تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
الإمام أبو حامد الغزالي
17-06-2007, 12:37 PM
الإمام أبو حامد الغزالي
إمام العقل وحجة الاسلام

إحياء علوم الدين
للإمام الغزالي
كتاب العلم
وفيه سبعة أبواب
الباب الأول: في فضل العلم والتعليم والتعلم.
الباب الثاني: في فرض العين وفرض الكفاية من العلوم وبـيان حد الفقه والكلام من علم الدين وبـيان علم الآخرة وعلم الدنيا.
الباب الثالث: فيما تعده العامة من علوم الدين وليس منها، وفيه بـيان جنس العلم المذموم وقدره.
الباب الرابع: في آفات المناظرة وسبب اشتغال الناس بالخلاف والجدل.
الباب الخامس: في آداب المعلم والمتعلم.
الباب السادس: في آفات العلم والعلماء والعلامات الفارقة بـين علماء الدنيا والآخرة.
الباب السابع: في العقل وفضله وأقسامه وما جاء فيه من الأخبار.

الباب الأول في فضل العلم والتعليم والتعلم وشواهده من النقل والعقل

فضيلة العلم شواهدها من القرآن قوله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أنَّه لاَ إلٰه إلاَّ هُوَ والمَلائِكَةُ وأولُو العِلْمِ قَائماً بالقِسْطِ} فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة، وثلَّث بأهل العلم؛ وناهيك بهذا شرفاً وفضلاً وجلاء ونبلاً. وقال الله تعالى: {يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بـين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام. وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {إنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَماءُ} وقال تعالى: {قُلْ كَفَى باللَّهِ شَهِيداً بـيني وبَـيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} وقال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أنا آتيكَ بِهِ} تنبـيهاً على أنه اقتدر بقوة العلم. وقال عزّ وجلّ: {وقَالَ الَّذِينَ أوتُوا العلْمَ ويْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} بـين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم. وقال تعالى: {وتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُها للنَّاسِ ومَا يَعْقلُها إلاَّ العَالِمُونَ} وقال تعالى: {ولَوْ ردُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأمْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ردّ حكمه في الوقائع إلى استنباطهم وألحق رتبتهم برتبة الأنبـياء في كشف حكم الله. وقيل في قوله تعالى: {يا بني آدَمَ قَدْ أنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتكُم} يعني العلم {ورِيشاً} يعني اليقين {ولِبَاسَ التَّقْوَى} يعني الحياء. وقال عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} وقال تعالى: {فَلْنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} وقال عز وجل: {بَلْ هُوَ آياتٌ بَـيِّناتٌ في صُدُورِ الَّذِينَ أوتُوا العِلْمَ} وقال تعالى: {خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَه البَـيَانَ} وإنما ذكر ذلك في معرض الامتنان.
وأما الأخبار فقال رسول الله : «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَيُلْهِمْهُ رُشْدَهُ» . وقال : «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِـياءِ» ، ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة. وقال : «يَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ ما فِي السَّمٰواتِ وَالأَرْضِ» . وأي منصب يزيد على منصب من تشتغل ملائكة السموات والأرض بالاستغفار له. وقال : «إِنَّ الحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفاً وَتَرْفَعَ المَمْلُوكَ حَتَّىٰ يُدْرِكَ مَدَارِكَ المُلُوكِ» وقد نبه بهذا على ثمراته في الدنيا، ومعلوم أن الآخرة خير وأبقى. وقال : «خَصْلَتَانِ لا يَكُونَانِ فِي مُنَافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ وَفِقْهٌ فِي الدِّينِ» ، ولا تشكنّ في الحديث لنفاق بعض فقهاء الزمان، فإنه ما أراد به الفقه الذي ظننته، وسيأتي معنى الفقه. وأدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا،وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برىء بها من النفاق والرياء. وقال : «أَفْضَلُ النَّاسِ المُؤْمِنُ العَالِمُ الَّذِي إِنْ احْتِيجَ إِلَيْهِ نَفَعَ وَإِنِ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ أَغْنَىٰ نَفْسَهُ» . وقال: «الإِيمَانُ عُرْيَانٌ وَلِبَاسُهُ التَّقْوَىٰ وَزِينَتُهُ الحَيَاءُ وَثَمَرَتُهُ العِلْمُ» وقال: «أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ أَهْلُ العِلْمِ وَالجِهَادِ، أَمَّا أَهْلُ العِلْمِ فَدَلُّوا النَّاسَ عَلَىٰ ما جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَأَمَّا أَهْلُ الجِهَادِ فَجَاهَدُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَىٰ ما جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ». وقال : «لَمَوْتُ قَبِـيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عَالِمٍ» وقال عليه الصلاة والسلام: «النَّاسُ مَعَادِنٌ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَخِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقهُوا» وقال : «يُوزَنُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِدَادُ العُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ» وقال : «مَنْ حَفِظَ عَلَىٰ أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثاً مِنَ السُّنَّةِ حَتَّىٰ يُؤَدِّيَها إِلَيْهِمْ كُنْتُ لَهُ شَفِيعاً وَشَهِيداً يَوْمَ القِيَامَةِ» وقال : «مَنْ حَمَلَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثاً لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ فَقِيهاً عَالِماً» . وقال : «مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ ما أَهَمَّهُ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» وقال : «أَوْحَىٰ الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: يا إِبْرَاهِيمُ إِنِّي عَلِيمٌ أُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ» وقال : «العَالِمُ أَمِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الأَرْضِ» . وقال : «صُنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلُحُوا صَلُحَ النَّاسُ وَإِذَا فَسَدُوا فَسَدَ النَّاسُ: الأُمَرَاءُ والفُقَهَاءُ» وقال عليه السلام: «إِذَا أَتَىٰ عَلَيَّ يَوْمٌ لا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْماً يُقَرِّبُنِي إِلَىٰ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذٰلِكَ اليَوْمِ» ، وقال في تفضيل العلم على العبادة والشهادة: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَىٰ العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَىٰ أَدْنَىٰ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِـي» . فانظر كيف جعل العلم مقارناً لدرجة النبوّة وكيف حط رتبة العمل المجرّد عن العلم وإن كان العابد لا يخلو عن علم بالعبادة التي يواظب عليها ولولاه لم تكن عبادة؟وقال : «فَضْلُ العَالِمِ عَلَىٰ العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَىٰ سَائِرِ الكَوَاكِبِ» وقال : «يَشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلاثَةٌ: الأَنْبِـيَاءُ ثُمَّ العُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ» فأعظم بمرتبة هي تلو النبوّة وفوق الشهادة مع ما ورد في فضل الشهادة. وقال رسول الله : «ما عُبِدَ اللَّهُ تَعَالَىٰ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَىٰ الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ هٰذَا الدِّينِ الفِقْهُ» وقال : «خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ وَخَيْرُ العِبَادَةِ الفِقْهُ» وقال : «فُضِّلَ المُؤْمِنُ العَالِمُ عَلَىٰ المُؤْمِنِ العَابِدِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ» . وقال : «إِنَّكُمْ أَصْبَحْتم فِي زَمَنٍ كَثِيرٍ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٍ قُرَّاؤُهُ وَخُطَبَاؤُهُ قَلِيلٍ سَائِلُوهُ كَثِيرٍ مُعْطُوهُ، العَمَلُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ العِلْمِ. وَسَيَأْتِي عَلَىٰ النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ قَلِيلٌ مُعْطُوهُ كَثِيرٌ سَائِلُوهُ، العِلْمُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ» . وقال : «بَـيْنَ العَالِمِ وَالعَابِدِ مِائَةُ دَرَجَةٍ، بَـيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حُضْرُ الجَوَادِ المُضَمَّرِ سَبْعَينَ سَنَةً» وقيل: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ فقال: «العِلْمُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» فقيل: أي العلم تريد؟ قال : «العِلْمُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ» فقيل له: نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال : «إِنَّ قَلِيلَ العَمَلِ يَنْفَعُ مَعَ العِلْمِ بِاللَّهِ وَإِنَّ كَثِيرَ العَمَلِ لا يَنْفَعُ مَعَ الجَهْلِ بِاللَّهِ» وقال : «يَبْعَثُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ العِبَادَ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَبْعَثُ العُلَمَاءَ ثُمَّ يَقُولُ: يا مَعْشَرَ العُلَمَاءِ، إِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ إِلاَّ لِعِلْمِي بِكُمْ، وَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ لأُعَذِّبَكُمْ، اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» نسأل الله حسن الخاتمة. وأما الآثار فقد قال علي بن أبـي طالب رضي الله عنه لكميل: «يا كميل، العلم خير من المال، والعلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق».وقال عليٌّ أيضاً رضي الله عنه: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه، وقال رضي الله تعالى عنه نظماً:
