بغداد بعد السقوط
14-09-2016, 06:28 PM




إذا كانت هناك خلافة ضعيفة فقد يأتي زمان تتقوى فيه، أو يجتمع المسلمون تحت رايتها.. أما إذا غابت الخلافة.. فالتجمع صعب.. بل صعب جدًّا.

والآن سقطت بغداد وسقطت معها الخلافة والخليفة، مصيبة هائلة أن تختفي الخلافة.. مصيبة هائلة أن يختفي الخليفة.

منذ سقوطها والتتار يسعون في أرض بغداد فسادًا، أكثروا من القتلى وخربوا الديار وهدموا الحضارة.

واستمر هذا الوضع الأليم أربعين يومًا كاملة.. وامتلأت شوارع بغداد بتلال الجثث المتعفنة، واكتست الشوارع باللون الأحمر، وعم السكون البلدة، فلا يسمع أحد إلا أصوات ضحكات التتار الماجنة.. أو أصوات بكاء النساء والأطفال بعد أن فقدوا كل شيء.

وبعد الأربعين يومًا خاف هولاكو على جيشه من انتشار الأوبئة نتيجة الجثث المتعفنة (مليون جثة لم تدفن بعد)، فأصدر هولاكو بعض الأوامر الجديدة:

1- يخرج الجيش التتري بكامله من بغداد، وينتقل إلى بلد آخر في شمال العراق، لكي لا يصاب الجيش بالأمراض والأوبئة، وتترك حامية تترية صغيرة حول بغداد، فلم يعد هناك ما يخشى منه في هذه المنطقة.

2- يعلن في بغداد أمان حقيقي، فلا يقتل مسلم بصورة عشوائية بعد هذه الأربعين يومًا.. وقد سمح التتار بهذا الأمان حتى يخرج المسلمون من مخابئهم ليقوموا بدفن موتاهم.. وهذا عمل شاق جدًّا يحتاج إلى فترات طويلة (مليون قتيل)، وإذا لم يتم هذا العمل فقد يتغير الجو- ليس في بغداد فقط - ولكن في كل بلاد العراق والشام، وستنتشر الأمراض القاتلة في كل مكان، ولن تفرق بين مسلم وتتري، ولذلك أراد هولاكو أن يتخلص من هذه الجثث بواسطة المسلمين.

وفعلًا خرج المسلمون الذين كانوا يختفون في الخنادق أو في المقابر أو في الآبار المهجورة.. خرجوا وقد تغيرت هيئتهم، ونحلت أجسادهم، وتبدلت ألوانهم، حتى أنكر بعضهم بعضًا!

لقد خرج كل واحد منهم ليفتش في الجثث، وليستخرج من بين التلال المتعفنة ابنًا له أو أخًا أو أبًا أو أمًا!

مصيبة كبيرة فعلًا.

وبدأ المسلمون في دفن موتاهم.. ولكن كما توقع هولاكو انتشرت الأوبئة في بغداد بشكل مريع، حتى مات من المسلمين عدد هائل من الأمراض القاتلة! وكما يقول ابن كثير: «ومن نجا من الطعن، لم ينج من الطاعون!»[1].

فكانت كارثة جديدة في بغداد.. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!

3- كما أصدر هولاكو قرارًا بأن يعين مؤيد الدين العلقمي الشيعي رئيسًا على مجلس الحكم المعين من قبل التتار على بغداد، على أن توضع عليه بالطبع وصاية تترية.

ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار، وذلك لتحطيم نفسيته، ولا يشعر بقوته، ويظل تابعًا للتتر!

وقد رأته امرأة مسلمة وهو يركب على دابته، والجنود التتر ينتهرونه ليسرع بدابته، ويضربون دابته بالعصا.. وهذا بالطبع وضع مهين جدًّا لحاكم بغداد الجديد.. فقالت له المرأة المسلمة الذكية: «أهكذا كان بنو العباس يعاملونك[2]؟!

لقد لفتت المرأة المسلمة نظر الوزير الخائن إلى ما فعله في نفسه، وفي شعبه.. لقد كان الوزير معظمًا في حكومة بني العباس.. وكان مقدمًا على غيره.. وكان مسموع الكلمة عند كل إنسان في بغداد، حتى عند الخليفة نفسه.

أما الآن، فما أفدح المأساة! إنه يهان من جندي تتري حقير لا يعرف أحد اسمه.. بل لعل هولاكو نفسه لا يعرفه!

وهكذا من باع دينه ووطنه ونفسه، فإنه يصبح بلا ثمن حتى عند الأعداء، فالعميل عند الأعداء لا يساوي عندهم أي قيمة إلا وقت الاحتياج، فإن تم لهم ما يريدون زالت قيمته بالكلية.

وقد وقعت كلمات المرأة المسلمة الفطنة في نفس مؤيد الدين العلقمي، فانطلق إلى بيته مهمومًا مفضوحًا، واعتكف فيه، وركبه الهم والغم والضيق.. لقد كان هو من أوائل الذين خسروا بدخول التتار.. نعم هو الآن حاكم بغداد.. لكنه حاكم بلا سلطة.. إنه حاكم على مدينة مدمرة.. إنه حاكم على الأموات والمرضى!

ولم يستطع الوزير الخائن أن يتحمل الوضع الجديد.. فبعد أيام من الضيق والكمد.. مات ابن العلقمي في بيته!

مات بعد شهور قليلة جدًّا من السنة نفسها التي دخل فيها التتار بغداد.. سنة 656 هجرية.. ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة! وليكون عبرة بعد ذلك لكل خائن.{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود: 102].

وولى التتار ابن مؤيد الدين العلقمي على بغداد، فالابن قد ورث الخيانة من أبيه.. لكن -سبحان الله!- وكأن هذا المنصب أصبح شؤمًا على من يتولاه.. فقد مات الابن الخائن هو الآخر بعد ذلك بقليل.. مات في السنة نفسها التي سقطت فيها بغداد سنة 656 هجرية[3]!

ولا عجب!

فإنه ما تمسك أحد بالدنيا إلا وأهلكته.

تمسك بها الخليفة فهلك.

وتمسك بها الوزير الخائن فهلك.

وتمسك بها ابن الوزير فهلك.

وتمسك بها شعب بغداد فهلك.

وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال فيما رواه الإمام الترمذي -وقال صحيح- عن عمرو بن عوف رضي الله عنه: «.. فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[4].

ووصلت أخبار سقوط بغداد إلى العالم بأسره.

أما العالم الإسلامي فكان سقوط بغداد بالنسبة إليه صدمة رهيبة لا يمكن استيعابها مطلقًا.. فبغداد لم تكن مدينة اعتيادية.. ففوق أنها أكبر مدينة على وجه الأرض في ذلك الحين، وفوق أن بها أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، وفوق أنها من أعظم دور العلم والحضارة والمدنية في الأرض، وفوق أنها من ثغور الإسلام القديمة.. فوق كل ذلك فهي عاصمة الخلافة الإسلامية!

ماذا يعني سقوط بغداد؟!

تساءل الناس هذا السؤال الخطِر؟!

وماذا يعني قتل الخليفة، وعدم تعيين خليفة آخر؟

سؤال آخر خطِر.

الدنيا لم تكن تعني للمسلمين شيئًا دون خلافة وخليفة.. حتى مع مظاهر الضعف الواضحة في سنوات الخلافة العباسية الأخيرة، وحتى مع كونها لم تكن تسيطر حقيقة إلا على بغداد وأجزاء بسيطة من العراق فإن الخلافة كانت تعتبر رمزًا مهمًّا للمسلمين.

مصيبة هائلة أن تختفي الخلافة.. مصيبة هائلة أن يختفي الخليفة.

وظهر عند المسلمين بعد سقوط بغداد اعتقاد غريب، سيطر على كثير منهم حتى ما عادوا يتكلمون إلا فيه، وانتشر بين الناس بسرعة عجيبة، والناس من عادتها أنها تحب دائمًا أن تستمع إلى الغريب.

لقد ظهر اعتقاد أن خروج التتار وهزيمة المسلمين وسقوط بغداد ما هي إلا علامات للساعة، وأن «المهدي» سيخرج قريبًا جدًّا ليقود جيوش المسلمين للانتصار على التتار!

نعم سيظهر المهدي في يوم ما، ونعم سينزل المسيح عليه السلام، ونعم ستكون الساعة.. نعم كل هذه أمور نعلم أنها ستحدث.. يقينًا ستحدث.. ولكن متى بالضبط؟ لا يدري أحد!

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}[الأحزاب: 63].

