مآسي العالم وأحلام أمريكا
30-06-2015, 02:06 PM
مآسي العالم وأحلام أمريكا
"قدرنا أمْرَكَة العالم". هذا ما أعلنه تيودور روزفلت عام 1898 فى بيان يتحدد فيه الخطاب الأمريكى المزدوج والحامل لخلاص البشرية.
إن دعوة أو شعار روزفلت (أمركة العالم) يعيدنا إلى عام 1906، العام الذى منح فيه الرئيس الأمريكى جائزة نوبل للسلام، يومئذ قوبلت الجائزة الممنوحة باستنكار ونقد شديدين، وتذكر الناس على الفور عبارة روزفلت الشهيرة: "ليس هناك مواطن أكثر ضررًا من نمط أولئك الناس الذين ينادون بالسلام ويجأرون دائمًا بالشكوي، إما من الحروب أو من نفقات التسليح". وفى عام 1907 قام روزفلت بإرسال أسطول البوارج الحربية للولايات المتحدة فى رحلة حول العالم وهى المحاولة التى لم يسبق لها مثيل، وأطلق على رجال بحريته "سفراء السلام" معتقدًا أن هذه الجولة أهم خدمة تؤديها أمريكا للسلام. بعدها بعام واحد ترك روزفلت كرسى الرئاسة ليتسلمه من بعده "هوارد تافت" وزير حربيته الذى كان أول حاكم للفلبين، وسرعان ما عاد "روزفلت" يحاضر عن الحرب كضرورة ويؤكد طبيعة المقاتل (فيه) بعد أن غزا الألمان بلجيكا وأغرقت السفينة "لوزيتيانا" فى مايو 1915 عندئذ كتب يقول:
"إننى لن أقبل أبدًا الرأى الذى يستنكر كل الحروب". وأخذ يعظ الأمريكيين كى يستعدوا لأداء دور أكثر نشاطًا فى الحرب. ومن المعروف عنه أنه شعر بخيبة أمل كبيرة حين رفض الكونجرس التصريح له بإنشاء فرقة من المتطوعين تعمل تحت قيادته عبر المحيط.
لقد لازم الهاجس الحربى روزفلت الحائز على نوبل للسلام حتى أواخر أيامه فحين قتل ابنه "كونتين" فى الحرب كتب إلى أحد أصدقائه يقول: "إن أسفى الوحيد هو أننى لم أكن إلى جانبه فى القتال".
ثمة مغزى لا مجال لإخفائه فى اختيار هذا النموذج الأمريكي، فمن جهة اعتبر نموذجًا لداعية سلام توجت دعواته بجائزة خصصت للسلام وكانت فى بداياتها، أى بحاجة ماسة إلى نيل المصداقية العالمية، ومن جهة ثانية يقدم نموذج روزفلت السلام على أنه حاشية للحرب أو أنه إحدى دعائمها غير المعلنة.. والتى سرعان ما تعلن حين يكون المناخ مواتيا.

بدايات الاستشراق الأمريكي:

أول ما عنيت به أمريكا من اللغات السامية كان اللغة العبرية، لتفهم التوراة تمهيدًا لدرس المسيحية، ولم تنل اللغة العربية كما يقول نجيب عقيقى فى كتابه "المستشرقون" من أمريكا اهتماماً إلا مؤخرًا، حين أدرك الأمريكيون أن للعربية صلة بالعبرية، وأنها أشد صلة باللغة السامية الأصلية، فكأنما هى مفتاح اللغات السامية بأسرها، وقد استطاعت فى القرون الوسطى أن تكون لغة المدنية العالمية كما يقول "فيليب حتي" فى مقالة له نشرت فى الهلال.
إن الاتصال الأول للأمريكيين بالعرب كان من خلال اتصال قادتهم الذين غزوا إريتريا فى عصر الخديوى إسماعيل، ثم توثقت عرى هذا الاتصال بفضل فريق من رجال التعليم مثل (دانيال بليس) مؤسس الجامعة الأمريكية فى بيروت، وزميله (تشارلس وطسن) مؤسس الجامعة الأمريكية فى القاهرة، وساعدهم على ذلك عدد من رجال الدين مثل د. فنديك الذى اشترك مع الشيخ اليازجى وبطرس البستانى فى ترجمة التوراة إلى اللغة العربية.

