أطلنطا الجديدة
23-08-2018, 09:35 AM
في كتابه (الجمهورية) ذكر الفيلسوف الإغريقي أفلاطون مدينةً فاضلة يسود فيها العدل و ينعم سكانها بالرفاهية و الرخاء و الإخاء، تعرف باسم أطلنطا، تحتل قارة هائلة خلف أعمدة "هرقل" (مضيق جبل طارق حاليا)، وأنها كانت اكبر من شمال إفريقيا واسيا الصغرى مجتمعتين وخلفها سلسلة من الجزر تربط بينها وبين قارة ضخمة أخرى ... وقد وصف أطلنطا بأنها جنة الله في الأرض ... ففيها تنمو كل النباتات والخضروات والفواكه , و تحيا كل الحيوانات والطيور، وتتفجر ينابيع المياه الحارة والباردة , كل شيء فيها نظيف وجميل , وشعبها من أرقى الشعوب وأعظمها ..... إضافة إلى احتوائها على خبرات هندسية وعلمية تفوق ما كان يمكن تخيله في عصر (أفلاطون) , ففي الجزيرة شبكة من قنوات الري المتطورة , والجسور، و أرصفة الموانئ التي ترسو عندها السفن و الأساطيل التجارية الضخمة.
تدور عجلة التاريخ و يستولى الرومان على هلينيا عام (146 ق.م), فيجدوا مذاهب فلسفية شتى تتنازع الميدان, وبما أن الرومان لم تكن لديهم المقدرة و الفراغ للتأمل و التفكير أنفسهم, فقد عادوا بهذه الآراء الفلسفية مع جملة مغانمهم إلى روما, و اتجه كبار المنظرين منهم إلى الأساليب الرواقية, فكانت الفلسفة السائدة في روما, فلسفة (زينون) الرواقية.
اعتقد الرواقيون أن عدم الاهتمام بالعالم هو النظرة المعقولة للحياة, وأنّ سرّ السلام يكمن في تخفيض رغباتنا وطموحاتنا إلى مستوى ما يمكن أن نحققه من أمور، دون أن نتطلع إلى أكثر من ذلك. يقول الفيلسوف الرواقي (سينيكا) " إذا كان ما لديك لا يكفيك, فستكون بائساً وفقيراً حتى لو ملكت العالم".
ثم ... يتحول مسرح التاريخ إلى مشاهد جديدة, فتتدهور الزراعة في روما بسبب جفاف الأرض وتعبها, وتتحول ثروتها إلى فقر, وتنظيمها إلى فوضى, وتتعطل الطرق, ولا تعود صالحة للتجارة, وتزحف القبائل الجرمانية العنيفة سنة بعد أخرى عبر الحدود لتهاجم بقايا الإمبراطورية التي أخذ نجمها في الأفول, فتستسلم الإمبراطورية الرومانية تدريجياً إلى البابوية.
لقد دعم الأباطرة الكنيسة في القرون الأولى من قيامها, و امتصت الأخيرة تدريجياً سلطة الملوك والأباطرة, ونمت نمواً كبيراً في عددها, وثروتها, ونفوذها, وأصبحت تمتلك ثلث الأرض في أوروبا حوالي القرن الثالث عشر.
طوقت الكنيسة العقل الأوروبي اليافع في القرون الوسطى و لاحقت المغامرين باستخدام عقولهم في مجالات العلم و البحث عن الحقيقة ملاحقة صارمة انتهت بالكثيرين منهم إلى الحرق في الساحات العامة بتهمة الهرطقة و ضمت الفلسفة الرواقية المذعنة تحت جناح فلسفتها الإلهية آنذاك.
لقد انشغلت أعظم العقول من أجيال تعاقبت في القرن الثاني عشر في أوروبا بجدل عقيم مثل: هل الألم فضيلة أم رزيلة؟ هل يمكننا أن نعرف أننا لا نعرف؟ هل يمكن للحكيم أن يكون تعيسا؟ كم هو عدد الملائكة الذين بإمكانهم الوقوف على رأس دبوس؟ لقد كان المنطق السائد آنذاك هو أن هذا الجدل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة.
