تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > المنتدى الحضاري > سير أعلام النبلاء

> عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية

  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
10-11-2016, 02:23 PM
عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

أمَّا بعدُ:
فلقد دأَب الباحِثون والكُتَّاب حينما يتحدَّثون أو يَكتُبون عن عبقريَّة شخصٍ ما: أنهم يُبرِزون مآثِرَه، ويُسفِرون النِّقاب عن الكيفيَّة التي جعلَتْه يصل بها إلى تلك العبقريَّة؛ فعالم هنا: تظهر عبقريَّته في العلوم النقليَّة، وآخَر هناك: في العلوم العقليَّة، أو الطبيعيَّة...إلخ..
ومنهم مَن تظهر عبقريَّته في فنٍّ آخَر كاللغة، أو بما يتعلَّق بالآلات المعيشيَّة، وإمامنا هذا قد تعدَّدت روافد عبقريَّته في علومٍ شتَّى:( نقليَّة، وعقليَّة، ولغويَّة، ودعويَّة، وجهاديَّة، وإصلاحيَّة تربويَّة...)، وإنَّه لَيَشهَدُ لهذه العبقريَّة:" كثرةُ مُؤلَّفاته وثراؤها، وإثراؤها وتنوُّعها، وتعدُّد أساليبها ووسائلها"، وهنا تبرز صعوبة تحديد أسباب العبقريَّة لديه؛ لأنها مُتَعدِّدة مُتنوِّعة، وغير قاصرة على شيءٍ مُحَدَّد؛ لذا فقد كثرت الأبحاث التي تَتناوَل جانبًا من جوانب هذه العبقريَّة عند هذا الإمام؛ فمنها: ما له علاقةٌ بالجوانب الدينيَّة وجهوده فيها وفي نشرها، ومنها: ما هو متعلِّق بالإصلاح والتربية، ومنها: ما هو متعلِّق بأمورٍ فكريَّة وجهاديَّة ودعويَّة، ومنها: سياسيَّة وما له علاقة بالحكم وإصلاح الراعي والرعيَّة، ومقارعة الأعداء في الداخل والخارج، ومن الأبحاث ما ركَّزت اهتماماتها على جزءٍ من جهوده؛ مثل: الجانب العقدي، أو الفقهي، أو التربوي، أو الخلقي عنده، وتلازم هذه الجوانب بالمنهجيَّة عنده وكيفيَّة تأصيلها:"كلُّ ذلك من الأدلَّة القاطعة على عبقريَّة هذا الرجل"[1].
وعلى هذا؛ فشخصيَّة الإمام ابن تيميَّة تَحوِي في طيَّاتها أمورًا كثيرة، ومؤثرات مختلفة؛ منها: ما له علاقة بتكوينه الشخصي، ومنها: متعلق بأسرته وبيئته ونشأته، ومنها: أمور مُكتَسَبة، وقبلها وبعدها:" توفيقٌ وإلهامٌ من الله - سبحانه وتعالى –"، فهو ذو مشاركات في كلِّ علوم عصرِه، وله مشاركات في شتَّى أمور الحياة؛ حيث كان له دورٌ بارز في نهضة الأمَّة؛ فهو نسيجُ وحدِه، وهو رجل الدهر، وقد جعلتُ الكلام على العوامل المؤثِّرة في عبقريَّته ونبوغه كالتالي:

1 - إخلاصه في طلب الحق وتبليغه:
الإخلاص عملٌ قلبي؛ فلا يَعلَم ما يدور في القلوب إلا علاَّم الغيوب، ولكن هناك أمارات يَتعرَّف الإنسان من خلالها على إخلاص شخصٍ ما، فيظهر فيها الْتزامُه بما يقول دون التِفاتٍ لتَحصِيل حُطام دنيوي فانٍ؛ بل يفعل ابتِغاء وجه الله - تعالى – ومنها: البعدُ عن الأمور المتعلِّقة بالهوى والشهوة والحسد، بل إنَّه إنْ رأى نعمةً على غيره برَّك عليه، وهذا شأن المسلمين مع بعضهم.
ومنها: الجرأةُ في الحق، متعاليًا على ما يعقب ذلك من عواقب، في نظر قِصار النظر تكون كبيرةً، وعند ذي الهمَّة العالية تكون صغيرة، فالمؤمن يَراه حقًّا عليه تجاه دينه، وإرضاءً لربه خالقه، واتِّباعًا لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ورفعةً لشأنه، ومن أجلها: بذل الغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الله، والتضحية ببذل النفس والمال والولد، فضلاً عن المنصب والجاه،"وقد آتى الله ابنَ تيميَّة أكبر حظٍّ من الإخلاص، فقد أخلَص لله في طلب الحقيقة فأدرَكَها، وأخلَص في نُصرَة الحق في هذا الدِّين، فلم يقبضه إليه حتى ترك دَوِيًّا في عصره، وتناقلَتْه الأجيال من بعده، وكلُّ مَن يقرَؤُه يلمَس نور الحقيقة ساطعًا ممَّا يقرأ؛ لأنَّه يجد حرارة الإيمان بيِّنة قويَّة لا تحتاج إلى كشف"[2].
ومن أمارات ذلك: أن يجعل المسلم نصبَ عينيه الإخلاص؛ وهو: "أن تكون العبادة لله وحدَه، وأن يكون الدِّين كلُّه لله... وأن تكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، وألاَّ يتوكَّل إلا عليه، ولا يُستعان إلا به"[3].
والناظر في حياة هذا الإمام: يجد له فيها أمثلةً رائعةً صارت مضرب الأمثال في الإخلاص العملي، ولِتكرُّر فعله تناقَلَه العلماء قبل العامَّة،"وقد تجلَّى إخلاصُه في أمورٍ أربعة: أظلَّت حياته كلها، فما كان يخلو منها دَورٌ من أدوار حياته؛ ممَّا جعَلَنا نُؤمِن بأنَّ هذا العالِم الجليل عاشَ دهرَه كلَّه مُخلِصًا لله العلي العليم ولدينه الكريم:

أولها: أنه كان يُجابِه العلماء بما يُوحِيه فكره، يُعلِنه بين الناس بعد طول الفحص والدِّراسة، خصوصًا ما يكون مُخالِفًا لما جرى عليه مألوف الناس وعُرِف بينهم.

الأمر الثاني: جهادُه في سبيل إظهار الحقِّ ولو بالسيف إن كان خصمه يحمل سيفًا، كما حمَل السيفَ على التتار، وكذلك في فتح عكا، والقضاء على المعتَدِين من سكَّان الجبال بالشام.

الأمر الثالث: تبرُّؤه من الأغراض والهوى والمُحاسَدة والمُباغَضة؛ بل اشتهر عنه عفوُه عمَّن أساء إليه، أمَّا تبرُّؤه من الأغراض والهوى، فيدلُّ عليه: أنَّه لمَّا أظهَر الله أمرَه للسلطان، دَعاه وأَراه فتوى لبعضٍ ممَّن تكلَّموا فيه بسوءٍ واستَفتاه في قتلهم، فأثنى عليهم كما ذكر ذلك هو بنفسه؛ إذ قال: "إنَّ السلطان لمَّا جلَس بالشباك أخرَج فتاوى لبعض الحاضِرين في قتله، واستفتاني في قتل بعضهم، ففهمت مقصوده، وأنَّ عنده حنقًا شديدًا عليهم؛ لما خلعوه وبايعوا الملكَ المظفَّر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأنَّ هؤلاء لو ذهبوا لم تجد دولتُك مثلهم، وأمَّا أنا، فهم حِلٌّ من حقِّي ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم".[4].
فلم يستغلَّ وينتَهِز فرصةَ غضب السلطان عليهم لينتَقِم لنفسه؛ بل دافَع عنهم، حتى قال القاضي:" زين الدين بن مخلوف": قاضي المالكيَّة بعد ذلك: "ما رأينا أتقى من ابن تيميَّة؛ لم نُبْقِ ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنَّا! ".[5].
فهذا الموقف يُنبِئ عن صدقٍ مع الله وإخلاصٍ، وكذلك له موقفٌ آخَر من الصوفيَّة حينما آذوه، بل تعدوا عليه بالضرب، فلمَّا علم بذلك بعضُ مُحِبِّيه من الحسينيَّة جاؤوا لنصرته،" وقال له بعضهم: يا سيِّدي، قد جاء خلقٌ من الحسينيَّة، لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلَّها لفعلوا، فقال لهم الشيخ: لأيِّ شيء؟، قالوا: لأجْلك، فقال لهم: هذا ما يجوز، قالوا: فنحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذَوك فنقتلهم ونخرِّب دورهم؛ فإنهم شوَّشوا على الخلق، وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم: هذا ما يحلُّ... فلمَّا أكثروا في القول قال لهم: إمَّا أن يكون الحقُّ لي أو لكم أو لله؛ فإن كان الحق لي، فهم في حلٍّ، وإن كان لكم، فإن لم تسمَعُوا مِنِّي، فلا تستفتوني وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله، فالله يأخذ حقَّه كما يشاء وإن شاء"[6].
وعندما اقتَربت وفاة الشيخ: استَأذن وزير دمشق على الشيخ، وأخَذ يعتَذِر له عمَّا فعَلَه معه من تقصير أو غيره، فقال له: "إنِّي قد أحللتك وجميعَ مَن عاداني، وهو لا يعلم أنِّي على الحق، وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان المعظَّم من حبسه إيَّاي؛ لكونه فعل ذلك مقلِّدًا غيرَه معذورًا، ولم يفعله لحظ نفسه؛ بل لِمَا بلغه ممَّا ظنَّه حقًّا من مبلغيه، والله يعلم أنَّه بخلافه، وقد أحللت كلَّ أحدٍ ممَّا بيني وبينه، إلا مَن كان عدوًّا لله ورسوله"[7].
بل إنَّه قال في آخِر أيَّامه: "أنا لا أكفِّر أحدًا من الأمَّة، ويقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))[8]، فمَن لازَم الصلوات بوضوء، فهو مسلم"[9].

الأمر الرابع: زهده عن المناصب وكلِّ زخرف الدنيا وزينتها؛ فلم يطلب ولم يتولَّ منصبًا، ولم يُنازِع أحدًا في رياسة؛ بل كان المدرِّس الواعظ الباحث؛ ولذلك عاش فقيرًا، وكان يكتَفِي من الطعام بالقليل، ومن الثياب بما يستر العورة، مع التجمُّل من غير طلبٍ للثمين، وكان يتصدَّق بأكثر رزقه الذي يجري عليه"[10].

