هكذا التحقت بالجيش الفرنسي.. ولهذه الأسباب تأخر التحاقي بالثورة
13-01-2016, 02:12 AM

حاوره محمد مسلم/ هشام موفق




بعد أن فرغت "الشروق" من مرافقة حادثة إيقاف المسار الانتخابي وما خلفته من تداعيات على المشهد السياسي والاجتماعي في البلد، بداية التسعينات، ارتأت إدارة التحرير أن تقف بالتفصيل عند أبرز المحطات التي طبعت مسيرة أحد أبرز الشخصيات المثيرة للجدل في تاريخ الجزائر الحديث، وهو وزير الدفاع الأسبق، الجنرال المتقاعد خالد نزار..

كيف نشأ الرجل، وأين بدأت مسيرته، ولماذا التحق بالجيش الفرنسي في 1956 وتأخر التحاقه بالثورة بالرغم من أنه ولد في منطقة عانقت الثورة منذ لحظاتها الأولى، وهي منطقة الأوراس التي أطلقت فيها أول رصاصة ضد المستعمر الفرنسي.
في الحلقة الأولى من مسيرة الجنرال نزار، اليوم، نتطرق إلى شهاداته حول ظروف التحاقه بالجيش الفرنسي بالتفصيل الدقيق، وأسماء المدارس العسكرية التي تكوّن فيها الرجل منذ طفولته، إضافة إلى جزئيات دقيقة ستكتشفونها في هذا الحوار.

من هو الجنرال المتقاعد خالد نزار.. أين تربى؟ وأين درس؟
كتبت عن مسيرتي الكاملة بداية من تكويني في مسقط رأسي، عن مدرستي وعن دخولي المدرسة العسكرية، التي كانت تسمى في ذلك الوقت "مدرسة الأشبال"، عفوا "إيكوا أونفون تروب"، في خميس مليانة وأربع سنوات في القليعة.

كم كان عمرك آنذاك؟
نتكلم أولا عن مسقط رأسي. أولا أنا ولدت في شمال منطقة الأوراس، في قرية يسمونها سريانة، وهي قرية، ولكن أنا ولدت خارج القرية، في الدوار كما يسمى، دوار "الثلاث"، وهو جزء من قبيلة أولاد حركات، وهي كبيرة جدا وتضم عدة ولايات حاليا، باتنة أم البواقي وخنشلة.

هو بطن من بطون الشاوية الذين يتكونون من عرشي الحراكتة والنمامشة؟
ممكن. أنا لا أعرف الكثير من هذه التفاصيل التاريخية.. وكان بالمنطقة مدرستان ابتدائيتان. وأثناء الحرب العالمية الثانية كانت هاتان المدرستان مغلقتين، لأن فرنسا كانت قد خسرت الحرب، وكانت تلك السنوات تسمى سنوات المجاعة، وأنا عشت ذلك الوقت بصعوباته، لقد كانت مرحلة صعبة خاصة في تلك المناطق.
ففي سنة 1945 إذن دخلت المدرسة، وكان عمري حينها ثماني سنوات ونصفا، وواصلت الدراسة لمدة أربع سنوات تقريبا. في تلك المرحلة كان الجزائريون يتوقفون عن الدراسة في السنة السادسة، "السيزيام حاليا". كنا اثنين فقط من تقدم لشهادة التعليم الابتدائي، بالوصف الحالي، وكان ذلك من شأنه أن يمكن الناجح من الحصول على منحة تمدرس لمواصلة الدراسة.
لكن للأسف، لم نتحصل على المنحة. الجزائري الآخر الذي خاض معي الشهادة الابتدائية بنجاح، تمكن من مواصلة الدراسة من دون منحة شهادة تمدرس التي تمنحها الإدارة الفرنسية، لأن والده كان ميسور الحال ليس بشكل جيد ولكن بشكل مكنه من مواصلة دراسته في متوسطة توجد في مدينة باتنة حاليا، وفي ذلك الوقت كان في باتنة متوسطة واحدة.. كانت متوسطة تقنية وأخرى عصرية، وأخرى لتكوين المكونين، بعد سنة إضافية. أما اليوم فالحمد لله هناك مؤسسات تربوية وجامعية كثيرة، حتى وصلنا إلى جامعة في كل ولاية.
لما أكملت المرحلة الابتدائية، تقدمت للمنحة، ولكن لم نحصل عليها. ولكن بحكم أن الوالد شارك في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الجيش الفرنسي، فلاحت لي في الأفق فرصة الالتحاق بمدرسة عسكرية فرنسية، من دون أن أدفع مقابلا ماديا، خاصة أن الجهات الوصية تدرك أن ظروف والدي المالية لم تكن تسمح له بدفع مقابل.
لذلك تمكنت من الالتحاق بهذه المدرسة، وفيها الدروس مجانا، ولكن مقابل ذلك، يلتزم التلميذ بالعمل في الجيش الفرنسي لمدة خمس سنوات، وذلك بعد إنهاء الدراسة.