في تلك الفترة قام الأسقف (جون فون ساليزبوري-John Von Salisbury) بزيارة مدرسته التي كان قد تخرج منها، و دهش كثيرا عندما وجدهم يناقشون المواضيع العقيمة نفسها التي كانوا عليها قبل ثلاثين عاما. وصف أحد المؤرخين تلك الحقبة بقوله: "ملأ أصحاب اللحى العالم بلحاهم الطويلة ثم تركوه فارغا كما استلموه ".*
في هذه الفترة بالذات، كانت المدنية الإسلامية قد أينعت ثمارها، وبدأت تؤتي أكلها، وكانت حواضر العالم الإسلامي منارات علم ونور للعالم أجمع، وكما يقول (ول ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة):
"وبلغ الإسلام في ذلك الوقت أوج حياته الثقافية، وكنت تجد في ألف مسجد منتشرة من قرطبة إلى سمرقند، علماء لا يحصيهم العد، كانت تدوي أركانها بفصاحتهم، وكانت قصور مئة أمير تتجاوب أصداؤها بالشعر والمناقشات الفلسفية، ولم يكن هناك من رجل يجرؤ أن يكون مليونيراً من غير أن يعاضد الأدب والفن ..."،
يقول (جورج سارتون) في كتابه "المدخل إلى تاريخ العلوم":
"كتبت أعظم المؤلفات قيمة وأكثرها أصالة وأغزرها مادة باللغة العربية خلال العصور الوسطى، وكانت اللغة العربية منذ منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر للميلاد لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى أنه كان يتوجب على من أراد أن يلم بثقافة عصره بأحدث صورها، أن يلم باللغة العربية"
لكن شعلة الحضارة هذه لم تلبث أن خبت، بعد أن أصبح النقل عن الأسلاف مقدما على العقل، و بعد أن أصبح العلماء و الفلاسفة من أمثال ابن رشد و ابن سينا و الرازي و الفارابي ... و غيرهم كثيرون يتهمون بالفسق و الزندقة و تجرَّم أعمالهم و تحرق كتبهم.
لقد سَقطت الأندلس يوم أُحرقت كتب ابن رشد , و بدأت نهضة أوروبا يوم وصلتها أفكاره ...
كان العالِم والطبيب والفقيه والقاضي والفلكي والفيزيائي الأندلسي ( ابن رشد )، واحداً من أبرز و أكبر و أشهر فلاسفة الإسلام، و قد حدد العلاقة بين العقل و النقل بمقولته الشهيرة: "لا يُمكن أن يُعطينا الله عقولاً، ثم يُعطينا شرائع مُخالفه لها"
و قال في من يستغل جهل العامة للاتجار بالدين:
"التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المُجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإن أردتَ التحكم في جاهل ، عليك أن تُغلّف كلّ باطل بغلافٍ ديني ..."
أصدرَ رجالُ الدّين فتاواهم بحرق جميع كتبه، خوفاً من تدريسها لما تحتويه (من مفاسد و كُفر و فجور و هرطقة) كما ادَّعوا , فقال كلمته الشهيرة: "ابتلينا بقوم يحسبون أن الله لم يهد سواهم".
لكن دهماء الناس ممن يحركهم تجار الدين زحفوا إلى بيته وحرَّقوا كتبهُ جميعاً حتى أصبحت رماداً .. حينها بكى أحد تلامذتهُ بحرقة شديدة فقالَ ابن رشد:
"يا بُني .. لو كنت تبكي على الكُتب المُحترقة فاعلم أنّ للأفكار أجنحة و هي تطيرُ بها إلى أصحابها، لكن لو كنت تبكي على حال العرب و المُسلمين فأعلم أنّك لو حوّلت بحار العالم لدموع لن تكفيك"
بتأثير من أفكار ابن رشد و غيره من أعلام الحضارة الإسلامية، بدأت بوادر النهضة الحديثة في أوروبا، و جاء (فرنسيس بيكون) بمبدأ يقوم على كلمتين، هاتان الكلمتان غيرتا وجه التاريخ، و آذنتا بولادة الحضارة الحديثة: لم يتعد مبدأ بيكون القول بأن"المعرفة قوة!- Knowledge is Power"، فبعد أن كانت المعرفة مجرد ترف ذهني و جدل عقيم لا ينفع الناس بشيء، أصبحت أم الاختراعات و الاكتشافات العلمية التي ستوظف في خدمة الإنسان.