فهذه أحوالٌ للشيخ تُضِيء لنا بعضَ جوانب إخلاصه، وتدلُّ على مَدَى تطلُّعه لما عند الله، فكلُّ حياته مِحَن وابتِلاءات، وهذه سماتُ مَن يدعو إلى الله - تعالى -.

يتبع بإذن الله.

  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
24-11-2016, 10:41 AM
2 - تجرُّده في دعوته:
إنَّ صفاء قلبِ المؤمن من شوائب الشهوات، ومن أكدار الشبهات، ومن تمنِّي أذيَّة الخلق - لَخُلُقٌ كريم دعا إليه الإسلامُ؛ ولكن هذا الخُلُق يصبح أمرًا عجبًا حينما يتمكَّن المظلوم ممَّن ظلَمَه، ولكنَّه يُقابِله بالعفو والإحسان، كما حدَث من الشيخ رحمه الله؛ فإنَّه لمَّا أظهَرَه الله على عدوِّه، ما فعل شيئًا يُؤذِيهم، ولا استغلَّ الموقف لصالحه؛ بل فعَل ما أملاه عليه دينُه، واحتَكَم إلى شرعِ ربِّه، فعفَا وصفَح، وهذا يدلُّنا على:"صَفاء قلبه، وإخلاصه في دعوته (وتجرُّده من كلِّ هوًى أو انتقام)، ولقد كثُر خصومُه، واشتدَّ عليه منهم الأذى، وبلغوا منه في محنته كلَّ مبلَغ، إلا أن يُسكِتوه عن قولة الحق جهيرة مسموعة، وكثيرًا ما تمكَّن من ردِّ عدوانهم عليه، ولكنَّه عفَا عنهم، ولم يؤذِ أحدًا منهم، بل إنَّه كان يُدافِع عنهم الأعذار (لعلها: ويلتمس لهم الأعذار)"[11].
وفعلُه هذا هو فعلُ الصدِّيقين، وقد حكَى لنا القرآن الكريم قصَّة سيدنا يوسف - عليه السلام - وما فعَلَه إخوتُه معه وهو صغير، ثم لمَّا قدر عليهم عفا عنهم؛ قال - تعالى - حاكيًا قولَ يوسف - عليه السلام - لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف: 92)[12].
وبمثل فعل يوسف - عليه السلام - فعَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع قومه في فتح مكة المكرَّمة، حينما عفا عنهم وسامحهم، ولم ينتَقِم منهم مع قدرته على فعل ذلك، "ولا شكَّ أنَّ هذا من أرفع ما عُرِف في أخلاق الدُّعاة إلى الله - تعالى - وهو خُلُقٌ (ربَّى الله عليه رسلَه كما) ربَّى عليه سيدُنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطليعةَ من الرَّعِيل الأوَّل، الذين سبَقُوا إلى الإسلام، واحتملوا الأذى في سبيل عقيدتهم وإيمانهم"[13].
ومن ملامح تجرُّد الإمام ابن تيميَّة رحمه الله: أنَّه اشتهر عنه لدى الخاصَّة والعامَّة: الزهدُ والوَرَع؛ وذلك أنَّه:"ما خالَط الناسَ في بيعٍ ولا شراء، ولا معاملة ولا تجارة، ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة، ولا كان ناظرًا مُباشِرًا لمالِ وقفٍ، ولم يكن يقبَل جرايةً ولا صلةً لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مُدَّخِرًا دِينارًا ولا دِرهمًا، ولا متاعًا ولا طعامًا؛ وإنما كانت بضاعته مُدَّة حياته وميراثه بعد وفاته - رضي الله عنه - العلم؛ اقتداءً بسيِّد المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين - فإنَّه قال:" إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورثوا العلم، فمَن أخذ به، فقد أخَذ بحظٍّ وافر".[14][15].
وهذه أحوال العلماء العامِلين الموصوفين بالربَّانيَّة، والذين كرَّسوا كلَّ حياتهم للعلم: تعلُّمًا وتعليمًا ودعوة، سواء كانوا أئمَّة للدِّين، أو قضاة، أو من أهل الفُتيَا، أو من الخُطَباء والمؤذِّنين، فهؤلاء الربَّانيون لم يكتَرِثوا بزخارف الدنيا، وحُقَّ لهم ذلك؛ فهم: حمَلَة الشريعة، وهو أمرٌ يَعرِفه كلُّ مَن له أدنى اطِّلاع بأحوال ذلك الصِّنف من الناس عبر السنين، وقد عقَد العلاَّمة ابن خلدُون رحمه الله في:"مقدمة تاريخه" فصلاً بعنوان: "في أنَّ القائمين بأمور الدين من القضاء والفُتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك: لا تعظم ثروتهم في الغالب... "، ثم علَّل بعضَ أسباب ذلك قائلاً: "وأهل هذه الصنائع الدينيَّة لا تضطرُّ إليهم عامَّة الخلق؛ وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواصُّ ممَّن أقبَلَ على دينه... وهم أيضًا لشرف بضائعهم؛ أعزَّة على الخلق وعند نفوسهم، فلا يَخضَعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظًّا يستدرُّون به الرِّزق؛ بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك؛ لما هم فيه من الشغل بهذه البضائع الشريفة المشتَمِلة على إعمال الفكر والبدن؛ بل لا يسعهم ابتذالُ أنفسهم لأهل الدنيا؛ لشرف بضائعهم، فهم بِمَعزِلٍ عن ذلك؛ فلذلك لا تَعظُم ثروتهم في الغالب"[16].
والتقلُّل من الدنيا هو: سَمْتُ العلماء الربانيين المصلِحين ذوي الهِمَم العالية؛ لأنهم أَوْلَى الخلق بالتقلُّل من زخارف تلك الدنيا، بما لا يضرُّهم في دينهم، أو يكدِّر عليهم صفوَ حياتهم[17].
ومن تجرُّدِه أيضًا رحمه الله: "ما جمَعَه الله له من الزهادة والوَرَع والدِّيانة، ونصرة الحق والقِيام فيه، لا لغرضٍ سواه"[18]، وفي سائر تَآلِيفه: كان يَطلُب الحقَّ، ويدور مع الدليل حيث دار، و:" ليس له مصنَّف ولا نصٌّ في مسألة ولا فتوى: إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليلُ النقلي والعقلي على غيره، وتحرَّى قول الحق المحض، فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة: يثلج قلبه بها، ويجزم بأنها الحق المبين"[19].
فالحق غايته، والصواب مرامه، " وإذا نظَر المنصِف إليه بعين العدل: يَراه واقِفًا مع الكتاب والسُّنَّة، لا يُمِيلُه عنهما: قولُ أحدٍ كائنًا مَن كان، ولا يُراقِب أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا، ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحدٍ"[20]؛ وإنما:"كان مقصوده وهمُّه الوحيد: خدمةَ الدين، فهو لا يقصد من وراء ذلك شهرةً ولا استعلاءً؛ ودليل ذلك أنَّه قد نذَر حياته كلَّها لخدمة الدِّين، فلم يخلف مالاً، ولم يُعقب ولدًا؛ بل ترَك ثروة علميَّة"[21].
وظهَر من تجرُّده: أنَّه دعا المصلِحين والدُّعاة والأُمَراء إلى التجرُّد في دعوتهم، فقال: "فمَن كان من المُطاعِين - من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك - مُتَّبِعًا للرُّسل، أمَر بما أمَرُوا به، ودعا إلى ما دعَوا إليه، وأحبَّ مَن دعا إلى مثل ما دعَوا إليه؛ فإنَّ الله يحبُّ ذلك، فيحب ما يحبُّه الله - تعالى - وهذا قصدُه في نفس الأمر: أن تكون العبادة لله - تعالى - وحدَه، وأن يكون الدين كلُّه لله، وأمَّا مَن كان يَكرَه أن يكون له نظيرٌ يدْعو إلى ذلك، فهذا يطلب أن يكون هو المُطاعَ المعبود، فله نصيبٌ من حال فرعون وأشباهه... فالمؤمن المتَّبِع للرُّسُل يأمر الناس بما أمرَتْهم به الرسل؛ ليكون الدين كلُّه لله لا له، وإذا أمَر أحدٌ غيرُه بمثل ذلك: أعانَه وسُرَّ بوجود مطلوبه، وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يُحسِن إليهم ابتغاءَ وجه ربِّه الأعلى، ويعلَم أنَّ الله قد مَنَّ عليه بأنْ جعَلَه مُحسِنًا، ولم يجعله مُسِيئًا، فيرى عمَلَه لله، وأنَّه بالله"[22].
وهذا حال المؤمن الداعي إلى الله على بصيرةٍ؛ إذ إنَّه يُرِيد الوصولَ إلى الحق، "ومن دلائل إخلاصِه في الوصول إلى الحقِّ، وأنَّ القصد ليس هو الغلبةَ والانتِصار على الخصوم: أنَّنا نجده -أي: الإمام ابن تيميَّة رحمه الله- لا يرحِّب بِمَن شارَكَه في الردِّ على خصومه من المبتدِعة ببدعةٍ وبباطل، فالغاية الشريفة: لا تبرِّر الواسطة المحرَّمة؛ لهذا ردَّ على قومٍ من المتأخِّرين أرادوا أن يُدافِعوا عن الحق، ويرفعوا تأويلات أهل البِدَع للمتشابه، ولكنَّهم أخطؤوا، يقول: "(وهذا الذِي قصَدُوه حقٌّ)، وكلُّ مُسلِمٍ يُوافِقهم عليه، لكن لا ندفع باطلاً بباطلٍ آخر، ولا نرد بدعة ببدعة[23]". [24].
والإمام ابن تيميَّة رحمه الله: لم يكن يدعو لحزبٍ سياسي أو فقهي، ولم تكن مِحَنُه هذه ليُصبِح في نهاية المطاف زعيمًا أو مسؤولاً أو شيخًا لطريقة ويفرح بكثرة الأتباع!!؟؛ بل لنصرة الحق وحدَه حيث كان، وجعَل الموالاة والمعاداة في الله ولله وبالله، وقد ذمَّ هو نفسُه مَن ينتَسِبون إلى شيخٍ يُوالُون عليه ويُعادُون، فقال: "وليس لأحدٍ أن ينتَسِب إلى شيخٍ يُوالِي على مُتابَعته ويُعادِي على ذلك؛ بل عليه أن يُوالِي كلَّ مَن كان من أهل الإيمان، ومَن عُرِف عنه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمَزِيد مُوالاَة إلاَّ إذا ظهَر له مزيدُ إيمانِه وتَقواه، فيقدِّم مَن قدَّم اللهُ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويفضِّل مَن فضَّلَه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -"[25].
وقال أيضًا: "وليس للمعلِّمين أن يُحَزِّبوا الناس، ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء؛ بل يكونون مثل الإخوة المتعاوِنين على البر والتقوى... وإذا وقَع بين معلِّم ومعلِّم، أو تلميذ وتلميذ، أو معلِّم وتلميذ - خصومةٌ ومشاجرة: لم يَجُزْ لأحدٍ أن يُعِين أحدَهما حتى يعلَم الحقَّ، لا (فلا يعاونه) بجهل ولا بهوى... ومَن مالَ مع صاحبه سواءً كان الحق له أو عليه، فقد حكَم بحكم الجاهليَّة، وخرج عن حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والواجب على جميعهم: أن يكونوا يدًا واحدة مع المُحِقِّ على المُبطِل، فيكون المعظَّم عنده (عندهم) مَن عظَّمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمقدَّم عندهم مَن قدَّمَه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمُهان عندهم مَن أهانه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بحسب ما يُرضِي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا بحسب الأهواء؛ فإنَّه مَن يُطِع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد رشد، ومَن يعصِ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه لا يذلُّ إلا نفسه"[26].
وقال: "ومَن حالَف شخصًا على أن يُوالِي مَن والاه ويُعادِي مَن عاداه، كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان"[27].
ويُظهِر تجرُّدَه كذلك في دعوته: أنَّه لا يرجو منصبًا، ولا يرنو إلى جاه، ولا يبغي عَرَضًا زائلاً؛ بل كان يدْعو إلى الله ابتِغاءَ مرضاته، ولمع ذلك التجرُّد أنَّه:"لما وَشَوْا به إلى السلطان الأعظم وأحضروه بين يديه، قال من جملة كلامه: "إنَّني أُخبِرت أنَّك قد أطاعك الناس، وأنَّ في نفسك: أخْذَ الملك"، فلم يكتَرِث به؛ بل قال له بنفسٍ مطمئنَّة، وقلب ثابت، وصوت عالٍ، سمِعَه كثيرٌ ممَّن حضر:" أنا أفعل ذلك!!؟، والله إنَّ ملكك وملك المغول: لا يساوي عندي فلسَيْن"[28].
بل عُرِضت عليه الولاية والإمارة من ملك التتر، فردَّها؛ حيث عرَض عليه غازان بعد لقائه معه قائلاً له: "إن أحببت أن أعمِّر لك بلد آبائك حران[29]، وتنتَقِل إليه ويكون برسمك، فقال: لا واللهِ، لا أرغب عن مهاجر إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وأستَبدِل به غيره"[30].