فلماذا تظهر مثل هذه الدعوات في أوقات الهزائم والانتكاسات؟.

إن هذا ليس له إلا مسوغ واحد، وهو أن الناس قد أُحبطوا تمامًا فأصبحوا يَشُكُّون في إمكانية النصر على أعداء الله عز وجل بمفردهم.. لقد أيقن الناس أنهم لا طاقة لهم بهولاكو وجنوده، ولذلك بحثوا عن حل آخر أسهل.. وليكن هذا الحل هو: «المهدي»، فلننتظر إلى أن يخرج المهدي، وعندها نقاتل معه.. أما قبل ذلك فلا نستطيع!

دعنا نراقب الموقف عن بعد!

دعنا ننتظر معجزة!

إحباط.. ويأس.. وقنوط.

وهذه كلها ليست من صفات المؤمنين.

{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87].

ثم من أدراك أنك ستعيش إلى زمان خروج المهدي، بل عليك أن تعلم أنك لو مت قبل ظهوره فسوف يحاسبك الله عز وجل على عملك لا على حياتك في زمانه، ثم من أدراك أنه إذا خرج المهدي فإنك ستكون من جنوده.. إن جنوده سوف يختارهم الله عز وجل.. ولن يكون الاختيار عشوائيًا.. حاشا لله.. إنما سيكون بحسب الإيمان والعمل.

ونسأل الله أن يستعملنا لدينه.

كان هذا هو الوضع الإسلامي بعد سقوط بغداد.

فكيف كان الوضع في العالم النصراني؟

لقد عمت البهجة والفرحة أطراف العالم النصراني كله[5].. وهذا شيء متوقع جدًّا.. فكما ذكرت في المقالات الأولى أن قوى العالم الرئيسة في هذا القرن السابع الهجري كانت ثلاثة: العالم الإسلامي، والعالم النصراني، والتتار.. والحروب بين المسلمين والنصارى كانت على أشدها، وكانت هذه الضربة التترية ضربة موجعة جدًّا للعالم الإسلامي.. وتجددت -ولا شكَّ- الأطماع الصليبية في مصر والشام.

وقد زاد من فرح النصارى أنهم كانوا يتعاونون مع التتار في هذه الحملة الأخيرة.. ودخل ملك أرمينيا وملك الكُرْج وأمير أنطاكية في حزب التتار.. وزاد من فرحتهم أن التتار - وللمرة الأولى في حياتهم - صدقوا في عهودهم.. فإنهم قد وعدوا النصارى أن لا يمسوهم بسوء في بغداد، وتم لهم ذلك، بل إن هولاكو أغدق بالهدايا الثمينة على «ماكيكا» البطريرك النصراني، وأعطاه قصرًا عظيمًا من قصور الخلافة العباسية على نهر دجلة، وجعله من مستشاريه، ومن أعضاء مجلس الحكم الجديد، ومن أصحاب الرأي المقربين في بغداد.

كل هذا دعا النصارى إلى أن يقولوا: إن التتار هم أدوات الله للانتقام من أعداء المسيح عليه السلام، وهم بالطبع يقصدون المسلمين، مع أن التتار كانوا منذ سنوات قليلة يقتلون النصارى أنفسهم في أوربا.. ولكن يبدو أن ذاكرة النصارى لا تتسع للكثير.. لقد تناسى الصليبيون ما فعله التتار معهم ما دام التتار يقتلون المسلمين، تمامًا كما يتناسى النصارى اليوم ما فعله اليهود معهم ما دام اليهود يقتلون المسلمين.. والتاريخ يعيد نفسه دائمًا.

هذه الكلمات التي قالها النصارى عن التتار، وهذه الشماتة الواضحة في المسلمين، كانت هي الكلمات نفسها والشماتة نفسها التي حدثت بعد سقوط غرناطة في الأندلس، وسبحان الله! فالذي يراجع سقوط غرناطة يجد تشابهًا عجيبًا بين سقوطها وسقوط بغداد.. مما يعطي أهمية قصوى لدراسة التاريخ؛ لأنه يتكرر بصورة قد لا يتخيلها البشر!

[1] ابن كثير: البداية والنهاية 13/236.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية 13/246.
[3] المرجع السابق.
[4] البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها [6425]، ومسلم [2961].[5] ابن العبري: تاريخ الزمان ص308، 309.

د.راغب السرجاني