وفى عام 1842 أنشأ الأمريكيون جمعية آسيوية، بدأت عملها بطبع مجلة آسيوية فى بوسطن، وذلك أسوة بالجمعيات الآسيوية الأوروبية، وكان للمستشرق اللبنانى الأصل (فيليب حتي) دور فى دفع حركة الاستشراق الأمريكى إلى الأمام، وجعل من "جامعة برنستون" مركزًا للدراسات العربية والإسلامية، هذه الجامعة التى نشطت فى العقود الأخيرة لاستقطاب شعراء وكتّاب ونقاد عرب للمشاركة فى محاور دراسية عقدت لشئون استشراقية.
بعد نصف قرن تمامًا من بدء الاستشراق الأمريكى كمؤسسة، بدأ الوجود الأمريكى يظهر فى العالم كتدشين لمرحلة إمبريالية جديدة، فالمؤرخون يحددون العام 1898 لبداية هذه الإمبريالية الوريثة، حيث ظهرت الحاجة الواقعية إلى تصدير الإنتاج المتنامى بوتيرة عالية. وقبل ثلاثة أعوام من هذا التاريخ رفعت الإمبراطورية الجديدة رأسها لأول مرة فى وجه الإدارة البريطانية، وذلك حين اتهم الرئيس (كليفلند) يومئذ بريطانيا بخرق نظرية (مونرو) فى خلافها مع فنزويلا حول مسألة الحدود مع غويانا البريطانية، وقرر الرئيس الأمريكى يومئذ أن: (الولايات المتحدة هى الآن سيدة القارة.

هكذا انفتح الفم الواسع من المحيط الإنسانى لتبدأ مسيرة استعمار جديد، يتحلى بشجاعة فائقة فى تسمية الأشياء دون مواربة، وتبدأ عمليات القضم الإمبريالى عبر مستويات عدة نذكر منها على سبيل المثال:
ـ عام 1867 اشترى وزير الخارجية الأمريكى (ليان سيوارد) آلاسكا من قيصر روسيا وحاول شراء ممتلكات الدانمارك فى جزر الأنتيل.
ـ حاول الرئيس الأمريكى (جرانت) ضم الدومينيك إلى الولايات المتحدة.
فى تلك الفترة أسفر الوجه الأمريكى الجديد عن برنامج حافل، ستكون بدايته نهاية القرن الماضي، أما نهايته فلا أحد يعلم أمدها بعد، إنها منوطة بالتاريخ.. التاريخ بمعناه الذى لم يدجن بعد فى معاجم الإدارة الأمريكية.. فى ذلك الوقت أصدر المبشر البروتستانى (جوزيا سترويخ) كتابًا بعنوان "بلادنا" أعلن فيه بدء الخلاص للعالم على يد العنصر الأنكلوساكسونى الذى اختاره الله لتحضير العالم. ويذكر (كلود جوليان) فى كتابه "الإمبراطورية الأمريكية" أن (هنرى لودج) أعلن بيانه بدون تحفظ قائلاً:لقد جعلنا الله جديرين بالحكم لكى نتمكن من إدارة الشعوب البربرية والهرمة، وقد اختار الله الشعب الأمريكى كشعب مختار لكى يقود العالم إلى تجديد ذاته".
إن بيانات كهذه لم تكن تذاع فى فراغ أو فى الشارع المفتوح، إنها مكرسة فى خطابات ألقيت فى مجلس الشيوخ وقوبلت بالتصفيق والقبول المطلق. هنا يمكن للمرء أن يعود إلى مقاربات د. عبدالوهاب المسيري، وعدد كبير من دارسى أمريكا كمشروع متمدين يحل فى أراض مأهولة بمن يسمون (المتوحشين) من السكان الأصليين. ثمة أوجه شبه تضاف إلى تلك القائمة بين التشكيل الاجتماعى ـ السياسى "لإسرائيل" وما يوازيه فى أمريكا القرن التاسع عشر حيث البذور الأولى التى وجدنا ـ أو بمعنى أدق حصدنا ـ تجلياتها العسكرية والسياسية فى أواخر القرن اللاحق (العشرين.
وإذا كان لكل إمبريالية طالعة "ماكياجها"، فإن الماكياج الأمريكى يتألف من عدة طبقات من المساحيق والطلاء.. فهناك أسطورة (حرية الفرد المطلقة) تلك التى يجد القاريء تحليلاً واسعاً لها فى طروحات (ماركوز) الإنسان ذو البعد الواحد. أو إنسان ربع الساعة الأخير كما يسميه البعض. إن نموذج مجتمع الوفرة (التسمية المثلى لتمويه الصراع الاجتماعي) يجد مصداقية بفضل تضليل إعلامى منقطع النظير، أفلام سينمائية، محاور ثقافية عالم ثالثية تابعة، أدب إعلانى يعتمد على الربط الشرطى بين المنح والأخذ.. إلخ. وحتى أسطورة الحرية الفردية فى حدودها الدنيا تفتقد مصداقيتها تمامًا حين يسمع العالم (فرانك ستانتون) الذى كان يشغل منصب نائب رئيس (CBS) وهى أهم مجموعة شركات للإرسال الإذاعى والتليفزيونى يعترض على حق الأمم المتحدة فى تولى عملية إنشاء نظام عالمى للاتصالات وذلك "لأن من حق الأمريكيين التحدث إلى من يشاءون فى أى وقت يشاءون، وأن إنشاء نظام عالمى للاتصالات من شأنه أن يهدر هذا الحق ـ الامتياز ـ الأمريكي".