يتبع بإذن الله.
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
30-11-2016, 03:52 PM
3 - حافظته القويَّة الواعيَة:
لقد وهَب الله - سبحانه - آل تيميَّة ذاكرةً واعِيَةً، لكن خرقت العادة مع شيخ الإسلام الإمام ابن تيميَّة رحمه الله؛ حيث عُرِفَ عنه: الحفظ وبطء النسيان، و:"إنَّ المكانة الاجتِهاديَّة في العلوم الإسلاميَّة التي أحرَزَها شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في عصره، وإنَّ التأثير العميق الذي خلَّفَه على أهل زمانه؛ لإمامته في التفسير والحديث معًا، وتبحُّره ونبوغه في العلوم - إنما كان الفضل الأكبر في ذلك يَرجِع إلى ذاكرته النادرة، وذكائه المفرِط، وكلُّ ذلك نعمةٌ أكرَمَه الله بها، وموهبةٌ اختصَّه بها"[31].
وهذه الذاكرة الحديديَّة قد عُرِف بها منذ صِباه، و:"كانت ذاكرته حديثَ زملائِه من الفتيان؛ بل تجاوَز صِيتُه دائرةَ الصِّبيان إلى دائرةِ الرِّجال، وتسامعت دمشق وما حولها بذكائه ونبوغه"[32]، يوضح هذا:"أنَّ بعض مشايخ حلب قَدِم إلى دمشق وقال: سمعت في البلاد بصبيٍّ يقال له: أحمد ابن تيميَّة، وأنَّه كثير الحفظ، وقد جئتُ قاصدًا لعلِّي أراه، فقال له خيَّاط: هذه طريق كُتَّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمرُّ ذاهبًا إلى الكتَّاب، فلمَّا مرَّ قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ وأخَذ منه اللوح، وكتَب من متون الحديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن نظر فيه مرَّة بعد كتابته إيَّاه، ثم دفَعَه إليه وقال: أسمِعْه عليَّ، فقرَأَه عليه عرضًا كأحسن ما يكون، ثم كتَب عدَّة أسانيد انتخَبَها، فنَظَر فيه كما فعَل أوَّل مرَّة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إنْ عاش هذا الصبيُّ: ليكوننَّ له شأنٌ عظيم؛ فإنَّ هذا لم يُرَ مثلُه، فكان كما قال"[33].
وقد علَّق أحد العُلَماء على هذه القصة بقوله: "وتبدو القصة عارية عن المبالغة، بعيدة عن الغلو، فإنَّه ممَّا تضافرت به الأخبار عن الإمام مالك[34]: أنَّه كان يستَمِع من ابن شهاب[35] بضعة وثلاثين حديثًا، ثم يتلوها في الجلسة، ومنها حديث السقيفة، وإن كان ثمَّة فرق بين العصرين؛ فعصر مالك كان عصر حفظ، الاعتِماد فيه على الذاكرة لا على الكتب، ومن شأن ذلك أن يقوِّي الحافظة ويرهفها؛ لأنَّ من المقرَّرات المستمدَّة من الاستِقراء: أنَّ العضو الذي يَكثُر عملُه يقوَى ويشتدُّ، أمَّا عصر ابن تيميَّة فكان عصر التدوين والتسطير والكتابة، وليس من شأنه أن يقوِّي الحافظة؛ للاعتِماد على السطور دون ما في الصدور، ومهما يكن، فمن الثابت أنَّ ابن تيميَّة - رضي الله عنه - قد آتاه الله ذاكرة واعِيَة منذ صِباه... ويظهر أن قوَّة الذاكرة قد ورثها ابن تيميَّة عن أسرته، (فجدُّه مشهورٌ بقوَّة الذاكرة وسرعة البديهة)، كما أنَّ أباه قد كان يمتاز بأنَّه يُلقِي دروسَه في الجامع الأكبر بدمشق غير مُعتَمِد على كتاب"[36].
وهذه الذاكرة المتوقِّدة قد شَهِدَ له بها المُخالِف قبل الموافِق، وهذا أمرٌ معروف ومشهور في حياته منذ صِباه حتى موته، فقوَّة الذاكرة وحدَّتها تميِّز العالِم العبقري عن غيره من العلماء؛ إذ إنَّه يحتاج إلى أدلَّة ونُقُول، كما يحتاج إلى سرعة استحضار للآيات، وانتِزاع الأحكام من متون الحديث باختِلاف رواياته، فضلاً عن أقوال الأئمَّة.
وهذه الذاكرة التي وُصِف بها الإمام ابن تيميَّة، تؤكِّدها المُناظَرات التي حدَثَتْ له مع كِبار علماء عصره، حتى عجبوا من قوَّة حفظه وسرعة استِحضاره للعلوم، إضافةً إلى ذلك العلماء الذين أرَّخُوا حياته ذكَروا أنَّه قلَّ أنْ سمع شيئًا إلاَّ حَفِظَه، مع قوَّة الإدراك، وبطء النسيان[37]؛ بل إنَّه:"كان يمرُّ بالكِتاب مطالعة مرَّة، فينتقش في ذهنه، وينقله في مصنَّفاته بلفظه ومعناه"[38].
والبديهة الحاضرة والذاكرة القويَّة من أقوى الحجج التي تُبهِر الخصوم، وكان إذا أراد بدء الدرس، فبعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم - "يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، فنون، (وفنون ونقول) واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء، واستِشهاد بأشعار العرب وربما ذكر اسم ناظمها، وهو مع ذلك يَجرِي كما يجري السَّيل، ويفيض كما يفيض البحر"[39].
وهذا يدلُّ على مدَى استِحضاره للعلوم، فيُخرِجها منظومةً مُتَراصَّة، مع إتقانٍ في النقل كأنما ينظر إلى كتاب، "ولهذه الصفة كان خصوم ابن تيميَّة يتهيَّبون لقاءه، ومَن لا يعرفها فيه ويغترُّ بحجته إذا لقيه، كان عبرة المعتَبِرين"[40].
وهكذا يُسخِّر الله - سبحانه - لدينه مَن يشاء، ويهب لِمَن يشاء من عباده صفاتٍ لنصرة الدين، وليكونوا عبرة للمُعتَبِر.
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
06-12-2016, 02:56 PM
4 - عمق تأمُّلِه:
إنَّ مؤلَّفات شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله العديدة المتنوِّعة: خيرُ دليلٍ يُرشِد إلى عمق تأمُّله؛ فهو: رافع راية العلماء، وحامل علمهم، وناقلُه بعينٍ فاحصة بصيرة، فهو ليس مجرَّد ناقِل للعلوم؛ بل إنَّه خبيرٌ بما يقرَأ، حريصٌ على نشر ذلك التُّراث الزاخِر بين أفراد الأمَّة، وممَّا يدلُّ على عمق تأمُّله للعلوم: أنَّه ينقل المسائل الكِبار، والتي اختَلَف فيها العلماء، فيُورِد أدلَّة هؤلاء وهؤلاء، ثم يرجِّح ويُوازِن بينهما بإنصافٍ كما تقتَضِيه الصناعة العلميَّة، وهو قد اجتَهَد في كثيرٍ من المسائل في شتَّى الموضوعات، وكان له فيها القدح المُعلَّى؛ بل قد وصَل إلى سُدَّة الأمر فيها، فالقارئ لكُتُبه: يجد هناك أصولاً وقواعدَ وضَعَها لضبْط بعض المسائل، كما يجد هناك اختيارات له توصَّل إليها دون تقليدٍ لأحد؛ بل بما عنده من علم، فمنها ما وافَق بعض الأئمَّة، ومنها: ما وافَق صحابةً أو تابعين رضي الله عنهم، كما أنَّ منهجيَّته في تَآلِيفه وتنوُّع الأجوبة والرسائل والوسائط الدعويَّة: خيرُ دليلٍ على سَعَةِ علمه، وهذه الأمور وغيرها مُتناثِرة في كتبه وكتب مَن ينقل عنه تَناثُرَ الدرِّ، ومن الأمور الدالَّة على بُعْدِ نظَرِه وعُمْقِ تفكيره: أنَّه لا يأتيه مُبطِلٌ بأدلَّة يُرِيد بها إثباتَ باطِلِه، إلا ردَّ عليه من نفس أدلَّته، وجعَلَها حُجَّة عليه، كما حكى ذلك الإمامُ ابن القيِّم رحمه الله بقوله: "وقال لي: أنا ألتَزِم أنَّه لا يحتجُّ مُبطِلٌ بآية أو حديث صحيح على باطله، إلاَّ وفي ذلك الدليلِ: ما يدلُّ على نقيضِ قوله"[41].
ومن خِلال كلماته هذه تظهَر لنا:"قوَّته في تفجير دلالات النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها"[42].
ومن الأمور التي اجتَهَد فيها وأظهَرَها: فطرُ الجنود في رمضان عند مُلاقاة العدوِّ؛ حيث أمَر المسلمين المجاهدين بالفِطْرِ في رمضان لقِتال العدو، وأفطَرَ هو بنفسه، وأخَذ يمرُّ بين الصُّفوف ليَراه الجنود، وقال: "هذا فطرٌ للتقَوِّي على جِهاد العدو..."، وقال:" والمسلمون إذا قاتلوا عدوَّهم وهم صِيامٌ لم يمكنهم النِّكاية فيهم، وربما أضعَفَهم الصومُ عن القتال، فاستباح العدوُّ بيضة الإسلام..."، ثم قال:" وهل يشكُّ فقيهٌ: أنَّ الفطر ها هنا أَوْلَى من فطر المسافر؟! "[43].
وممَّا يدلُّ على مدى عمق فِكرِه اللغوي:" أنَّه يربط بين الأسماء والمسمَّيات، فإذا ورد عليه لفظٌ: أخَذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفيَّة تركيبه"، حكى ذلك الإمامُ ابن القيِّم رحمه الله[44].
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
14-12-2016, 03:17 PM
5 - حضور بديهته:
وهي كغيرها: هبَةٌ من الله - عز وجل - يُعطِيها مَن يشاء، وحضور البديهة: دليلٌ على حِدَّة الذكاء مع قوَّة الذاكرة، وحسن التصرُّف في أحْلَك الظُّروف وأحرجها، وهي: دليلُ الفصاحة وحسن البيان مع الإيجاز دون كلفة؛ بل تَخرُج من قائلها تلقائيًّا دون سابِق إعداد، وقد أُوتِي شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله منها حظًّا وافرًا، وبَدَأت تظهَر هذه النَّجابة منذ صغره؛ حيث أسفَرَتْ عن حضور بديهته، فقد قال الإمام الذهبي رحمه الله: "حكى لي عنه الشيخُ شمس الدين ابن قيِّم الجوزيَّة قال: كان صغيرًا عند بني المنجا، فبحَث معهم، فادَّعوا شيئًا أنكَرَه، فأحضَرُوا النقلَ، فلمَّا وقَف عليه ألقَى المجلَّد من يديه غيظًا، فقالوا له: ما أنت إلا جَرِيء؛ ترمي المجلد من يدك وهو كتاب علم!، فقال سريعًا: أيهما خيرٌ: أنا أو موسى؟، فقالوا: موسى، فقال: أيما خير هذا الكتاب أو ألواح الجوهر التي كان فيها العشر كلمات؟، قالوا: الألواح، فقال: إنَّ موسى لمَّا غضب ألقى الألواح من يده، أو كما قال"[45].
"وحُكِي أنه كان قد شكا له إنسانٌ من قطلو بك الكبير، وكان المذكور فيه: جبروتٌ وأخذُ أموال الناس واغتصابها، وحكاياته في ذلك مشهورة، فلمَّا دخَل إليه الشيخُ وتكلَّم معه في ذلك، قال: أنا الذي كنتُ أريد أن أَجِيء إليك؛ لأنَّك رجل عالم زاهد، يعني: يستهزئ به (متهكمًا)، فقال له شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: قطلو بك، لا تعمل عليَّ دركواناتك (حيلك وألاعيبك)، موسى كان خيرًا مِنِّي، وفرعون كان شرًّا منك، وكان موسى كلَّ يوم يجيء إلى باب فرعون مرَّات، ويعرض عليه الإيمان"[46].
فسرعة بديهته قد عُرِف بها منذ صغره، ولازمَتْه حتى نهاية حياته، وقد ساعدت هذه البديهة السريعة في انسِياب مؤلَّفاته وتأصيل كلامه، وممَّا يَشهَد لذلك أنَّه:"سُئِل يومًا عن الحديث:" لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"[47]، فلم يزل يُورِد فيه وعليه، حتى بلغ كلامه فيه مجلدًا كبيرًا"[48]، واسم هذا المجلد: "إقامة الدليل على بطلان التحليل"، وهو: كتاب جليل القدر، عظيم الفائدة، وممَّا يدلُّ على سرعة بديهته الكتابيَّة، أنَّه:" لمَّا أُخِذ وسُجِن وحِيلَ بينه وبين كتبه، صنَّف عِدَّة كتب - صغارًا وكبارًا - وذكَر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء، وأسماء المحدِّثين والمؤلِّفين ومؤلفاتهم، وعزا كلَّ شيءٍ من ذلك إلى ناقِليه وقائِليه بأسمائهم، وذكَر أسماء الكتب التي ذُكِر فيها، وأي موضع هو فيها، كلُّ ذلك بديهةً من حفظه؛ لأنَّه لم يكن عنده حينئذٍ كتابٌ يُطالِعه، ونقَّبت واختبرت واعتَبرت، فلم يوجد فيها - بحمد الله - خللٌ ولا تغيُّر"[49].
هذا، إضافة إلى:" ما وهَبَه الله - تعالى - ومنَحَه به من استِنباط المعاني من الألفاظ النبويَّة والأخبار المرويَّة، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها، وما يترتَّب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكَر آية أو حديثًا وبيَّن معانيه وما أُرِيد به، أُعجِب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويُدهِشه ما سمعه أو وقف عليه منه"[50].
وقد عُمِلت[51] قصيدة من ثمانية أبيات على لسان ذِمِّيٍّ في إنكار القدر:امتِحانًا لعلماء العصر، وهي[52]:
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ *** تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةِ
إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ *** وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي
دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى *** دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي
قَضَى بِضَلاَلِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالْقَضَا *** فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي
فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيًا *** فَرَبِّيَ لاَ يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي
فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي *** فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حَيْرَتِي
إِذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً *** فَهَلْ أَنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ
وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ *** فَبِاللهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ عِلَّتِي

"فلمَّا وقَف عليها شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله ، فكَّر لحظة يسيرة وثنَى إحدى رجليه على الأخرى، وأجاب في مجلسه بديهةً، وأنشأ يكتب جوابها، وجعَل يكتُب ويظنُّ الحاضرون أنَّه يكتب نثرًا، فلمَّا فرغ تأمَّله مَن حضَر من أصحابه، وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيته"[53]، والتي جاوزت مائة بيت، منها[54]:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ *** مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ
فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلأَ الْعُلاَ *** قَدِيمًا بِهِ إِبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ
وَيَكْفِيكَ نَقْضًا أَنَّ مَا قَدْ سَأَلْتَهُ *** مِنَ الْعُذْرِ مَرْدُودٌ لَدَى كُلِّ فِطْرَةِ
وَهَبْكَ كَفَفْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ *** وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارِجٍ عَنْ مَحَبَّةِ
فَيَلْزَمُكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كُلِّ ظَالِمٍ *** عَلَى النَّاسِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ
وَلاَ تَغْضَبَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمًا *** وَلاَ سَارِقٍ مَالاً لِصَاحِبِ فَاقَةِ
وَلاَ شَاتِمٍ عِرْضًا مَصُونًا وَإِنْ عَلاَ *** وَلاَ نَاكِحٍ فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غَيَّةِ
وَلاَ قَاطِعٍ لِلنَّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِمْ *** وَلاَ مُفْسِدٍ فِي الأَرْضِ فِي كُلِّ وِجْهَةِ
وَهَلْ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَوْ فِي طِبَاعِهِمْ *** قَبُولٌ لِقَوْلِ النَّذْلِ مَا وَجْهُ حِيلَتِي؟
كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ *** وَكُلٌّ بِتَقْدِيرٍ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ
فَكُفْرُكَ يَا هَذَا كَسُمٍّ أَكَلْتَهُ *** وَتَعْذِيبُ نَارٍ مِثْلُ جَرْعَةِ غُصَّةِ
فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُجَابَ بِمَا عَسَى *** يُنَجِّيكَ مِنْ نَارِالإِلَهِ الْعَظِيمَةِ
فَدُونَكَ رَبَّ الْخَلْقِ فَاقْصِدْهُ ضَارِعًا *** مُرِيدًا لأَنْ يَهْدِيكَ نَحْوَ الْحَقِيقَةِ
وَأَمَّا رِضَانَا بِالْقَضَاءِ فَإِنَّمَا *** أُمِرْنَا بِأَنْ نَرْضَى بِمِثْلِ الْمُصِيبَةِ
كَسُقْمٍ وَفَقْرٍ ثُمَّ ذُلٍّ وَغُرْبَةٍ *** وَمَا كَانَ مِنْ مُؤْذٍ بِدُونِ جَرِيمَةِ
فَأَمَّا الأَفَاعِيلُ الَّتِي كُرِهَتْ لَنَا *** فَلاَ تُرْتَضَى مَسْخُوطَةً لِمَشِيئَةِ
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لاَ رِضًا *** بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ *** وَلاَ نَرْتَضِي الْمَقْضِيَّ أَقْبَحَ خَصْلَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةٍ *** إلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنُلْقِي بِسَخْطَةِ
فَنَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ *** وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابِ الْخَطِيئَةِ

وقد تَتابَع العلماء على ذكرها، ومنهم مَن شرحها لجلال قدرها، وممَّا يدلُّ على حضور بديهته: أنَّه قد جاءَتْه امرأةٌ تسأله سؤالاً، وهو[55]:
سؤال:
جَدَّتِي أُمُّهُ وَأَبِي جَدُّهْ *** وَأَنَا عَمَّةٌ لَهُ وَهْوَ خَالِي
أَفْتِنَا يَا إِمَامُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ*** وَيَكْفِيكَ حَادِثَاتِ اللَّيَالِي
الجواب:
رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَهُ أُمَّ بِنْتِهِ *** وَأَتَى الْبِنْتَ بِالنِّكَاحِ الْحَلاَلِ
فَأَتَتْ مِنْهُ بِالَّتِي قَالَتِ الشِّعْ *** رَ وَقَالَتْ لاِبْنِ هَاتِيكَ خَالِي

ففي هذه الأجوبة السريعة وحضور البديهة: دلالةٌ واضحةٌ على عبقريَّة هذا الإمام، وهذه الذاكرة التي تسعف صاحبها في إبانة رأيه وتوضيحه، كما أنها تُؤازِره في ترسيخ مفهومٍ يَوَدُّ إيصالَه للآخَرين، وهي: بمنزلة الرُّوح للبدن؛ حيث إنَّ العالم الإمام يحتاج إلى مَلَكة كي يبين أحكام الشريعة الغرَّاء على أكمل وجه؛ بل إنه ألَّف في قعدةٍ:"الحموية"، ألَّفها بين الظُّهرَيْن سنة 698هـ، وعمره سبع وثلاثون سنة، وألَّف بعض كتبه، وهو في السجن"[56]، ووصَفَه مَن رَآه من تلاميذه بقوله: " وقلَّ أنْ وقعت واقعةٌ وسُئِل عنها، إلاَّ وأَجاب فيها بديهةً بما بهر واشتهر"[57].
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
17-12-2016, 08:59 AM
6 - استقلاله الفكري:
لم يكن شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: أوَّلَ مَن عُرِف من آل تيميَّة بالعلم الشرعي؛ فهي: سلالةٌ يتوارَث رجالها العلم واحدًا تلوَ الآخَر، ومن هؤلاء وأشهرهم جَدُّه:( الإمام الشيخ: مجد الدين أبو البركات عبد السلام ابن تيميَّة) رحمه الله ، الذي عُرِف بالتضلُّع في العلوم الشرعيَّة، وكذلك كان والده:( الإمام الشيخ: شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم)[58]، وإنَّ نشأتَه العلميَّة الأولى المتمثِّلة في أسرته وبيئته، قد أكسبَتْه نبوغًا مبكِّرًا، وشَغَفًا وتعطُّشًا لدِراسَة علوم الشريعة وعلوم اللغة، إضافةً إلى كون دمشق كعبةَ القُصَّاد الطالبين للعلم الشرعي، ومع هذا فلم تقتَصِر دراسَتُه على مذهبٍ فقهي أو عقدي معيَّن؛ بل كان واسِعَ الاطِّلاع، متعدِّد المعرفة في شتَّى العلوم؛ ممَّا جعَلَه يترفَّع عن التقليد، ويَتسامَى عن التعصُّب لفئةٍ أو لشخص، إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشريعته الغرَّاء.
ومع هذه النشأة العلميَّة التي تربَّى في أحضانها، فإنَّه شبَّ عن الطوق، وتبحَّر في العلوم النقليَّة والعقليَّة، وقد وصَفَه إمامٌ من أئمَّة عصره صاحبه وتلميذه الإمام الذهبي بقوله: " وفاقَ الناس في معرفة الفقه واختِلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنَّه إذا أفتى لم يلتَزِم بمذهب؛ بل بما يقوم دليلُه عنده"[59].
وممَّا يميِّزه عن غيره من العلماء أنَّه:"يدرس كتاب الله وسنَّة رسوله وآثار السلف الصالح في أيِّ أمرٍ يَعرِض له أو يُسأَل عنه، فما يصل إليه يعتَنِقه ويدعو إليه، لا يهمُّه أخالَفَه الناس أم وافَقُوا، فهو ليس تابعًا لما يجري على ألسنة علماء عصره"[60].
فهو يجعل الدليل نصب عينَيْه، لا يَحِيد عنه قيد أنملة، وهذا الاستِقلال الفكري في البحث والإفتاء جعَلَه كالشامة بين أقرانه، وهذا الاستِقلال عنده في أصول الدين وفروعه، كما حكَى ذلك عن نفسه بقوله: "مع أنِّي في عمري إلى ساعتي هذه لم أدعُ أحدًا قطُّ في أصول الدين إلى مذهبٍ حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتَّفَق عليه سلف الأمَّة وأئمَّتها، وقد قلت لهم غير مرَّة: أنا أُمهِل مَن يُخالِفني ثلاثَ سنين إنْ جاء بحرفٍ واحد عن أحدٍ من أئمَّة القرون الثلاثة يُخالِف ما قلتُه"[61].
وقوله هذا، إنما يدلُّ على أنَّ:" المسلم المتعلِّم إنما يكون مسلمًا متعلِّمًا بالاستِقلال في العقيدة الدينيَّة، ولا يجوز للمسلم تقليدَ غيره من المسلمين في العقيدة، فما ظنُّك بتقليد غير المسلمين!؟ "[62]، هذا بالنسبة للفرد العادي، فما بالنا بإمامٍ للمسلمين، يؤمُّ الخلق ويَهدِيهم إلى صراطٍ مستقيم، ويدلُّهم على استِقاء العقيدة من الوحي:[ الذي لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] [63]، والالتِزام بالكتاب والسنَّة هو: ما يدعو إلى الْتِزامه من جميع طبقات المجتمع، فهو يسير مع الدليل، فيجهر بما أدَّاه إليه اجتهاده، وهكذا يكون المجتهد، فإنَّه يصل إلى حكمٍ ما بعد دراسته للكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، ثم يؤدِّيه اجتهادُه إلى حكمٍ بعينه، سواء وافَق فيه إمامًا أو خالَفَه، فالذي جمع هذا وذاك هو: الدليلُ، كما قرَّره بنفسه؛ حيث يقول: "وكان يرد عليَّ من مصر وغيرها مَن يسألني عن مسائل في الاعتِقاد وغيره، فأُجِيبه بالكتاب والسنَّة وما كان عليه سلف الأمَّة"[64]، وقد أكَّد هو نفسُه مدى اتِّباعه ونبذه للتقليد؛ فقال: "كلُّ قائل إنما يُحتَجُّ لقوله لا به، إلا الله ورسوله"[65].
ذلك أنَّ أتباع المذاهب كانوا يرَوْن الدين بمنظارهم: هم، وبمفهومهم: هم، لا يرَوْن صوابًا إلا في اتِّباع إمامهم، فمَنَّ الله - تعالى - على الأمَّة الإسلاميَّة بذلك الإمام العظيم، وهذا وصفٌ لزمن التقليد وانتشار الأهواء، " فكان إصلاح هذا الوضع يحتاج إلى محدِّث فقيه، وأصولي ضليع، يكون قد استَعرَض ذخائر المكتبة الإسلاميَّة بأسْرها، ويستَحضِر الكتاب والسنَّة بحيث يُحيِّر الناس، كما يعرف الحديث بأنواعه وطبقاته معرفةً دقيقة تضطرُّ الناس إلى الاعتِراف بمكانته في صناعة الحديث، كما يكون له اطِّلاع تامٌّ على المذاهب الفقهيَّة الأخرى وفروعها، ويكون ذا قدمٍ راسخة في علوم اللغة وباع طويل فيها؛ حتى يؤهِّله للنقد والصيرفة في مجالها"[66].
وهكذا، فإنَّ هذه المقومات في هذا الإمام:"جعلَتْه يجدِّد أمرَ هذا الدين؛ ذلك لأنَّ غيرَه كان يَفهَم الأمور بعقل غيره، أو مأخوذًا بذلك العقل، أمَّا ذلك المجدِّد العظيم، فقد كان يَنظُر إلى الدين غير متأثِّر بتفكير أحدٍ، إلا بالكتاب والسنة وآثار الصحابة وبعض التابعين، وبذلك جدَّد أمرَ الإسلام: بأنْ أزال ما علق به من غُبار القرون، وردَّه إلى أصله الأوَّل جديدًا قشيبًا"[67]، وفعلُه هذا يتكرَّر مع كلِّ إمامٍ مجتهد مجدِّد لهذا الدين، هِجِّيراه وديدنه:" اتِّباع الدليل".
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
20-12-2016, 11:07 AM

7 - فصاحته وقدرته البيانيَّة:
توارَث آل تيميَّة الخطابةَ وحُسْنَ البيان؛ ممَّا جعَل الفصاحةَ مُلتَصِقة بهم التصاقَ الاسم بالمسمَّى، ومن أشهر مَن عُرِف عنهم الفصاحة وحسن البيان جدُّ شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله:( الإمام: مجد الدين عبد السلام ابن تيميَّة، ثم والده الإمام شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام، ثم ورثها عن آل تيميَّة الإمام تقي الدين أحمد ابن تيميَّة) رحم الله الجميع، وعلى هذا: أجمعَ مَن ترجم لهذا الإمام، أنَّه عُرِف بأنَّه كان:"خطيبًا مصقعًا تهتزُّ له أعواد المنابر، وجمع له الله - سبحانه وتعالى - بين فصاحة اللسان وفصاحة القلم؛ فكان مع قدرته الخطابيَّة كاتبًا تجرِي الحقائق على شِفاه بنانِه، كما تجري الألفاظ الجليَّة البيِّنة على لسانه، بما يُعجِز غيره عن كتابة مثله بالتروية والإمعان أيامًا"[68].
وهذا يدلُّ على أنَّه:"فصيح اللسان، قلمه ولسانه مُتَقارِبان"[69]، ومَن كانت هذه صفته البيانيَّة، مضافًا إليها سعة علميَّة نقليَّة وعقليَّة، جعلَتْه: "يتأهَّل للفتوى وهو دون العشرين سنة، والقيام بوظائف والده بعدَه، حيث درَّس بدار الحديث، ثم جلوسه مكانَ والده أيضًا بالجامِع على مِنبَر أيَّام الجُمَع لتفسير القرآن العظيم"[70]، وكان ذلك:"من حفظه، فكان يُورِد المجلس ولا يتَلعثَم، وكذا كان الدرس بتُؤَدةٍ وصوت جهوري فصيح"[71]، بأسلوب شائق رغم حضور كِبار القضاة والعلماء تلك الدروس، حتى عُرِف بأسلوبه الرشيق ذي الفوائد المتعدِّدة، "وذلك كلُّه مع عدم فكرٍ فيه أو رَوِيَّة، ومن غير تعجرف ولا توقُّف ولا لحنٍ؛ بل فيضٌ إلهي، حتى يبهر كلَّ سامعٍ وناظِر، فلا يَزال كذلك إلى أن يصمت"[72]، فإذا تكلَّم في مسألةٍ صار كالبحر المُتلاطِم؛ حيث تَتْبَعُ المعلومات غيرها، ويأتي عليها من كلِّ نَواحِيها: "حتى إنَّ مَن أَدمَن النظرَ في كتبه يعرف كلامه ولو لم يُنسَب إليه، فلجزالته وفخامته وقوَّته وإشراقه: تميَّز عن كلام غيره من العلماء، فليس فيه ضعفٌ، وليس فيه هشاشة، وليس فيه تصنُّع، وليس فيه تنطُّع ولا تكلُّف؛ بل تجد النُّصوع والقوَّة والتدفُّق والجلالة"[73].
ويُرجِع العلماء حدوثَ هذه الفَصاحة والقدرة البيانيَّة الفائقة إلى أمورٍ[74]:

منها: كثرة ترديده وقراءته وحفظه للسنَّة النبويَّة بعد حفظ كتاب الله - سبحانه - فإنَّ ذلك أمدَّه بطائفةٍ كبيرة من الألفاظ الجيِّدة المُنتَقاة، وكذلك صلاحه واتِّباعه للدليل، فأثَّر ذلك في كلامه حتى صارَتْ عباراته أخَّاذَة، يفيد منها الخطيب والواعظ، والمؤلِّف والمصنِّف، فوق أنَّ كثرة المعارك البيانيَّة أرهَفَتْ قواه، وعوَّدَتْه القولَ الارتجالي به، والانتِصار بالحجَّة من غير تحضير وتهيئة؛ فإنَّه حفظ كلَّ شيء قبل أن يتكلَّم أو يُجادِل أو يُناظِر.
وممَّا يلمع ذلك ويُؤكِّده: انتِشار أقوالِه وحفْظ العلماء لها، وكثرة تآليفه في شتَّى العلوم، وعندما يُناظِر مُبطِلاً، فإنَّه يُقارِعه ويردُّ عليه من نفس أدلَّته، ويجعله ينقَطِع ويرن إرنان الثاكلة، وقد:" نقَل عنه أهل السِّيَر أنَّه كان يحضر مجالس المناظرة، وتُعقَد له مناظرة مع خصومه ومُخالِفيه، فيأتي بما يبهر الألباب، ويعلو عليهم وينتَصِر بالحجَّة الدافعة والبيان الخلاَّب... حتى إنَّه ناظَر كثيرًا من الطوائف في حضور السلطان، وعلى مرأًى من الخاصَّة والعامَّة، فكان الحقُّ معه، وكان الله يُؤَيِّده؛ لأنَّه يُرِيد الحقَّ وحدَه، وقد ذكَر كثيرٌ من أهل التاريخ: أنَّ علماء الطوائف اجتمعوا له وهم في صفٍّ، وهو وحدَه في صفٍّ، وكان لا يكلُّ ولا يملُّ من المناظرة؛ بل كان يَستَدرِج مَن يُناظِره ويُحاوِره حتى يُوقِعه ويصرعه، كلُّ ذلك ومقصوده: أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كلُّه لله، وأن يكون الحقّ هو: المنتصِرَ في الأخير"[75].
وهذه القوَّة البيانيَّة والتعبيرات البلاغيَّة في المناظرة، لم تظهَر عليه في الكبر؛ بل ظهرت عليه منذ صغره، حكى ذلك تلميذُه الإمام الذهبي بقوله:
" وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيُناظِر ويُفحِم الكِبار ويأتي بما يتحيَّرون"[76].
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
21-12-2016, 03:08 PM
8 - شجاعته وجرأته في الحق:
إنَّ شجاعة شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: قد عرَفها كلٌّ من أهل الشام وأهل مصر، وانتشرت حتى عرفها الصغير والكبير؛ لما كان له من مشاركات عديدة ومواقف في صدِّ الطُّغاة والمُعتَدِين من التتار والنصارى ومن قُطَّاع الطُّرُق، وهذه المواقف تُنبِئ عن جرأةٍ في الحق مُنبَثِقة من شجاعته التي كانت على أرفع المستويات؛ ذلك أنَّه كان يرى: أن ثمَّة وشيجة تربط ما بين الشجاعة والاعتقاد، حيث إن كلاًّ منهما محله القلب؛ ولهذا يقول: " ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد، كما قال مَن قال من السَّلَف: صِنفان إن صلحوا صلح الناس: الأمراء والعلماء... ولهذا كانت السنَّة أنَّ الذي يصلِّي بالناس صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد صاحب الحديد"[77].
وقد سجَّل له التاريخ مواقفَ ومآثر ازدان بها، عرفها المُخالِف له قبل المُوافِق، ولمعت هذه الشجاعة وهو لا يزال في ريعان شبابه، ثم استمرَّت معه في مراحل عمره إلى أنْ فاضت روحُه إلى بارِئها، وهذه الشجاعة قد تنوَّعت، وكانت جرأته تارَة بالسِّنان حين مجاهَدة الأعداء ومقارعتهم، وتارَة بالكتابة واللسان، فيصدع بما يراه ويعتقده ويجهر به، ولا يعبأ بمخالفته لأحدٍ من الناس، أمَّا شجاعته بالسنان ومقارعة الأعداء، فكثيرةٌ شهيرة؛ منها ما تجلَّت حينما أغارت التتار وفرَّ علماء عصره خارِجَ دمشق مُتَّجِهين إلى مصر وغيرها؛ لأنَّ الناس ما عرفوا العلماء في عصره إلا:"عاكفين على القراءة قد أنحلتهم المقاعد، تَراخَتْ عليها عضلاتهم ومفاصلهم، يرَوْن قوَّة العالم كلها في فكره ورأسه... لذلك لما بلغهم أنَّ التتار قد أغارَتْ عليهم بركبها ورجلها وقضِّها وقضيضها، فرُّوا هارِبين إلى مصر مع مَن فرُّوا، أمَّا شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله، فقد كان في هذا طرازًا وحدَه، رأى أنَّ العلم والجنديَّة ليسا متباينَيْن ولا مُتضاربَيْن؛ فالعالم جندي عندما تحشد الشديدة، وسياسي عندما تدبر المكيدة... فعندما أغار التتار: لبث شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله في المدينة: يرتِّب أمورها، ويَسُوسُها بعد أن فرَّ ساستها ومديروها"[78].
وهكذا العلماء الربانيُّون يكونون في طليعة الجيش ليُواجِهوا الأعداء، مُوقِنين بالفوز بإحدى الحسنيَيْن، وهذا الإمام:"كان إذا ركب الخيل يتحنَّك ويَجُول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبِّر تكبيرًا أنكى في العدو من كثيرٍ من الفتْك بهم، ويخوض فيهم خوضَ رجلٍ لا يَخاف الموت... ولمَّا ظهَر السلطان غازان على دمشق المحروسة جاءَه ملك الكرج، وبذَل له أموالاً كثيرة جزيلة على أن يمكِّنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق، ووصَل الخبر إلى الشيخ، فقام من فوره وشجَّع المسلمين ورغَّبهم في الشهادة، ووعَدَهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف.
فانتُدِب منهم رجالٌ من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان (وكان ذلك سنة 699هـ)، فلمَّا رآهم السلطان قال: مَن هؤلاء؟، فقيل: هم رؤساء دمشق، فأَذِن لهم، فحضروا بين يديه، فتقدَّم الشيخ - رضي الله عنه - أولاً، فلمَّا رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدناه وأجلَسَه، وأخذ الشيخ في الكلام معه أولاً في عكس رأيِه عن تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين، وضمن له أموالاً، وأخبَرَه بحرمة دماء المسلمين، وذكَّره ووعَظَه، فأجابَه إلى ذلك طائعًا، وحُقِنت بسببه دماء المسلمين، وحُمِيت ذراريهم، وصِينَ حريمهم، وذلك لما أخَذ الشيخ يحدِّث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره، ويرفع صوته على السلطان في أثناء حديثه، حتى جثَا على ركبتيه، وجعل يقرب منه في أثناء حديثه، حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مُقبِل عليه بكليَّته، مُصغٍ لما يقول، شاخِص إليه، لا يعرض عنه، وإن السلطان من شدَّة ما أوقع الله في قلبه من المحبة والهيبة؛ سأل مَن يخصُّه من أهل حضرته: مَنْ هذا الشيخ!؟، وقال ما معناه: إني لم أرَ مثله، ولا أثبت قلبًا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقِيادًا منِّي لأحدٍ منه، فأخبر بما له وما هو عليه من العلم والعمل، ثم قال الشيخ للترجمان: قل لغازان: أنت تزعم أنَّك مسلم، ومعك قاضٍ وإمام وشيخ ومأذونون (ومؤذِّنون) - على ما بلغنا - فغزوتَنا، وأبوك وجدُّك كانَا كافرين وما عَمِلاَ الذي عملتَ؛ عاهَدَا فوفَّيا، وأنت عاهدتَ فغدرت، وقلت فما وفيت وجُرت"[79].
فقال كلمة الحق ولم يخفْ في الله لومة لائم، وواجَه هذا الطاغية بكلِّ جرأة، معتمدًا على ربه واثِقًا به بالنصر؛ لأنَّ الله ينصر مَن ينصر دينه وشرعة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فجهَر بكلمة الحق أمامَ ذلك السلطان، حتى قال بعض مَن حضر اللقاء: "لما حضروا مجلس غازان قدِّم لهم طعامٌ، فأكلوا منه إلا شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله ، فقيل له: لِمَ لم تأكل؟، فقال: كيف آكل من طعامكم وكله ممَّا نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس!؟، ثم إنَّ غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنَّه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجهادًا في سبيلك، فأن تؤيِّده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفطر (تفعل) به وتصنع - يدعو عليه - وغازان يؤمِّن على دعائه، ونحن نجمَع ثيابنا؛ خوفًا أن يقتل فنطرطر بدمه، ثم لما خرجنا من عنده، قلنا له: كدت أن تُهلِكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا!؟، فقال: وأنا لا أصحبكم، فانطلقنا عصبة وتأخَّر، فتسامعت به الخواتين (حريم الملوك) والأمراء، فأتوه من كلِّ فجٍّ عميق، وصاروا يَتلاحَقون به؛ ليتبرَّكوا برؤيته، فما وصَل إلا في نحو ثلاثمائة فارِس في ركابه، وأمَّا نحن فخرَج علينا جماعةٌ، فشلحونا"[80].
فصدَع بكلمة الحق، ولم يَخفْ من فتكٍ يحدُث له أو هلاك ما دام ينصر دينَ الله، ولم يهب ذلك السلطان، " حيث تجمُّ الأُسد في آجامها، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها؛ خوفًا من ذلك السبع المغتال، النمروذ المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيلة مُحتال؛ بل جلَس إليه، وأومأ بيده إلى صدره وواجَهَه"[81].
فحالُ هذا الإمام وسِيرته: تُنبِئ عن سريرته، كما ظهر ذلك جليًّا حين اقترب جند التتار من أبواب دمشق، وفرَّ كثيرٌ من كِبار البلد - حُكَّامًا وعلماء - ولكن عالمًا واحدًا بقي مع العامَّة فلم يفرَّ ولم يخرج؛ لأنَّ له قلبًا يَحُول بينه وبين الفِرار، حيث:" كان يدور كلَّ ليلة على الأسوار يحرِّض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط"[82].
ويدلُّ على شجاعته وثَبات قلبه وجُرأتِه: أنَّه "لما جاء السلطان إلى شَقْحَب - موضع قرب دمشق - (وكان ذلك سنة 702هـ) والخليفة، لاقاهما إلى قرن الحرَّة وجعل يثبِّتهما، فلمَّا رأى السلطان كثرةَ التتار قال: يا خالد بن الوليد!؟، فقال شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: قُلْ: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، وقال للسلطان: اثبُت فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يَتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قوله - تعالى -: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)[83]، فكان كما قال:"[84]، وأمرهم بالفِطْرِ اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح، بل إنَّه أفطر ومرَّ بين الصفوف؛ ليقتدوا به.
وتناقَل الناس أخبار شجاعته وإيثاره الموت على الحياة في سبيل الله، وممَّا اشتهر عنه أنَّه:" كان إذا حضَر مع عسكر المسلمين في جِهادٍ يكون بينهم واقيتهم، وقطب ثباتهم، وإن رأَى من بعضهم هلَعًا أو رقَّة أو جبانة، شجَّعه وثبَّته، وبشَّره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيَّن له فضل الجهاد والمجاهدين وإنزال الله عليهم السكينة، حتى وُصِف بأنَّه من أشجع الناس وأقواهم قلبًا، وكان يُجاهِد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم"[85].
حتى صارت:" بشجاعته تضرب الأمثال، وببعضها يتشبَّه أكابر الأبطال"[86]، فالعالم مجاهدٌ باللسان والسنان لا يفصل بينهما؛ بل هو أوَّل الملبِّين إذا نُودِي للجهاد؛ حيث إنَّ العالم أعلم من غيره بنصر الله وصدقِه وعدَه، وبفضل المرابطة في سبيل الله، ورفع الهمم المنحدرة إلى الحياة الدنيا، المتثاقلة إلى الأرض، وبكونه قدوةً للقوم؛ فينبَغِي أن يكون شُجاعًا حتى يتأسَّوْا به، " وحكى بعض حُجَّاب الأمراء قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء (مع الطغاة المعتدين على المسلمين) وقد تَراءَى الجمعان: يا فلان، أوقفني موقف الموت، قال: فسقتُه إلى مقابلة العدو - وهم مُنحدِرون كالبدر (كالسيل) تَلُوح أسلحتهم من تحت الغبار - وقلت له: هذا موقف الموت فدونَك وما تريد، قال: فرفع طرْفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرَّك شفتَيْه طويلاً، ثم انبَعَث وأقدَمَ على القِتال، وقد قيل: إنَّه دعا عليهم وأنَّ دعاءَه استُجِيب منه في تلك الساعة، قال: ثم حالَ القِتال بينَنا والالتِحام، وما عدت رأيته حتى فتَح الله ونصر، ودخَل جيش الإسلام إلى دمشق المحروسة، والشيخ في أصحابه شاكيًا سلاحه، عالية كلمته، قائمة حجَّته، ظاهرة ولايته، مقبولة شفاعته، مجابة دعوته، ملتمسة بركته، مكرمًا معظمًا، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمادحين له: أنا رجل ملَّة لا رجل دولة"[87].
