اركلوا مصطلح الإرهاب!
د.أيمن أحمد رؤوف القادري
قال تعالى: [
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين]. وقال تعالى: [
ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء، وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين].
لا بدّ أن نبدأ بهاتين الآيتين، ونحن بين يدي موضوع الإرهاب، حتى يُعلَم أن الأصل في هذه الدعوة الإسلامية المباركة أن تزرع الأمن والطمأنينة في النفوس. ولقد منّ الله تعالى على بني قريش، بنعمة الأمن من الخوف، فقال: [
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ].
أما الإرهاب، فلا غنى عن ربطه بأميركا، فالمصطلح قد أنشأته هي. وجعلت قانون الإرهـاب الذي تبنته، أحد الأسلحة الفاعلة، التي تستعملها لإحكام قبضتها على العالم، ولاسيما الذي تلمس فيه نوازع التمرد على سياستها الأمريكية. فهي تصف كل حركة تتعرض لمصالح أمريكا، أو مصالح عملاء أمريكا، بأنّها حركة إرهابية، وتضع اسمها على قائمة المنظمات الإرهابية، التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية بشكل دوري، كمعظم الحركات الإسلامية، في مصر وباكستان وفلسطين والجزائر وغيرها. ولكن أمريكا نفسها، تصف حركات أخرى بأنّها حركات مقاومة شعبية، مثل حركة ثوار «نيكاراغوا» وجيش التحرير الإرلندي، وغيرها. وتعتبر مقاتلي هذه الحركات، في حال اعتقالهم، أسرى حرب، حسب بروتوكول (1) لعام 1977م الملحق باتفاق جنيف!!
وقد استغلت الأعمال التي تعرضت لأهداف مدنية، سواءٌ أَصَدرتْ هذه الأعمال من حركات سياسية أو عسكرية غير مرتبطة بأمريكا، أو صدرت من حركات مرتبطة بالاستخبارات المركزية لأمريكا.
واستغلت تفجير قاعدة الـخُـبَر الأمريكية في السعودية، ففرضت (40) توصية تتعلق بمكافحة الإرهاب على مؤتمر الدول الصناعية السبع الذي عقد في فرنسا عام 1996م، ثم استغلت حادث تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، قبل معرفة الفاعلين، لاستصدار قانون مكافحة الإرهاب، الذي صادق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1997م.
وهكذا تتمكن أمريكا من ملاحقة أي شخص يُتهم بالإرهاب في أيّ بقعة من الأرض، ولقد عبّر عن ذلك وزير خارجيتها الأسبق شولتز حيث قال: «إنّ الإرهابيين مهما حاولوا الفرار فلن يتمكنوا من الاختباء». وتكتسب الحقّ باعتقاله أو خطفه، وإنزال العقوبة التي تراها بحقه، كالسجن ومصادرة وسحب الإقامة أو الجنسية، وذلك دون إعطاء المتهم الحقّ في الدفاع عن نفسه، أو المثول أمام محكمة مدنية، أو هيئة محلفين!!!
ولمعالجة كيفية التصدي لهذا المصطلح، لا بدّ من تبيان حساسية المصطلح عامة:
تبدأ أكثر الأزمات الفكرية، من نقطة العجز عن وضع الأطر المناسبة للقضايا الخلافية، عبر تحديد المصطلحات، ومنعها من "الانفلاش"، أو من نقطة تقصّد إهمال وضع هذه الأطر. ولعلّ اشتقاق كلمة مصطلح، مما اشتُقّت منه كلمة الصُّلح، دالّ على فضيلة الاصطلاح، ومدى ما ينزعه من فتائل الانفجار.