صورة العربي:

يذكر إدوارد سعيد فى كتابه الهام عن (الاستشراق) حادثة مهمة للغاية، وذلك بقدر ما تؤشر من حالات مماثلة، أو ربما حالات أكثر تعقيدًا وخطورة. يقول: كان الزى المخصص لحفل (لم الشمل) فى جامعة برنستون عام 1967 قد صمم قبل حرب (يونيو) حزيران، على أن يكون عربيا: ثوب ولباس رأس وصندل، وبعد الحرب مباشرة صدر مرسوم بتغيير الخطط الموضوعة، وقضت الخطة الجديدة بأن يسير الخريجون المحتفى بهم وهم يرتدون الزى كما كان مقررًا فى الأصل فى موكب رافعين أيديهم فوق رؤوسهم بحركة تعبر عن الهزيمة. ستتغير الصورة بعد ذلك بعدة سنوات. ففى عام 1973م برزت بانتظام رسوم ورقية تصور شيخًا عربيا يقف وراء مضخة بنزين، لكن هؤلاء العرب كانوا بخلاء، (ساميين) وكانت أنوفهم المعقوفة والنظرات الشذراء الخبيثة تذكيرًا واضحًا لجمهور غير سامى فى معظمه بأن الساميين كانوا يقبعون تحت كل مشكلاتنا ومصاعبنا. والصورة التى تقدم عن العربى يمكن اختزالها إلى كونه (عقبة) تم تجاوزها لخلق "إسرائيل" عام 1948، وأن تاريخه ـ إن كان له تاريخ ـ ممنوح له من قبل التراث الاستشراقي.
إن العربى كما يظهر فى السينما الأمريكية هو كما ينقل إدوارد سعيد حرفيا:
سادي، خؤون، منحط، تاجر رقيق، راكب جمال، صراف، وغد متعدد الظلال.
ويكتب (أيميب يترل) فى مجلة هاربر:
"إن العرب أساسًا قتلة، والعنف والخديعة محمولان فى الموروثات العربية".
إن المرء ليتساءل وهو يقرأ الصورة المبثوثة للعربى فى المرجعيات الأمريكية أيهما يتأثر بالآخر، الأدب والفكر الصهيونيان أم هذا الاستشراق الوليد كصنو مؤسسة وضعت التوسع ومرونة الحدود والهيمنة فى مقدمة استراتيجيتها.
ينقل (سعيد) عن مورو بيرجر أستاذ علم الاجتماع بجامعة (برنستون) التى تتمحور فيها دراسات الشرق منذ تأسيسها يقول: "إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست مركزًا للإنجازات الثقافية العظيمة، ولا يحتمل أن تغدو كذلك فى المستقبل القريب، ومن ثم فإن دراسة هذه المنطقة ولغاتها لا تكون المكافأة المرجوة منها بذاتها.. فيما يتعلق بالثقافة الحديثة".

ها هنا نجد أنفسنا ثانيا أمام مصغر استشراقي، ففى عبارة (بيرجر) الرامية إلى جعل دراسة الشرق الأوسط وسيلة تتخطى معرفة هذا الشرق إلى استخدام هذه المعرفة ـ أمريكيا ـ نجد تعبيرًا صريحًا عن استراتيجية الاستشراقية الأمريكية بوجه خاص.
إن القول بعدم أهمية آداب وعلوم هذه المنطقة فى العالم (الشرق الأوسط والعرب خاصة) يتكرر فى سياقات كثيرة، يهمنا على صعيد أكاديمى ـ رسمى أن نرى كيف تقدم الموسوعة الأمريكية الأدب العربى قديمه وحديثه.. يقول المستشرق (ديكنز): "قد تمت ترجمة قليل من الأدب العربى وكثير منه بحكم طبيعته لا يقوى على الترجمة". وكان ديكنز قد أعلن فى الخمسينيات رأيا مماثلاً إذ قال:
"لن أقف طويلاً عنده ـ الأدب العربى ـ لأنى بصراحة أشك فى أن يكون هناك الكثير مما يستحق الذكر عنه، إن معظمه ـ إن لم يكن كله ـ يبدو لى تقليدًا خاضعًا لأسوأ ملامح أدبنا الحديث". ويستثنى هذا المستشرق الأدب المهجرى قائلاً: إنه يمثل المصدر الوحيد للحيوية فى الأدب العربى الحديث".

إن ما يستحق المناقشة هنا هو ما يقوله المستشرق الأمريكى عن الأدب العربى بعامة والأدب المهجرى بخاصة، وما سيقوله كاتب المقالة د. صالح جواد الطعمة بعد ذلك.
يبدو أن الاستثناء الذى منحه ديكنز للمهجريين جاء بإغراء من الجغرافية الجديدة لهذا الأدب، فهو مكتوب من الأمريكتين، ولكنه مكتوب باللغة العربية نفسها وبجمالياتها، وفيه عيوب هذا الأدب ومزاياه.. إن استثناء ديكنز لأدب المهجر لم يخضع فى رأينا لما هو أبعد من الانسلاخ الجغرافي.. هذا الانسلاخ الذى يقدم أغطية تاريخية، وإن من لم يطلع قبل أن يعمم رأيا عن أدب أمة بكاملها يصعب أن يقتنع بأنه حكم على الأدب المهجرى تبعًا لتقصيات نقدية فاحصة لخصائصه ولكل ما جعله استثناء.
الأمر الآخر الذى يستحق المناقشة هو ما يقوله د. طعمة، إن التلقى الأمريكى للأدب العربى بدأ حين كانت الثقافة العربية فى حالة جمود وتخلف، لكن ألم يبدأ الاستشراق الألمانى مثلاً فى الفترة نفسها. بحوث نيلدكه فى العام 1860 مثلاً، وكان أمام المستشرق الأمريكى أن يهتم بما سبق فترة الجمود والتخلف هذه؟ هذا وإن كان د. طعمة سيقول فيما بعد أن الاستشراق الأمريكي، شأنه شأن الاستشراق الأوروبي، توجه فى تلك الفترة المتخلفة نحو الاهتمام بعصور ازدهار الحضارة الإسلامية، والتناقض هنا هل هو فى حكم ديكنز على الأدب العربى قديمه وحديثه!! أم فى تقصيات د. طعمة نفسه؟
يقول د. طعمة بعد ذلك أن من بين ألف رسالة دكتوراة قبلت فى الجامعات الأمريكية بين عامى 1883 ـ 1968 لا نجد إلا بضع رسائل تتصل بالأدب القديم منها ثلاث رسائل حول "كليلة ودمنة" وكتاب الأغانى ومختارات من نثر الدرر لأبى سعيد المنصور وكتاب الجاحظ (الحنين إلى الوطن) وأدب العبادات عند الشاذلي".
هل هذه بمجموعها تمثل الأدب العربى القديم ـ فى الأقل ـ إن القصور فى رأينا هو فى طبيعة هذا الاستشراق، وفى صميم اهتماماته، فهو رسم صورة بائسة وأخذ بعد ذلك يضيف إليها القرائن ويحاول تكريسها.

ولو عدنا إلى القائمة من المستشرقين التى يقدمها نجيب عقيقى لوجدنا أن بعض المستشرقين الأمريكيين، رغم زياراتهم للبلاد العربية ومخالطة البدو والتتلمذ على مستشرقين ألمان (كما فى وليم بوبر)، كانوا يعودون ليهتموا بالإسرائيليات.. منهم (ولتردرام) 1870 ـ 1921 الذى عاش فى مصر وبيروت وعاد ليكتب: شاعرية "إسرائيل"، مسيح القرن العشرين، وكتب موسى الخمسة. وبوبر نفسه أيضًا الذى جاب الشرق كله وتنقل بين البدو الرحل عاد إلى أمريكا ليتخصص فى الدراسات العبرية، ونشر كتابًا عن النبى شعيب وشعره.
إن مستشرقين آخرين مثل: جوت، وكنج وتورى وكوتهيل وسالسبوري، نشروا أعمالاً عربية معروفة منها مختارات من النثر وتواريخ وآداب كان من شأنها أن تخفف من حدة الحكم الصارم والتعميمى والجائر الذى دفعه ديكنز إلى الموسوعة الأمريكية.
قبل عدة أعوام صدر فى بيروت كتاب مترجم عن الولايات المتحدة عنوانه: "تصدير القمع" واختلط الأمر على كثير من القراء، وقريء الكتاب (تصدير القمح)، لم يكن فى سوء التفاهم هذا أكثر من مجرد فارق لفظي، وبقليل من الاستدراج كان يمكن للخطأ أن يصبح توأم الصواب. ثمة علاقة جدية بين المنتوجين الفائضين فى القارة الطازجة: القمح والقمع، أى الرغيف المشروط والناب الأزرق، كلاهما قابل للفيضان والتصدير، متفاعلان بجدلية أمريكية مدهشة يفرخان دفعة واحدة أحفادًا لهما كأية منتوجات معفاة من الرسوم For Use Outside U.S.A بالرغم من أنهما يستخدمان على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة نفسها. هذا ما تنبيء به أشياء كثيرة بدءًا من وعيد الرئيس (تافت) إلى المثل الأمريكى القائل بأن المتحدة تضع بيضها كله فى أصغر سلة فى الشرق الأوسط! إلى فيلم (هذه أمريقا) وليست (أمريكا) بناء على توصية من (جيرى روبين) الذى رفض الهجرة وأقام فى (أمعاء الوحش) ليقضمها من الداخل ورفض الكاف الرقيقة مستبدلاً إياها بأثقل قاف صحراوية ممكنة.
شرطى العالم:
يذكر هنرى كلود فى كتابه (إلى أين يسير الاستعمار الأمريكي؟) أن الرئيس (تافت) كان قد أعلن بكلمات فظة ما يلي:
ربما كان من المفيد إقرار سياسة تدخل فعال حتى نؤمن لبضائعنا ورساميلنا فرص استثمار رابحة تفيد البلدين ذوى العلاقة. هذا الحق فى التدخل الذى يسميه كلود (فعالاً) وتسميه أمريكا الحديثة (سريعًا)، من شأنه أن يجعل كل ما هو غير أمريكى عرضة للغزو، ولما كانت استراتيجية الغزو تقوم أساسًا على فهم واستيعاب (المغزو) فإن ما سبق وقاله أحدهم عن الاهتمام بالشرق كوسيلة.. (وليس بذاته) يصبح مفهومًا على صعيدين، الصعيد الاستشراقى ـ المعرفى والصعيد العسكرى ـ الاستيلاء، لذلك اتسم الاستعمار الأمريكى حسب تحليلات كلود، بـ"أنه اقتصر فى البدء على المستعمرات التى تملكها دولة أوروبية هرمة كإسبانيا وعلى جزر ذات أهمية استراتيجية لم تستعمر بعد، أما الأمم المستقلة ظاهرًا والمتخلفة اقتصاديا، فى آسيا وأمريكا، فقد كانت سياسة الولايات المتحدة نحوها تنحصر فى مرحلتين: تحاول منع إلحاق هذه البلاد بأوروبا وتأمين سيادتها هي. لقد عبر (روزفلت) قبل فوزه بجائزة نوبل بعامين ـ (كانون الأول) 1940 عن الدور الذى سيناط بأمريكا الطالعة وهو دور البوليس الدولى بامتياز، فقد قال: "كل بلد حسن سيرة أبنائه يستطيع الاعتماد على صداقتنا الودية وليس لأمة أن تخشى أى تدخل أمريكى إذا برهنت على تعلقها ولياقتها فى الشئون السياسية و(الاجتماعية)! وتمكنت من حفظ النظام فى أراضيها ووفت بالتزاماتها، غير أن أى اضطراب أو تراخ يمكن أن يستدعى تدخل أمة (متمدنة) ورغم تقيد أمريكا بمبدأ (موترو) فقد تضطر إلى ممارسة حكم بوليس عالمى فى مثل تلك الأحوال).

