•• ثـورة الـزنـج فـي عـهـد الـدولـة الـعـبـاسـيـة
30-09-2017, 12:48 PM
ثَـوْرَةُ الـزِّنْـجِ فِـي عَـهْـد الدَّوْلَـةِ العَـبَّـاسِيَّـةِ

( 255 ـ 270 هـ )




بالرغم من أن الدولة العباسية تعرضت للكثير من الفتن والثورات خلال حكمها الذي استمر خمسة قرون، إلاّ أن فتنة الزنج أو ثورة الزنج التي بدأت سنة 255هـ تكاد تكون الأقسى في هذه الثورات نظراً لعدد القتلى،واستمرارها 15 سنة، وما خلفته من آثار وأضرار، حتى أنها اعتبرت إحدى أسباب زوال دولة الخلافة العباسية.
تعود الأحداث إلى خلافة المهتدي بالله العباسي، وتحديداً إلى العام 255هـ، وكانت منطقة البصرة و واسط تعج بآلاف الزنوج الأفريقيين الذين كانوا أَرِقّاء أو أُجَراء لدى كبار المُـلاّك في هذه المنطقة، وكانوا لا يتقاضون من الأجر شيئاً، إنما القليل من الطعام، ولم يكن أسيادهم يعاملونهم المعاملة التي أمر بها الإسلام.
وإزاء الأوضاع السيئة التي كان يعيشها هؤلاء الزنوج اقتصادياً واجتماعياً، رأى البعض أن بإمكانه استغلالهم، واستغلال ظروفهم لمهاجمة الدولة العباسية، ومحاربة المسلمين من أهل تلك المناطق، وتحقيق أهداف مشبوهة، وهذا ما حدث على يد (صاحب الزنج) الذي كان يعرف بالبرقعي،وهو مجهول النسب، قيل أن اسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم من بني عبد القيس، وقيل أنه فارسي.وقد ولد في إحدى قرى الري (طهران) يقال لها ورزنين.
وادّعى صاحب الزنج انتسابه إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو شأن أصحاب المذاهب المنحرفة الذين يدّعون انتسابهم إلى أهل البيت للتقرب من المسلمين، ففي بغداد زعم أنه من ولد زين العابدين وأن اسمه هو "علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب". وزعم عندما كان في البحرين أن اسمه "علي بن محمد بن الفضل بن الحسين بن عبد الله بن عباس بن علي بن أبي طالب". وبعد تخريبه البصرة انتسب إلى يحيى بن زيد بن علي. وقد طعن المؤرخون بانتسابه إلى آل البيت ومنهم العلامة ابن خلدون، ورجح بعضهم أن يكون فارسيا.
وكان علي هذا أجيراً من الأجراء وفقيراً، وعرف عنه الفصاحة والذكاء، وبعد أن كانت ولادته ونشأته في الري، انتقل إلى البحرين (الساحل الغربي للخليج العربي)، فظهر فيها عام 249هـ، ثم توجه إلى "هجر" ودعا الناس إلى طاعته، فأيدته جماعة، وخالفته أخرى، وحدث قتال بين الطرفين، ومن الأفكار والعقائد التي دعا إليها زعيم الزنج ما يلي :

ـــ أن العناية الإلهية أرسلته لإنقاذ الناس، مما يعانون من بؤس .

ـــ ادّعى أيضاً العلم بالغيب .

ـــ وانتحل النبوة ، وزعم أنه يُخاطَب من السماء ، وأن الملائكة تقاتل معه .

كما أنه قد سَبَى المسلمات ، وأشاع المنكرات وخرج على الخليفة و أعمل السيف في المسلمين .