متى كان هذا بالضبط؟
دخلت المدرسة في سنة 1950، وتخرجت في آخر 1955، وبعد ذلك التحقت مباشرة بالجيش الفرنسي، وكان ذلك في عام 1956.

في 1956 كان قد مر على اندلاع الثورة التحريرية نحو سنة ونصف.. السؤال المطروح: لو كنت في منطقة بعيدة عن الأوراس، لربما قيل إنك لم تسمع بالثورة. كيف أخذت على عاتقك الالتحاق بالجيش الفرنسي، والثورة بدأت تنتشر بشكل كبير في أرجاء البلاد؟
السؤال نوعا ما غريب. هل الناس الذين كانوا في عمري آنذاك، التحقوا كلهم بالثورة؟ بالتأكيد لا. ممكن الإنسان في ذلك الوقت لم يكن يتوفر على القدر الكافي من الوعي السياسي. ممكن بحكم صغري. زيادة على ذلك، صحيح قلت انحدرت من منطقة اعتبرت أنها كانت الشرارة الأولى لانطلاق الثورة.

هل حقيقة كان والدك رائدا في الجيش الفرنسي؟
لا، أبدا. لو كان والدي رائدا، لما كنت عشت تلك الصعوبات.

ماذا كانت رتبته؟
لم يكن في الجيش الفرنسي. قلت لك إنه عمل في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى. لما اندلعت الثورة التحريرية، كان والدي في عمره ستون سنة، كان متقاعدا، من سنة 1931. إذن لم يكن له علاقة بالجيش الفرنسي.

هل كان يحثك والدك رحمه الله، على الالتحاق بالثورة، يفترض أنه كان على حد أدنى من الوعي السياسي ثم كيف كنت أنت تنظر إلى الثورة يومها في 1956؟
ماذا تريد من والد يقول لابنه التحق بالثورة وسنه في الـ 17 سنة. ليس كل الآباء ينظرون إلى الثورة بمنطق واحد، خاصة أن عائلة والدي كانت تقريبا كلها في الجبل مع الثورة.

صحيح.. وهذا ما يجعل السؤال أكثر إلحاحا.. عندما تقول إن أغلب العائلة كانت مع الثورة، إلا والدك التزم بتقاعده من الجيش الفرنسي؟
لا، المشكل ليس هنا. أنا كما قلت ربما لم أكن جاهزا للالتحاق بالثورة، بما أن المنطقة منطقة ثورة، والعائلة فيها الكثير التحقوا بالثورة. هل ذاك الإحساس يحضر بالضرورة. لكن ومع ذلك، حضر هذا الإحساس لاحقا مع الوهج الذي أخذته الثورة والعمليات البطولية التي حققتها على الأرض.
التحقت بالمدرسة الحربية في ستراسبوغ (شمال شرق فرنسا) لمدة عشرة أشهر، ثم في مدرسة سان ميكسون (فرنسا)، لمدة ستة أشهر ونصف.

قلت في سنة 1956 التحقت بالجيش الفرنسي، أين بالضبط؟
بالمدرسة الحربية بستراسبورغ مباشرة.

يعني من باتنة مباشرة نحو استراسبورغ؟
لا، من مدرسة القليعة (تابعة إداريا لتيبازة حاليا) إلى استراسبورغ. كان التكوين مدرسيا عاديا. كانت شروط، كما أسلفت، لما تدخل هذه المدرسة، لا بد أن تدفع من عمرك خمس سنوات للجيش الفرنسي.

كم بقيت في القليعة؟
بقيت سنة في خميس مليانة، ثم لما انتقلت إلى هذه المدرسة بالقليعة بقيت هناك أربع سنوات، والمجموع خمس. لأتخرج بعدها من هذه المدرسة.

في تلك الفترة، كيف كنت تنظر إلى الثورة، هل كانت بالنسبة إليك عصابات وفلاقة؟
أنا نشأت في قرية صغيرة وكانت مقصودة مباشرة من الثوار. كانت مراكز تابعة للمجاهدين يأتون إليها في الليل. وعائلتي كانت منقسمة بين منطقتين، الأولى قرية لمطاراس، والثانية يسمونها قرية لقلالات. فالعائلة كانت موزعة على دوارين، وخاصة الناس الذين كانوا يقطنون المطاراس، لأن هذه الأخيرة كانت جبلية، ما جعلها مأوى للثوار.
عمي التحق منذ البداية، لكن بجبهة التحرير، كان قائما بالاتصال مع المجاهدين.

كيف كنت تنظر إلى عمك؟
أقصّ عليكم واقعة حدثت في عام 1956. وقد كنت يومها دخلت من استراسبورغ. وفي أحد الأيام قام الجيش الفرنسي بتهديم تلك المنطقة، وكانت الحوامات العسكرية تنزل في المكان الذي أقطنه. أنا لم أكن فاهما للوضع جيدا. ذهبت مباشرة رفقة الوالد، والوالد يومها كان عاملا يوميا في البلدية (سريانة)، مكلفا بنظافة الشوارع والعناية بالمدارس، وأمور أخرى.

الأمور الأخرى كانت مدنية؟
طبعا، كانت مدنية. وكان عاملا يوميا، لأنه لم يأخذ بعد تقاعده..

قلت لما جئت من استراسبورغ..
العملية العسكرية التي قام بها الفرنسيون، كان الهدف منها استهداف القريتين اللتين تقطنهما العائلة.. وكانت فرنسا قد طلبت منهم سابقا، ولذلك والدي فهم الرسالة مباشرة من استهداف الجيش الفرنسي للمنطقة. ولذلك أخذني معه إلى حيث مكان الاستهداف.. كما كان والدي مكلفا بالعناية بحديقة البلدية، لأننا كنا نقطن قريبا من هذه الحديقة.. قلت أخذني إلى مكان قريب من المنطقة التي قصفت، وتوجه نحو تلك المنطقة. وكان نائب عمدة البلدية قد طالب العائلة بالنزول من مساكنها التي في الجبل حتى يقطعوا الاتصال بالثوار، لكن موقف المجاهدين كان مغايرا، وهو مطالبة السكان بعدم ترك مساكنهم، وبقي الوضع هكذا في عدة مرات.
آخر صورة لشقيق الوالد، رأيته فيها كان على متن شاحنة من نوع "جي آم سي" للجيش الفرنسي في الساعة الرابعة والنصف، ومنذ ذلك الحين لم أره، إلى أن سمعنا بأنه تم دفنه في عين توتة في جبل يسمى عين سلطان، ولا يزال إلى اليوم. أخذوه إلى الجرف، لأنه كان يعمل مع الثورة، لكن الفرنسيين توصلوا إلى مجموعة أسماء تعمل مع الثورة. في ذلك اليوم، كان هناك من صعد إلى الجبل (التحق بالثورة). كانوا خمسة إخوة، اثنان قتلتهما فرنسا، واثنان آخران التحقا بالجبل.. ومن قتلوا كان عددهم كبيرا، ونجا أحدهم ويسمى "عمي البشير"، لأنه هرب إلى فرنسا، مباشرة بعد أن فقد أربعة من إخوته، ولأنه كان معروفا، فقد وضع اسمه قيد البحث من قبل فرنسا، ومع ذلك بقي يعمل مع الثورة لجمع الاشتراكات، وقبض عليه وأدخل السجن ولم يفرج عنه إلا بعد الاستقلال.
وكما أسلفت قص لي الوالد عن الذين قضوا في الجهاد. كانت القرية بها "دوزيام بيرو" (المكتب الثاني) كان هناك درك. الـ "دوزيام بيرو" ماذا كان دوره، في النهار يأتون بأربعة أو خمسة جزائريين، مكبلين بالأغلال أمام الناس. وفي الساعة التاسعة ليلا يتم تصفيتهم في وسط القرية. وكان نحو ستة أو سبعة دركيين، وكان بينهم جزائري يسمى "سي أحمد الجدارمي"، يسير وحيدا حاملا سلاحه ولا يتكلم كثيرا مع الفرنسيين، إلى أن سمعنا به أنه التحق بالجبل، وأصبح مشهورا في الثورة إلى أن استشهد، وهو من قنزات شمال سطيف، ومات في المنطقة ودفن في سريانة. وكان الهدف من الإتيان به إلى سريانة هو تخفيف السكان من المصير الذي ينتظرهم في حالة تفكيرهم في الالتحاق بالثورة.
هذه الأمور كلها عشتها، وهذه من دون شك تؤثر.

