أسباب ترتيب آيات القرآن الكريم
05-04-2018, 09:04 AM
أسباب ترتيب آيات القرآن الكريم
الشيخ: مسعد أحمد الشايب

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:


إذا كان المقصودُ بنظم
الآيات القرآنية هو: ترتيبها كما هي موجودة في المصاحف الآن، فإن هذا الترتيب له أسباب داعية إليه، وروابطُ تقتضيه، وهو ما يُسمَّى بالمناسبة بين الآيات والسور، وقد أُلِّفت فيه مؤلفات متعددة؛ منها: (البرهان في تناسب سور القرآن)؛ لأبي جعفر بن الزبير الغرناطي، و(نظم الدُّرر في تناسب الآيات والسور)؛ للبقاعي، و(أسرار ترتيب سور القرآن)؛ للسيوطي، كما عُنِي بذلك الرازي والآلوسي في تفسيرَيْهما، وترتيب الآي في السورة الواحدة كترتيب السور القرآنية، لا بد أن يرجع إلى معنًى ما يربط بينها، عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، أو غير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني؛ كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين، ونحوه، أو التلازم الخارجي؛ كالمرتَّب على ترتيب الوجود في باب الخبر[1].


وذلك حتى تصيرَ الآيات آخذةً بأعناق بعضها البعض، فيقوَى الارتباط بينها، وحتى يكون النظم القرآني حاله حال البناء المحكم المتلاحم اللَّبِنات والأجزاء.

وينبغي للباحث عن أسباب ارتباط الآي: أن ينظرَ أولًا في الآية، هل هي مكمِّلة لما قبلها أو مستقلَّة عنها؟، وإذا كانت مستقلَّة عنها، فما وجهُ مناسبتها لما قبلها؟، ولِمَ جيءِ بها بعدها؟.
هذا، والآية إما أن تكونَ ظاهرة الارتباط بسابقتِها (غير مستقلة عنها)؛ لعدم تمام الكلام بالآية الأولى، أو تكون الآية أو الآيات اللاحقة مؤكِّدة، أو مفسِّرة، أو تكون معترضة بين الآيات المترابطة، أو لا تكون الآية ظاهرة الارتباط بسابقتها[2].

أولًا:الآيات التي يظهر أسباب ودواعي ارتباطها، وبعض هذه الأسباب (غير المستقلة):
تقدَّم أن من هذه الأسباب:
(1)عدم تمام الكلام بالآية الأولى.
(2)كون الثانية مؤكدة للأولى.
(3)كونها تفسيرًا للأولى.
(4) كونها معترضةً بين الآيات لعلة وهدف.
(5)كونها كالعلة لما قبلها.
(6) كونها بدلًا من التي قبلها.
(7)أو نعتًا من الأولى... إلخ.

مثال: الآية المؤكدة (المقررة)، والمفسرة (المبينة)، والمعترضة، والمكملة: قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾[الأنبياء: 16 - 23المولى تبارك وتعالى بعدما بيَّن في الآيات السابقة على هذه الآيات: إهلاكَه لأهل القرى بسبب ظلمهم وتكذيبهم، فقال تعالى: ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ *فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 11 - 15] - بيَّن سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه فعل ذلك بأهل القرى: عدلًا منه وعقوبةً لهم على ما فعلوه، فقد كَثُر في القرآن الاستدلال بإتقان نظامِ خلق السماوات والأرض وما بينهما، على أن لله حكمةً في خلق المخلوقات، وخلق نظمِهما وسننها وفطرها[3]، فقال سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾[الأنبياء: 16]؛ أي: خلقناهما لفوائد دينية ودنيوية.

قلت: فكما أنه سبحانه وتعالى لم يخلُقِ السماوات والأرض لهوًا وعبثًا، بل خلقهما لحِكَم جليلة، فهو كذلك ليس لاعبًا في عقابه لأهل القرى، وأن ما حلَّ بهم من العذاب من مقتضيات تلك الحِكَم ومتفرِّعاتها حسب اقتضاءِ أعمالهم إيَّاه.