ولقد حضّ الإسلام على ترسيخ هذا المفهوم، فنرى الرسول، صلى الله عليه وسلم، يطرح على أصحابه الأسئلة الباحثة عم ماهية الأشياء، حتى يختبر ما لديهم، ثمّ ينبئهم بالتعريف الصحيح. ومثال ذلك:
روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أتدرون من المسلم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .قال : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .قال : أتدرون من المؤمن ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال: المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم .ثم ذكر المهاجر، فقال: والمهاجر من هجر السوء فاجتنبه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؟ فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار . رواه مسلم.
وحذا الصحابة والتابعون حذو نبيهم، صلى الله عليه وسلم، فروي عن علي بن أبي طالب أنه عرّف التقوى بقوله: "العمـل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل". وكان مما يروى عن الحسن البصري، أنه قال: "الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل". وكان مما يروى في الأثر: "الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان."
أما أئمة المسلمون، ولا سيما المصنِّفون منهم، فكان يبدؤون كل مبحث فقهي أو كلامي بتعريف جامع مانع، كأن يقولوا: كتاب الصلاة, وهي لغةً: الدعاء، واصطلاحاً: القيام بأعمال مخصوصة في أوقات مخصوصة...وحين أراد المتكلمون بحث قضية خلق القرآن، عمدوا إلى تعريف الكلام عامة، وبنوا على خلافهم في تعريفه، خلافهم في هذه القضية.
ولقد حرص الإسلام على أن يبعد عن التداول كل مصطلح يوقع في إرباك، حين يكون مضمونه مخالفاً للمفاهيم التي يغرسها الإسلام، أو حين يلتبس هذا المصطلح، نتيجة أن يكون له مفهومان متضاربان:
فلقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة رفض لفظة "راعِنا"، لأن اليهود يرون لها معنىً آخر، غير معنى المراعاة والإمهال، لأن اللفظة في لغتهم تعني الرعونة. قال تعالى: [
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا..]، وقال أيضاً: [
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً].
وثمة أمثلة كثيرة على هذا الحرص في الأحاديث النبوية.
إذاً، نحن في العقود الثلاثة الأخيرة، من تاريخ أمتنا، في مواجهة حادة مع طواغيت الغرب، ودوائر الاستعمار المتعدّد الأوجه فيه، نحن في ساحة صراع مترامية الأرجاء، لا تهدأ، ولا ينبغي أن تهدأ، طرفها الأول أمة عزيزة عبر قرون غابرة، تجتهد في أن تعود إلى مجدها الذي سُلِب منها، وتأبى أن يلحق بها أحد الضيم، لأن دينها غرس فيها أرقى مقوّمات القوة والعزّة والتصدّي. وطرفها الآخر دول غاشمة سيطرت عليها حثالة من أفكار الرأسمالية الجشعة، واستبدّت بها القيم المنحطة، أو فكرة انعدام القيم. ولهذا لا بدّ أن تكون المعركة شرسة، فهي معركة واضحة بين الحقّ والباطل،.... الحقّ بما يملكه من إيمان لا يتزلزل، وقيم لا تهتزّ، وطاقات لا تخمد، وسواعد لا تكلّ، وتاريخ لا تمزَّق صحفه،.... والباطل بما يملكه من دهاء لا تحدّه قيم، وبطش لا يعرف رحمة، وزرع فتن لا يرجى لها أن تخمد، وشراء أدمغة بأبخس الأثمان. وحيث إن أمتنا عريقة في تحطيم غطرسة الباغي، وتدمير جبروت الشرك، كان لا بدّ أن تزداد ضراوة العدوّ، ويلقي بكلّ أسلحته في معركته، التي نصرّ على أن نقول إنها خاسرة، ولو حقّقت إنجازات وضيعة آنية.
ولعلّ أبرز ما تصوّر العدو أن يكون سلاحاً فاعلاً، سلاح قلب المفاهيم، وبعثرة القيم، وتزوير الوقائع، وحرف التسميات. ولهذا كان عليه أن يبتعد في الإشارة إلى معارضي سياسته، عن كلمات تسود في أوساط أمتنا، وتدغدغ المشاعر، وتؤدي إلى احتضان الأمة لمن ينطبق عليه مفهوم هذه الكلمات، ومن هذه الكلمات: ثوّار، فدائيون، مجاهدون، شرفاء، مقاومون، أبطال،... كان على العدوّ أن يلجأ إلى بضاعة التحريف، وهي بضاعة المفلسين، فكما سمّى المشركون أهل التوحيد بالصابئين، سمّى الغرب المجاهدين بالإرهابيين!
ربما يكون في جذور الكلمة اللغوي ما يرغّب بعض المسلمين، في أن يعجبوا بالكلمة، لأن الله تعالى يقول: [
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ..]، ولأن معنى الإرهاب، لغوياً، موجود في كلمة الإيجاف: [
وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]، ولأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: [...ونصرت بالرعب مسيرة شهر.]
ربما يكون هذا صحيحاً، لكن المعنى اللغوي الاصطلاحي، ليس هو المعوَّل عليه، بل المعنى الاصطلاحي العرفي.
جاء في كتاب مفاهيم خطرة لضرب الإسلام وتركيز الحضارة الغربية، الذي أصدره حزب التحرير، عام 1419هـ، 1998م:
"لقد اتفقت كلٌ من الاستخبارات الأمريكية، والاستخبارات البريطانية، في ندوة عقدت لهذا الغرض عام 1979م على أنّ الإرهاب هو: «اسـتعمال العنف ضد مصـالح مدنيـة لتحقيق أهداف سياسية».
وبعد ذلك، تمّ عقد كثير من المؤتمرات والندوات الدولية، وسُنت تشريعات وقوانين، لتحديد الأعمال التي يمكن وصفها بالإرهاب، وبيان نوعية الحركات والجماعات والأحزاب التي تمارس الإرهاب، وتعيّن الدول التي تدعم الإرهاب، وذلك، على حدّ زعمهم، من أجل اتخاذ الإجـراءات اللازمة لمكافحة الإرهاب وللحدّ منه.
ويتضح من مجمل القوانين والتشريعات المتعلقة بالإرهاب، أنّها غير دقيقة، وأنّها تخضع للاتجاهات السياسية لدى الدول التي قعّدت لهذه القوانين والتشريعات، فعلى سبيل المثال نرى أن أمريكا اعتبرت اغتيال أنديرا غاندي عملاً إرهابياً، وأن اغتيال الملك فيصل ومقتل كندي ليس إرهاباً، ووصفت تفجير مبنى مكتب التحقيقات الفيدرالي في أوكلاهوما، أول الأمر، أنّه عمل إرهابي، وعندما تبين أن الذين وراء تفجيره من المليشيات الأمريكية، تحول وصف العمل من عملٍ إرهابي إلى مجرد عملٍ إجرامي."
إزاء هذه البلبلة، ينبغي بنا أن نركل مصطلح الإرهاب، ونسحبه من التداول، فهو غريب عن تراثنا، فاقد المضمون في قيمنا، مشكوكٌ في نسبه. أقلعوا عنه يا قوم، وعودوا إلى الألفاظ التي توجّهون بها أصابع الاتهام إلى أعدائكم، أحيوا المصطلحات التي دفنتموها، أحيوا مصطلحات: الاستعمار والاحتلال، والاستكبار، والعدوان. ركّزوا على ما يقترفه عدوّكم من مجازر في كل ّيوم. وإن شئتم، في ساعات فراغكم من همّكم الأكبر هذا، أن تعالجوا انحرافات المقاتلين في ساحات المعركة، فاستنبتوا من بطون المعاجم ألفاظاً ترتضونها أنتم، وتحدّدون أنتم مضامينها. العبوا في الأرض التي تختارونها. فصّلوا ما تلبسون. فكّروا برؤوسكم، لا برؤوس أسياد البيت الأبيض، فشتّان شتّان بين هذه وتلك!
المرجع/
http://www.alokab.com/print.php?id=877_0_7_0_C