أن كان قرينَ بدعة، ومن الناس مَن فتَكَت بصدره الوساوس، ونَخَرت قلبه الظنون وشُبَه الخَنَّاس، فشُفِي بردود ونقد شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمه الله لأُناسٍ، فأصبَح مُبجِّلاً له بعد أن نابَذه.
فانقسَم الناس حوله بين مُكْبِر مُعْظِم، وبين مُنتقص ناقمٍ، "وتوارَث الناس جميعًا علومَه، وتَفَهَّموه فقيهًا مُستقلَّ المدارك، وباحثًا منقِّبًا مُحييًا للسُّنة، عاملاً على نُصرة الدين، والموافق والمخالف قد اتَّفَقا على أنه جديرٌ بالتقدير، وأنه احتسَب النيَّة في طلب الحقيقة والدفاع عن الدِّين"[34].
أمَّا مَن يُجافيه ويَرمي استنقاصه، واستصغار مَلَكته، فما للأكابر وصَخَب الأصاغر!!؟، ولو حَمَل الذَّرُّ الجبالَ، لَمَا علا بالعلم رجالٌ، ومثل أولئك لا يُؤْلُون في مخالفهم حُرمةً، ولا يَرون فَرقًا بين الخلاف ومكانة المخالف العلميَّة، وجَهْلهم لا يقضي العدم، وسوء بواطنهم لا يقضي هدْمَ فضْل الرجال.
رحم الله شيخ الإسلام: أحمد ابن تيميَّة رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

هوامش:
[1] الأعلام العليَّة: البزَّار، ص 79.
[2] المرجع السابق، ص 79.
[3] المرجع نفسه، ص80.
[4] الأعلام العلية؛ البزَّار، ص (79 -81).
[5] ابن تيميَّة ليس سلفيًّا؛ منصور محمد محمد عويس، دار النهضة العربية: القاهرة، ط 1، 1970، ص 263.
[6] السلفيَّة مرحلة زمنيَّة مباركة لا مذهب إسلامي؛ محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر: دمشق، ط 1، 1990، ص (172 - 173).
[7] ابن تيميَّة وعقائده؛ صائب عبدالحميد، ص 73.
[8] تذكرة الحُفَّاظ؛ الذهبي، ج 4، ص 1496.
[9] هو: أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حجر (852 - 773): من أئمة العلم والتاريخ، أصله من عسقلان، ومولده ووفاته بالقاهرة، أُولِعَ بالأدب والشعر، ثم أقبل على الحديث، ورحَل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعَلَت له شُهرة، فقصَده الناس للأخْذ عنه، وأصبَح حافظَ الإسلام في عصره؛ قال السخاوي: انتشَرت مُصنَّفاته في حياته، وتهادَتْها الملوك، وكتَبها الأكابر، وكان فصيحَ اللسان، راويةً للشعر، عارفًا بأيام المتقدِّمين وأخبار المتأخِّرين، صبيحَ الوجه، ووَلِيَ قضاء مصر مرَّات ثم اعتزَل، أمَّا تصانيفه، فكثيرة جليلة؛ البدر الطالع؛ الشوكاني، ج 1، ص 87.
[10] الرد الوافر؛ ابن ناصر الدين الدمشقي، ج 1، ص 12.
[11] محمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن مسعود، عماد الدين الواسطي البغدادي ثم الدمشقي (657- 711هـ): فقيه شافعي، أقام بالقاهرة مدة خالَط بها طوائفَ من المتصوفة، فتصوَّف، وقَدِم دمشق فتتلْمَذ لابن تيمية، وانتقَل إلى مذهب ابن حنبل، وردَّ على المبتدعة الذين خالَطهم، توفي بدمشق؛ الدُّرر الكامنة؛ ابن حجر، ج 1، ص 91.
[12] التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار في الثناء على شيخ الإسلام والوصاية به؛ الواسطي، ص 24.
[13] هو: أحمد بن راشد بن طرخان، الشيخ الإمام العلاَّمة مُفتي المسلمين، شهاب الدين أبو العباس الملكاوي الدمشقي، أحد الأئمة العلماء المعتبرين، وأعيان الفقهاء الشافعيين، كان مقصودًا بالفتاوى من سائر الأقطار، وكان يَميل إلى ابن تيميَّة كثيرًا، ويَعتقد رُجحان كثيرٍ من مسائله؛ طبقات الشافعية؛ أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة؛ تح: الحافظ عبدالعليم خان، دار عالم الكتب: بيروت، ط 1، 1407، ج 4، ص 14.
[14] الرد الوافر؛ ابن ناصر الدين الدمشقي، ج 1، ص 141.
[15] هو: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السُّبكي وُلِد سنة 727هـ؛ كما قال الطناحي في مقدمة تحقيقه لكتابه طبقات الشافعيَّة، وقال أيضًا: إنَّ ابن حجر قال: إنَّ مولده كان في سنة 728هـ ووافَقَه ابن تغري بردي في المنهل الصافي، والذهبي في المعجم المختص، ولكنَّ الزبيدي في تاج العروس قال: إنَّ مولده كان في سنة 729هـ، ورُبَّما نقَل الزبيدي هذا عن السيوطي في كتابه حُسن المحاضرة، كان فاضلاً، وَلِي قضاء الشام سنة 763 هـ فأقام عامًا، ثم وَلِي قضاء العسكر، وكَثُرت رَحَلاته، مات مجاورًا بمكة؛ الدُّرر الكامنة؛ ابن حجر، ج 1، ص 210.