وقيل: إن الغرض من هذا تقرير نبوَّةُ النبي صلى الله عليه وسلم، والردُّ على منكرِيه؛ لأنه سبحانه وتعالى أظهر المعجزة على يدَيْه صلى الله عليه وسلم، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم كاذبًا: كان إظهارُ المعجزة على يديه من باب اللعب، وذلك مستحيل في حقه سبحانه وتعالى، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقًا، فهو المطلوب، وحينئذٍ يَفسُدُ كل ما ذكروه من المطاعن[4].
وقيل: هو تخلُّص[5]إلى وعيد المخاطبين[6].

قلت:
والوجه الثاني هو ما رجَّحه الآلوسي[7]وانتصَر له، وفي نظري أن الوجهين الأول والثاني راجحان، وهذا مثال للآية أو الآيات المستقلة عما قبلها، ومع ذلك فالمناسبة بينهما واضحة بيِّنة فهى كالعلة لها.


ثم يُقرر سبحانه وتعالى مضمون قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 16] بقوله تعالى: ﴿ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 17]؛ تقريرًا بالاستدلال على مضمونها، وتعليلًا لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لعبًا؛ أي: عبثًا: لأن اللعب ليس من شأنه سبحانه وتعالى، وإذا أراد سبحانه وتعالى أن يتَّخِذ لهوًا، لاتخذه بقدرته في أشرف العوالم (السماء)، وهذا ما أفادَتْه الظرفية المجازية في قوله: (لَدُنَّا)؛ أي: من جهة قدرتنا، وجملة ﴿ إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾؛ إما أن تكون شرطيةً، وجوابها محذوف دل عليه ما قبله، والمعنى: إن كنا فاعلين لذلك لاتخذناه، أو هي نافية مستأنفة لتقرير الامتناع المستفاد من (لو)، والمعنى: ما كنا فاعلين لهوًا[8].

قلتُ: هذا مثال للآية المؤكدة (المقررة) لمضمون ما قبلها، وهذا هو الأرجح في نظري في تأويل الآية كما يتَّضح من سياق الآيات، وإن كان بعض أئمتنا فسَّر (اللهو) بالمرأة أو الولد، وجعله ردًّا على مَن ادَّعَوْا بُنوَّة المسيح عليه السلام، وعُزَير عليه السلام [9]؛ ولأن المولى سبحانه وتعالى ردَّ عليهم بعد ذلك قولهم هذا قائلًا: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 26 - 29].

ثم بيَّن سبحانه بطريق الإضراب الإبطالي: أن اتِّخاذَ اللهو واللعب ليس مِن صفاته سبحانه وتعالى، وأن مِن صفاته وشأنه سبحانه وتعالى دفع الباطل بالحق في استعارة تمثيلية بديعة؛ فقال سبحانه: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18]؛ أي: ولكم العذابُ والهلاك بوصفكم المولى سبحانه وتعالى، والرسولَ صلى الله عليه وسلم، والقرآنَالكريم - بما لا يَليق.

قلت: وهذا أيضًا تقريرٌ لعدم إرادة اتِّخاذ اللهو، وخلق السماوات والأرض بالحق، وختم الآية بتهديدِهم لوقوعهم في أمر النبوات والقرآن بما لا يليق.
ولما حكى سبحانه وتعالى كلامَ الطاعنين في أمر النبوات والقرآن وافتراءاتهم ابتداءً من قوله تعالى: ﴿ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴾ [الأنبياء: 3 - 5]، وأجاب عنها وبيَّن أن غرضهم من تلك المطاعن هو: التمرُّد وعدم الانقياد لأوامر الله - بيَّن سبحانه وتعالى أنه مُنزَّه عن طاعتهم، وأنه هو المالك لجميع المحدَثات والمخلوقات، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ﴾[الأنبياء: 19].

قلت: هذا ما رجَّحه الرازي في وجه تعلُّق الآية بما قبلها من الآيات[10].
وقال الطاهر بن عاشور[11]: وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإفاضة في إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القرآن[12].
قلت: القولان راجحان عندي والله أعلم، والتخلص سببٌ من أسباب ارتباط الآي المستقلة، والمعنى: أن كل مَن في السماوات والأرض من العقلاء وغير العقلاء ملكُه وعبيدُه، فهو الخالق لهم، والمُنعِم عليهم بأصناف النعم، مخلوقون لعبادته وقَبول تكليفه، والملائكة كذلك ملكُه وعبيده مخلوقة لطاعته، لا تَستكبر عن تلك العبادة ولا تَستحسر.

