عندما فتح عوَّاد عينيه وجد خِرقا تغطي جراحه ورائحة الأعشاب البرية الطبية تتمازج مع رائحة العرق التي تتصبب من كامل جسده
نظر مطولا إلى السقف الخشبي البالي وإلى الجدران التي تنمو بين بعض حجاراتها بعض الحشائش , وإلى فراشه وغطائه البسيطين من جلود أغنام وما أنتجته أيادي النسوة , وفي تلك الجولة الخاطفة بعينيه لمح من شبه نافذة شابة طويلة قوية تعارك أكوام تبن بمذراتها وتصرخ بأعلى صوتها على بقراتها.
سأل عواد نفسه لماذا هو هنا ولماذا هذي الجراح الغائرات حتى تذكر تلك الطعنات الغادرات , لم يدم القلق طويلا حتى دخل "عمي رابح" الفلاح الفقير بزيه العروبي وعمامته الصفراء ليبادره "حمدا لله على سلامتك يا ولدي" فالطعنات جانبت الموت
ما الذي حدث يا عماه
وجدتك في دمائك في إحدى الشعب فنقلتك بحماري إلى بيتي
وما هذي الخرق؟؟
الطريق وعرة والمستشفى بعيد جدا وعمك فقير الجيب غني الحيلة فلا أفضل لجراحك من تلك الأعشاب المباركات
قل يا ولدي , أين عائلتك لنتصل بها؟؟
لالا يا عمَّاه فأنا وحيد وفقير , فهل يمكنني قضاء بعض وقت عندكم ريثما أشفى
البيت بيتك يا ولدي وسأقوم على رعايتك أنا وابنتي "سهام" فزوجتي رحمها الله توفت منذ عام
مرت الأيام بطيئة على عوَّاد في بداياتها حتى بدأ يعتاد حياة البادية القاسية , كان يتذكَّر في البداية إقاماته في فنادق "أجنة عدن" بالسيشل و"فينيسا" بإيطاليا , تذكَّر زياراته لقصور اسبانيا وشواطئ هاواي وجامايكا ومغامراته في أوروبا , الصين والهند بتقاليدها وعاداتها تذكَّر كل قُطر من الطرف إلى الطرف الآخر , تذكَّر الترف والترف الفاخر , تذكر كل أصناف الدلال من أفرشة ومأكولات حتى يعتاد على الكسرة واللبن وبعض ما تجود به تلك الأراضي وسواعد الطيبين
مرت الأسابيع سريعة وتعافى عوَّاد ولكن لم يشفَ من سؤال ملح , ما سر سعادة هؤلاء البسطاء؟؟ , ما سر تلك البسمات الناطقات؟؟
قرَّر عوَّاد أن يثبت الجواب الذي يدور بداخله , سأثبت أنها الأرض والهواء العليل وشمس لا تحجبها العمارات الشاهقات
انتقل عوَّاد من طرح الأسئلة إلى الاحتكاك بعمي رابح وسهام لتطويع قبضتيه بالسنابل والمناجل ومناجاة الشياه والجداول ونقش الأرض بالمعاول
كان يتعلم من سهام دروسا في الصبر والمقاومة والعطاء , دروسا في الإخلاص والثبات والوفاء
خصلات شعر سهام التي تتمايل مع النسيم كأنها سنابل ذهبية كان عواد لا يكاد يميز منها أعواد التبن العالقة فيها , الوشوم السوداء التي يخلفها رماد المواقد لا تحجب ضياء وجه سهام ولا يطفئ اتقاده مع كل إطلالة شمس أو بزوغ نجم , قساوة اليوميات وضراوة الحياة فاتك شرس بشباب أي فتاة و لكن سهام زادتها بهاء على صفاء كما زهرة برية نادرة الجمال تصارع بين صخور تجثم على صدر جبل.
عوَّاد وهو يفكر فيها كان يَسْعد أيضا وهو يأكل من عرق جبينه ومن جميل صُنْع يمينه
كان يُسكت عمي رابح حينما يدعوه لعدم إجهاد نفسه بأنه لم يفِ حق الكراء فكيف بالدواء ويضحك عوَّاد جدا
ضحكة عوَّاد الفلاح والمزارع البسيط نادرة في عالم الضحكات , ضحكة بريئة تقتحم القلوب وتخترق .
عرف عوَّاد الفرق الكبير بين "العوَّاديْن"
عوَّاد ذو المال الكثير , لا يلبس ولا يجلس إلا على وثير ولا يأكل ولا يشرب إلا من أكواب وقوارير , ولا ينام إلى على مخدة من ريش النعام على أفخم سرير
وبين عوَّاد الفلاح الفقير , قيلولته تحت الشجر والعشب النضير كأنه حصير , من خير الأرض طعام له أو عصير , مشربه من ساقية لها خرير , و مركبه ظهور البغال والحمير
اكتشف كم كان مقيدا وكم صار حرا
عوَّاد اكتشف أيضا الفرق بين النساء "كل اللواتي أحطن به , سامية ,مليكة وسهام"
في تلك الليلة الكبيرة وبعد الألفة وصناعة الشخصية الجديدة والجديرة بالاحترام , قرَّر...