كل حرب تبدأ من الكلمة
06-05-2009, 08:40 PM
كل حرب تبدأ من الكلمة. وبالكلمة تنتهي. واليوم، حتى الصغير، أصبح يعرف إن: الحرب هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى... واليكم المثال النموذجي والمعروف جداً والذي يؤكد تلك المقولة: الحرب الباردةبدأت منذ أن ألقى تشرشل خطابه في فولتون عام 1946. وفورا"بعد أن انتصرت الولاياتالمتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون في تلك الحرب الباردة باشر هؤلاء أنفسهمحربا" جديدة ـ من اجل السيطرة الكاملة على العالم. وهذه يمكن تسميتها "حربالكلمات" ذلك أنها بدون إراقة دماء وربما من دون طلقة واحدة قادرة على ابادةالجيوش الوطنية وزعزعة الحدود الدولية والقومية، وتقويض استقرار شعوب بأكملها. والسلاح الأساسي في هذه الحرب ـ العولمة !!
لاشك إن العولمة ظاهرة متعددة الأوجه ومعقدة للغاية. ومن المستحيل الخوض فيالتفاصيل من خلال مقال واحد مهما كبر. ولكن سنحاول الوقوف على بعض الجوانب الرئيسيةوالمفتاحية، من وجهة نظرنا، والتي ستقدم تصوراً كافياً عن هذه العملية ككل.
مهما بدا ذلك غريباً فان أفكار العولمة، حقيقة، لم تظهر لأول مرة لا في نهايةالقرن العشرين ولا في أمريكا أو أوروبا الغربية. وإنما يمكن القول أن أول "إنسان عولمي" في تاريخ البشرية كان.. السيد المسيح! هو بالضبط الذي أعلن، ومنذ أكثر من ألفي عام أن ما يجب أن يوحّد البشرية ليس الانتماء لعرق أو لشعبأو دولة ما.. وان ما يوحدها هي "فكرة علوية" حول الأخوة والمساواة الكاملة. لكن قطعاً لم يكن السيد المسيح يقصد أن تحكمنا حكومة عالمية ولا حتى قداسةالبابا في روما، والذي لم يرد ذكره على لسان يسوع، بل ما قصده المخلص هو الأبالسماوي.
أفكار العولمة على طريقة " السيد المسيح " كانت تفهم وتطبّق، في القرون الوسطى، من قبل أقوياء العالم بشكل مباشر ووحيد الجانب: مبشّرين بعقيدتهم وبالتاليبإيديولوجيتهم، إن رجالات الكنيسة كانوا يضطهدون مخالفيهم في الرأي بالحديدالملتهب وحاولوا تصفية أصحاب "الرأي الآخر" بالحرق أو شنوا الحملات الصليبيةضد "الكافرين“. وقد مارس الملوك نفس الشيء وبنفس الأساليب ولكن بشكل أوسع.. إذ لم تتوقف الحروب في أوروبا ـ فعلى امتداد ألفي سنة من التاريخ الحديثلم تعرف أوروبا ما مجموعه أكثر من عشرين سنة هدوءاً وبدون حروب !!
لكن الأمر تغير قليلاً مع نشوء وتمكن الأفكار ما فوق الوطنية لمفكرين اشتراكيين - طوباويين من أمثال سان -سيمون وفورييه أو من هم اقرب إلينا – الشيوعيون: ماركسوانجلس ولينين. فبالنسبة لهؤلاء حلّت "فخامة البروليتاريا" مكان اللهكمركز موحّد جامع للعالم.. "يا عمال العالم اتحدوا" ــ تحت هذا الشعارانطلقت أضخم واغرب تجربة سياسية أممية في التاريخ: بداية في جمهورية فرنساالقرن التاسع عشر، ومن ثم على سدس الكرة الأرضية ـ روسيا وبعدها كل العالم.
واليوم بدلاً من الاشتراكيين - الامميين جاء العولميون - المحدثون من "موجةجديدة"، مع أفكارهم الخاصة حول الاقتصاد الأممي ومع فكرة حكومة عالمية واحدة.
الملفت للنظر انه مع كل انقلاب سياسي جديد نرى المنتصرين يلجأون فقط إلى تغييرالغطاء الإيديولوجي للإصلاحات الجارية. في حين إن جوهر هذه الأخيرة هو هوذاته: السيطرة "ما فوق الحكومية"، و"ما فوق الوطنية"، والكاملة للأقليةالشوفينية على شعب بلد معين، ومن ثم على شعوب كل العالم.
كما قال أحد المفكرين إن السياسة هي تكثيف للاقتصاد. أما أنا فسأغامر وأضيفلذلك المفكر وأقول: إن الهرطقة الكلامية لجميع أولئك " الـ.. يين" هيمجرد غطاء تكتيكي للوصول إلى هدف استراتيجي واحد - ألا وهو دوماً السيطرة الكاملةوالشاملة، الاقتصادية في الدرجة الأولى، على العالم. إنما اللحظة التاريخيةفقط هي التي تفرض من حين لآخر التوجهات السياسية اللازمة لتحقيق ذات الهدف أولاًوأخيراً.