إن تاريخ الاستشراق الأمريكى ـ إلا فى النادر جدًا ـ جاء مستفيدًا من سلبيات الاستشراق الغربي، متمتعًا بذلك الجزء الوظيفى فيه وهذا ينسجم تمامًا مع إمبريالية حديثة العهد والنغمة معًا، ويبدو أن صراعًا واسعًا سيبقى مفتوحًا، وثمة حيزان لابد من نقل السجال إليهما.. ذلك الجزء المخصص للأدب الغربى وأدب الشرق بعامة فى موسوعة السيد (ديكنز)!.. ووعيد (روزفلت) الذى اتخذ طوال اثنين وثمانين عامًا عدة أشكال من المساحيق والطلاء، لكن تحت شموس شرقية أحيانًا تحجبها سحابات عابرة، وغالب الأحيان تذيب الأصباغ والمساحيق لتعلن فى ظهيرتها عن الوجه الأمريكى العاري، وإذا كان (كيسنجر)، تلميذ (مترنيخ) قد لعب دورًا كبيرًا فى تجديد السياسة الأمريكية، أو بعبارة (شاليان) أدخل الوعى التاريخى إلى قلب الدبلوماسية الأمريكية، بحيث استطاع إحداث تغييرات أساسية بفضل قدرته على التجريد والإدراك السوسيولوجى الحاد للوقائع (وهى حالة تقليدية بالنسبة للمنتمى إلى الأقليات) فإن الاستشراق الأمريكى قد بدأ هو الآخر ـ كأحد تجليات المؤسسة الكبرى ـ يأخذ أشكالاً أكثر انفتاحًا وأقل حدة فى مواجهة (الخصوم)، بل لعله أصبح قادرًا على خلق (وسطاء) ذوى باع أكاديمى طويل، وربما سياسى للحصول على ما يتعذر الحصول عليه مباشرة وبالوسائل التقليدية وبدون مقابل أيضًا، فقد سبق أن قال كيسنجر ذات يوم أنه يستطيع أن يأخذ من العرب كل شيء دون أن يعطيهم أو حتى يعدهم بشيء!

مانشيتات عريضة غامقة السواد ومتقاطعة، هذا ما يمكن أن توصف به خلاصات ثقافة مهمشة. يعلن (هشام جعيط) بدون تحفظ أن الإشكالية القديمة (إسلام ـ غرب) قد ولى عهدها ولا نقاش اليوم بين أوروبا والإسلام، بينما يعلن (أنور عبدالملك) أن السمة الرئيسية لعصرنا هى المجابهة المستمرة بين الشرق والغرب، والمسألة ليست فى قبول هذه الخلاصات، فليس من السهل حسم إشكالية بالغة التعقيد كالاستشراق ومؤسساته وأبعاده برأى يستمد تفاؤليته من (جاك بيرك) أو من ندوات (اللوموند)، وسيظل كل تناول الاستشراق محكومًا بالتماس مع بعده السياسى سواء حمل سمة الاستثمار الواسع أو الاستعمار بمعناه الحديث إذ كيف يمكن الفصل بين الاستشراق وبين المشاريع الإيهامية التى تلجأ إليها واشنطن لخلق (شراكات) غير متكافئة، الشراكة الأمريكية الأفريقية مثلاً، أو تلك الشراكات الثقافية المعبر عنها بمشاريع تبادل الترجمة والإنفاق على ناشرين ومجلات ومحاور.. الخ.
إن ثقافة أدبية عوراء أو (حولاء) فى الأقل هى المسئولة مثلاً عن صرف الانتباه الثقافى عن الشركات (متعددة الجنسية) وعن (الشقيقات السبع).. وعن التوسع الإمبراطورى للبنوك الأمريكية (التسليف وتوابعه فى العالم) وعن منشورات شركات الزيوت والسيارات التى أصبح لها ولع مباغت فى الشعر!
التبشير بالتبشير!

