قراءات إنطباعية في نهج البلاغة
26-10-2008, 11:33 AM




قراءات إنطباعية في نهج البلاغة-الجزء 1
للمؤلف :علي الخباز
عرض: صباح جاسم
نهج البلاغة، كتاب طَبَقت سيرته الآفاق وسَبرَ أغوار العلم والمعرفة إنطلاقا من معاني الدين السامية حتى تغلغل في كل مفاصل الحياة، ماضيها وحاضرها وحتى مستقبلها، عن طريق من كانَ معلمهُ ومربّيه آخر النبيين وسيد المرسلين ومن كان مسدَداً من الله تعالى في كل خطوة وفكر وعمل، ألا وهو الإمام علي بن ابي طالب (ع).
لم يكن نهج البلاغة كتاباً متخصصاً في شؤون معينة إنما هو خلاصة قمَّة الفكر الإنساني الذي أحاط، عن طريق العناية الألهية، بما كان وما سيكون، ومن هذه الخاصية الفريدة تولّدَت مئات العروض والشروحات لهذا الكتاب العظيم على مدى القرون التي تلت جمعه وإعداده على يد الشريف الرضي (قده).
وما نحن بصدد عرضه هو رؤية شيّقة من زاوية فكرية وعلمية وأدبية، لهذا المُنجز الإنساني، الذي يأتي ترتيبه قبل أي كتاب آخَر وبعد القرآن الكريم وسنّة النبي الأعظم (ص). هذه الرؤية تمثلت في " سلسلة قراءات إنطباعية في نهج البلاغة-الجزء 1" لمؤلفه الأديب الأستاذ علي الخباز، إصدار قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، بعدد صفحات بلغ 66 صفحة من القطع المتوسط.
يمكن إعتبار ما جاء في هذا الجزء من السلسلة دراسة حديثة حول المصطلحات المذكورة في نهج البلاغة حيث تناول الكاتب دراسة: بلاغية المفردة والنهج الرصين، وفن السَجَع في بلاغة الإمام علي (ع)، والتشبيه، وفن الإختزال، والتوثيقية، وعلم الدلالة، والترادف، والأسلوبية، وإستخدامات كان، والصورة الفنية، والمكانية، والإستفهامية، والالوان والتناص.
وتناول الكاتب شرحاً مركزاً بعيداً عن الإسهاب لكل من المفردات آنفة الذكر، حيث اعتبرَ ان المفردة البلاغية عندما تكون منسجمة داخل الخطاب الفكري وخاصة عندما تنضوي تحت راية المجاز، تجرّ القارئ للإنبهار والتشوق للمزيد لدلالتها على الأصالة البلاغية..
اما عن فَن السَجَع في بلاغة امير المؤمنين (ع) فيتحدث الكاتب معرّفاً السجع على انه، نمط كتابي من ضمن الأنماط الكتابية القديمة المعروفة التي ترتكز على توحيد قافية نهايات الجُمل، غايته إعطاء الجرس الموسيقي الشفاف للجُمل بما ينتج زخماً شعورياً ولذة قرائية محببة عند التلقي، ويؤكد الكاتب هنا على ان السجع الذي كان يستخدمه الإمام علي (ع) يتبنى عدة سمات، تختلف عما نقرأه عند معظم أهل الخطابة في أغلب الموروث العام، كونه كتب دون تكلف في الأداء، وهذه تعني أشياء كثيرة في مرتكزات النقد الأدبي..
ويتناول الكاتب مفردة " الألوان في نهج البلاغة" حيث يرى ان، للون، في الأدب العربي، حضوراً دلالياً يمنح المشهد الخطابي تجانساً وتمازجاً ينسجم مع البؤرة النصّية للقصد الإبداعي، ويعطي مثالاً من أقوال الإمام في النهج: " ومَعرِفَة يَفرُقُ بِها بَينَ الحَقِّ والباطِلِ والأَذواقِِ والمَشامِّ والأَلوانِ والأَجناسِ، مَعجُوناً بِطينة الأَلوان المُختَلِفةِ ".
ومعجون: صفة انسانية. والالوان المختلفة: الضروب والفنون، وتلك الالوان هي التي ذكرها من الحر والبرد، والبلة والجمود. فيمنح المتلقي فرصة اكبر للتأمل، لكون التعامل مع اللغة عبر العديد من الاجيال، غيرت صبغة الكثير من الألفاظ، فمثلاً قوله عليه السلام: " وَحِليةِ ما سُمِطَت بِهِ مِن ناضرِ أنوارِها".
ويستمر الكاتب بتبيان فقرات الجزء الاول، من سلسلته، تباعاً حتى ينتهي بمفردة " التناص في نهج البلاغة" التي يقول عنها، ان النقد العربي عرف ظاهرة التناص مبكراً تحت عدة مسميات مثل التضمين، والإقتباس، والاحتذاء والاشارة.. ومعنى التناص عند "مفتاح": هو عبارة عن فسيفساء تتكون من دمج عدة نصوص بتصنيفات مختلفة، سعياً الى مناقضة او تعضيد يسميها " التآلف النصّي"، ونفي التطابق عنها.
بينما يرى جيرارد جينيت: ان الشكل الصريح للتناص هو الإستشهاد. ويُسمّيه محمد بينيس "النص الغائب".
ومعظم النقاد يرون التناص أمراً لابد منه لأن العمل الأدبي يدخل في شجرة عميقة وممتدة، فالنَص لايأتي من فراغ، وللتناص في نهج البلاغة خصوصية تجاوزت السعي الجمالي الى مهام اخرى مثل السعي الى تعميق المعنى القرآني من خلال التضمين كقوله (ع): " لَم يُوجِس مُوسَى (ع) خِيفَة عَلى نَفسِهِ، بَل أَشفَقَ مِن غَلَبة الجُهَّالِ وَدولِ الضَّلالِ ".
ان سلسلة القراءة الإنطباعية المعروضة تمثل لَفتةً قَيّمة وجهد متميز عن الدارج، يُحسَب لمؤلِّفه الأستاذ الخباز، كون الجزء الاول منها، مركزاً حد الإشباع وبعيداً عن الإسهاب والإنشاء الذي عادة ما يحيط بهكذا دراسات فيحار المتلقي في إستخلاص الزبد منها، انها محاولة ناجحة تُلفِت النظر أكثر لمعاني كبيرة جدا مخفية تحت أُطُر المصطلحات اللغوية..