[16] الشهادة الزكيَّة في ثناء الأئمة على ابن تيميَّة؛ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي؛ تح: نجم عبدالرحمن خلف، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 1، 1404، ص 26.
[17] وهي دابَّة كالخُنفساء مُحَدَّدة الذَنَب، تَفْسُو إذا مَشَت، فالجُعَل العَريض الأسْوَد الذي يُدَهْدِي الخُرُوءَ، والجمع جِعْلان.
- المخصص: أبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي؛ ابن سيده؛ تح: خليل إبراهم جفال. دار إحياء التراث العربي: بيروت. ط(1)، 1996. ج2، ص316.
[18] عِرْنينُ كلِّ شيء: أوَّله، وعَرانينُ القوم: سادَتُهم، وعرنينُ الأنف: تحت مجتمع الحاجِبين، وهو أوَّل الأنف؛ حيث يكون فيه الشَّمَم، يُقال: هم شُمُّ العَرانين؛ تاج اللغة وصِحاح العربية؛ إسماعيل بن حمَّاد الجوهري؛ تح: أحمد عبدالغفور عطار، دار العلم للملايين: بيروت، ط 4، 1987، ج 8، ص 17.
[19] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي، ص 26.
[20] هو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، ابن سيِّد الناس، اليعمري الربعي، أبو الفتح، فتح الدين (734 - 671): الإمام الحافظ الفقيه العالم الأديب المؤرخ، عالم بالأدب، من حُفَّاظ الحديث، أصله من إشبيلية، مولده ووفاته في القاهرة، من تصانيفه "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير"؛ الوافي بالوَفَيات؛ الصفدي، ج 1، ص 289.
[21] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي، ص 27.
[22] الوَفَيات؛ ابن قنفذ، ص (328 - 329).
[23] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي، ص 30.
[24] الأعلام؛ الزركلي، ج 5، ص 67.
[25] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي الحنبلي، ص 32.
[26] هو: القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد ابن أبي يداس البرزالي الإشبيلي ثم الدمشقي، أبو محمد، علم الدين (665 - 739 ): الشيخ الامام الحافظ العمدة، مُحدِّث الشام ومؤرِّخه ومفيده، عَلَم الدين، مَوْلده بدمشق، وتوفي مُحرمًا في خليص (بين الحَرَمين)، ونسبته إلى "برزالة " من بطون البربر؛ تذكرة الحُفَّاظ؛ الذهبي، ص 18.
[27] الشهادة الزكية؛ مرعي الكرمي، ص 49.
[28] هو: عبدالرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي، أبو الفرج، زين الدين (736 - 795)، حافظ للحديث، من العلماء، وَلِد في بغداد ونشأ وتوفِّي في دمشق؛ شذرات الذهب؛ ابن العماد، ج 6، ص 339.
[29] الشهادة الزكيَّة؛ مرعي الكرمي، ص 51.
[30] الرد الوافر؛ ابن ناصر الدين الدمشقي، ج 1، ص 12.
[31] ابن تيميَّة وإسلامية المعرفة؛ طه جابر علواني، ص 11.
[32] شَمَلت: 4 رسائل بالجامعة الأردنيَّة، و12 رسالة بجامعة الأزهر، و7 رسائل بجامعة الإسكندرية، و16 رسالة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبويَّة، ورسالتين بالجامعة الإسلاميَّة العالَمية بماليزيا، و 56 رسالة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، و4 رسائل بجامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلاميَّة بقسنطينة، ورسالتين بجامعة الجزائر، ورسالة بجامعة علي كره بالهند، ورسالة بجامعة القاضي عِياض بمراكش، و15 رسالة بجامعة القاهرة، ورسالة بجامعة القديس يوسف بلبنان، ورسالة بالجامعة المستنصريَّة بالعراق، و5 رسائل بجامعة الملك سعود بالرياض، ورسالة بجامعة اليرموك بالأردن، و30 رسالة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ورسالة بجامعة بترسبرغ بروسيا، و3 رسائل بجامعة بغداد، ورسالة بجامعة فيلادلفيا بأمريكا، ورسالة بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، و7 رسائل بجامعة محمد الخامس بالمغرب، ورسالة بالرئاسة العامة لتعليم البنات بالرياض، ورسالة بالمعهد الوطني العالي لأصول الدين بالجزائر، ورسالة بجامعة هارفارد بأمريكا؛ دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ عثمان بن محمد الأخضر شوشان، مؤسسة الوقف الإسلامي: الرياض، ط 1، 1424، ص (244 - 245).
[33] ابن تيميَّة: حياته وعصره وآراؤه؛ لمحمد أبي زهرة، ص 424.
[34] المرجع السابق، ص 440.
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع


الساعة الآن 01:20 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى