خريطة أنفاق لندن: التصميم الذي رسم شكل المدينة
24-08-2015, 09:09 PM
جوناثان غلانسي
صحفي




تعتبر خريطة قطارات الأنفاق في لندن تصميماً ثورياً، كما يقول جوناثان جلانسي الذي يعود بنا بالزمن إلى الوراء قليلا.
افتتح القسم الأول من أنفاق لندن عام 1863. وعلى مدى العقود التالية، نشرت عدة خرائط للأنفاق تظهر شبكة غير متناسقة من الخطوط، تعود لعدة شركات. وليس من بين هذه الخرائط واحدة تظهر بالتنسيق والأناقة التي عليها الخريطة الحالية التي يحملها أبناء لندن، والسائحون، والزوار لمدينة الضباب.
حقيقة وجود عدد كبير من خرائط أنفاق لندن قبل المخطط الذي صممه هاري بيك عام 1931، الذي هو أساس خرائط اليوم، دليل على مشكلة استغرقت عدة سنوات، وكثير من الإبداع لحلها.
كيف تمكن رسام أن يعكس على الورق خطوطاً متقاطعة على مساحة عدة أميال في وسط لندن، ومن ثم تمددت حتى عام 1900 على ما كان أراض زراعية، وأسواق وحدائق في قرى منطقة ميدلسيكس النائية؟ كيف يمكن أن يكون ذلك كله مشمولاً في خريطة واحدة يمكن وضعها في جيب المعطف؟
أهمية الحجم
حقيقة انتشار شبكة الأنفاق جعل من رسم خريطة لها مشكلة حقيقية. حتى في وسط لندن، هناك أجزاء من شبكة الأنفاق مثل "كوفنت غاردن" و"ليستر سكوير" يفصل بينهما 200 متر فقط، بينما تبعد "كنجز كروس" عن "فارنغدون" أقل من كيلومترين اثنين بقليل.
خارج منطقة الوسط، تمتد شبكة الأنفاق إلى مقاطعة "باكنغهامشير"، إلى مناطق ريفية تبعد 50 ميلا عن منطقة "بيكر ستريت". وبينما استندت الخرائط السابقة إلى ما سبقها، ساد اعتقاد بأن هذه المناطق النائية ينبغي أن تظهر على الخارطة وفقاً لمقياس الرسم.
لكن بحلول عام 1930، بات واضحا أن أي خريطة تحاول أن تضم كل شبكة الأنفاق من ناحية جغرافية في رسم واحد ستكون كبيرة وليست سهلة الاستعمال، خصوصا في محطات قطار الأنفاق المزدحمة، حيث تكون الجموع متزاحمة كتفاً لكتف. لذا انتهي الأمر أن تشمل خرائط شبكة الأنفاق وقتها فقط الخطوط في وسط لندن.


تصميم هاري بيك لعام 1931 الذي يظهر هنا أصبح الأساس في رسم خرائط الأنفاق التي جاءت بعد ذلك

كانت الخطوط تمتد في تلك الخرائط حتى حافة المدينة، وتتوقف عندها. وكان الكثير من هذه الخرائط القديمة جذابة التصميم، وتصلح أن تكون من ضمن المجموعات التي يحرص عليها جامعو الآثار. لكنها لم تكن شاملة ولا كثيرة الفائدة.
خريطة أم تحفة فنية؟
في عام 1931، جاء الحل على يد هاري بيك، وهو مهندس شاب ورسام انضم إلى فريق مهندسي الإشارة عام 1925. وكانت الخريطة التي رسمها ليست فقط أداة مفيدة في أيدي أبناء لندن وزوارها، ولكنها تصميم جذاب في حد ذاته. وظلت الخريطة التي رسمها هي الأساس في الخرائط التي تستعمل هذه الأيام.
وعندما تقدم "بيك" بتصميمه إلى إدارة قطار الأنفاق، لم يكونوا مطمئنين. الخطوط التي تسير أفقياً، وعمودياً، وبميل 45 درجة، كانت متشابكة. وبعيداً عن الجغرافيا، بدت الخريطة كأنها تقاطع بين تخطيط لدائرة كهربية ولوحة لمعلم فني.
وبينما لم يعد بالإمكان معرفة المسافة أو الموقع الجغرافي الدقيق للمحطات بمجرد إلقاء نظرة عليها، اعتبر بيك أن هذا الأمر غير مهم. الذي يحتاج المسافرون بقطار الأنفاق إلى معرفته هو كيف ينتقلوا من محطة إلى أخرى، وأين يمكنهم تغيير الخطوط.
عام 1933، تم ضم قطارات الأنفاق، والترام، والحافلات، والحافلات النهرية، وحافلات الخط الأخضر جميعاً تحت مظلة مؤسسة عامة هي مجلس مواصلات لندن. وبوجود نية للتحديث، حان الوقت لمعرفة ردة فعل الجمهور على مخطط بيك.
وبعد إجراء اختبار وزعت منه 500 نسخة على عدد من المحطات المختارة عام 1932، تم طباعة 700 ألف نسخة من الخريطة عام 1933. فقد ثبت فوراً أنها كانت ناجحة، وأعيد طبعها ثانية في غضون شهر.
إلا أن الخريطة لم تكن على أكمل وجه. فلم يضمن بيك في خريطته المناطق النائية للخط الأخضر المعروف بـ "ديستريكت لاين" أو المناطق الريفية المحيطة بلندن الممتدة فيما بعد منطقة "ريكمانسورث".
هذه الأمور المحيرة في تصميم الخريطة تم التغلب عليها بعد عدة سنوات من تطوير بيك لخريطته. الإصدار الأحدث للخريطة طبع عام 1960 عندما اختلف مع مجلس مواصلات لندن، وحل مكانه مسؤول الترويج في المجلس هارولد هاتشينستون.
وخاض بيك معركة قضائية مع مجلس لندن للمواصلات على خلفية شعوره بحق الملكية ومعارضته قيام طرف ثالث بإجراء تغييرات على تصميمه. لكنه تخلى عن هذه المعركة عام 1965، واستمر يعمل على تطوير الخريطة بشكل شخصي، إضافة إلى تصاميم لقطارات الأنفاق في باريس بدأها منذ عقود خلت واستمر فيها حتى وفاته عام 1974.


