كيف نغرس الهوية القيمية لدى أطفالنا!!؟
17-11-2015, 02:38 PM
كيف نغرس الهوية القيمية لدى أطفالنا!!؟


الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


لكل إنسان مفهوم عن نفسه Self Concept، يبدأ في تكوينه منذ صغره، وهو يشمل اعتقاداته تجاه نفسه في الحاضر والمستقبل، ومن خلال هذا المفهوم يبدأ كل فرد منا في تعريف نفسه Define Himself، وهذا التعريف يمثل أهم الأنشطة التي تشغل باله، ويرى مستقبله من خلال تحقيق هذه الأنشطة.
ولاشك أن مفهوم النفس يتطور مع الزمن، ويزداد وضوحًا مع الخبرات الحياتية، وهذا المفهوم هو النظارة التي يرى الإنسان منها نفسه، ويقيم حياته وأفعاله وأهدافه.
ولذلك؛ إذا استطعنا أن نغرس في نفوس أطفالنا مفهومًا لذواتهم، يتضمن رسالتهم القيمية؛ فذلك يعني أن يعرِّف كلٌّ منهم نفسه باعتباره حامي الرسالة والمدافع عن القيم العليا وهي الغاية المنشودة.
وقبل الحديث عن كيفية وضع المفهوم الصحيح للنفس للأطفال؛ لابد أولًا أن نتعرف على مفهوم النفس وتأثيره على سلوك الإنسان، ومن ثَم هويته القيمية.

مفهوم النفس:
يؤثر مفهوم النفس على السلوكيات بصورة فريدة، والأطفال بصفة عامة يميلون إلى التصرف بما يتوافق مع اعتقاداتهم عن ذواتهم، فمن ينظرون لأنفسهم على أنهم شخصيات ممتازة؛ يفعلون سلوكيات تؤكد هذا المفهوم، فتجدهم يحرصون على التعلم والتفوق الدراسي، والتحلي بمكارم الأخلاق.
بينما من ينظرون لأنفسهم باعتبارهم شخصيات سيئة؛ يهملون تعليمهم ويفتقدون للتفوق الدراسي، ويتصفون بسوء الأخلاق.
والأطفال الذين يعتقدون في ذواتهم أنهم محبوبون؛ تجدهم يبحثون عن صداقات ويحافظون عليها ويتصرفون تجاه زملائهم بسلوكيات ممتازة، أما الأطفال الذين يظنون أنهم شخصيات غير محبوبة، تجدهم يقومون بسلوكيات عدوانية تجاه أقرانهم أو يصابون بالإحباط من مجرد كلمة قيلت لهم هنا أو هناك ... وهكذا.

العوامل التي تساعد على تكون مفهوم النفس لدى الطفل:

أولًا: السلوكيات السابقة:
فمفهوم النفس يعتمد بصورة كبيرة على السلوكيات الناجحة التي قام بها الأطفال في الماضي؛ فالأطفال الذين نجحوا في سباقات الجري وألعاب القوى، سيتكون لديهم مفهومًا للنفس بأنهم شخصيات رياضية، وأنهم يملكون قدرات بدنية فائقة، وهذا لاشك سيؤثر على ثقتهم بأنفسهم بالإيجاب، ويدفعهم لمزيد من النجاحات الرياضية.
والمتأمل يدرك أن هناك حلقة بين السلوك ومفهوم النفس؛ فالسلوكيات الماضية تؤدي إلى مفهوم للنفس ينطبع على السلوك بعد ذلك، فإذا كانت السلوكيات إيجابية فهذا هو المراد، لكن المشكلة إن كانت السلوكيات السابقة سلبية؛ فهنا سندخل في حلقة مفرغة من الفشل والإحباطات التي لا تنتهي.

ولكي نقوم بكسر هذه الحلقة:

ينبغي أن نشرك الأطفال في مجموعة مختلفة من الأنشطة الأكاديمية والاجتماعية والرياضية، وتزويدهم بالأجواء الملائمة للنجاح فيها؛ حتى يكون مفهوم النفس المتكون إيجابيًّا.
الحرص على إتقان الأنشطة والتزود بالمعرفة المناسبة قبل الدخول في نشاط آخر.
تقديم الدعم اللازم المعنوي والمادي للأطفال؛ لكي ينجحوا في التحديات التي تقابلهم.
تدريب الأطفال على عدم المقارنة مع زملائهم؛ لأنه يكون في أحيان كثيرة سببًا في تكوين مفهوم سلبي للنفس.


