طقوس التحول من الاستعمار إلى الاستحمار
16-08-2018, 07:08 PM
الاستعمار ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها عليها من أجل استغلال خيراتها و الهيمنة على جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيها، وهي بالتالي نهب وسلب منظم لثروات البلاد المستعمَرة، فضلاً عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة. وقد تطور الاستعمار بأساليبه و صوره عبر العصور، فالاستعمار القديم ارتبط بالقوة العسكرية التي استطاع المستعمر من خلالها تخريب البنى التحتية و تدمير الموارد المادية و البشرية للدولة المستهدفة و من ثم السيطرة عليها و إدارة شؤونها بطريقة فجة دون تستر.
كانت فاتورة الاستعمار القديم باهظة التكلفة، فكان عليه مواجهة حركات التحرر الوطنية التي أقضت مضاجعه و لم تترك له فرصة الاستقرار في المناطق المستعمرة كي يستطيع استغلال مواردها أو نشر ثقافته فيها، إضافة إلى ضريبة الدم التي كان على المستعمر أن يدفعها من دماء أبنائه عاما بعد عام.
مع بداية الستينات من القرن العشرين و مع ظهور أهمية الترابط بين مصالح دول العالم المستوحى مما أنتجته الحرب العالمية الثانية بدأ استعمار من نوع جديد، عُرف بـ "الاستعمار الجديد" بات امتداداً لسلفه، سيئ الذكر، "الاستعمار القديم" وهو أسلوب للسيطرة غير المباشرة على دول معينة بأدوات اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، مع الاعتراف باستقلالها وسيادتها ليضمن بذلك الحصول على موارد الثروة و كافة الامتيازات الاستعمارية التي كانت لسلفه القديم دون أن يُضطر لتسديد التكاليف الباهظة التي كان على سلفه تأديتها.
يستغل هذا الاستعمار الجديد حاجة الدول النامية إلى التكنولوجيا و العلوم المتوفرة لديه كي تستطيع أن تضع قدمها على سلم الحداثة و التطور فيربطها باتفاقيات غير متكافئة تكفل المصالح الاستعمارية في تلك الدول و تحد من حريتها مقابل تزويدها بقدر محدود من الخبرات التقنية لا يسمح لها أن تتخطى في تقدمها خطوطه الحمر، فالتكنولوجيا النووية مثلا مسموحة له محظورة على غيره، وكذلك الصواريخ البالستيه و كل ما يشكل خطرا عليه.
يعتمد الاستعمار الجديد على إثارة الاضطرابات الداخلية ، و الانقسامات الطائفية و الإقليمية و النعرات القومية لضمان استمرار هيمنته على الدول المُستعمرَة.
مع انهيار منظومة الاتحاد السوفييتي و الدول الاشتراكية في شرق أوروبا أواخر القرن الماضي، أصبح العالم يقف على قدم واحدة، و ظهر ما يسمى بمفهوم "العولمة" التي لا تهدف إلا لجمع العالم الإنساني كله تحت مظلة الغرب، ومحاولة السيطرة على ثرواته وفرض ثقافته عليه. و ليس أصدق من وصف الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي لهذا النوع المعاصر من الاستعمار، بقوله:
"إن الغرب يعتبر خلال ألف سنة مضت أكبر مجرم في التاريخ ، لكنه اليوم وبالنظر إلى سيطرته الاقتصادية والسياسية والعسكرية – بلا مزاحم – يفرض على العالم كله نموذجه التنموي الذي يؤدي –في الوقت ذاته – إلى انتحار عالمي ، لأنه يولد تفاوتا متصاعدا بين الشرق و الغرب و يسلب المعوزين كل رجاء وينضج اليأس، في الوقت الذي يضع فيه ما يعادل خمسة أطنان من المتفجرات على رأس كل ساكن في هذا الكوكب"‍‍(*)
تقوم العولمة على استنباط نوع من الحرب تقوم بها أطراف أخرى نيابة عن الغرب، فقد وجدت الدوائر الغربية مثلا في التنظيمات المتشددة ضالتها، فھذه التنظï¯؟مات ï»» جنسية لھا، ترى العالم بكافة أرجائه ھدفا ممكنا لعملياتھا، وھي بذلك تتناغم تماما مع مشاريع العولمة التي تعتبر العالم مسرحا لنشر ثقافتها و نهب ثروات الدول الضعيفة، أما مسرح عمليات هذه التنظيمات فتحدده عمليا الدوائر الغربية تبعا للحاجة، فتحركها كالدمى في مسرح العرائس بعلم هذه التنظيمات أو عن طريق ارغامها بالقوة أو بحجب الموارد عنها ... و لا ننسى أن الولايات المتحدة هي التي اصطنعت تنظيم القاعدة أصلا لمواجهة السوفييت في أفغانستان و منه تفرعت كثير من الألوية المحاربة المتشددة تحت ستار الإسلام، لقد خلقت الدول الاستعمارية الجديدة ما يمكن تسميته ب "اﻹرھاب العائم" أو "الإرهاب العابر للحدود" للتنظï¯؟مات المتشددة لمحاربة جميع الأنظمة المناوئة لسياساتها في العولمة و احتكار ثروات العالم.
يرتبط التصدي للإرھاب العائم في الدول العربية اﻹسلامية بالقدرة على التعاطي الفعلي مع مشاكل التنمية، وضرورة التركيز على إقامة أنظمة تعليمية توفر بدائل ثقافية وتربوﯾة تنقذ الشباب من دوائر اï»»ستقطاب السلفي وتقدم له خطابا عقلانيا ھادئا ﯾقوم على أن مرتكز اï»»لتحاق بالفاعلية الحضارﯾة المعاصرة ﯾكمن في أن ندلي بدلونا لنضيف إلى حضارة اليوم حلوï»» لمشكلات الناس كافة، و هذا لا يقوم إلا في مناخات حرة و عادلة بعيدا عن الفساد الذي ينخر في بنيتنا التحتية و الاقتصادية و الاجتماعية كما تنخر الأرضة في الخشب.
أيضا فإن هذا النوع من الاستعمار يقوم على نشر ما يسمى ب "ثقافة العولمة" و هي ثقافة تقوم على الاستحمار بمعنى "استحمر تسد" بدلا من "فرق تسد" و ذلك بتشويه ثقافة و تاريخ و حضارة الدول المستحمرة مستخدمة أقلاماً مأجورة أو أنصاف مثقفين يحاولون إسدال الستار على الصفحات المضيئة في تاريخ و ثقافة الشعوب الأخرى، و تغذية الصراعات الطائفية و المذهبية و الفتن التي عفي عليها الزمن مستفيدين من الجهل و التخلف الذي ترزح تحته شعوب هذه الدول.
يرتبط التصدي لهذا النوع الجديد من الاستعمار المعلن تحت عنوان "العولمة" بنضال النخب المثقفة في الدول النامية في سبيل إقامة دولة العدل و الحرية و القانون، و ترسيخ أسس التنمية الاجتماعية و الثقافية و مؤسسات البحث العلمي للحاق بركب الحداثة، و الدخول في تحالفات جيو سياسية واسعة مع مجموعة من الدول ذات الأوضاع الاقتصادية المثيلة و المشتركة معا في التطلعات و الآمال والأهداف، فالدول الصغيرة لا يمكن أن تقوم و تستمر وحدها في عالمنا المعاصر.


(*): غارودي روجيه: " وعود الإسلام " ، ترجمة : مهدي زغيب ، ص : 22.
التعديل الأخير تم بواسطة طارق زينة ; 16-08-2018 الساعة 07:11 PM