ما الفخرُ إلا لأهلِ العِلْمِ إنَّهم * على الهدى لمن استهدى أدِلاَّءُ
وَقَدْرُ كلِّ امرىءٍ ما كان يُحْسِنُه * والجَاهِلُونَ لأهْل العلم أعْداءُ
ففُزْ بعلمٍ تَعِشْ حيّاً به أبداً * النَّاسُ موْتى وأهلُ العِلْمِ أحْياءُ
وقال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خُيِّر سليمان بن داود عليهما السلام بـين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه، وسئل ابن المبارك: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين. ولم يجعل غير العالم من الناس لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم؛ فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطناً منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم. وقال بعض العلماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فاته من أدرك العلم. وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أُوتِيَ القُرْآنَ فَرَأَىٰ أَنَّ أَحَداً أُوتِيَ خَيْراً مِنْهُ فَقَدْ حَقَّرَ ما عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَىٰ» . وقال فتح الموصلي رحمه الله: أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت؟ قالوا: بلى قال: كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت. ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبهما حياته، كما أن غذاء الجسد الطعام، ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ولكنه لا يشعر به؛إذ حب الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه؛ كما أن غلبة الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال وإن كان واقعاً؛ فإذا حطّ الموت عنه أعباء الدنيا أحس بهلاكه وتحسر تحسراً عظيماً ثم لا ينفعه وذلك كإحساس الآمن من خوفه والمفيق من سكره بما أصابه من الجراحات في حالة السكر أو الخوف، فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وقال الحسن رحمه الله: يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه موت رواته، فوالذي نفسي بـيده ليودّنّ رجال قتلوا في سبـيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، فإن أحداً لم يولد عالماً وإنما العلم بالتعلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إليّ من إحيائها، وكذلك عن أبـي هريرة رضي الله عنه وأحمد بن حنبل رحمه الله. وقال الحسن في قوله تعالى: {رَبَّنا آتنا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَة} إن الحسنة في الدنيا هي العلم والعبادة،وفي الآخرة هي الجنة. وقيل لبعض الحكماء: أي الأشياء تقتني؟ قال: الأشياء التي إذا غرقت سفينتك سبحت معك، يعني العلم. وقيل: أراد بغرق السفينة هلاك بدنه بالموت. وقال بعضهم: من اتخذ الحكمة لجاماً اتخذه الناس إماماً، ومن عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار. وقال الشافعي رحمة الله عليه: من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح، ومن رفع عنه حزن. وقال عمر رضي الله عنه: يا أيها الناس عليكم بالعلم فإن لله سبحانه رداء يحبه، فمن طلب باباً من العلم ردّاه الله عزّ وجلّ بردائه، فإن أذنب ذنباً استعتبه ثلاث مرات لئلا يسلبه رداءه ذلك وإن تطاول به ذلك الذنب حتى يموت. وقال الأحنف رحمه الله: كاد العلماء أن يكونوا أرباباً وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره. وقال سالم بن أبـي الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم وأعتقني، فقلت بأي شيء أحترف؟ فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً فلم آذن له. وقال الزبـير بن أبـي بكر: كتب إليّ أبـي بالعراق: عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالاً، وإن استغنيت كان لك جمالاً. وحكي ذلك في وصايا لقمان لابنه قال: «يا بنيَّ جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله سبحانه يحيـي القلوب بنور الحكمة كما يحيـي الأرض بوابل السماء». وقال بعض الحكماء: إذا مات العالم بكاه الحوت في الماء والطير في الهواء ويفقد وجهه ولا ينسى ذكره. وقال الزهري رحمه الله: العلم ذكر ولا تحبه إلا ذكران الرجال.


فضيلة التعلم:
أما الآيات فقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ} وقوله عزّ وجل: {فَاسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . وأما الأخبار، فقوله : «مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىٰ الجَنَّةِ» وقال : «إِنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتِها لِطَالِبِ العِلْمِ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ» وقال : «لأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ بَاباً مِنَ العِلْمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّي مِائَةَ رَكْعَةٍ» ، وقال : «بَابٌ مِنَ العِلْمِ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُلُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الدُّنْيا وَمَا فِيها» ،وقال : «اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بِالصِّين» ، وقال : «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَىٰ كُلِّ مُسْلِمٍ» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «العِلْمُ خَزَائِنُ مَفَاتِيحُها السُّؤَالُ، أَلاَ فَاسْأَلُوا فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ: السَّائِلُ، وَالعَالِمُ، وَالمُسْتَمِعُ، وَالمُحِبُّ لَهُمْ» وقال : «لا يَنْبَغِي لِلْجَاهِلِ أَنْ يَسْكُتَ عَلَىٰ جَهْلِهِ وَلا لِلْعَالِمِ أَنْ يَسْكُتَ عَلَىٰ عِلْمِهِ» . وفي حديث أبـي ذر رضي الله عنه: «حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف ركعة وعيادة ألف مريض وشهود ألف جنازة»، فقيل يا رسول الله، ومن قراءة القرآن؟ فقال : «وَهَلْ يَنْفَعُ القُرْآنُ إِلاَّ بِالعِلْمِ؟» وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ جَاءَهُ المَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ العِلْمَ لِيُحْيِـيَ بِهِ الإِسْلامَ فَبَـيْنَهُ وَبَـيْنَ الأَنْبِـيَاءِ فِي الجَنَّةِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ» وأما الآثار؛ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ذللت طالباً فعززت مطلوباً. وكذلك قال ابن أبـي مليكة رحمه الله: ما رأيت مثل ابن عباس، إذا رأيته رأيت أحسن الناس وجهاً، وإذا تكلم فأعرب الناس لساناً، وإذا أفتى فأكثر الناس علماً. وقال ابن المبارك رحمه الله: عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة؟وقال بعض الحكماء: إني لا أرحم رجالاً كرحمتي لأحد رجلين: رجل يطلب العلم ولا يفهم، ورجل يفهم العلم ولا يطلبه. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لأن أتعلم مسألة أحبّ إليَّ من قيام ليلة. وقال أيضاً: العالم والمتعلم شريكان في الخير وسائر الناس همج لا خير فيهم. وقال أيضاً: كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابع فتهلك. وقال عطاء: مجلس علم يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو. وقال عمر رضي الله عنه: موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه. وقال الشافعي رضي الله عنه: طلب العلم أفضل من النافلة. وقال ابن عبد الحكم رحمه الله: كنت عند مالك أقرأ عليه العلم فدخل الظهر فجمعت الكتب لأصلي فقال: يا هذا ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت فيه إذا صحت النية. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من رأى أن الغدوّ إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله.
