قوم يحيون لغة ميتة...وقوم يبيدونها حية!!؟
30-04-2018, 12:05 PM
قوم يحيون لغة ميتة...وقوم يبيدونها حية!!؟
أبو بكر خالد سعد الله
أستاذ جامعي قسم الرياضيات / المدرسة العليا للأساتذة- القبة


خلال الأيام الماضية احتفلت إسرائيل بالذكرى السبعين لإنشاء كيانها، ومن بين ما قرأنا في صحفها قائمة من 70 نقطة، كل منها تشيد بفعل قام به هذا الكيان، منها: أن ساستها عرضوا رئاسة البلاد على آينشتاين، فلم يستجب لطلبهم، ورغم ذلك، فنحن نعلم أن مكتبته الخاصة وآثاره قد حُوِّلت إلى جامعة القدس العبرية، ومن تلك النقاط أيضا: أن إسرائيل هي “الدولة الوحيدة في العالم التي أحْيت لغة ميّتة”!، هكذا يقولون، وهم يقصدون بذلك إحياء اللغة العبرية.

موسوعة بن يهودا:
من المعلوم: أن اللغة العبرية المكوّنة من 22 حرفا كانت لغة تنحصر في النص الديني دون غيره تقريبا حتى عهد ليس ببعيد، كما أنه من المعروف أن عدد كلماتها كان محدودا (قُدّر بـ 8000 كلمة)، وهو عدد من الكلمات لا يسمح بكتابة النصوص الأدبية الجميلة والراقية، ثم منذ نحو قرنين اهتم بعض المثقفين اليهود في أوروبا بتطوير اللغة العبرية لكي تتجاوز في تعاملاتها إطارها الديني، وراحوا يبحثون عن سبل جعلها لغة تعامل في الشارع وغيره ،والدفع بها إلى كتابة نصوص أخرى كالروايات.
والعائق الأساسي كان ضآلة عدد المفردات، وكذا تباعد اللهجات، والمفكر الذي أدى الدور الرئيس في هذه الحركة اللغوية هو: إليعازر بيرلمان (1858-1922) المعروف باسم: إليعازر بن يهودا، المولود في لوتوانيا (شمال شرقي أوروبا)، والمتوفى في القدس، فقد نادى بن يهودا ضمن مقال نشره عام 1878 بني جلدته في كل مكان بالتحدث بالعبرية، وبلغ به الحال إلى أن امتنع بعد رحيله إلى القدس عن التحدث إلى زوجته بغير العبرية، ومنع الآخرين من الحديث إلى ابنه إلا بالعبرية!.
وهذا التشدد لم يكن نتيجة انفعال عارضٍ أصاب هذا المثقف، بل كان تعبيرا عن تصميمه في خدمة فكرة آمن بها، وهي: بعث لغة عبرية تجمع شمل اليهود، ولم يسلك بن يهودا سبيل الحل السهل بتبني الحرف اللاتيني الجاهز للتقرب من الغرب كما فعل أتاتورك!!؟، بل طوّر الحرف العبري رغم أن أصله أوروبي، وأن كمّا كبيرا من أعماله أُنجز إبان إقامته في القارتين الأوروبية والأمريكية، وهكذا، وبالإضافة إلى مقالاته التي تصبّ في هذا الاتجاه: عكف على وضع موسوعة للغة العبرية تم نشرها كاملة ضمن 16 مجلدا في نهاية الخمسينيات، أي بعد وفاته بعقود!.
واجتهد بن يهودا في إثراء اللغة العبرية بمفردات أدبية وأخرى يحتاج إليها المواطن في حياته اليومية كمصطلح “ساعة” و”جريدة”، إلخ، وأرسى قواعد نُطْقها، لأن هناك أيضا اختلافات في النطق حسب الموقع الجغرافي (يهود المشرق والمغرب وأوروبا…)، وصارت تسمى هذه اللغة “اللغة العبرية الحديثة”، وتبنتها أكاديمية اللغة العبرية، وسار في هذا الاتجاه السياسيون، ويثمّن المثقفون اليهود العمل اللغوي الجبار الذي قام به بن يهودا، ويعتبرونه يعادل ما يمكن أن ينجزه مجمع لغوي خلال قرن!!؟.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن رجال الدين المتطرفين اليهود كانوا ضد هذا المسعى الذي وضع، في دعواهم، لغة هجينة لوّثت العبرية الدينية. وعلى كل حال، فقد أتت هذه الجهود -التي لا زالت مستمرة بوتيرة سريعة- أُكْلها، وأصبحت هذه اللغة تمثل اللغة الرسمية (إلى جانب العربية) تُدرّس في كافة المؤسسات التعليمية، وفي الجامعات يُدرّسون بها العلوم المختلفة (الرياضيات والطب والفيزياء…)، بل ويحررون بها البحوث العلمية، كما أنها لغة التخاطب ولغة الإدارة والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب.

