العبث العقلاني وقضية احتمالية النصوص وظنيتها
07-06-2018, 11:38 AM

العبث العقلاني وقضية احتمالية النصوص وظنيتها
رشيد بن أحمد الإدريسي


الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


نبتت نابتة في هذا الزمان خاصة أخذت على عاتقها:" إعادة قراءة وتفسيرالنصوص الشرعية من القرآن والسنة حسب ما تمليه عليها عقولها وأهواؤها!!؟"، دون تقيد بالضوابط والقيود والشروط العلمية المنضبطة التي اجتمعت عليها الأمة وعلماؤها، وارتضوها خلفا بعد سلف، بل تفلتوا حتى من عقال اللغة ودلالاتها ومنطقها الذي تواتر عن العرب قبل الإسلام!!؟، مما يجعل الناظر متعجبا من هذا العبث ومستغربا من التأويلات الفجة التي خرج بها هؤلاء القوم متمسكين بتأصيلات مقررة عند أهل العلم إلا أنهم فهموها وفق أهوائهم: تدليسا على الناس حتى لا يرموا بـ:(التنكر لقواعد العلماء والخروج عن سنن الفقهاء)؟!، ومن ذلك:" قضية احتمالية النصوص وظنيتها".


فمما هو معلوم عند أولي النظر والبحث العلمي في مجال استنباط الأحكام الشرعية وتقريرها وجود أحكام ملزمة، لوضوح دلالة النصوص الشرعية عليها، وأخرى على عكسها، لأنها اجتهادية يسع فيها النظر والاختلاف، ووجه ذلك:(احتمالية) النصوص فيها لأكثر من معنى، و(لظنية) أدلتها كما قال ابن أبي الأصبع - رحمه الله - في معالمه:


والاجتهاد إنما يكــــون** في كل ما دليله مظنــــون
أما الذي فيه الدليل القاطع** فهو كما جاء ولا منازع

فمع تقرير هؤلاء لهذا الأمر من جهة صورة التنظير والتأصيل إلا أن الواقع يشهد بأن فهمهم وتصورهم له: باطل وعليل!!؟، ذلك لتوسعهم في قضية احتمالية دلالة نصوص الكتاب والسنة وظنيتها، فصار الاعتماد عندهم على مجرد الاحتمال والظن بناء على عدم اعتقاد قدسية النصوص!!؟، والدعوى إلى إعادة تشكيل دلالة النصوص وفق الواقع والثقافات المتغيرة!!؟، كل ذلك تحررا من وطأتها حتى خرجوا بذلك إلى مذاهب بعيدة منكرة خالفوا فيها المألوف عند الفقهاء في طرق الاستنباط وقواعد الاستدلال!!؟.


وحتى يظهر عبثهم، ويتبدى سوء مسلكهم: يجب النظر في ذاك الاحتمال والظن: صحة وبطلانا، وقربا وبعدا!!؟، فتنبه، فإن:" الأصل عدم الاحتمال البعيد": (أضواء البيان: 3/396)، بل هو أصالة: مردود غير سديد، لأن الاحتمالات البعيدة هي في حكم النادر، و:"النادر: لا حكم له" (المدارج: 1/45)، و:" إذا فتح أورث الاضمحلال لكل ما يعول عليه في الاستدلال": (الجرح والتعديل، للعلامة جمال الدين القاسمي: 36).


والذين رفعوا راية ذلك غرضهم: تحريف الكلم عن مواضعه، وليّ أعناق النصوص، حتى تفقد النصوص الشرعية هيبتها، وجعلها لعبة في أيديهم!!؟.
وقد جعلوا مسمى التأويل في عملهم هذا ملاذهم وملجأهم، ليضفوا على أعمالهم الصبغة الشرعية: تمريرا لأفكارهم ومعتقداتهم التابعة للفلسفات البشرية والأهواء الشخصية القائمة على التوهمات، والأقيسة العقلية الفاسدة التي أوحى بها إليهم شياطين الإنس من المستشرقين الغربيين!!؟.
والباعث لهؤلاء على هذا الصنيع: أنهم ضاقوا ذرعا بمن ينادي بالتمسك بالقرآن والسنة، والأخذ بأحكام الدين، والعمل بها، لأنها صالحة ومصلحة لكل مكان وزمان، فافتروا على الله الكذب والبهتان، بجعل اليقينيات: ظنيات، والواضحات: محتملات، والمسلمات: قابلة للأخذ والرد، والتقول والقيل والقال، والله المستعان.


فالواجب شرعا: الأخذ بأدلة النصوص الشرعية، وطرح الاعتماد على الاحتمال والظن البعيد، فهذا الأخير: أشبه بالأوهام والخيالات والتلاعب في الحقائق الواضحات!!؟.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله:" لو فتح باب الاحتمال، لبطلت الحجج". (روضة الناظر: 2/463).
وقال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله:" مجرد الاحتمال إذا اعتبر: أدى إلى انخرام العادات والثقة بها، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم، ويبين هذا المعنى في الجملة: ما ذكره الغزالي في كتابه:( المنقد من الضلال)، بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم، فبه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية أو العقلية، فما بالك بالأمور الوضعية!!؟.
ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد: شُدِّد على أصحاب البقرة، إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن إليه حاجة مع ظهور المعنى، وكذلك ما جاء في الحديث في قوله:" أحجُّنا هذا لعامنا أو للأبد"، وأشباه ذلك.
بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم، ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب، إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال، فاعتبروه وقالوا فيه، وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل، فذمُّوا بذلك، وأمر النبي عليه الصلاة والسلامبالحذر منهم".( الموافقات: 5/402).