وقوله تعالى: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20] تفسيرٌ وبيان (مثال للآية المفسرة) لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾، والاستحسار: هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم؛ أي: لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرُهم: لتعب منه تعبًا شديدًا، وهذا تعريضٌ بالذين يستكبرون عن عبادته سبحانه ويعبُدون الأصنام والأوثان.

ثم ينتقلُ سبحانه وتعالى بأسلوب الإضراب الانتقالي (أَمْ) المنقطعة التي بمعنى (بل) و(الهمزة) إلى إبطال الشرك، بعد أن أثبَت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القرآن، وذلك بعد أن هيَّأ الأسماعَ لذلك بالآيتين السابقتين، فيقول سبحانه: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 21]، وهذا الإضراب الانتقاليُّ لإبطال الشرك وقع معترضًا بين قوله تعالى: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾[الأنبياء: 20]، وقوله تعالى: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23][13].

قلت: وهذا مثال للآية المعترضة، والهدف من ذلك هو: التمحُّض لغرض إبطال الإشراك وإبطال تعدُّد الآلهة[14].

وقوله تعالى: ﴿
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22] بيانٌ للإنكار الذي في قوله تعالى: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 21]، ولذلك فُصِلَت ولم تُعطَف، وهو استدلال على بُطلان عقيدة المشركين؛ إذ زعموا أن الله جعل آلهة شركاءَ له في تدبير الخلق بعد أن خلق السماوات الأرض، ولذا كانوا يقولون في التلبية:" لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تَملِكه وما ملَك"[15]، فالآية مَسُوقة لإثبات الوحدانية.

قلت: وهذا مثال للآية المفسرة والمبينة أيضًا.

ثم جاء قوله تعالى: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22] بعد إقامة الدلالة القاطعة على الوحدانية مُوشحًا الفاصلة[16]، وفائدة هذه الفاصلة التنبيهُ على نكتةٍ خاصة بعَبَدة الأصنام، وهي: أنه كيف يجوزُ للعاقل أن يجعَلَ الجماد الذي لا يَعقِل ولا يُحِسُّ شريكًا في الألوهية لخالق العرش العظيم، ومُوجِد السماوات والأرَضين، ومُدبِّر الخلائق أجمعين[17].

وقوله تعالى: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، قال ابن عاشور:" والأظهر أن هذه الجملة حالٌ مكملة لمدلول قوله تعالى: ﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ*يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19، 20][18].

والمعنى: أن مَن عنده وهم المقرَّبون من المخلوقات، هم مع قربهم يُسأَلون عما يفعلون، ولا يسألونه عما يفعل؛ أي: لم يبلغ بهم قربهم إلى حد الإدلال عليه وانتصابهم لتعقُّب أفعاله، والمقصود أن مَن عنده مع قربهم ورِفعة شأنهم يُحاسبهم الله على أعمالهم، فهم يخافون التقصير فيما كُلِّفوا به من الأعمال، ولذلك كانوا لا يَستحسرون ولا يَفترون[19].
قلت: وهذا مثال للآية المكملة.
مثال على الآية التي تكون نعتًا أو بدلًا مِن التي قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ *وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 4 - 7]، (فويل للمصلين) مبتدأ وخبره، و(الفاء) فصيحة أو للسببية، (الذين) اسم موصول في محلِّ جر نعت (للمصلين)، (وهذا محتمل؛ لأنه يجوزُ فيه الرفع والنصب أيضًا) مخصصًا له لأنه نكرة، (هم) مبتدأ، (عن صلاتهم) جار ومجرور متعلق بساهون، (ساهون) خبر، والجملة لا محل لها صلة الموصول، (الذين) الثانية بدلٌ من الأولى، أو نعت (للمصلين)، (هم) مبتدأ، (يراؤون) فعل وفاعل في محل رفع خبر، والمبتدأ والخبر (الجملة الاسمية) لا محلَّ لها صلة الموصول، (ويمنعون الماعون) فعل وفاعل ومفعول، معطوفة على صلة الموصول الثاني.