بخلاف الاشتراكيين -الامميين السابقين، إن " الامميين " (الحاليين ـ العولميونوفي صراعهم مع الإيديولوجيا الشيوعية) لا يجهدون أنفسهم بتقديم أية أدلةعلى صحة وجهة نظرهم، ببساطة هم اعتبروا آباءهم الروحيين والسابقين لهم، أيالشيوعيين الامميين، "خارجين عن القانون"؛ وان أفكارهم غبية وهدّامة، وفيأفضل الحالات هي أفكار خاطئة وانسدادية الأفق أي غير قابلة للتطبيق.
لكن في الواقع فان أوجه القرب أو التشابه بين هذين التيارين من الأممية هو أكثرمما يبدو للوهلة الأولى. التشابه ينبع من وحدة الهدف . مثلاً هؤلاء وأولئكيعتقدون بإمكانية التحكم بالعالم من خلال القوميسارات أو عملاء فّعالين. فمناجل الاستيلاء على بقعة أو بلد ما يتوجب بداية تأسيس وصياغة ومن ثم زرع الغطاءالإيديولوجي اللازم لمثل هكذا "عملية". بالضبط لهذا السبب يتم اليوم الاستيلاءعلى الصحف وقنوات التلفزة كما كانوا سابقاً يسعون ولو عبر المعارك والقتال للسيطرةعلى محطات القطارات ومراكز البريد والهاتف. نظرياً، أكثر أهمية فهو أن أية عولمةحالية أو لاحقة لا تضع هدفاً لها تحسين مستوى معيشة الأغلبية. نظرياً، فيالشعارات ـ نعم . أما على ارض الواقع ـ هراء. ففي عصر الاشتراكية كان يقدملتلك الأغلبية الحد الأدنى للمتوسط الضروري ـ في الحقيقة ليس أكثر من مستوىحافة الفقر حيث فعلاً لم يكن يوجد جائعين بالمعنى الحرفي للكلمة. وبما انهمن المستحيل أن نصبح جميعاً أغنياء كفاية فقد كانت أمام المجتمع مهمة إيديولوجيةترمي لبناء "إنسان واعي فوق العادة“، الذي يجب أن تبقى متطلباته الماديةفي الحدود الدنيا الممكنة للبقاء. تذكّروا شعار مرحلة الشيوعية المنتصرة: "من كل حسب استطاعته، ولكل حسب حاجته" ــ شعار بقدر ما هو رنان بقدر ماهو خيالي. الحقيقة هي إن متطلبات الفرد لا حدود لها. كلما ازداد تملكه ــكلما كبرت رغباته وحاجياته. ولن تكون نهاية لتلك الثنائية. على كل حال طالماأن الكرة الأرضية مصابة بداء الاستيطان من قبل بني البشر ؟! .
ذات القضايا والإشكاليات كانت قائمة في حينه أمام رجالات الكنيسة. في البداية، أنكرت المسيحية على المؤمن الغنى الشخصي واعتبرت الثروة آفة، بينما صار الفقريعادل الكبرياء و بطاقة مرور إلى جنات السماء. خصوصاً لو أصبح المرء فقيراًبسبب تبرعه بأمواله في سبيل قضية إيمانية. فقط من يضحي لأجل "الهيكل" (أي لآجل الفكرة)، والذي لا يملك سوى "ما هو ضروري للعيش"، كان لديه الأملفي دخول الجنة السماوية. أما المبشرون الرئيسيون لهذه الإيديولوجية ـ باباواتالكنيسة في روما ـ فقد أحاطوا أنفسهم بكل أشكال البذخ والثراء لدرجة اللا معقول.
لاشيء جديد في عالمنا الأرضي. فكل ما يجري في أيامنا معروف وواضح. ومهمانظّر العولميون ـ الأمميون الحاليون فان العولمة تسبب فرزاً عميقاً في المجتمعوفق درجة التملك. أما المجتمع الديموقراطي، خصوصاً في بلدان الاشتراكية سابقاً، فلم يعد له وجود بعد أن انقسمت تلك المجتمعات إلى "سوبر أغنياء"، وفقراءبالمعنى البسيط والدقيق للكلمة. وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية ـ قلعةالعولمة ـ فقد انخفضت أجرة العمل حوالي 10% من قيمتها الفعلية خلال العشر سنواتالأخيرة. هذا ما يعلنه صراحة معارضو العولمة في أمريكا، بينما ينكرونه ويتسترونعليه خبراء الاقتصاد ـ العباقرة في روسيا ـ أصحاب التوجه الغربي.