وقد يقول بعضهم: إن هذا الكلام منزل على الأخذ بمجرد الاحتمال في مقابلة النص بالمعنى الخاص عند الأصوليين، وهو:" الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا"، وأما إذا كان بخلاف ذلك، فالأمر فيه سعة.

فنقول: هذا الإطلاق باطل، لأنه من أنواع الأدلة الشرعية: ما يسمى عند علماء الأصول ب:(الظاهر)، وهو:" ما احتمل معنيين فأكثر، هو في أحدهما أرجح، أو ما تبادر منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره". أنظر:( روضة الناظر: 2/29).
وحكمه: أن يُسار إلى المعنى الظاهر، ولا يجوز العدول عنه إجماعا إلا بدليل أقوى منه ومعارض له من كل وجه، فتذكر ولا تتنكر.
يقول الرازي رحمه الله: " إن الظنين إذا تعارضا، ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعيناً عرفاً، فيجب شرعاً، وقد أجمع الصحابة على العمل بالراجح، ولأنه لو لم يعمل بالراجح: لزم العمل بالمرجوح، وترجيح المرجوح على الراجح: ممتنع في بدائه العقول".( المحصول: 5/398).
ويقول الجويني رحمه الله:" أن الظاهر حيث لا يطلب العلم - القطع - معمول به، والمكلف محمول على الجريان على ظاهره في عمله، فالمعتمد فيه والأصل: التمسك بإجماع علماء السلف والصحابة ومن بعدهم، فإنا نعلم على قطع: أنهم كانوا يتعلقون في تفاصيل الشرائع بظواهر الكتاب والسنة".)البرهان في أصول الفقه: 1/337-338).
ونقل الونشريسي المالكي رحمه الله في "نوازل الصلاة" عن ابن لب – رحمه الله - ما نصه:" والخلاف كثير وظواهر الشريعة هي الجادة بحيث يجب الرجوع إليها عند اشتباه الطرق واختلاف الفرق".( المعيار المعرب: 1/297-298).
وقال الإمام ابن المنذر – رحمه الله - فيمن ترك ظاهر الأخبار، واعتذر بـ: (لعل): "ترك ظاهر الأخبار بأن يكرر (لعلَّ) في كلامه، وقلَّ شيء إلا وهو (يحتمل لعل)، وترك ظاهر الأخبار غير جائز (للعل)".( الأوسط: 11/226).


فلو جاز مخالفة ظواهر النصوص الشرعية بتوهمات العقول و آرائها: لكان إرسال الرسل و إنزال الكتب عبثاً - وحاشا لله -، ولترك الله للناس تدبير أمورهم بأنفسهم، ولما توعد في عشرات الآيات ومئات الأحاديث من لم يطع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب الأليم.


ومن عظيم ما قرره الإمام الشاطبي - رحمه الله - في هذا الباب قوله:

" وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين، فلم يبق إلا الظاهر والمجمل، فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف.
فالظاهر هو المعتمد، إذا فلا يصح الاعتراض عليه، لأنه من التعمق والتكلف، وأيضا لو جاز الاعتراض على المحتملات: لم يبق للشريعة دليل يعتمد لورود الاحتمالات وإن ضعفت، والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل، فيؤدي إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها، وليس كذلك باتفاق".( الموافقات:4/325).


ولأجل ذلك كله قرر العلماء رحمهم الله:

" أن المحتمل والظن الذي تقوم به حجة هو: الذي يتطرق إليه احتمال معقول، أو ظن مقبول جار على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في نظائره، وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة وأمر واضح، فلا يقال له احتمال وإنما هو: تلاعب وهوس خيال!!؟".( الجرح والتعديل، للعلامة جمال الدين القاسمي – رحمه الله - 37- 38 ) بتصرف يسير.
وقال الإمام القرافي المالكي رحمه الله:" الاحتمال المعتبر إنما هو: الاحتمال المساوي المقارب، وأما المرجوح، فلا ".( الفروق: 1/227-مختصره).
وقال الإمام الزركشي رحمه الله:" لا عبرة بالاحتمال، فإنه إذا لم ينشأ عن دليل: كان ساقط العبرة، وإلا لم يوثق بمحسوس".( تشنيف الأسماع: ق1/ص:325).
وقال علاء الدين البخاري الحنفي رحمه الله:" وعندنا لا عبرة للاحتمال البعيد، وهو الذي لا تدل عليه قرينة".( كشف الأسرار:1/128).


ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد: أن العلماء قد اتفقوا على دور وأثر القرائن السياقية فيما يخص الظنون والاحتمالات، وعليه، فإن دلالة اللفظ تكون ظنية في "ذاتها" لكن قد يقطع بالمعنى مراعاة للقرائن و السياق.
يقول التلمساني المالكي رحمه الله:" قد يتعين المعنى، ويكون نصا فيه بالقرائن والسياق، لا من جهة الوضع".( مفتاح الوصول: 43).


وبناء على ما مر، فإن الاجتهاد المعتبر بناء على ظنية دلالة النص = الدليل هو: ما كان قائما على احتمال مساو مستند إلى أدلة شرعية، وقواعد مرعية، و مقاصد علية يراعى فيه السياق، وفهم السلف الصالح.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "مجال الاجتهاد المعتبر هي: ما ترددتبين طرفين، وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فلم تنصرف ألبتة إلى طرف النفي، ولا إلى طرف الإثبات".( الموافقات:4/155).


والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.