مثال آخر على الآية المعترضة، والمفسرة، وهو قولُه تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ *فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 - 14]، فقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴾ آيةٌ معترضة مقحَمةٌ لبيان العقبة، مفسِّرة ومبيِّنة لمعنى الإبهام، وقوله تعالى: ﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ... ﴾: آيتان مفسرتان ومبيِّنتان وموضحتان لاقتحام العقبة، ومثل هذا المثال قوله تعالى: ﴿ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ﴾ [الهمزة: 4 - 6].

مثال آخر على الآية التي يُتَخلَّص بها إلى ما بعدها، وهو قوله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]، فهذه الآية يُتخلَّص بها إلى قصة يوسف عليه السلام بعد أن بدأت السورة بالحديث عن القرآن.

مثال على الآية الواقعة عِلةً لما قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ [المدثر:17، 18]، فقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ تعليلٌ لاستحقاقه الوعيد المتقدِّم، وهو تكليفه مشقَّةً من العذاب.

مثال على الآية الواقعة بدلًا مما قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ﴾[الهمزة: 1، 2]، فقوله تعالى: ﴿ الَّذِي...﴾ بدلٌ من (كل) في محل جر، ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره هو، على أن الآية استئناف بياني.

مثال على الآية الواقعة حالًا مما قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴾ [الهمزة: 3]، فقوله تعالى: ﴿ يَحْسَبُ... ﴾ في محلِّ نصب حال من فاعل (وعدَّده)، ويجوز أن تكون الآية استئنافًا بيانيًّا.

مثال على الآية الوقعة نعتًا لما قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴾ [الهمزة: 6، 7]، فقوله تعالى: ﴿ الَّتِي تَطَّلِعُ... ﴾ نعتٌ ثانٍ لـ﴿ نَارُ اللَّهِ ﴾ بعد النعت الأول ﴿ الْمُوقَدَةُ ﴾.

مثال على الآية الواقعة جوابًا للقسم، وهو قوله تعالى: ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا *إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴾ [الصافات: 1 - 4]، فقوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴾ هو جوابٌ للقسم.
قلت: وهذا أيضًا من الآيات المكملة لمضمون ما قبلها.

الخلاصة:

أن من أسباب ودواعي ارتباطِ وترتيب الآيات غير المستقلة الآتي:

التقرير والتأكيد: فقد تكون الآية مقررةً ومؤكدة لمضمون ما قبلها من الآيات، وهذا السبب كثيرٌ في القرآن الكريم.
التفسير والبيان: فقد تكون الآيةُ مفسرةً ومبيِّنةً لما قبلها من الآيات، وهذا السبب كثيرٌ أيضًا في القرآن الكريم.
الاعتراض: فقد تكون الآية معترضةً بين الآيات لحكمةٍ وهدفٍ معين.
التخلص: فقد تكون الآية يُتخَلَّص بها إلى ما بعدَها من الآيات.
التكميل: فقد تكون الآية مكمِّلة لمضمون ما قبلها.
التعليل: فقد تكون الآية مُعلِّلةً لما قبلها.
البدل: فقد تكون الآية بدلًا مما قبلها.
الحال: فقد تكون الآية حالًا مما قبلها.
النعت: فقد تكون الآية نعتًا لما قبلها.
عطف البيان: فقد تكون الآية بيانًا لما قبلها.

ثانيًا:الآيات التي لا يظهر أسبابُ ودواعي ارتباطها (المستقلة عن بعضها)؛ إما أن تكون معطوفة على ما قبلها بحرف مِن حروف العطف المقتضي التشريك في الحكم، أو لا تكون.
الآيات المستقلة المعطوفة على بعضها لا بد لها من سبب ورابط يربط بينها كالآتي:
أولًا:التنظير أو التشريك في الحكم، وذلك كقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 30، 31]، فقد ذكر سبحانه وتعالى - بطريقِ العطف بالواو - ما يتعلَّق بالمؤمنات من أحكام غض البصر، وحفظ الفروج، وإبداء الزينة... إلخ، بعد أن ذكر ما تعلَّق بالرجال من أحكام غض البصر وحفظ الفروج، وهذا من باب ذكر النظير بعد النظير.