كتب جورجى زيدان فصلاً بعنوان فضل الإرسالية الأمريكية فى سورية أشاد فيه بدور هذه الإرسالية إنها بلا خلاف من أكبر دعائم هذه النهضة العلمية ولعلنا لا نغالى إذا قلنا أن هذه التربية ـ تربية الإرسالية الأمريكية بالطبع ـ كانت فى جملة الأسباب التى مهدت السبيل لإعلان الدستور. جاءت هذه الإشادة بدور الإرسالية الأمريكية فى الشام ضمن سياق مفعم بالاعتراف بالدين والجميل للدكتور (يوحنا ورتبات) الأمريكى المولود عام 1827 والمتوفى عام 1908، ويستطيع القاريء أن يحصى عشرات النعوت التى ينسبها (زيدان) لهذا المبشر المحترف. لقد كان محترفًا بالفعل، يقول (زيدان): لقد استخدمته جمعية التبشير C.M.S طبيبًا ومبشرًا فى حلب، مكث فيها بضع سنين وعاد إلى أمريكا ليواصل الدراسة ويحصل على ما يؤهله للعودة إلى بيروت.

إن ما يستحق التأمل بحق فى كتابات (جورجى زيدان) عن التبشير الأمريكى فى سورية هو موقف المسيحيين من أهل البلاد يومئذ من المبشرين الوافدين، يقول:
كان المبشرون الأمريكان فى سورية لايزالون مضطهدين يخافون على حياتهم من القتل من رؤساء النصرانية هناك، كانوا يسيئون الظن بهم، ويعدّونهم غرماء ينافسونهم على السيادة، ويذكر (زيدان) حادثة عن محاولة قتل الدكتور (بوست) الأمريكى وتعرضه فى مسكنه للضرب المباشر بالعصي.
وهكذا نرى أن الاستشراق الأمريكى فى بواكيره كان مرتبطًا على نحو وثيق بمؤسسات التبشير فى أمريكا نفسها، وواجه نوعين من ردود الفعل.. هى كما رأينا تتلخص فى الترحاب والتمجيد والاعتراف بالفضل الذى تحدث عنه (جورجى زيدان)، أو فى مقاومة النصرانية من خلال رؤسائها لهؤلاء المبشرين ـ المستشرقين الأوائل.

