هل تتمتع الجمادات بالوعي؟
25-03-2020, 05:10 PM
نبدأ بتعريف ما نقصده بكلمة "الوعي"، فالوعي هو إدراك الشيء لذاته و لما يحيط به و هو ما ينتج عن التجربة و المعاناة ليظهر بمظاهر شتى كالمتعة و الألم و التجارب السمعية أو البصرية، فالوعي بزهرة البنفسج مثلا يثير البهجة بلونها ورائحتها.
يسود الاعتقاد بأن الوعي تصنعه أدمغة الكائنات الحية شديدة التطور ، وبالتالي فهو محصور في جزء صغير من الكون، لكن الواقع يشير إلى أن الوعي ينتشر في الكون كله ويشكل أحدى سماته الأساسية، و على هذا المفهوم يقوم فرع من فروع الفلسفة المعاصرة يسمى شمولية الوعيPanpsychism (بان ساي كيزم) وتذهب هذه الفلسفة إلى أن الوعي يشمل كل ما في الكون و يتدرج تطورا و تعقيدا من أبسط مكونات ذرات المادة إلى الذرات فالجزيئات فالأحياء الدنيا كالفيروسات و وحيدات الخلية، فالكائنات الحية الأكثر تعقيدا ليبلغ قمة التعقيد و التطور لدى الدماغ البشري الذي يستمد وعيه بطريقة ما من سلسلة التفاعلات الكهروكيميائية المعقدة التي تربط بين وعي أجزائه و تصنع العالم الداخلي الغريب للإنسان الذي يميز كل فرد عن الآخر، بالرغم من أن المادة الأولية التي يتكون منها الدماغ واحدة للجميع!
الواقع أن مفهوم شمولية الوعي هذا ليس بجديد، و لو بدأنا القصة من أولها نجد أن أرسطو (في المئة الرابعة قبل الميلاد)، قد عرّف المادة بأنها نوع من جوهر (أو وعي) لا يمكننا عزله أبداً، و في هذا مفارقة، إذ توجد مادة، لكن هذه المادة في الحقيقة لا يمكن الإمساك بها، أي أننا مهما أمعنا في تجزئة الشكل المادي (التمثال مثلاً)، فلن نبلغ المادة الأولية التي تجمعت لتعطي التمثال شكله، إنها بعيدة جداً، أو، إن صح القول، إنها مخبأة خلف ما نراه، وفي نظره أن المادة قائمة خلف الأشياء، لكنها تظهر دائماً بشكل يخصها.
ليس بعيدا عن ذلك المَذْهَبُ الروحاني (animism) الذي مازال منتشرا اليوم بين العديد من الأديان و الشعوب و يقوم على الاعتقاد بأن الوعي و العقل يسكنان المادة العضوية كالأحياء و اللا عضوية كالنهر و البحر و الجبل.
أما أشهر المذاهب الفلسفية الحديثة التي تقول بشمولية الوعي (أو الجوهر كما تسميه هذه الفلسفة) فمذهب الفيلسوف الهولندي الشهير سبينوزا الذي عاش في القرن السابع عشر. يقول سبينوزا بوحدة جوهر العالم؛ وأن هذا الجوهر هو عبارة عن قوانين أزلية ناظمة وحاكمة لهذا الكون بكل ما فيه، و تتجلى هذه القوانين بمختلف الأشكال المادية في هذا الوجود، فهذه التجليات المادية مهما اختلفت إلا أنها تعبر عن ذات الجوهر، ومردها إلى قوانين الجوهر المسيرة لها، وأن اختفاء أيٍّ من هذه التجليات لا يعني بالضرورة عدم وجود الجوهر. وبهذا الفهم يكون هناك تطابقٌ بين الإله والطبيعة، من حين أن الإله هو ذات الجوهر (أو الإرادة) المسيرة لهذا الكون، وأن كل ما هو موجود في الطبيعة هو بمثابة ترجمة دقيقة لتلك الإرادة أو (القوانين)، يقول سبينوزا: " أعني ب (الله) ، جوهراً يتألف من عدد لا محدود من الصفات المعبرة كل واحدة عن ماهية أزليه ولا متناهية و هو واجب الوجود"، و يوضح ذلك أكثر بقوله "كل ما يوجد إنما يوجد في الله، ولا يمكن لأي شيء أن يوجد أو يتصور بدون الله".
يجدر التنويه إلى أن الأفكار الرئيسية للميتافيزيقيا الصوفية في الإسلام التي أينعت أفكارها بدءا من القرن العاشر الميلادي تدور حول مفهوم التوحد مع الله، إذ توجد فلسفتان تسودان هذا المفهوم: الأولى تنص على وحدة الوجود وبالتالي فإن الحقيقة الوحيدة في هذا الكون هي الله وأن جميع الأشياء في الكون موجودة في الله و هذا يطابق ما جاء به سبينوزا إلى حد بعيد. والمفهوم الثاني هو وحدة الشهود الذي يرى أن تجربة التوحد مع الله تتم في ذهن المؤمن وأن الله ومخلوقاته مفصولين تماماً، ومع هذا، لا فروق بينهما، بمعنى أخر أن "لا أحد إلا الله".
و في القرآن الكريم:
" وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" الإسراء-44 و "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ" النور: 41، وفي سورة الجمعة: 1: "يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" و في سورة الرحمن 6: " وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ". و "ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" فُصّلت 11 و "لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" الحشر 21 ...