وأما التشريكُ في الحكم، فكقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإنسان خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا *وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *إِلَّا الْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ *وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ *لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ*وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ *إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 19 - 35]، فالله عز وجل يُقرِّر في هذه الآيات: أن الجَزَع عند الشر، والمَنْع (البخل) عند الخير - وكلاهما تفسيرٌ للهلع - أبعدُ ما يكون عن المصلين الذين يُداومون على صلواتهم ويحافظون عليها، وهذا الحكم أيضًا للمؤدِّين زكاةَ أموالهم، وللمصدِّقين بيوم الدين وما فيه من أهوال وأحوال، وللخائفين من عذاب الله، وللحافظين فروجَهم من الزنا، وللمراعين أداءَ الأمانات، وللقائمين بأداء الشهادات من غير زيادة أو نقصان، والذي أفاد ذلك عطفُ هذه الأصناف على المصلِّين بالواو، ثم حكَم لهم جميعًا بالجنة، فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 35].

ثانيًا:وقد تكون العلاقةُ بين الآيات المستقلة المعطوفة هي: التضاد، وذلك كذكر آيات الرحمة بعد آيات العذاب، أو الترغيب بعد الترهيب، أو العكس بينهما، وهذا واضح جليٌّ في كثير من الآيات القرآنية؛ كسورة الواقعة.

ثالثًا:ذكر التحلية بعد التخلية، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ *وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 113، 114]، فقد جاء الأمر بالصلاة بعد النهي عن الركونِ إلى الذين ظلموا من باب التحلية بعد التخلية.

رابعًا: وقد تكون الآيةمخصِّصة لعمومالآيةالتي قبلها؛ كقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النور: 6، 7]، فهاتانِ الآيتان مخصصتان لعموم الآية التي نزلَت في حد القذف، وهي قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4]، وأن البَعْل إذا قذف زوجتَه بالزنا، ولم يكن له أربعةُ شهداء على ذلك، فإنه لا يُحَد حدَّ القذف ولا يعاقب بعقوبته إذا لاعَنها على ذلك.
هذا وقد تأتي الآية معطوفةً على ما قبلها، ويُشكِلُ وجهُ الارتباط والجمع بينهما، فيحتاج إلى إعمال فكرٍ وإمعان نظرٍ، وقد ذكر الزركشي طرفًا من ذلك، فليراجعه مَن يشاء[20].

أما الآيات المستقلة غير المعطوفة على بعضها، فلا بد من قرائن معنوية تؤذِن باتصالها، وجودة ترتيبها والربط بينها؛ حيث تنزل الثانية من الأولى منزلة جزئها الثاني[21].

أولًا:من هذه القرائن: التنظير؛ أي: إلحاق النظير بالنظير، وهذا دأب العقلاء؛ كقوله تعالى: ﴿ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ﴾[الحجر: 90] عقب قولِه تعالى: ﴿ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴾ [الحجر: 89]، فالكاف بمعنى (مثل)، و(ما) بمعنى الذي، والمعنى: قل يا محمد لقومك ولأهل مكة: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، مثل العذاب الذي نزَل على الذين أقسموا بالله (المقتسمين) من قوم صالحٍ ليُبيتوه (يقتلوه ليلًا) صالحًا، فنجَّاه الله من شرهم[22].

ثانيًا:المضادة: كالآيات التي تحدَّثت عن حال أصحاب الشِّمال من سورة الواقعة (41 - 56)، بعد الآيات التي تحدَّثت عن حال أصحاب اليمين في السورة نفسها (17 - 40)، و(الواو) هناك في أول الآيات استئنافية، ولا يُظَنُّ أنها عاطفةٌ.
قلت: وهذا المثال يصلح أيضًا مثالًا لنظم الموضوعات في السورة الواحدة، وفي المبحث القادم إن شاء الله سيأتي مزيدُ بيانٍ لهذا النوع من أنواع النَّظْم.

ثالثًا: الاستطراد[23]؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [آل عمران: 110، 111].

قال الزمخشري:" فإن قلتَ: ما موقعُ الجملتين؛ أعني: (منهم المؤمنون)، و(لن يضروكم)؟، قلتُ: هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب؛ كما يقول القائل: وعلى ذكر فلانٍ، فإن مِن شأنه كَيْت وكَيْت، ولذلك جاء من غير عاطف"[24]؛ ا. هـ.

قلت: وكذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾.[آل عمران: 112]، ذكرت أيضًا على سبيلِ الاستطراد، ولذا جاءت أيضًا غيرَ معطوفة بالواو.

رابعًا:الإرشاد إلى ما ينبغي (اجتهاد من الباحث)؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88] عقب قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87]، فإنه سبحانه لما ذكر منَّته ونعمته على نبيِّه صلى الله عليه وسلم بالقرآن، أرشده إلى عدم النظر إلى الدنيا؛ ليَستغني بما آتاه من القرآن عن الدنيا.

خامسًا: قد تكون الآية واقعةً مِن التي قبلها موقعَ الإيضاح بعد الإبهام؛ كقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾[الشورى: 52، 53]، فقوله تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53] هو: إيضاحٌ لقوله تعالى: ﴿ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، وعدل عن إضافةِ صراطٍ إلى اسم الجلالة ابتداءً؛ لقصد الإجمال الذي يَعقبه التفصيل بأن يُبدل منه بعد ذلك صراط الله؛ ليتمكَّن بهذا الأسلوب المعنى المقصود فضلَ تمكنٍ، وإجراء وَصْف اسم الجلالة باسمِ الموصول وصلته؛ للإيماء إلى أن سببَ استقامة الصراط الذي يهدي إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صراط الذي يَملِك ما في السماوات وما في الأرض، فلا يَعزُب عنه شيء مما يليق بعباده، فلما أرسل إليهم رسولًا بكتابٍ، لا يُرتابُ في أن ما أرسل لهم فيه صلاحهم[25].

سادسًا:قد تكون الآيةممهِّدةً للآية التي بعدها؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴾ [الصافات: 4].
قال أبو السعود: ﴿ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴾ [الصافات: 4] جوابُ القسم، والجملة تحقيق للحق الذي هو التوحيدُ بما هو المألوف في كلامهم من التأكيد القسمي، وتمهيد لما يَعقُبه من البرهان الناطق به؛ أعني: قوله تعالى: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾ [الصافات: 5]، فإن وجودَها وانتظامها على هذا النمط البديع مِن أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأعدل شواهد وَحدته[26]؛ ا. هـ.

سابعًا: قد تكون الآيةسببًا وتعليلًا للآية التي قبلها؛ كقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 23، 24]، فهذه الآيةُ تُبيِّن وتُوضِّح منقصةً من نقائص اليهود، أو مِن نقائص أهل الكتاب عمومًا، وهي أنهم بعدَ علمِهم بما في كتب الله مِن شرعِه ثم يُدْعَون لتحكيمِ هذا الشرع فيما بينهم - ترى فريقًا منهم يمتنعون عن ذلك ويأبَوْنَه بقلوبهم، والسبب الذي حملهم على هذا التولِّي وهذا الإعراض أنهم قالوا: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [آل عمران: 24] أربعين يومًا، أو سبعة أيام، ﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 24]؛ أي ثبَّتَهم على دينهم الباطل ما خَدَعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمَسُّهم بذنوبهم إلا أيامًا معدوداتٍ، أو ما ادَّعوه من قولهم:﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18][27].

وبعد:
فهذه بعض أسباب ودواعي الارتباطِ والترتيب بين الآيات القرآنية، وأمثلة لها وبإمعان النظر وإعمال الفكر، تجدُ أن هذه الدواعي وتلك الأسباب منتشرةٌ بين جميع الآيات في السور القرآنية، وفي وجهة نظري أن هذه الأسباب والدواعي هي: أعظم دليلٍ على أن ترتيب الآيات القرآنية ترتيبٌ توقيفي.
والله أعلم.