إن أهم ما يمكن أن يلاحظه القاريء لبدايات الاستشراق الأمريكى أنه جاء مرتبطًا بالعلم أكثر من ارتباطه بالإنسانيات وحتى عندما تكون هذه الأخيرة من ضمن مهامه فإنها تأتى على هامش الاهتمامات ذات الصبغة العلمية، فالدكتور (فنديك) مثلاً ـ (1818 ـ 1895) ـ اختاره مجمع المرسلين الأمريكانيين مرسلاً وطبيبًا للديار السورية ووصل بيروت عام 1840، يقول (زيدان) أنه تعلم مائتى كلمة عربية خلال الأيام الأولى من إقامته فى (الحجر الصحي) ثم سافر إلى القدس لممارسة مهنته المزدوجة التبشير ـ الطب، وعاد إلى بيروت ليتعرف على المعلم بطرس البستانى ويقاسمه غرفته، ودكتور (يوحنا ورتبات) جاء إلى سوريا كأستاذ للتشريح والفسيولوجيا وكذلك د. (بوست) الذى جاء بصفة أستاذ للجراحة فى الكلية الأمريكية ببيروت ليصبح بعد ممارسة دامت واحدًا وأربعين عامًا فى الجراحة حجة فى ميدان آخر هو (جغرافية فلسطين الطبيعية).
وكنا قد رأينا أن معظم المستشرقين الأمريكيين الذين جاءوا إلى منطقة الشرق العربى عادوا ليهتموا بالإسرائيليات، واللغة العبرية وما يتفرع عنهما لكأنما هناك على الدوام ما يربط بين التبشير وتابعه ـ الاستشراق. ومن المعروف أن أوائل المستشرقين الأمريكيين كانوا تابعين للمؤسسات الإنجليزية على هذا الصعيد.. يقول (زيدان):
كان للرسالة الأمريكية عمل فى بر الأناضول قبل عملها فى سوريا وكان الإنجليز قد سبقوها إلى هناك وفيهم القنصل والتاجر والكاتب، وأصبح مرجع الأمريكان فى شئونهم إلى سفير انجلترا فى الأستانة.
والغريب أن (زيدان) لا يتشكك بأى شيء يتعلق بقدوم سفراء التبشير هؤلاء، على العكس من ذلك يعلن فضلهم كما رأينا، ويدين موقف النصرانية السورية منهم، ويجد تفسيرًا واحدًا لوقوف هؤلاء أو تشككهم بالمبشرين ـ هذا التفسير يتلخص فى الخوف من الغرماء والمنافسين، لقد تعرض أحد المستشرقين وهو (بالمر) للموت الفعلى عام 1882 حين تقاضى ثلاثة آلاف جنيه مقابل العمل كجاسوس للاحتلال البريطانى لمصر، بعد أن عمل فترة طويلة ضمن مجموعات أخذت على عاتقها تتبع رحلات بين إسرائيل من مصر إلى سيناء.. وإلى أرض الميعاد، مما دفع البدو من العرب إلى نصب كمين لـ"بالمر" وأربعة من مرافقيه وقتلوهم فى العشرين من آب عام 1882، وقد شهد (آربري) المستشرق ومواطن الجاسوس "بالمر" على هذه النهاية بقوله: إنه يستحق هذا المصير لأننى أومن وبكل رسوخ أن المهمة الحقيقية للعالم هى العلم.
فى موسوعة المستشرقين الشاملة أو ما يمكن تسميته أهم عمل بانورامى لتقديم المشهد الاستشراقى وأحداثه أيضًا، نجد أن د. (عبدالرحمن بدوي) يعرض لأعمال مائتين وسبعة مستشرقين من الجنسيات كافة، لكنه لا يذكر ضمن تلك القائمة العملاقة إلا مستشرقًا أمريكيا واحدًا هو (ماكدونالد) والذى هو أمريكى الإقامة ـ لا الجنسية ـ فهو من مواليد بريطانيا عام 1863 وانتهى فى أخريات أيامه إلى ما يشبه النهاية التقليدية فى الاستشراق الأمريكي: دراسة العبقرية الأدبية العبرية، وعبقرية الفلسفة العبرية أيضًا! ومن المعروف عن (ماكدونالد) أيضًا انسياقه الكلى وراء الفكرة القائلة بأن الفارق بين العقل الشرقى والغربى يكمن فى عجز العقل الشرقى عن بناء نظام للأشياء المشهودة ليس فقط فى سرعة تصديق هذا العقل للأمور الغيبية، هل هو استخفاف أم تجاهل؟ هذا السؤال يفرض نفسه على قاريء موسوعة المستشرقين للدكتور بدوي، فهو لا يذكر مثلاً ذلك العدد من المستشرقين الأمريكيين الذين تحدث عنهم (جورجى زيدان) أو أولئك الذين أفرد لهم (عقيقي) قائمة فى كتاب مبكر نسبيا، وثمة إشارات ليست عابرة ـ يذكرها (عقيقي) كقوله: فى أمريكا تسع جامعات تعد طلابها لنيل الدكتوراة فى اللغات الشرقية عدا المدارس اليهودية والمسيحية التى تعنى باللغات الشرقية عناية خاصة، وتوسعت الدراسات الشرقية إلى الحد الذى جعل جامعة (متشيجان) تنشيء كرسياً للفن الإسلامى ووقف على جامعة هارفرد مائتا ألف دولار لأستاذ العربية فيها.
لقد بدأ الاستشراق الأمريكى تبشيريا، واستطاع أن يبنى له معاقل عامرة بآلات التفتيش والوريث الاستعمارى لبريطانيا الهرمة ـ وريث استشراقى أيضًا، أما (التركة) فواحدة.
ليس للكاتب منصب وراتب بل قلم ومنبر

مع تحياتي وإلتزامي فارس معمر