الدموع الباسمة
08-04-2007, 12:15 PM
‏- الدموع الباسمة

يشتهر بين الناس تشبيه الأولين لعمل المصلح المتجرد بشمعة، تحرق نفسها، لتضيء للآخرين.‏
وكان الكاتبون، أصحاب الأقلام، والتدوين، والتأليف، والصحف، يرون أنفسهم أصفى هذه ‏الشمعات، ويظنون شعاعهم أوهج اللمعات، لما في وصف الناس للعلم بالنور من قرينة تصرف ‏تفسير التشبيه إليهم.‏
وذاك شرف، نعمّا هو، يحق معه لهم ولغيرهم أن يتنافسوا في الانتساب إليه، والسباق إلى التحلي ‏به.‏
ولكني رأيت من خفي الحكمة ما هو أبرع في وصف الأقلام، ودورها في التوجيه، والبهجة التي ‏تبعثها، فقد أطل ذكي على ساحة الحياة، يتتبع مكامن البسمات بعد أن امتلأت أحزانا، فاكتشفها ‏فقال:‏
‏( لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم )‏
هكذا هو الكاتب، وإنها لكذلك الأقلام حقا إذا سال منها المداد، وذرفت الدمعات السود.‏
يجوب صاحب القلم الكبير الميادين، وتكون له سياحة في آفاق الأعمال، كل الأعمال، وينقب في ‏الماضي يستخرج السوابق، ثم يرجع يختلي، يقيس ويقارن، ويحلل ويعلل، لتسطر دمعات قلمه ‏التجارب وما وجد، لتجف دمعات قلوب التائهين، ويكون ثم ابتسام.‏
إنها متاهات الحياة يهيم فيها أكثر البشر، فتأتي تجارب المربين، عبر دموع الأقلام، تعصم من ‏الخطأ وتوجه، وتنتشل من التخبط وتسدد، وترسم الطريق وتخطط، فيعقل ساذج، ويتململ راقد، ‏ويتنافس قانع، ويتأنى متهور، وما بين هذا التعقل والتنافس، والإسراع والإبطاء: تكون البصائر، ‏وتتكشف أصول المباهج، فتغمر القلب برودة السكينة، بعد حرارة القلق ولذعات الحيرة، وتنفرج ‏أسارير الوجه عن ابتسام وضاء، بعد عبوس أو ذهول.‏
هو هكذا واجب الأديب المسلم المربي، يتولى دوره هذا في إتمام دور الفقيه إذا بين دلائل التوحيد، ‏وحدد قواعد السلوك الشرعي، فيشرب ويفسر، ويستشهد بتواريخ الناس وما كانت لهم من ‏مواقف، ويذهب في الإقناع إلى مدى التفصيل والتبسيط والتمثيل بعد إجمال أوجزه الفقيه. ‏
فابتسامة من يبتسم من الناس لن تأتي سهلة أبدا، والذين ما زالت أفواههم تفغر حيرة ليسوا ‏بقادرين على تصور ابتسامة تبتسمها الصفحات، ولا على فهم دور الأقلام فيها، وجهد أصحاب ‏هذه الأقلام.‏
أما أنها ليست كل كتابة ولا كل كاتب فنعم، فإن السطور الباسمة تستلزم خلفية من التجريب ومن ‏الانغماس الفعلي في الأعمال والأحداث المحيطة، ولا يمكن أن توصف للكاتب التجارب وصفا ‏مجردا، وتروى له رواية، لينقلها بين أسطره، فإن مثل هذا وهذا كمثل سائح وراكب طائرة، فإن ‏من ركاب الطائرات من تنزل به طائرته قبل وصوله مقصده في مطارات مدينتين وثلاث، فيرى ‏هذه المدن من مسافة بعيدة، ويأخذ يصف لك حسن روما وجنيف وباريس، ويحلف لك الأيمان ‏أنه رآها، وما كذب، وإن كان لم يزر متحفا، ولا استمتع بشاطئ بحيرة، ولا صعد برجا، وإنما ‏هو راء لها من نافذة الطائرة حين كانت تقترب من المطار وتنخفض، وحين كانت تقلع وتعلو.‏
كلا، بل هي ساعات تأمل، وخلوات تفكر، وسياحة تعرف، يضطر خلالها الأديب أو المربي إلى ‏أن يعصر قلبه عصرا، لتسيل من قلمه الدمعات، لتبتسم على الورق الكلمات، تشارك في منح ‏شيء للناس.... اسمه الابتسام.‏
ولهذا يكون الإعراض عن القراءة من كبائر الناس الكبيرة، ولعلها الموبقة الحادية عشر، بعد إذ ‏أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتناب العشر الموبقات، فإن المتلقين تجب عليهم همة ‏للقراءة توازي تلك الهمة التي عصرت الحكمة من قلوب الكاتبين.‏
إن من مصائب أمتنا اليوم: أنها لا تقرأ، ومع ذلك فلا يتجه هذا الخطاب لها، لأن طريق ‏الاستدراك طويل، ويبدأ بيقظة الخاصة من دعاة الإسلام، ليقودوا البقية، وإنما الخطاب متجه لهذه ‏الخاصة الرائدة القائدة، بل ولفتيان الدعوة الميامين، الذين هم قادة المستقبل.‏
فنعم الفتيان، فتيان الدعوة، لو قرأوا