لقد جسّد (بيكون) رؤاه في مدينة افتراضية فاضلة هي موضوع كتابه (أطلنطا الجديدة), أما اسم (أطلنطا) فقد ذكره أفلاطون في حديثه عن أسطورة القارة الغارقة في البحار الغربية البعيدة كما أسلفنا، فنسج بيكون مستوحيا من حديث أفلاطون رواية خيالية تعالج بطريقة مشوقة مبدأ الكاتب في تحويل المعرفة إلى نفع و قوة تسخّر لخدمة الإنسان. لقد رأى بيكون أن القارة العظيمة لم تغرق, لكن الذي غرق هو شجاعة الناس في خوض البحار.
تبدأ الرواية ببراعة وبساطة هكذا: أبحرنا من (بيرو) في طريقنا إلى الصين و اليابان عن طريق البحر الجنوبي, وما إن توغلنا في عباب اليم حتى سكنت الريح, فجثمت السفينة هامدة على صفحة المحيط التي بدت كمرآة زرقاء تلمع تحت أشعة الشمس اللاهبة, وما إن شارفت مؤننا على النفاذ حتى هبت ريح عاتية أخذت تدفعنا بعنف في ظلمات البحر نحو الشمال. مرت بنا على هذه الحال أيام خلناها دهوراً, إذ تفشى المرض بين الملاحين، وخارت قواهم حتى استسلموا للموت, وبينما نحن في ذلك, لاحت لنا في الأفق جزيرة جميلة أعادت إلينا الأمل في الحياة.
على شاطئ الجزيرة استقبلنا أناس تبدو عليهم ملامح الذكاء, فأكرموا وفادتنا, وسمحوا لنا بالمكوث على جزيرتهم حتى نتماثل للشفاء. خلال أسابيع النقاهة بدأنا نكتشف ألغاز و غوامض الجزيرة, فعرفنا أنها تدعى (مملكة سليمان), وسليمان كان ملكاً للجزيرة في غابر الأزمان, ذو قلب كبير, كرّس حياته لرفعة شأن المملكة, إنّ أهم منجزاته ما يسميه أهل الجزيرة (بيت سليمان), إنّه درّة المملكة, ومن أعظم ما شهدته الأرض من منجزات.
بيت سليمان في أطلنطا الجديدة هو مقر الحكومة, لكنه لا يضم سياسيين متغطرسين ولا يعرف لغواً ولا نفاقاً ولا أكاذيب, بل إنها حكومة الشعب للشعب, تديرها الصفوة المختارة من فنيين و مهندسين و فلكيين وجيولوجيين وأطباء وكيماويين و رجال اقتصاد وعلماء اجتماع ونفس وفلسفة، إنهم مشغولون ببسط نفوذهم على الطبيعة و السيطرة عليها بالدرجة الأولى, إنهم يدرسون النجوم, ويطورون الصناعات المختلفة, ويهتمون بالأبحاث الجارية لمعالجة الأمراض وإجراء العمليات الجراحية, و الحصول على أنواع جديدة من النبات و الحيوان عن طريق التهجين.. لقد بلغوا شأواً في الطيران بتقليدهم الطيور, و ملكوا سفناً وغواصات. أما تجارتهم الخارجية فمن نوع غريب, إنها ليست التوابل و الذهب و الفضة, فالجزيرة تنتج ما تحتاج من هذه السلع ولا تدخل في حروب من أجل تأمين الأسواق الخارجية, إنها تجارة تسعى للحصول على العلم المعرفة. يوفد تجار العلم هؤلاء كل اثني عشر عاماً ليعيشوا بين الشعوب الأجنبية في العالم المتمدن, ويتعلموا لغاتها, ويدرسوا صناعتها وعلومها وآدابها, ثم يعودوا ليقدموا تقاريرهم عن مشاهداتهم وأبحاثهم بينما تحتل جماعة أخرى أماكنهم في الخارج, وبهذه الطريقة يدخل إلى أطلنطا أفضل ما في العالم كل عام.