فهذه بعض مَآثِر شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله الجهاديَّة، والتي تنمُّ على شجاعته وجرأته في الحق، سواء في الناحية العلميَّة والأدبيَّة، أو في الناحية القتالية الجهاديَّة السياسيَّة.
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
24-12-2016, 08:57 AM
9 - هيبته:
هيبة الإنسان عند الآخَرين إنما هي: عطيَّة من ربِّ العالمين يمنَحها مَن شاء من عِباده؛ فكم من ذي سلطان أو جاهٍ، أو مالٍ وعُدَّة وعَتاد، ولكن ليست له هيبة في قلوب الخلق - وإن خافوه لسطوته أو جاهه-؛ بل من الممكن لِمَن يراه أو مَن حوله: أن يزدروه؛ لأنَّه منغمس في غياهب الثَّرَى ويدَّعي أنه يُمسِك بالثريا!!؟، وهذا أمر معلوم ومُشاهَد، وعليه اتِّفاق الجنس البشري، والناس في هيبتهم وما أوتوه من قسط منها: مختلفون، فمنهم: مَن هيبته قاصرة على البيئة المحيطة به من أصدقائه وأحبَّائه ومعارفه، ومنهم: مَن يهابه ذوو السلطات، وهم العلماء الربانيُّون، ومنهم: مَن يهابه هؤلاء وهؤلاء؛ بل ويترقَّى إلى مستوىً أعلى حيث يهابه الأعداء، ومن هذا الصنف الأخير: شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله كما سجَّله التاريخ وتناقله الناس جيلاً بعد جيل، وإنما نال هذه المكانة، وتبوَّأ ذلك المنصب؛ بسبب تعظيمه لخالقه - سبحانه - حيث إنَّ القلب إن مُلِئ إجلالاً وتعظيمًا لله - عز وجل - تَضاءَلت سائر العظمات عند صاحب هذا القلب الذي لا يرى العظمة إلا في الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم في كلِّ مَن نصَر الشريعة الإسلامية، وبذلك يرى مَن دون الله كالذرِّ في قبضة مالك الملك، ولهذا، فيكون علمُه خالصًا ابتغاء وجه ربه - عز وجل - فلا يسعى لمنصب، أو يتطلَّع إلى جاه أو مال أو سلطان.
ولو أنَّ إنسانًا كان في صحبة ملك قوي لا يقهر، وقد عرف ملوك الأرض شدَّة بطشه وانتقامه، فإنَّ هؤلاء سيخافون من ذلك الملك، ولا يتعرَّضون لِمَن هم في صحبته ومعيَّته؛ اتِّقاءً لغضبه وبطشه وانتقامه، فما بالنا بمَن كان في صحبة الله - تعالى - ومعيَّته - وله المثل الأعلى - أفلا يكون أجدر بالهيبة لمعيَّته ذلك الملك المنتقم ذي القوَّة الشديدة!!؟.
ولهذا فمَن كانت صلته بالله قويَّة، فإنَّ كلَّ المخلوقين من إنس وجان يهابونه؛ لأنَّه في معيَّة خالقه - سبحانه - وهو لا يطمع في عرضٍ زائل ممَّا في أيديهم من حطام الدنيا، فيعلم ذوو السلطات والجاه والمال، أو ذوو المناصب ممَّن افتتن بها - أنَّ هذا لا يبغي من عمله إلا وجه الله - عز وجل - فما يأتي وقت يواجُه الحكَّام إلا وينقادون لرأيه؛ لمعرفتهم بأنَّه لا يرجو من ذلك إلا الإصلاح والخير فيها؛ لمنزلته وعلوِّ قدره وإجلاله، لا لقوَّته وسلطانه؛ إذ لا يملك منها شيئًا، بل يملك عمله الذي يتقرَّب به إلى ربه - عز وجل - والذي أوصَلَه إلى أن يَهابَه الناس مع محبَّتهم له وإجلالهم لقدره، ومن المواقف التي وقعت لشيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله وشهدها أناسٌ كثيرون، وحكوها دلالة على هيبته عند المخلوقين؛ ممَّا أكسبَتْه محبَّة وإكرامًا بين الخاصَّة والعامَّة من الناس - موقِفُه من غازان لما ظهَر على دمشق، وأراد ملك الكرج ببذله أموالاً لغازان: أن يتسلَّط على المسلمين من أهل دمشق، فخرَج أعيان دمشق وعلى رأسهم: شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله ، فأوقع الله في قلبه رهبةً عظيمة لم تحدث لذَوِي السلطان مع ذلك الملك الفتَّاك، وقد ذكَر المؤرِّخون أنَّ بعض مرضى القلوب قد وَشَوْا إلى السلطان الأعظم أنَّ الإمام ابن تيميَّة يُرِيد أَخْذَ الملك لنفسه؛ لذلك فهو يُسارِع في التقرُّب من العامَّة والخاصَّة، فلمَّا أحضره السلطان بين يديه وسأله عن ذلك، فأجابَه بثقة نفس مطمئنة، وصوتٍ عالٍ يسمَعُه كثيرٌ ممَّن حضَر: "أنا أفعل ذلك!؟، والله إنَّ ملكك وملك المُغل لا يساوي عندي فلسين، فتبسَّم السلطان لذلك، وأجابَه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لَصادقٌ، وإنَّ الذي وشى بك إليَّ لكاذب"[88].
فكيف يخاف غيرَ الله وهو القائل:" لن يخاف الرجل غيرَ الله إلا لمرضٍ في قلبه"[89]!؟، فجعَل خوفه من الله - عز وجل - مضرب المثل للجرأة في قول الحق، وحدوث الهيبة له من الخلق، وما وهَبَه الله من سرعة البديهة جعلت له هيبة علميَّة خاصَّة، جعلت خصومه يَهابُون مناقشته؛ لسرعة استِحضاره للأدلَّة؛ "ولهذه الصفة كان خصوم ابن تيميَّة يتهيَّبون لقاءه"[90].
وكان عامَّة الناس: إن اعتَدَى عليهم معتدٍ، لجؤوا إلى شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله ؛ كي يردَّ إليهم حاجاتهم من هؤلاء المعتَدِين؛ حيث:" شكا له إنسان من قطلو بك الكبير، وكان المذكور فيه جبروت وأخذ أموال الناس واغتصابها"[91].
وكما كان يهابُه الطُّغاة من الإنس كما فعَل مع قطلو بك فيما مرَّ، كذلك يفعَل مع طُغاة الجانِّ ممَّن يتسبَّبون في إصابة بعض الناس بالصَّرَع، فكان يُؤتَى إليه بالمصروع، فيقرأ القرآن، ويهدِّد هؤلاء الطغاة:"وكم عُوفِي من صراع الجني إنسان بمجرَّد تهديده للجني، وجرت له في ذلك فصول، ولم يفعل أكثر من أن يتلو آيات ويقول: إن لم تنقطع عن هذا المصروع، وإلا عملنا معك حكم الشرع، وإلا عملنا معك ما يرضي الله ورسوله"[92].
وهكذا، فقد "آتى الله تقيَّ الدين ابن تيميَّة هيبة شخصيَّة تروع مَن يلقاه، وتجعله يحسُّ بأنَّه في حضرة رجل عظيم... ولقد كان إذا لقي السلطان لقيه ثابتَ الجأش قويَّ الجنان، وإذا خاطَبَه في أمرٍ كان قويًّا في خِطابه، شديدًا في جوابه، والسلطان لا يتردَّد في إجابته، وعدم مخالفته فيما يدعوه إليه"[93].
ومثل هذه الأمور: شعورٌ قلبي، وإحساس نفسي، ليس للمادَّة إليه سبيل، فلسُمُوِّ رُوحِه ورُقِيِّها في الملكوت الأعلى من كثرة ذكرِه لربِّه ونصرته لشريعته، جعلت له هيبة في قلوب الآخَرين، وهذا فضل الله يُؤتِيه مَن يشاء.
  • ملف العضو
  • معلومات
أمازيغي مسلم
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2013
  • المشاركات : 6,081
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • أمازيغي مسلم has a spectacular aura aboutأمازيغي مسلم has a spectacular aura about
أمازيغي مسلم
شروقي
رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
13-01-2017, 03:29 PM
10 - دورانه مع الدليل حيث دار:
بداية حياة شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله كانت مرتبطة بالعلم أيما ارتباط؛ فقد شهد أباه وهو عالم البلد وحاكمها وخطيبها، فتعوَّد منذ نعومة أظفاره على سماع العلم وإيراد الأدلَّة، فقد نشأ وتربَّى في رِحاب أهل العلم، بدءًا بحضوره مجالس أبيه، وحضوره لكبار علماء الفقه والحديث منذ صِغَرِه، وظلَّ في السَّماع من أبيه وغيره "إلى أن بلغ الحادية والعشرين؛ حيث تُوُفِّي ذلك الموجِّه الكريم"[94].
وممَّا يُظهِر اهتمامَه بالدليل ودورانه في فلكه: أنَّه في أوَّل نشأته سمع كتب الحديث من أكبر شيوخ عصره؛ ممَّا أدَّى إلى اتِّساع ملَكَة الحفظ عنده، واطِّلاعه على الآثار، "ولقد سمع غير كتابٍ على غير شيخٍ من ذوي الرِّوايات الصحيحة العالِيَة، أمَّا دواوين الإسلام الكِبار كـ"مسند أحمد" و"صحيح البخاري" و"مسلم" و"جامع الترمذي" و"سنن أبي داود السجستاني" والنسائي وابن ماجه والدارقطني، فإنَّه سمع كلَّ واحدٍ منها عِدَّة مَرَّات، وأوَّل كتابٍ حفِظَه في الحديث "الجمع بين الصحيحين"؛ للإمام الحميدي"[95].
كما عُرِف عنه أنَّه "كان يحفظ "المحلى"؛ لابن حزم ويستظهره"[96]، فحفْظه واستِظهاره لهذه الكتب - وهي أُمَّهات كتب الحديث - يؤهِّله ليصبح علمًا بين العلماء في الرُّكون إلى الدليل، وعدم الالتِفات إلى أيِّ شخصٍ كان.
كما كان يتقيَّد بذلك مَنْ سبَقَه مِنْ ذَوائِب العلماء الذين طبقت شهرتهم الآفاق، وبحفظه لهذه الأحاديث والآثار جعلت مترجمي حياته يقولون: إنه قد "برع في الحديث وحفظه، فقلَّ مَن يحفَظ ما يحفَظُه من الحديث مَعزُوًّا إلى أصوله، مع شدَّة استحضارٍ له وقت إقامة الدليل، وفَاقَ الناسَ في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنَّه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب معيَّن؛ بل بما يقوم دليله عنده"[97].
وتقيُّده بالدليل جعَلَه - كما مرَّ - لا يتقيَّد عند الإفتاء أو الإجابة بمذهب معيَّن؛ بل بما رآه صوابًا دائرًا مع الدليل، ومَن راجَع كتب هذا الإمام - صغيرها وكبيرها - يجده لم يخرج عن الشرع قيد أنملة؛ فما من رسالةٍ له أو كتاب أو جواب إلا صدَّره بأدلَّةٍ من الكتاب والسنَّة، ثم يتبع ذلك بأقوال الصحابة والتابعين، مع ذكره لأقوال الأئمَّة المتقدِّمين والمتأخِّرين، ثم ينظر مع ذلك لأوجُهِ اللغة العربيَّة وفروعها، مستخدمًا أصول الفقه ومقاصد الشريعة، وجاعلهما نصبَ عينيه، فما ترجَّح له دليله أفتاه (أفتى به)، وما لم يترجَّح له دليله، نقل مَن قال به من الصحابة والتابعين أو من الأئمَّة المعتَبَرين، هذا مع احترامه وتوقيره لأئمَّة الإسلام ودفاعه عنهم، ولا أدلَّ على ذلك من تأليفه رسالة يُدافِع فيها عن أسباب اختلافهم، واسم هذه الرسالة: "رفع الملام عن الأئمَّة الأعلام"، و"ليس له مصنَّف ولا نص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختارَ فيه ما رجَّحه الدليلُ النقلي والعقلي على غيره، وتحرَّى قول الحق المحض، فبرهَنَ عليه بالبراهين القاطِعة الواضِحة الظاهِرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة يثلج قلبه بها، ويجزم بأنها الحق المبين، وتراه في جميع مُؤلَّفاته إذا صحَّ الحديث عندَه: يَأخُذ به ويعمَل بمقتضاه، ويقدِّمه على قول كلِّ قائلٍ من عالِم ومجتهد، وإذا نظَر المُنصِف إليه بعين العدل: يَراه واقِفًا مع الكتاب والسنَّة، لا يميله عنهما قولُ أحدٍ كائنًا مَن كان، ولا يُراقِب في الأخذ بعلومهما أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا، ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحدٍ، وهو متمسِّك بالعروة الوثقى واليد الطولى، وعاملٌ بقوله - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [98]، وبقوله - تعالى -: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [99] [100].
"فأسلوبه في التعليم هو: نفس أسلوب الحنابلة؛ حيث يستَخرِجون الأحكام العقديَّة والفرعيَّة من النصوص لا يَحِيدون عنها؛ بل قد نصَّ هو على ذلك من اتِّباع الدليل من الكتاب والسنَّة وعدم الخروج عليها، فقال: "وليس لأحدٍ الخروجُ عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا الخروج عن كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -"[101].
والأمثلة التي تدلُّ على مدى تمسُّكه بالدليل: كثيرة كثيرة؛ لكنَّني سأقتصر على الإشارة إلى أربعة أمور فقط:

الأول: كتبه وتآليفه، فمَن نظَر إلى تآليف وكتب شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: يجد أنَّه يَلتَزِم بالدليل، فما من مُؤلَّف له إلا ويُورِد فيه الأدلَّة من الكتاب والسنَّة وأقوال الأئمة؛ بل كما وصَفَه الإمام الذهبي بقوله عن شيخه شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: إنَّه كان "معظِّمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا، لا يُؤتَى من سوء فهْم؛ فإنَّ له الذكاء المفرِط، ولا من قلَّة علم؛ فإنَّه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفَرِد بمسائل بالتشهِّي، ولا يُطلِق لسانه بما اتَّفق؛ بل يحتجُّ بالقرآن والحديث والقياس، ويُبَرهِن ويُناظِر أسوةً بِمَن تقدَّمَه من الأئمَّة"[102].

الثاني: حرصُه في كتاباته وتآلِيفه على البدء بخطبة الحاجة، والتي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح خطبه بها، "وقد جرى على هذا النهج شيخ الإسلام: أبو العباس ابن تيميَّة - رحمه الله - فهو يُكثِر من ذلك في مُؤلَّفاته، كما لا يخفى على مَن له عناية بها"[103].

الثالث: جعل أفعاله كلها تبعًا للسنَّة كتطبيق عملي للقرآن، سأله رجلٌ فقال له: "أنت تزعم أنَّ أفعالك كلها من السنَّة، فهذا الذي تفعله بالناس من عرك آذانهم، من أين جاء هذا في السنَّة؟، فقال: حديث ابن عباس في الصحيحين قال: "صلَّيت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ليلاً، فكنت إذا أغفيت أخذ بآذاني"[104]، حتى في مثل هذه الدُّعابة، فإنه يتقيَّد بالدليل، فلم يرد مخالفة السنَّة في الأمور التي تعرض للإنسان فجأةً، وهذا يدلُّ على مدى تمسُّكه بالدليل.

الرابع: تطبيقه للسنَّة في أصعب المواقف وأحرجها؛ في الجهاد ومقارعة الأعداء؛ ففي رمضان من سنة (702هـ) لما كانت وقعة شَقْحب حيث تَلاقَى المسلمون والتتار، وخرَج الإمام إلى ميدان القتال ثابتَ الجأش يُثَبِّت القادَة والجنود، "ووَقَف الفارس الجريء موقفَ الموت مُقاتِلاً، وهو يثبِّت قلوبَ مَن حوله بقتاله وفعاله، وقد التَقَى قبلَ أن يقف مَوقِفَه من القِتال بالسلطان يحثُّه وجندَه على الجِهاد في سبيل الله، وإحقاق الحق، وردِّ المعتدين، وكان قد بلَغَه أنَّه كاد يرجع، فسأله السلطان أن يقف معه في المعركة، فقال: السنَّة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم"[105].
فمع كونه له دورٌ كبير في النصر، وطلب السلطان منه أن يقف في صفِّه، إلا أنَّه طبَّق تلك السنَّة من وقوف الرجل تحت راية قومه، ثم جاء النصر من عند الله للمسلمين، وانتصروا نصرًا عظيمًا مؤزرًا، وهذا يَعكِس بدوره تمسُّك هذا الإمام بالدليل حتى في أحْلَك المَواضِع، وقد قال بعض مَن عاصَرَه: "ما رأينا في عصرنا هذا مَن تُستَجلَى النبوَّة المحمديَّة وسنَّتها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهَد القلب الصحيح: أنَّ هذا هو الاتِّباع حقيقة"[106].
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع


الساعة الآن 08:09 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى