لذاكرة الشعبية الجماعية الفولكلورية
03-11-2016, 09:42 AM


الذاكرة الشعبية الجماعية هي ما حفظت لنا هذا التراث المتواتر منذ طفولة البشرية الأولى، وهو الفولكلور. وللذاكرة الشعبية — تحت تأثير العادة والتوارث — حضورها وإعجازها لمن خبر التعامل معها؛ ذلك أنها مخزون متواتر الحلقات، تحفظ أدق دقائق شعائر وممارسات الولادة والموت الأولى إلى أيامنا، بنفس درجة حفظها لما يصاحب التنفس والتثاؤب، وكل ما يتصل ويصاحب الانتقال من النيئ إلى المطبوخ بالنسبة لمطبخ البخار المصري، كذلك فهي ذاتها الذاكرة الشعبية أو الشفهية التي أسهمت في الكشف عن الكثير من تراث البشرية التاريخي أو الحفري الأركيولوجي، وما من مكتشف أثري — مثلًا — لم يستهدِ ويَسْتَفِدْ من مخزون الحكايات الشعبية، والحواديت وفابيولات الكنوز — المقابر — المدفونة، وعالم ما تحت الأرض، منذ د. فلاندوز بيتري الذي دأب على تأكيد أن هذه الخرافات التي كانت يجمعها ويستمع إليها من فلاحي الفيوم والدلتا قادته إلى اكتشاف كنوز من الآلاف المؤلفة من البرديات الأدبية والفولكلورية والتاريخية التي يُنْظَرُ إليها اليوم بكل تقدير. والشيء نفسه أشار إليه ماريت، وماسبيرو، وكارتر مكتشف عصر توت عنخ أمون، وغيرهم من الرواد الأثريين الذين عملوا في حفائر ومكتشفات العالم العربي، خاصة بسوريا والعراق، أمثال: كلوديوس ريش، وسيد هنري لايارد، اللذين استفادا من ألف ليلة وليلة، والنصوص الشفهية لفلاحي العراق في مناطق أو مديريات الموصل، وجلجاميش، وتمرود، وبقية رحاب العراق.

تتكون الذاكرة الشعبية الفلكلورية منذ الطفولة

وتحفظ الذاكرة الشعبية مقوماتها الأولى المنحدرة من طفولتها الطوطمية والإنيزمية القديمة مثل: حزن زهر البنفسج، زهو الإله الممزق أدونيس الذي اغتالته حيتان البراري، مثل نهيق الحمار — ستخ أوطيفون — الذي بسببه أصبح إلهًا شريرًا متجبرًا، ومثل رأس الحية الذي هو مكمن كل الخطايا إلى اليوم، وهو المفهوم المنحدر من أساطير الخلق الأولى — للعالم والإنسان — والمصاحب للطرد من الفردوس المفقود، والموحد بين الحية والمرأة والشيطان، ومثل ما يدور ويتواتر إلى اليوم، حول عيون القطط والخفافيش، وبطء السلحفاة البرية، وصدفة الجعران في الطبيعة، التي من خصائصها أن تبيض فيها جعارين جديدة، ومنها تنبت جعارين أو حياة جديدة، أي إن من الموت أو الجعران تنبت حياة، ولعله أقدم تفسير عن الموت ومعاودة الحياة أو القيامة؛ كما تشير د. ماجريت موري.
وقد يكون هناك ثمة علاقة بين — ألوان — الطيور والحيوانات المشئومة، وبين الألوان الحزينة المشئومة بدورها، مثل الغراب — الأسود — النوحي، والسواد أو الحزن والليالي السوداء، وبالطبع تشمل هذه العلاقة بين ألواننا عن الفرح والآمال، وهو الأبيض، وعلاقته أيضًا بالحمامة النوحية، وبمعنى أصح الجلجاميشية، بعد أن أطلقها نوع أو كبير الآلهة البابلية أو نونبشتم حين عادت إليه في المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها.
ويبرز — طوطم — الحمامة ودلالتها عند الساميين بشكل ملفت جدًّا، فتسمية راحيل أو راشيل — أم النبي يوسف — هو كاهنة الحمام، ومنه تواتر إلى تسمية إسرائيل.

ومن اسم الحمام تسمت الملكات الربات الآشوريات: سميراميس، وسميرام، وسميرنا الليبية.
وقد لا ننسى الحمام في تراثنا العربي، وتحولات أبطال الخوارق والملاحم إلى حمام.

كما قد لا ننس حمامة الأيك، كطوطم وشعار إسلامي شامل ومغرق في القدم، وهو ما سنتعرض له في حينه.

قول تومبسون

وكما يقول الأستاذ تومبسون، فإن الأمر بالنسبة لذاكرة شعوبنا — السامية الشرقية — الفولكلورية، يمكن أن يطلعنا على الكثير من فيض النتائج الدقيقة، خاصة وأن رواة التراث وحفظته من حكواتية، ورواة سير ومدَّاحين، وشعراء جوالين — تروبادوز — ما يزالون إلى اليوم يملأون حياتنا، وتزدحم بهم أسواقنا ومواليدنا، وتعج ذاكرتهم بالكثير، الذي يخالط التاريخ فيه الأساطير، والعكس صحيح.

وعلى سبيل المثال، فلنا أن نتصوَّر أن عمر الانتقال إلى مرحلة الإعلام الإليكتروني — الراديو — لم يتعدَّ حلقة واحدة أو نصف قرن، وقبلها كانت الغلبة للنص الشفاهي، وذيوعه عن طريق أدواته، وهم الحكواتية ورواة السير والملاحم، وفنانو الأفصال أو الفصول المضحكة، أو ما أطلق عليهم لويس عوض بمسرح الفلاحين.٥
ومن هنا ففي الإمكان التحقق من الكثير من تراثنا الحفري الفولكلوري، مثل افتراض العثور على مجموعات الحكايات المصرية التي تُرْجِمَتْ من البرديات التي عثر عليها في مصر د. فلاندرزبيتري، وغيره من الحفريين، وأُعِيدَ نشرها في الفرنسية عدة مرَّات، منذ أن نشرها للمرة الأولى ماسبيرو تحت اسم «حكايات شعبية فرعونية»، وظهر الكثير منها في الإنكليزية باسم «تسجيلات من الماضي»، كما نشر إيرمان مجلدين منها، كذلك أسهم في ترجمتها ودراستها علماء المصريات: جودوين، شاباس، أبيروس.

إيرمان

ولعل أكثر المغالين في قيمة هذه الحكايات المصرية هو إيرمان الذي أرجعها للأسرات المصرية الأولى،٦ بل هو أرجع بعضها إلى ما قبل التاريخ، رغم أن بيتري يأخذ عليه أن ترجمته لهذه الحكايات جاءت أدبية وصفية، مستخدمًا في إعادة صياغتها «الألف باء» الحديثة، سواء في الهيروغليفية أو الألمانية الحديثة، ومن هنا فقد تجنت ترجمة إيرمان المتحررة على الكثير من قيمتها الفولكلورية.
وسجل بيتري في الجزءين اللذين نشرهما عن حكاياتنا المصرية الفرعونية مجموعة ملاحظات بسيطة، منها إفاضة الحكايات المصرية، فالأعاجيب أو الملاعيب التي تذكرنا بملاعيب شيحا، وعلي الزيبق، وبعض سير آباء الكنيسة القبطية التي يعج بها تاريخها — الينكسار — والتي ما تزال تتبدى إلى اليوم أكثر وضوحًا في حكايات الشطار، وهو ما أسماه بالينوفسكي بالفنتازيا المصرية.

كما سجل بيتري مدى خوف المصري القديم الدائم من أخطار البلاد الأجنبية خاصة الآسيويين، وأقربهم العرب والعبريون الساميون بالطبع من جانب، والليبيون والكوشيون النوبيون من الجانب الآخر.

كذلك تنبه بيتري إلى غياب وتدهور ملامح الشخصية المصرية في العصر المتأخر، بدءًا من الدولة الوسطى؛ ولهذا يقول: «لهؤلاء الذين يتصورون أن هناك تشابهًا أو تماثلًا يطبع كل مصر على أحقابها المختلفة، وهو ما لا تؤكده وتقطع به الحكايات المصرية، ذلك أن التغير من فترة أو عصر زمني لآخر يبدو جليًّا فيها.»

في حكايات السحرة والخوارق مثلًا بدأت تكثر جدًّا، بدءًا من الأسرة الثانية عشرة، وكذلك الإكثار من المعتقدات الغيبية والقدرية مثل: قصة الأمير القدري،٧ التي ترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة، والتي يمكن القول بأنها ما تزال تعيش بحذافيرها على الشفاة محفوظة بكاملها في الذاكرة الجمعية الشعبية أو الفولكلورية.


سحر الحرف والكلام


شكرا للأخ صقر الأوراس على التوقيع