للمقارنة بين فهم فرنسيس بيكون الجديد للمعرفة و فهم الفلاسفة الإغريق القدامى، تخيل المؤرخ البريطاني (ماكولي-Macaulay)* عام 1837 أن الفيلسوف الرواقي سينيكا، و فرنسيس بيكون قد التقيا في صحبة سفر ... حتى إذا بلغا شاطئ البحر و جدا رجلا ينوح و يحثوا الرمال على رأسه و عندما سألاه عن خطبه تبين أنه تاجر غرقت سفينته في عرض البحر قريبا من الشاطئ، و في السفينة حصيلة ما حصله في عمره من ثروة، فانبرى سينيكا لتعزيته بالقول أن الحياة بما فيها من ثروة و جاه و سلطة عديمة الجدوى، و أن ما خسره لا يعادل جناح ذبابة مما سيكسبه في الآخرة إذا اتقى و احتسب خسارته قضاء وقدرا ... في هذه الأثناء كان بيكون يعد غواصة بسيطة نزل بها إلى حيث غرقت السفينة و أنقذ منها ما خف حمله و غلا ثمنه ... و هكذا تستمر القصة فيمر سينيكا و الشاب على منجم فحم منهار و قد وقف على مدخله مجموعة من العمال منذهلين من هول الكارثة، وقد علق كثير من زملائهم داخل المنجم المنهار، فيتصدر سينيكا الموقف من جديد ليعزي العمال الواقفين بأن زملاءهم قد انتقلوا إلى جنات النعيم لأنهم كانوا يسعون في رزق أسرهم عندما انهار المنجم، بينما يسرع بيكون بإحضار فأس و مكتل و ضوء آمن من اختراعه ثم يحدث ثغرة في الهدم و ينتشل العمال العالقين من داخل المنجم.
هذه أفكار بيكون بإيجاز شديد، فهل أتت أكلها؟؟
لقد خلفت أفكار (بيكون) تغييرات هامة لدى معاصريه, عندما بينت أنّ للإنسانية هدفاً أسمى وأهم من اللهث وراء الجدل العقيم, وأن على الإنسان تسخير العلم للسيطرة على الطبيعة والاستفادة من ثرواتها في رفع مستواه المعيشي وزيادة رفاهيته, فأينعت بذور الأمل مبشرة بمستقبل إنساني واعد, بظهور جيل من المثقفين عام (1700م) يختلف تماماً عن سلفه في عام (1600م) في نظرته إلى الكون والإنسان.
فبينما كانت المذنّبات تعدّ نذير شؤم, أصبحت تعرف على أنها كتلٌ ماديّة هشة تتبع قانون الجاذبية العام في دورانها حول الشمس. و في الطب جاء (توماس سيدنهام) بمقدمته عن الطب السريري عام (1666 م), و طوّر (كريستيان هويجنز) النظرية الموجية للضوء عام (1678م), كما ألحق نيوتن نظريته عن الجاذبية العامة بحساب التفاضل في عام (1693م) وظهرت نظرية حفظ المادة (للافوازييه), كما وُضعت تقنيات التلقيح ضد الجدري موضع التطبيق العملي في المئة الثامنة عشرة للميلاد. و لم يكن كل ذلك ممكنا لولا أن عُزلت الكنيسة عن التدخل في الحياة العامة، و هي التي طوقت العقل الأوروبي اليافع آنذاك، و لاحقت المغامرين باستخدام عقولهم في مجالات العلم و البحث عن الحقيقة ملاحقة صارمة انتهت بالكثيرين منهم إلى الحرق في الساحات العامة بتهمة الهرطقة.
والآن بعد زهاء ثلاثمائة عام فقط من بداية الصحوة في أوروبا, أصبحنا نشهد المنجزات الباهرة للحضارة الإنسانية, من تطويع الطاقة النووية لخدمة الإنسان, إلى التطبيقات المختلفة للالكترونيات و الحاسوب, إلى الطيران النفّاث ورحلات الفضاء, إلى أعاجيب علم الفلك الحديث, والفيزياء الذرية، و تقنيات النانو.
لقد أصبح بالإمكان قياس أبعاد أصغر أجزاء المادة, وفي الوقت نفسه قياس المسافات الكونية الهائلة, وأبعاد الأجرام السماوية العملاقة التي تفوق بحجمها ملايين حجم الأرض. لقد أصبح بمقدورنا رصد السماء حتى حافة الكون, ومعالجة كثير من الأمراض التي حيرت البشرية طويلاً, كل هذا و غيره كثير حصل بإتباع سبيل العلم وتسخيره لخدمة الإنسان بدلاً من الانسياق وراء الجدل العقيم و الأساطير و الخرافة.
لقد أصبح ما لقيصر لقيصر، و ما لله لله، و انتقل أمر الدنيا و علومها و أبحاثها إلى من هم أدرى بشؤون دنياهم.