ما هو الأثر الذي خلفته هذه الأحداث على الثورة؟
ربما هي التي كانت سببا في التحاقي بالثورة.

ما الذي أخر التحاقك بالثورة إلى عام 1958؟
لا، أنا التحقت في 1957، لكن كمناضل في جبهة التحرير، وفي عام 1958 التحقت بالثورة.

في تلك الفترة، كيف كنت تنظر إلى الثورة والمجاهدين. هل كنت تعتبرهم مغررا بهم؟
لا، أبدا، كنت أعتبرهم مجاهدين. وبالعودة إلى الوراء قليلا، سريانة استهدفها المجاهدون في أول مرة في 3 نوفمبر 1954، يعني بعد يومين من انطلاق الثورة. ومن كان مسؤولا عن العملية، هو المجاهد الراحل الحاج لخضر، طبعا هو لم يكن حاضرا، ولكنه خطط لها، أما من استشهد في العملية من المجاهدين ما قبل 1954، وهو الشهيد قرورو، وهو من الذين التحقوا بالجبال قبل الثورة ممن يسمون "المنافقية"، وهم من قتل شرطيا مثلا وهرب إلى الجبل.

ماذا كان يقول لك والدك في تلك الفترة؟
كان لا يتكلم كثيرا.. نعم أخذني إلى المكان الذي قصفه الجيش الفرنسي، لكن لم أفهم ماذا كان يقصد. ربما كان يدفعني بطريقة غير مباشرة إلى الالتحاق بالثورة. الثورة كانت مفاجأة للناس جميعا. في أول نوفمبر، عينوا ناسا في البداية يحرسون القرية بالعصي. ولما جاءت الثورة التحقوا في 3 نوفمبر 1954. المنطقة فهمت في 3 نوفمبر، من قبل ربما لا، لكن بعد فهموا جميعا، وقد قص لي الوالد الكثير.
النقطة الأخرى هي أن الجزائريين اكتشفوا أن المعمرين كانوا مسلحين سابقا، كما اكتشفنا أيضا أنهم توصلوا إلى توجيهات تحثهم على الاجتماع في قاعة الحفلات في حالة وقوع هجمات.. لما وقف الجزائريون على هذه المعطيات، تفطنوا إلى أشياء كان مخططا لها من قبل الاستعمار الفرنسي.

سي خالد. دعنا نركز على مسارك. قلت إنك التحقت بمدرسة القليعة، ثم ستراسبورغ باعتبارها مدرسة أعلى.
لا لا، مدرسة عادية. هناك لبست بدلة عسكرية.

وتخرجت ضابطا؟
لا. هي ليست مدرسة لتخريج الضباط. تقلدت رتبة ضابط في مدرسة سان ميكسون.

بفرنسا طبعا.
نعم.

كم بقيت في مدرسة الضباط بسان ميكسون؟
ستة أشهر ونصفا.

كم تدوم في العادة مدة التكوين في المدرستين؟
تكوين الضباط الفرنسيين، ثمانين بالمائة يتخرجون من مدارس صف الضباط، لأن الجيش الفرنسي في حاجة إلى الضباط الذين لهم مقدرة على قيادة الوحدات القتالية، وعندهم مدرسة سانسير كوانت كيتون، التي تشترط مستويات ثقافية عليا، ومن يتخرج من هذه المدرسة يتوجه إلى العمل في أركان الجيش.
الذين يتكونون في صف الضباط يتخرجون في عمر 27 أو 28 سنة كضابط وحدات، ولكن يخرج للتقاعد كملازم، عقيد، ولكن لا يصل رتبة جنرال، الذي يبقى حكرا على مدرسة سانسير كوانت كيتون. ولأنني لم أكمل دراستي الثانوية، فلم أتمكن من دخول مدرسة سانسير. لأن القانون يشترط 18 سنة، وأنا كان عمري 17 سنة، فضلا عن التمييز القائم بين الجزائريين والفرنسيين. وتكوين الجزائريين كان الهدف منه هو ليكونوا في المواجهة، كضباط صف.