ومن خصوصيات العولمة الحالية هو حصول تبدلات بنيوية في سوق الاستهلاك في البلدانالغربية المتطورة اقتصادياً. ذلك إن البضائع والخدمات التي كانت متوفرة للأغنياءفقط في السابق كانت تدريجياً تصبح في متناول الطبقة الوسطى. أما الآن يجريتناقص فعلي في الموارد والخدمات ذات الطابع الشعبي الواسع.. بينما النخبة تسبحفي سوق السلع الفخمة والعجائبية. وهذا يحصل أبداً ليس لان المواطن الأمريكيقد أصبح مؤخّراً في مصاف الأثرياء. وهنا قد يتبادر للذهن سؤال عن العلاقةبين العولمة وبين انخفاض مستوى معيشة الأمريكي أو الروسي أو الألماني.. الجواببسيط للغاية. عندما يتحول راس المال الوطني، في مثالنا الأمريكي أو الروسيأو الألماني، إلى راس مال عابر للحدود، حينها فانه يفقد بقايا ما يسمى"الوطنية"؛ ذلك أن الشركات الفوق ـ قومية، الأمريكية وغيرها، وبعد أن تتحررمن انتمائها لأية دولة، تبني مصانعها ومؤسساتها أينما يحلو لها بمجرد أن تتوفراليد العاملة والمواد الخام الرخيصة. بالتالي فان الأمريكيين وغيرهم، الذيناعتادوا على أجور عمل ممتازة لقاء أعمالهم الرفيعة، سيفقدون أماكن العمل وبعدهاالأجور العالية. كما انه، وهذا هو الأهم، لن يعود هناك مفهوم "خيانة الوطن" بالنسبة لذلك "المواطن العولمي“، طالما أن مفهوم الوطن بحدوده المعروفةسابقاً لم يعد له وجود بالنسبة لذاك "المواطن المعولم“. بل ينشأ لديه مفهومجديد هو "البيت" الذي يبنيه أو يشتريه حيث يجد الراحة في لحظة ما. لهذابالتحديد لجأ من يعرفون اليوم بـ "الروس الجدد" إلى نقل أموالهم، وسوف يقومونبنقل كل ما يستطيعون "تحصيله" في روسيا إلى الخارج. إن تحويل روسيا إلىمجرد مصدر مواد خام تابع للاقتصاد الغربي ـ هو في راس أولويات العولمة الحالية. وقد سبق واعد نفس المصير لبلادنا منذ أكثر من مائة عام من قبل الشيوعيين ـالأمميين. لقد تم في حينه توظيف الطاقات الاقتصادية والعسكرية لروسيا من اجلإزالة النظام العالمي الإمبريالي القديم ذو الخصائص القومية وذلك من اجل بناءالأممية الشيوعية. لكن السلطة الروسية حينذاك تمكنت من قلب المعادلة وبعد أنتخلصت من أباطيل وأوهام الثورة العالمية قامت بنقل البلاد إلى مصاف الدول العظمىفي العالم. الآن يحضّر نفس المصير لروسيا ـ امتداد من الثروات الطبيعية ملحقباقتصاد أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. ونحن نسير "بنجاح" في هذه الطريقوبسرعة باهرة جدي.ّصعد عدد السكان حتى الـ 50 مليون نسمة "المقررة والمسموح لنا بها، ولذلك نقوم بتهديم كل ما لا يتعلق بتامين عمل القطاعات المعتمدةعلى التصدير؛ وهمنا المحافظة على المستوى المطلوب للغرب من إنتاج النفط والغاز. أما احتياجات الاقتصاد الروسي فلا تهم أحدا "بشكل جدي".
بالنسبة لهم أوروبا الموحدة، أما نحن " حق الأقليات والقوميات في تقرير المصير " لدرجة الفظاعة والنفخ المتزايد في الصراع المفتعل بين ديانتين تاريخياً متعايشتينفي روسيا: المسيحية والإسلام.
خلال شهري حزيران ـ تموز 2001 فقط هبطت أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية بنسبة 15% وبالنسبة للنفط الروسي 20%. إن تلك الواقعة يمكن أن تعني بداية النهاية "للعجيبة الاقتصادية" التي وكأنها تحققت في عهد النظام الجديد لروسيا، ذلك أن المقياس لحياة طبيعية في البلاد ـ الميزانية ـ لا تزال تبنى ليس على بعث وزيادة الإنتاج المحلي، وإنما فقط على ارتفاع أسعار النفط الخام والغاز المصدّر. فإذا ما انخفضت الأسعار ـ تهتز الميزانية: إن سياسة العولمة لن تسمح لروسيا أبداً بالنهوض والوقوف على قدميها. بالطبع طالما إن حكومتنا الوطنية ستستمر في نهجها الموالي للغرب وبشكل أعمى والذي سيؤدي لا محالة إلى الهلاك