وبعد خروجه من "هجر" توجه إلى الإحساء ثم إلى البادية، وفي كل مرة كان يحدث قتال بين أنصاره وخصومه،إلى أن سار إلى البصرة سنة 254هـ، وأراد أن ينضم إلى بعض فئاتها المتصارعة فلم يقدر ([1])، فرحل إلى بغداد، وأقام بها ما يقرب من سنة، ثم عاد في رمضان من سنة 255هـ إلى البصرة، وكانت دعوته قد لقيت قبولاً بين أهالي هجر والبحرين والعراق، ووصل تعداد أتباعه 15 ألف غلام، وقد ساعده في ذلك اتصاله بعبد توسم فيه الذكاء اسمه ريحان بن صالح، وعده أن يكون قائداً، وأمره أن يجذب من العبيد من يتوسم فيه القوة والاستجابة للدعوة الجديدة. وبالفعل تجمع حول صاحب الزنج الكثير من العبيد والأجراء، فعظم شأنه وقويت شوكته.
وصبيحة يوم العيد، اندلعت شرارة "فتنة الزنج" إذ قام علي بن محمد فصلى بأتباعه وكانوا قرابة 12 ألفاً ثم خطب فيهم، فحرّضهم ومنّاهم الأماني، وقال لهم: آن الأوان لتتحرروا من الفاقة والظلم، وإن اجتماعكم سيضمن لكم خيرات الأرض التي تعيشون فيها، وسادة هؤلاء الجبابرة الذين يستغلونكم ويستعبدونكم... فالتف حوله العبيد،وتركوا أعمالهم ،وأقسموا له على الطاعة المطلقة، وسار بهم ينهب ويبطش ويدمر.
وكانت ثورة الزنج مدمرة تحرق المدن، وتبيد الزرع، وقد استولى الزنوج على مدينة (الأبُلّة) سنة 256هـ، وعبادان والأهواز، وفي العام التالي دخلوا البصرة، وفي سنة 264هـ دخلوا واسط.. وكانوا يحرقون بعض هذه المدن، ويذبحون أكثر سكانها، وينهبون ما يجدون فيها من مال وعتاد، حتى عمّ الرعب تلك البقاع، وهددت عاصمة الخلافة.
لقد أدت عوامل عديدة لنجاح الزنج في البداية، فقد أقام صاحب الزنج مدينة عظيمة بنيت لتكون عاصمة عسكرية، واختار لها موقعاً تحميه القنوات والمستنقعات التي تحيط بها، وأسمى تلك المدينة "المختارة" وكانت من أسباب صمودهم، ومن الأسباب كذلك إخلاصهم لزعيمهم واختيارهم المستنقعات والأدغال في جنوب العراق مكانا لحربهم وقد كان لهم خبرة بالحياة في هذه المناطق أكثر من غيرهم. يضاف إلى ذلك انضمام بعض البدو إلى الزنج لينالوا بعض ما يستولي عليه الزنج من غنائم.
ومن ناحية أخرى، كانت الدولة العباسية تعاني حالة ضعف بعد وفاة المتوكل، وضعف أمر الخلفاء، الذين صار يتحكم بهم الجند، كما أن الدولة أضعفتها الحروب الطويلة ضد الروم، وضد الدويلات الشيعية التي انفصلت عن جسم الدولة.
ومع ما اعترى الدولة العباسية من ضعف، إلاّ أنها حاولت القضاء على فتنة الزنج في بداياتها، فقد كلف الخليفة المعتمد على الله الذي بويع بالخلافة سنة 256هـ، سعيد بن الحاجب بقتالهم، فسار إليهم في رجب من عام 257هـ، فهزمهم في البداية، لكنه هزم في المعارك التي تلتها، وفقد قسماً كبيراً من جيشه، وقتل هو.
واستمرت المعارك بين جيوش الخلافة وجيش الزنج لسنوات عديدة، والحرب سجال بين الطرفين، إلى أن لجأ الخليفة المعتمد إلى أخيه الموفق، ووضع في يده مقاليد الأمور، فسار الموفق سنة 267هـ إلى واسط وتمكن من استردادها، ثم سار إلى صاحب الزنج وهو بمدينة "المنيعة" التي أسسها، فدخلها عنوة، وأنقذ خمسة آلاف امرأة كانت بيد الزنج، ثم سار إلى بلدة الزنج الثانية واسمها "المنصورة" وبها سليمان بن جامع قائد الزنج، وتمكن الموفق من دخولها بعد أن قاتل الزنج دونها قتالاً عنيفاً، وكان لها خمسة أسوار، وأنقذ منها عشرة آلاف امرأة مسلمة جُلهم من أهل البصرة.
وكان الموفق يدعو الزنج إلى الرجوع إلى الحق، ويبذل الأمان لمن عاده واستنكر ما يقوم به الدّعي صاحب الزنج، كما حرص على إزالة الأسباب التي دعت هؤلاء العبيد إلى الثورة، فعاد كثير منهم، وانضم إلى جيش الخلافة.
ثم وجه الموفق كتاباً إلى صاحب الزنج يدعوه فيه إلى التوبة، والرجوع عما ارتكبه من منكرات ودعوى النبوة، وبذل له الأمان، إلاّ أن صاحب الزنج لم يستجب، ودارت المعارك العنيفة طيلة سنة 267هـ والسنوات التي بعدها، حتى استطاع الموفق في العام 270هـ من قتل صاحب الزنج، وإنهاء هذه الفتنة التي استمرت 15 عاماً أكلت الأخضر واليابس، وأنهكت دولة الخلافة، وتسببت في وقف النشاط التجاري بسبب تدمير طرق التجارة، والخوف الذي كان يعم تلك المناطق.
وأدت هذه الفتنة كذلك إلى نشر الأمراض والأوبئة بسبب ما عاناه الناس من فقر وجوع، حتى أكلوا الجيف، وأدت إلى أن يأسر الزنوج آلاف الحرائر. وقتل من المسلمين عدد كبير، أقل تقدير له هو مليون ونصف المليون مسلم، خلال 15 سنة، كما اعتبرت هذه الحركة الفاسدة من الأسباب التي ساعدت على تفكك الدولة الإسلامية خلال العصر العباسي الثاني.
لقد كانت هذه الحركة محط أنظار الفرق المنحرفة، فعندما كان الزنج يحققون الانتصارات أراد الإسماعيليون المشاركة في هذه الحركة ما دام الهدف واحدا، وبالفعل التقى حسين الأهوازي وهو أحد الدعاة الإسماعيليين بصاحب الزنج سنة 264هـ، وعرض عليه المساعدة، فقد أراد الأهوازي المشاركة في هذه الحركة كمرحلة من مراحل عمله إذ أنه لا يستطيع أن يقوم بمفرده بعمل مثمر، والحركات الانتهازية يستغل بعضها بعضاً، ولم تكن الحركة الإسماعيلية قد قوي عودها، إلاّ أن صاحب الزنج عرف رغبة الأهوازي في استغلال "الثورة"، فرفض التعاون معه، لأن الزنج كانوا حينها في أوج قوتهم.