التصميم الحالي، بعد 85 عاماً منذ أن تم إقراره لأول مرة

منذ عام 1986 أصبح التصميم مهمة للمؤسسة ولم يعد مهمة شخص واحد، ولم تبرز أسماء المصممين بشكل شخصي ما عدا بيك الذي ظل يشار إليه كصاحب السبق في تصميم الخريطة. وقد أصبحت الخريطة علامة تجارية عالمية تظهر على القمصان، وأكواب القهوة، وغيرها من الهدايا التذكارية. كما يرجع لها الفضل في أن تنسج شبكات قطارات الأنفاق في العالم خرائط على منوالها.
الشمس لا تغطى بغربال
عندما تقع التغيرات الكبيرة، يشعر بها الجميع. على مر السنين، أضيفت خطوط جديدة بما في ذلك خط السكة الحديد للقطارات الخفيفة في دوكلاند، وشبكة خطوط السكك الحديدية فوق الأرض، والسكك المتقاطعة، والخط الذي شيدته خطوط طيران الإمارات ليربط شبه جزيرة غرينيتش بمنطقة الميناء الملكي "رويال دوكس".
وفي عام 2009 أزيل نهر التايمز من الخريطة بعدما كان أحد عناصرها المميزة، مما أدى إلى احتجاجات واسعة النطاق من الجمهور، وموقف سلبي من وسائل الإعلام حول العالم.
بعد شهور قليلة، أعيد نهر التايمز إلى الخريطة من جديد، واهتم جامعو خرائط شبكة قطار الأنفاق بالخريطة التي لم يظهر فيها النهر، وأصبحت عندهم من الأشياء الثمينة النادرة مثل طوابع البريد التي تحمل صورة إدوارد السابع.


هذه الصورة تظهر الخريطة الشهيرة ما عدا أسماء المحطات التي استبدلت بأسماء مشاهير

في عام 2006 جاءت خريطة بيك في المرتبة الثانية في برنامج لبي بي سي متخصص في مجال التصميم، عندما اختار 200 ألف مشاهد في تلك المسابقة بين تصميم سيارات الميني، وموديل E من سيارات الجاكيوار، وألبوم الفرقة الغنائية "لونلي هارتس"، فجاءت خريطة بيك في المرتبة الثانية، بعد مرتبة واحدة فقط لتصميم طائرة الكونكورد.
وقد ألهبت خريطة بيك وما تلاها خيال الفنانين. فقد رسم الفنان ديفيد بوث خطوط قطار الأنفاق على شكل معجون ملون يخرج من عبوات الألوان. ومنذ عام 1992 عرضت في معرض الفن المعروف "تايت مودرن" لوحة الدب الأكبر للفنان سايمون باترسون، والتي تظهر عليها أسماء لفنانين ومكتشفين وعلماء وكتاب وممثلين، بدلا من أسماء محطات قطار الأنفاق.
ليس الفنانون وحدهم الذين شكلت الخريطة إلهاماً لهم. فعلى مدى أجيال، حاول تلاميذ المدارس في لندن إضفاء نوع من خفة الظل على سفرهم اليومي، فترجموا أسماء بعض المحطات إلى لغات أجنبية، وتمكن كثير منهم من حفظ كل محطة تظهر على الخريطة، بفضل التصميم الراقي والألوان المشرقة التي تستخدم في رسم خطوطها المختلفة.
لقد تركت خريطة بيك وتصميمه آثارا لا تمحى في ذاكرة الملايين. فرغم مرور أكثر من 80 عاماً على تصميمها، تظل هي المعيار الذهبي الذي تقيم على أساسه خرائط قطارات الأنفاق في العالم.