الجزيرة الضائعة
12-08-2017, 10:57 AM
الجزيرة الضــــــــــــــــائعة


أصبح في مدينتي البحث عن موضع لركن السيارة أشق على المرء من اللهث وراء رغيف الخبز...
مدينة حبلى بشتى أنواع السيارات أو المعدن النفيس كما كان يروق لوالدتي أن تصفها.
ربما كان معدنا نفيسا حقا في بدايات اكتشاف البشر لهذه المركبة...لكنها اليوم أمست عبئا ثقيلا يتبرم منه الجهازان التنفسي و السمعي على السواء.
حلمي الوحيد أن أستفيق صباحا لأجد الأزقة و الدروب و الطرقات قد استراحت من ذلك المعدن النفيس.
حينها سوف يتاح للمرء أن يستنشق هواءا رطيبا لا تخالجه الأدخنة البغيضة.
و حينها سوف تحتفي الدورة الدموية بأوكسوجين رائق و نظيف. و في هذا اليوم سوف يستمع المرء لصدى حذائه على الاسفلت...لا ضجيج و لا جلبة و لا صخب. بل الهدوء و السكينة و الدعة...
الحرارة وسط السيارة لا تحتمل. كأنني في جوف أتون الحداد. سيل من العرق شعرت به يدب فوق جسمي...
أمواج من السيارات كانت تنزاح في بطء قاتل فوق هذا الاسفلت الذي يوشك أن يذوب تحت لفح الشمس.
بيييييييييييييييييييب-..انتفض منبه أحدهم في محاولة يائسة منه لكي يدفعني لأن أسرع بسيارتي قليلا.
الإفراط في السرعة وسط هذا الحشد من الناس هو انتحار و ضرب من الجنون.
- أوووووووووف أخيرا- عبارة أفلتت من شفتي المتخشبتين من وطأة الظمأ.
لقد رمقت موضعا ضئيلا هناك يكفي لركن سيارتي...يممت شطر المكان جذلان فرحا كما الظمآن حين يعثر على جدول ماء بين أحضان فلاة قاحلة.
ركنت السيارة بعد لأي مع أنني كنت أطمع أن يكون الموقع ظليلا لكن هكذا هي الدنيا ليس كل ما يتمناه المرء يدركه...
و ترجلت من السيارة و أحكمت إغلاقها و التمست الظل في أحد الأرصفة.
على الفور بدأت حملة التبضع الأسبوعية...محل الأغذية و يليه محل الأقمشة و يليه محل العطور. طبعا لن أتغافل عن الصيدلية لأن زوجتي تحتاج لحبوب منع الحمل.
لكن يا للهول...أمر ما أفسد علي نشوة التجوال . أمر لم يكن على البال إطلاقا.
لقد تمزق حذائي الأيمن شر ممزق و دون سابق انذار ...
نسيت فجأة سيرة الغذاء و القماش و العطر و حبوب منع الحمل البغيضة.
على الفور هرعت إلى التماس اسكافي ينتشلني من هذا المستنقع و سرعان ما وجدت ضالتي...دفع إلي الرجل مقعدا مهترئا و تلقف الحذاء كما يتلقف المتسول درهما.
عيناه الغائرتان جعلتا تفحصان الحذاء السقيم من كل الجوانب. إنها أسرار الصنعة التي لا يعرفها الا هذا الاسكافي ...أشعل سيجارة كان قد التهم نصفها منذ قليل.
جذب نفسا عميقا في محاولة لإيجاد فكرة ذهبية يرقع بها هذا الحذاء ...تطلع نحوي قائلا :
– يرحم الله أيام زمان و جلود أيام زمان –
من أسفل شاربه الكثيف نفث سحابة عظيمة من الدخان تحاكي أدخنة السيارات.
و أردف قائلا في شرود :
– حذائك سيدي ليس من الجلد الخالص- و انكب يعمل في صمت طويل.
لم أحفل بقول الاسكافي قط بل كنت أتطلع الى هذه الطرقات الصاخبة أبدا...
و الى أشباح الرجال و النساء الذين يجوبون الأرصفة و الميادين مثل أسراب النمل.
شد بصري منظر شجرة سامقة توشك أن تعانق كبد السماء. تأوي في أسفلها الظليل حشدا من السيارات.
انتابتني نشوة من الانتصار و كأنني اكتشفت القارة الأمريكية مجددا...
لقد كان هناك موضع صغير جدا ينعم بالظل و مناسب لركن سيارتي.
استعجلت الاسكافي لكي يتم العمل بأسرع وقت...
نقدت الرجل حفنة من الدنانير و لبست الحذاء و انطلقت كالسهم من عقاله أنشد سيارتي في تلك البقعة التي لا تزال تستعر تحت حر الهاجرة...
وسط الزحام البغيض تحركت بسيارتي ألتمس الجزيرة التي اكتشفتها للتو.
وصلت إلى المكان المحدد بعد عناء شديد.
-آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه- أطلقتها من جوف رئتي مصحوبة بألم و خيبة بالغتين...
سيارة فارهة حمراء من الصنف مرسيدس كانت مستقرة على أرض جزيرتي. استبد بي غضب كاسح يكفي لاقتلاع كل رمال الصحراء من مكانها.
لقد سبقني أحدهم و ركن سيارته فوق تراب امبراطوريتي التي اكتشفتها منذ دقائق .
ابتلعت هذا الفشل صاغرا و جعلت أهذي كمن به مس من الجنون:
– لابد من العودة إلى الموضع السابق – و عدت أدراجي كاسف البال مغتم النفس و متبرما من الزحام الممل...لكن كنت متأخرا كالعادة.
شحنة ضخمة من أكياس الاسمنت كانت جاثمة فوق ذلك المكان
.
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 12-08-2017 الساعة 07:22 PM