للاستزادة :

1 ــ موسوعة الأديان (الميسرة) ـ دار النفائس بيروت ص 282

2 ــ التاريخ الإسلامي (الدولة العباسية) ج 2ـ محمود شاكر ص 69 ـ 80

3 ــ القرامطة ـ محمود شاكر ص 57

4 ــ حركات فارسية مدمرة ـ د. أحمد شلبي ص 127

5 ــ الوجيز في تاريخ الإسلام والمسلمين ـ د. أمير عبد العزيز ص 593


6 ــ الشعوبية نشأتها وتطورهاـ د.نزار الحديثي وسعيد الحديثي ص 76

-------------------



[1] ـ كان من أسباب خروجه من البصرة مقاومة عاملها محمد بن رجاء له ولأتباعه. وقد حاول صاحب الزنج الانضمام إلى إحدى القبائل في صراعها مع قبيلة أخرى لاستغلال تلك الفرصة، وبناء مجد على أشلاء المتحاربين.





( عـن مـوقـع الـرَّاصـد )










« رَبِّ اغْـفِـرْ لِي وَلأَِخِي وَأَدْخِلْـنَا فِي رَحْمَتِـكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »

التعديل الأخير تم بواسطة ** رشاد كريم ** ; 01-10-2017 الساعة 06:32 AM