ما معنى قوله تعالى (مادامت السماوات و الأرض) في سورة هود
16-08-2015, 07:47 PM
قال الله تعالى في سورة هود بشأن أهل الجنة و أهل النار يوم القيامة :


يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)


قراءة القرآن الكريم عبادة ، ثوابها عظيم عند الله ، يجازي – و هو الكريم – على الحرف بعشر حسنات ، و يضاعف إلى سبعمائة ضعف ، و يضاعف أكثر من ذلك ماشاء لمن يشاء ، و هو الواسع الكريم .


و لكن قراءة القرآن بتدبر أحسن في العبادة و اعظم في الأجر ، فأن نقرأ آية أو آيتين ، مثلا ، و نتدبر معانيهما ، بالفهم من الاطلاع على تفسيرها أفضل من أن نقرأ الحزب و الحزبين دون تدبر (و في كل قراءة أجر، و لكن بتفاوت) ، لأن الله تعالى أمر بتلاوة القرآن و تدبره (أ فلا يتدبرون القرآنَ ، أم على قلوب أقفالها) .و ذَمَّ بني إسرائيل لحملهم كتابهم بدون فهم و لا تطبيق (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) . و الحمار لا يعي و لا يعرف قيمة الأسفار أي الكتب التي يحملها على ظهره لعجميته .


- جاء في سورة هود عليه السلام الخبر عن عاقبة أهل النار و أهل الجنة ، يوم القيامة ، و جاء الكلام عن الفريقين بالخلود ، كل في مقامه ، خلود السعداء الناجين من النار في الجنة ، جعلنا الله منهم ، و خلود الأشقياء الهالكين في النار ، أعاذنا الله منها ،بنفس العبارة (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ،إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ، فالآية تدعو إلى التدبر العميق و البحث عن مدلولها ، و القرآن الكريم لا حشو فيه و لا نقصان ، و هو قول رب العالمين العزيز الحكيم .


- بداهةً يظهر للقارئ عدم الخلود ، لا في الجنة و لا في النار، إذا فكر بمنطق زوال الدنيا بما في ذلك السماء و الأرض ، و لكننا نعلم علم اليقين أن الله تعالى لا يُخلف وعده ، سبحانه ، و في الكتاب و السنة الوعد القاطع لأهل الجنة بالخلود فيها ، و لأهل النار بالخلود فيها ، و لا تناقض و لا اختلاف في القرآن الكريم . نقرأ إذن ما يقول العلماء في تفسير هاتين الآيتين في سورة هود عليه السلام ، لنعلم المدلول منهما بمشيئة الله تعالى ، و القرآن ، أنزله الله للعمل به في حياتنا الدنيا ، و بدون تدبره فهمه ، لا يمكن تطبيقه :

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)

يقول ابن كثير في تفسيره :

بَيَّنَ تعالى حال الأشقياء وحال السعداء، فقال:
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) }
قال ابن عباس: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر أي: تنفسهم زفير، وأخذهم النفس شهيق، لما هم فيه من العذاب، عياذا بالله من ذلك.
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ }:
قال الإمام ابن جرير: من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام قالت: "هذا دائم دوامَ السموات والأرض". وكذلك يقولون: هو باق ما اختلف الليلُ والنهار. بمعنى: "أبدا"، فخاطبهم جل ثناؤه بلغتهم، فقال: { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } . و في تفسير البغوي: هذا عبارة عن التأبيد على عادة العرب، يقولون: لا آتيك ما دامت السموات والأرض، ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار، يعنون: أبدا.

قلت: ويُحتمل أن المراد بـ (ما دامت السموات والأرض): الجنس؛ لأنه لا بدّ في عالم الآخرة من سموات وأرض، كما قال تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } ،ولهذا قال الحسن البصري في: { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال: تُبَدَّلُ سماءٌ غيرهذه السماء، وأرضٌ غير هذه الأرض .و هو يقصد سماء الآخرة و أرضها الخالدتين .
كما ذُكرعن ابن عباس قوله: لكل جنة سماء وأرض.
وقوله: { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } كقوله تعالى: { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 128].
وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء، على أقوال كثيرة، أهمها ما نُقِلَ عن ابن عباس والحسن: أن الاستثناء عائد على العُصاة من أهل التوحيد، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، من الملائكة والنبيين والمؤمنين، حين يشفعون في أصحاب الكبائر برحمته . و في الحديث عن رسول الله عليه الصلاة و السلام : "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد، فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين" (صحيح ).


وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْارْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

وقال السدي: هذه الآية منسوخة بقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } في سورة النساء .
{ وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) }
يقول تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ سعِدُوا} وهم أتباع الرسل، فمأواهم الجنة، { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ }
قال الضحاك، والحسن البصري: هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار، ثم أخرجوا منها. وعقب ذلك بقوله: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي: غير مقطوع ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية وغير واحد، لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعًا، أو لبسا، أو شيئًا ، بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع.
وطيب القلوب وثَبَّت المقصود بقوله: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } .

قال البغوي :
إلا ما شاء ربك من الفريقين، من تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ،ما بين الموت والبعث، قبل مصيرهم إلى الجنة أو النار. يعني: هم خالدون في الجنة أو النار إلا هذا المقدار.
وقيل: إلا بمعنى الواو، أي: وقد شاء ربك خلودَ هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة، كقوله: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا }(البقرة -150)، أي: ولا الذين ظلموا.
وقيل: معناه ولو شاء ربك لأخرجهم منها ،ولكنه لا يشاء، أنه حكم لهم بالخلود.
وقال الفراء: هذا الاستثناء استثناه الله ولا يفعله، كقولك: والله لَأَضْرِبَنَّك إلا أن أرى غيرَ ذلك؛ وعزيمتك أن تضربه .
- قال الطبري:
وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القول الذي ذكرناه عن قتادة والضحاك: من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر، أنه يدخلهم النار خالدين فيها أبدا، إلا ما شاء من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة. لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلودَ في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك . وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قوما من أهل الإيمان بذنوب أصابوها النارَ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة. فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دخولها، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا = وإن جعلناه استثناء في ذلك كنا قد دخلنا في قول من يقول: "لا يدخل الجنة فاسق، ولا النار مؤمن" وذلك خلاف مذهب أهل العلم، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
بلادي و إن جارتْ علي عزيزة ٌ** و قومي و إن ضنوا علي كِرامُ
التعديل الأخير تم بواسطة بلحاج بن الشريف ; 16-08-2015 الساعة 07:54 PM