لكن هل وصلت الإنسانية إلى تحقيق حلم المدينة الفاضلة حقا كما تحدث عنها كثير من الفلاسفة و العلماء و المفكرين؟ أم أن البحث عنها مازال يجري حثيثا لوضع حد لشقاء البشر؟
بحلول القرن الثامن عشر برز اتجاه مادي متزمّت أكد نفسه في جميع مناشط الحياة الإنسانية: في السياسة و الاقتصاد و الحياة الاجتماعية، و حتى في الحياة اليومية لكل أسرة و فرد، لقد أدى هذا الاتجاه إلى تدمير الهدف الأخلاقي للحضارة و الفشل في إدراك أن المشاكل التي ندعوها أخلاقية مستمرة في وجودها حتى لو نبذنا الأفكار الدينية و الفلسفية في الثواب و العقاب و الجنة و الجحيم، لأن المشاكل الأخلاقية مشاكل ذات تعقيدات تتعلق بالحياة الإنسانية و المجتمع، و هكذا فالأخلاق هي قوة الإنسان النفسية لتحقيق أشكال أرقى من الحياة أما إذا انفلتت إرادة الإنسان من القيد الأخلاقي فإن النتيجة ستكون سقوط الحضارة كما حدث لكثير من الحضارات البائدة في التاريخ، هذا بالإضافة إلى أن هذه الحاجة أصبحت ملحة اليوم كي تبعث فكرة الهدف من الحياة أو معنى الحياة، فبالرغم من أن العقلانية و التقنيات الحديثة قد زادت من تقدم الإنسان و رفاهيته على حساب الطبيعة، إلا أن هذا التقدم بالذات قد جعل الرغبات و الشهوات البهيمية متاحة جدا بحيث يسهل الانغماس فيها و الانحدار في اتجاه أشكال الحياة الأدنى إذا لم يتوفر للحضارة الهدف أو الدافع الأخلاقي ليحفظها من التدهور و الانهيار. لقد عادت هذه الحاجة الأخلاقية لتظهر أواخر القرن العشرين، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها مخلفة الكوارث و الدمار الهائل الذي نتج عن تطور تكنولوجي غير مسبوق في إنتاج الأسلحة و وسائل التدمير الشامل، لم ترافقه الأخلاق اللازمة كي يُحسن توظيف قدراته و استخدامها. ما ألم بالحضارة المعاصرة أشبه ما يكون بمرض سرطاني فهاهو الإنسان الحديث بالرغم من كل معارفه العلمية ما يزال في حماقة أجداده، و ما يزال يستخدم كل الخدع السياسية و المكر من أجل الزعامة و السيطرة على موارد الثروة الطبيعية غير معني بما يسببه ذلك من فساد و إفساد، إن المادية بكل صورها: الماركسية و المنطقية الإيجابية و إنسانية (برتراند رسل) العلمية المفتعلة كلها تجعل الإنسان حبيس الزمن و الحاجة المادية العابرة، لذلك يجب التحرر من نماذج التفكير هذه التي أثبتت فشلها مرة بعد أخرى، و لنا من خواء الحضارة المعاصرة من كل معنى إنساني رفيع أكبر دليل على ذلك.
يقول المؤرخ الغربي (توينبي):
"...لقد أغرت منجزات الحضارة الحديثة ضحاياها و أغوتهم فباعوها أرواحهم مقابل المصابيح الكهربائية والسينما و الراديو... و كانت نتيجة هذا الدمار الحضاري الذي سببته هذه الصفقة جدب روحي أدى إلى مجتمع الخنازير... ..."
و يتابع:
" إن الغربي يستطيع بواسطة الدين أن يتصرف تصرفا روحيا يضمن سلامته من القوة المادية التي ألقتها بين يديه ميكانيكية الصناعة الغربية"، نعم لقد حققت الحضارة الغربية تقدما ماديا هائلا بتسخير العلم لرفاهية الإنسان لكنها اقتصرت على الجوانب المادية من المعرفة فقط الأمر الذي أفقدها القوة الروحية و هي الطاقة الحيوية لحفظ الجنس البشري، و بدون هذا المفهوم الحيوي فإن كلمة التقدم تكون مجرد سخرية، بل إنها تشبه سيارة لا وقود فيها.
ويبقى البحث عن أطلنطا جديدة تتماهى فيها القوة الروحية مع قوة المعرفة المادية بحثا مفتوحا للأجيال القادمة ما دام الجنس البشرى قائما يسعى على دروب الحضارة و التقدم.


*. (Lord Macaulay, essay on Bacon (Longmans, Green, London 1866