ما هو موقف العلم الحديث من هذه الظاهرة؟ الحقيقة أن العلم الحديث، و منذ بداية الثورة العلمية في القرن السادس عشر، قد بُني على دراسة الظواهر الكمية للمادة و القوانين التي تربط بينها، لقد أسس لهذه الحقيقة العالم الإيطالي جاليليو من رواد العلم الحديث بإعلانه أن الرياضيات هي لغة العلم الحديث و هي التي ستقوم بالربط بعلاقات بين الظواهر الكمية للأشياء، فالعلم ينبئنا مثلا أن قوة الجاذبية الكونية تتناسب زيادة مع كتلة الجسمين المتجاذبين و عكسا مع مربع المسافة التي تفصل بينهما، لكنه لا يتطرق إلى ماهية هذه الجاذبية، أي لا يجيب عن السؤال الغائب الحاضر دوما: لم تنجذب الكتل المادية إلى بعضها؟ لم لا تتنافر مثلا؟، و قس على ذلك مدركاتنا الأخرى و وعينا بالواقع فالعلوم الطبيعية لا تفسر ماهية الجمال أو الألم أو الفرق بين الموسيقى العذبة و الصخب و الضجيج ... ، لكن و مع أهمية العلوم الطبيعية و ما قدمته للبشرية من منجزات، فهي لا تستطيع التعبير عن رائحة الزهور أو طعم النعناع!.
يميل بعض المتفائلين إلى الاعتقاد بأن المنهج العلمي سيكون قادرا في المستقبل على تأطير مفهوم شمولية الوعي و قنونة علاقاته متفائلين بالنجاح الكبير الذي حققته العلوم الطبيعية إلى اليوم، لكن مثل هذا التفاؤل يستند إلى سوء فهمٍ لتاريخ العلوم الطبيعية، نعم ، لقد شهدت العلوم الطبيعية نجاحا منقطع النظير لأنها لم تتشعب و اقتصرت على العلاقات الكمية المحسوسة، لكن هذه العلاقات لا تمثل جميع مناحي الواقع.
يمكننا تلخيص كل ذلك بالقول أن العلوم الطبيعية تصف سلوك المادة من الخارج أما المادة من الداخل فتتكون من جميع أشكال الوعي، و هذه هي النظرة الشمولية التي يمكن من خلالها فهم العالم بطريقة موضوعية.
هل هناك تجارب واقعية تشير و لو من بعيد إلى صحة ما ندعيه؟ الواقع أن الصعوبة الأساسية في ابتكار مثل هذه التجارب تكمن في أن الوعي لا يمكن التحكم به من خلال أساليبنا التجريبية المعروفة، فلا يمكننا مثلا من خلال التصوير الطبقي المحوري للدماغ رؤية عقل المريض أو مشاعره أو أحاسيسه أما الأخصائي في علم الأعصاب ، فيمكنه فقط القيام بمسح الدماغ ليربط بين أنواع معينة من نشاط الدماغ و بين أنواع من الخبرة الذاتية. فنحن نعرف الآن أنواع نشاط الدماغ المرتبطة بمشاعر الجوع ، والتجارب البصرية ، والسرور ، والألم ، والقلق، وما إلى ذلك ... هذه معلومات مهمة حقًا ، لكنها لا تشكل نظرية متكاملة للوعي، فهي لا تفسر مثلا السبب في ارتباط منطقة معينة من الدماغ بالجوع و ليس غيرها، ببساطة لأن الوعي لا تمكن ملاحظته كما أسلفنا.
بالرغم من ذلك فإن كثيرا من الظواهر التي تم رصدها في عالم الميكانيك الكوانتي تشير إلى وجود نوع من الوعي في عالم الدقائق الجسيمية، و لا أدل على ذلك من التجربة الشهيرة التي قام بها العالم (كلاود جانسون) تحت اسم تجربة الشق المزدوج ((Double Slit experiment من اجل معرفة سلوك الإلكترونات والتي هي جسيمات (Particles) دقيقة أصغر من الذرة، و تتميز بأن لها صفات الجسيم من كتلة و حجم بالإضافة إلى صفات الطاقة في انتقالها على شكل أمواج (Waves) كأمواج الكهرباء و الصوت ... لقد تبين أن مراقبة الإلكترون أثناء التجربة تجعله يتخذ سلوكاً واحداً فقط من بين الاحتمالين الذين يمكن له أن يسلكهما قبل عملية الرصد (المراقبة) وبالتالي فإن الإلكترون إذا لم تتم مراقبته سوف يكون في أي مكان ممكن أن يكون فيه في الوقت نفسه، ليس هذا فحسب بل تبين أن عملية الرصد هذه تؤثر على ماضي الإلكترون وليس فقط على حاضره* ...
أما الظاهرة الأكثر غرابة فهي ظاهرة التشابك الكمي (Quantum entanglement) فإذا قربت جسيمين من بعضهما إلى مسافة كافية، فستصبح خصائصهما متشابهه،و الآن إذا تم التشابك بينهما فسيبقى هذا التشابك قائما دوماً حتى لو أبقيت أحدهما في الأرض ونقلت الآخر إلى القمر أو إلى أبعد مكان في الكون** فإن أي تغيير يطرأ على أحدهما سينتقل آنيا إلى الثاني بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينهما.
هذه الظواهر و غيرها كثير لا يمكن تفسيرها بمناهج العلم المعاصر الذي يقدم نصف الحقيقة عن العالم عندما ينبئنا عن كيفية ما يحدث في الواقع دون أن يجيبنا عن السبب في ذلك، لقد أصبحنا بحاجة إلى رؤى جديدة للوصول إلى نظرية متكاملة لفهم العالم.

______________________________
*. محمد طارق صالح زينة، ميكانيك الكم يقول وداعا للواقع، كنوز العلم و المعرفة، 6 مايو 2018.
**. يوسف الباني، التشابك الكمي، أكبر ألغاز ميكانيكا الكم، فيزياء و علم الكونيات، 20 أكتوبر 2014.