وقوْم: يَئِدون لغتهم حيَّةً!!؟:
أما اللغة العربية، فيصنفها الكثيرون بأنها: اللغة التي تحتوي على أكبر عدد من الكلمات، فـ”لسان العربلابن منظور (القرن 13م) وحده يشمل أزيد من 4 ملايين كلمة، ويقدّر بعض الإحصائيين عدد الكلمات العربية الفصحى (بدون تفاصيل الاشتقاق) بأكثر من 12 مليون كلمة، ثم إن مؤلفاتها شملت خلال القرون الخالية جميع فنون العلم والمعرفة.
وعندما كان بن يهودا يطوّر اللغة العبرية، ويبحث عن مصطلح عبري لكلمة “مطعم” و”ساعة” و”جريدة” كان المناضلون اللغويون العرب قد بلغوا شوطا متقدما في مثل هذه الأعمال، إذ كانوا آنذاك يعربون كتب الطب والرياضيات الجامعية ويضعون مصطلحات، مثل:“القطار” و”السيارة” و”المطار” و”الطائرة” و”الكهرباء” و”النسبية”… ثم “الصاروخ” و”المسبار” و”القمر الصناعي”…
ولما تأسست الأكاديمية العبرية ووحّدت المصطلح، وصارت “الناطق الرسمي” لهذه اللغة: تأسست المجامع اللغوية في البلاد العربية، وصار كل منها ينطق بهواه، وتشتت الجهود.
ورغم ذلك: قاومت اللغة العربية هذا التشرذم بطاقتها الكامنة، لأنها كانت -عكس اللغة العبرية- بمثابة سلسلة متواصلة ظلت حلقاتها حيّة لم تنقطع منذ الجاهلية إلى اليوم، وقد أراد بها الاستعمار المتعدد الأشكال سوءا في كل البلاد العربية، وكذلك كان توجّه جل السياسيين ومرضى النفوس من مثقفينا!!؟، فكلما رفعت هذه اللغة رأسها في مكان: وجدت سيفا من سيوف الأعداء يتربص بها، ليصيبها إصابة قاتلة، غير أنها كانت ولا تزال عصيّة على كل هؤلاء، فهي لغة تنحني بسبب تخاذل أهلها، لكنها لم ولن تنكسر!.
ومن بين المكائد التي يحيكها لها أعداؤها: أن في الوقت الذي تجمع فيها اللغة العبرية الشتات، لتكون لغة موحّدة، ينادي المنادي عندنا: ممن يدّعون العلم والوطنية والانفتاح!!؟، بالتخلي عن اللغة الأم، والتوجه نحو تدريس الدارج منها!!؟؛ وهم يعلمون بأن لكل قرية من قُرانَا وقرى البلاد العربية الواسعة دارجته!، فأي “دوارج” سيدرسون، وماذا سيتعلمون منها؟، وهل بها تتواصل الأمم والأجيال؟، وهل بها تتوحد الشعوب والقبائل؟.
والغريب: أن في خضم هذا الصراع المقيت الذي تقاوم فيه اللغة العربية هذا التيار الجارف في عقر دارها -وهو ما يثبت في الواقع حيويتها-: نكتشف في جامعة كيوتو Kyoto اليابانية الشهيرة، التي تأسست في نهاية القرن التاسع عشر (1897)، مجلة في العلوم الإنسانية عنوانها:“مجلة دراسات العالم الإسلامي”: ينشر فيها الباحثون اليابانيون اليوم باللغة العربية مواضيع أكاديمية في العلوم الاجتماعية والإسلامية!!؟.
كما نجد في جامعة برشلونة الإسبانية مجلة دولية أكاديمية، صدرت منذ عقدين، تُعنى بتاريخ العلوم لا تقبل النشر إلا باللغتين الانكليزية والعربية. والأجمل من ذلك: أن المجلة سُمّيت “سُهَيل”، وقد كُتب عنوانها بالحرف العربي في أعلى صفحة الغلاف، ويشرح ناشروها ضمن فقرة كاملة اختيارهم لهذا العنوان بالذات، فقالوا إن “سُهَيل” هو: اسم النجم الذي يستعمل في التقليد الإسلامي لمعرفة اتجاه القِبْلة!!؟.
فإذا كان العرب قد أضاعوا اليوم لغتهم ومقوماتهم، واتبعوا الشهوات، فسوف يخلفهم خلف يستعيد الماضي المجيد
وفي انتظار ذلك، فاللغة العربية لديها من الرصيد الفكري وطول النفس ما سيجعلها تظل صامدة أمام كل الماكرين.