هوامش:
[1]انظر: "البرهان"، (1/ 35، 37)، و"الإتقان"، (3/ 371).
[2]انظر: "البرهان"، (1/ 40)، و"الإتقان"، (3/ 371).
[3]انظر: "مفاتيح الغيب" (22/ 124، 125)، "التحرير والتنوير" (17/ 30).
[4]انظر: "مفاتيح الغيب" (22/ 124، 125)، "اللباب" (13/ 460).
[5]التخلص نوعان: حسن وقبيح، والتخلص الحسن: هو أن ينتقل مما ابتُدِئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يَختلسه اختلاسًا دقيقَ المعنى؛ بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما، ولا بد من التوطئة له، والفرق بين التخلص والاستطراد: أنك في التخلص تركت ما كنت فيه بالكلية، وأقبَلْت على ما تخلَّصت إليه، وفي الاستطراد تمرُّ بذكر الأمر الذي استطردتَ إليه مرورًا كالبرق الخاطف، ثم تتركه وتعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصده، وإنما عرض عُروضًا؛ انظر: "البرهان"، (1/ 45)، و"الإتقان"، (3/ 373، 374).
[6]انظر: "روح المعاني"، (9/ 18، 19).
[7]انظر: السابق، (9/ 19)
[8]انظر: "التحرير والتنوير"، (17/ 32، 33).
[9]انظر على سبيل المثال: "الكشاف"، (4/ 133)، "مفاتيح الغيب"، (22/ 125)، "اللباب"، (13/ 460، 461).
[10]انظر: "مفاتيح الغيب"، (22/ 125).
[11]الطاهر بن عاشور: هو محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، رئيس المفتين المالكيين بتونس، وشيخ جامع الزيتونة وفروعه بتونس، ولِد بتونس عام (1296هـ - 1879م)، ودرس بها، عيِّن (عام 1932م) شيخًا للإسلام مالكيًّا، وهو من أعضاء المجمعَيْن العربيَّيْن في دمشق والقاهرة، له مصنفات مطبوعة، من أشهرها: (مقاصد الشريعة الإسلامية)، و(أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، و(التحرير والتنوير) في تفسير القرآن، و(الوقف وآثاره في الإسلام)، و(أصول الإنشاء والخطابة)، و(موجز البلاغة)، ومما عُنِي بتحقيقه ونشره (ديوان بشار بن برد) أربعة أجزاء، وكتب كثيرًا في المجلات، توفي بتونس عام (1393هـ - 1973م)؛ انظر: "الأعلام، (6/ 174).
[12]انظر: "التحرير والتنوير"، (17/ 35).
[13] "السابق"، (17/ 37).
[14] "السابق"، (17/ 38).
[15]انظر: "صحيح مسلم"، (كتاب: الحج، باب: التلبية وصفتها ووقتها)، رقم (1185).
[16]انظر: "التحرير والتنوير"، (17/ 38، 39)، وهذا نوع من أنواع الفواصل، وهو: (التوشيح)، وسُميت (الفاصلة) بذلك لكونِ نَفْس الكلام يدل على آخره، نزَّل المعنى منزلة الوشاح (الغطاء المرصع بالجواهر)، ونزَّل أول الكلام وآخره منزلة العاتق (الكتف)، والكشح (ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلفي) اللذين يجول عليهما الوشاح، ولهذا قيل فيه: إن الفاصلة تعلم قبل ذكرها، وسماه بعض العلماء (المطمع)؛ لأن صدر الكلام (أوله) مطمع في عجزه (آخره)؛ انظر البرهان، (1/ 95).
[17]انظر: "مفاتيح الغيب"، (22/ 131).
[18] "التحرير والتنوير"، (17/ 45).
[19] "السابق"، (17/ 45).
[20]انظر: "البرهان"، (1/ 40 - 46).
[21]انظر: "البرهان"، (1/ 46)، و"الإتقان"، (3/ 372).
[22]هذا هو الأرجح عندي في وجه تعلُّق الآية (90) من سورة الحجر بما قبلها، والأرجح عندي في معنى "المقتسمين" لشدة عذابهم، وسبَق ذكرهم في الآيات (80 - 84)؛ انظر: "زاد المسير"، و"تفسير البيضاوي" في تفسير الآيتين.
[23]الاستطراد: هو سَوْق الكلام على وجهٍ يَلزَمُ منه كلام آخر، وهو غير مقصود بالذات، بل بالعرض؛ انظر: "التعريفات"، (ص20).
[24] "الكشاف"، (1/ 610).
[25]انظر: "تفسير الآلوسي"، (13/ 59)، "التحرير والتنوير"، (25/ 155).
[26] "إرشاد العقل السليم"، (5/ 330).
[27]انظر: "زاد المسير"، (1/ 269، 270)، "تفسير ابن كثير"، (2/ 28).