ثانيًا: سلوكيات الآخرين تجاه الأطفال:
فقد ثبت أن طريقة السلوكيات التي يواجه بها الأطفال في مقتبل أعمارهم تشكِّل مفهومهم لأنفسهم؛ فالآباء الذين يعاقبون الأولاد على أشياء لا يستطيعون فعلها، ولا يمدحونهم فيما يستطيعون فعله؛ يتكون لديهم مفهوم سلبي عن أنفسهم.
وللأسف، لا يهتم الآباء ولا المدرسون بقضية تقييم الأطفال ومدى تأثيرها عليهم، فيلقون التقييم جزافًا دون اعتبار إلى أن هؤلاء الأطفال قد يتوحدون مع هذا التقييم، ويتشكل مفهومهم لأنفسهم من خلاله، ثم ينطبع على سلوكهم باقي حياتهم.
إن على المربين مهمة كبيرة في أن يضبطوا سلوكياتهم وفق الأهداف المطلوبة من هؤلاء الأطفال، لا وفق سلوكياتهم اللحظية، وإذا كنا نريد إنجازًا في موضوع التربية والهوية القيمية؛ لابد أن تكون تقييمات وتصرفات المربين مما يشجع الأطفال على أن يأخذوا صورة إيجابية عن أنفسهم وهم يسلكون مثل هذه السلوكيات القيمية.

رسالة (أنا) بدلًا من رسالة (أنت):
فلابد من إتقان فن التغذية الاسترجاعية، وفن التعامل مع الأخطاء، ومهما كان حجم السلوكيات السلبية التي يقوم بها الأطفال؛ لا يمكن مقارنة ذلك بأن نفعل ما يهدم مفهومهم لأنفسهم؛ ولذا من المفيد أن يتقن المربِّي ما يُسمى برسالة "أنا" (I – MESSAGES) بدلًا من رسالة أنت (YOU- MESSAGES).
أي إذا أراد المربي التعبير عن غضبه من سلوكيات الأطفال دون أن يهدم مفهومهم لأنفسهم؛ فعليه أن يستخدم طريقة تعبِّر عن مشاعره، فيقول مثلًا: (أنا غضبان جدًّا مما فعلت، كيف يمكنني تحمل هذه السلوكيات)، بدلًا من أن يقول: (أنت طفل غير مهذب، لا أدب لك، لا تصلح أن تعيش بين الأسوياء ...)، إلى غير ذلك من الصفات التي سيكون أثرها أكبر بكثير من السلوك السلبي نفسه [Educational Psychology: Windows on Classrooms, 7th Edition, Author, Donald P. Kauchak, Author].
ويجب على المربين أن يقنعوا الأولاد بأنهم أشخاص محترمون، وأنهم مهما فعلوا من سلوكيات سلبية؛ سيظلوا محافظين على القيم، فلابد أن نتعامل مع أولادنا على أنهم شخصيات قيمية تحب الصدق والأمانة والإخلاص ومساعدة الناس، حتى ولو لم يظهروا هذه السلوكيات بصورة واضحة، فإن طريقتنا الإيجابية في التعامل معهم ستغير مع الوقت سلوكياتهم السلبية إلى الإيجابية.
فمثلًا؛ إذا قام ولدك بالسخرية من أخيه؛ فالأصح هو أن تخاطبه قائلًا: (أنت شخص طيب في العموم، لكنك قد قمت بجرح مشاعر أخيك عندما سخرت من ملابسه).
إن هذه الطريقة في التوجيه تنتقد السلوك السلبي، ولا تهدم مفهوم النفس، بل على العكس؛ تدعم مفهوم النفس بالصفات الإيجابية الموجودة في الطفل حقيقة.


ثالثًا: توقعات الآخرين لمستقبلهم:
تشكِّل توقعات الأشخاص المهمة في حياة الأطفال جزءًا كبيرًا من مفهوم النفس لديهم، فعندما يضع المربون توقعات مرتفعة للأطفال مصحوبة بتشجيع ودعم؛ نجد أن هؤلاء الأطفال يسيرون في تحقيق هذه التوقعات، ومثال ذلك عندما يعتقد الوالدان في الأبناء أنهم سيتفوقون دراسيًّا؛ فإن ثقة الأطفال في قدرتهم على التحصيل الدارسي تكون كبيرة، ويتحقق ذلك على أرض الواقع.
وكذلك عندما يقوم المربون بتوقعات مرتفعة حول مدى السلوكيات القيمية التي سيبديها الأطفال في مستقبلهم، فإن هذه التوقعات تتداخل في نفوس هؤلاء الأطفال؛ حتى تشكِّل جزءًا كبيرًا من مفهوم النفس لديهم.
وقد علَّمتنا الحياة أن الإنسان يقابل الآخرين بما يتصرفون به حياله، وبما يتوقعون له من تصرفات، وقد كان آق شمس الدين مؤدب محمد الفاتح، يوحي له منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي: (لتفتحن القسطنطينية؛ فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)؛ لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور.
إننا بأيدينا نحن المربين نستطيع أن نصنع مستقبل أولادنا بأنفسنا، فإما أن نوجه أولادنا تجاه رفعة أنفسهم، أو نوجه أولادنا تجاه رفعة أمتهم وحمل رسالتهم والذب عن قيمهم النبيلة؛ ولذلك نحن مطالبون أن نفعل كما فعلت الخنساء عندما وهبت أبناءها الأربعة لله. [كيف نغرس القيم في نفوس الأطفال، د. محمد ص ديق]

بقلم الأستاذ الفاضل:" عمر السبع".
جزاه الله خيرا.