فضيلة التعليم:
أما الآيات فقوله عز وجل: {وَليُنذِروا قَوْمَهُم إذا رَجِعُوا إليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} والمراد هو التعليم والإرشاد. وقوله تعالى: {وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَـيِّنُنَّهُ للنَّاسِ وَلاَ تكْتُمُونَهُ} وهو إيجاب للتعليم. وقوله تعالى: {وإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحقَّ وهُم يَعْلَمُونَ} وهو تحريم للكتمان، كما قال تعالى في الشهادة: {وَمَنْ يَكْتُمْها فإنَّه آثِمٌ قَلْبُهُ} وقال : «ما آتَىٰ اللَّهُ عَالِماً عِلْماً إِلاَّ وَأَخَذَ عَلَيْهِ مِنَ المِيثَاقِ ما أَخَذَ عَلَىٰ النَّبِـيِّـينَ أَنْ يُبَـيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُوهُ» . وقال تعالى: {وَمَنْ أحْسَنُ قَوْلاً ممَّنْ دَعَا إلى الله وعَمِلَ صَالِحاً} وقال تعالى: {ادْعُ إلى سَبـيلِ ربِّك بالحِكْمةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} وقال تعالى: {ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ} وأما الأخبار فقوله لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن: «لأَنْ يُهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيها» وقال : «مَنْ تَعَلَّمَ بَاباً مِنَ العِلْمِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أُعْطِيَ ثَوَابَ سَبْعِينَ صِدِّيقاً» وقال عيسى : من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السموات. وقال رسول الله : «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْعَابِدِينَ وَالمُجَاهِدِينَ: ادْخُلُوا الجَنَّةَ، فَيَقُولُ العُلَمَاءُ بِفَضْلِ عِلْمِنَا تَعَبَّدُوا وَجَاهِدُوا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْتُمْ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلائِكَتِي اشْفَعُوا تُشَفَّعُوا فَيَشْفَعُونَ ثُمَّ يُدْخَلُونَ الجَنَّةَ» وهذا إنما يكون بالعلم المتعدّي بالتعليم لا العلم اللازم الذي لا يتعدّى به. وقال : «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنْتَزِعُ العِلْمَ انْتِزَاعاً مِنَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ إِيَّاهُ وَلٰكِنْ يَذْهَبُ بِذَهَابِ العُلَمَاءِ، فَكُلَّمَا ذَهَبَ عَالِمٌ ذَهَبَ بِمَا مَعَهُ مِنَ العِلْمِ،حَتَّىٰ إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً إِنْ سُئِلُوا أَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيضِلُّونَ وَيُضلُّونَ» . وقال : «مَنْ عَلِمَ عِلْماً فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وقال : «نِعْمَ العَطِيَّةِ وَنِعْمَ الهَدِيَّةِ كَلِمَةُ حِكْمَةٍ تَسْمَعُها فَتَطْوِي عَلَيْها ثُمَّ تَحْمِلُها إِلَىٰ أَخٍ لَكَ مُسْلِمٌ تُعَلِّمُهُ إِيَّاها تعدل عِبَادَةَ سَنَةٍ» . وقال : «الدُّنْيا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ ما فِيها إِلاَّ ذِكْرُ اللَّهِ سْبْحَانَهُ وَما وَالاهُ أَوْ مُعَلِّماً أَوْ مُتَعَلِّماً» ، وقال : «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ سَمٰوَاتِهِ وَأَرْضِهِ حَتَّىٰ النَّمْلَةَ فِي جُحْرِها وَحَتَّىٰ الحُوتَ فِي البَحْرِ لَيُصَلُّونَ عَلَىٰ مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» وقال : «ما أَفَادَ المُسْلِمُ أَخَاهُ فَائِدِةً أَفْضَلَ مِنْ حَدِيثٍ حَسَنٍ بَلَغَهُ فَبَلَّغَهُ» وقال : «كَلِمَةٌ مِنَ الخَيْرِ يَسْمَعُها المُؤْمِنُ فَيُعَلِّمُها وَيَعْمَلُ بِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» ، وخرج رسول الله ذات يوم فرأى مجلسين: أحدهما يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه، والثاني يعلمون الناس، فقال: «أَمَّا هٰؤُلاءِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَىٰ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَأَمَّا هٰؤُلاءِ فَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ وَإِنَّما بُعِثْتُ مُعَلِّماً ثُمَّ عَدَلَ إِلَيْهِمْ وَجَلَسَ مَعَهُمْ» وقال : «مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ مِنَ الهُدَىٰ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً فَكَانَتْ مِنْهَا بُقْعَةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَت الكَلأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنها بُقْعَةٌ أَمْسَكَت المَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْها وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَكَانَتْ مِنْها طَائِفَةٌ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً» اهـ، فالأول ذكره مثلاً للمنتفع بعلمه، والثاني ذكره مثلاً للنافع، والثالث للمحروم منهما. وقال : «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: علْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ» الحديث. وقال : «الدَّالُّ عَلَىٰ الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» وقال : «لا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِها وَيُعَلِّمُها النَّاسَ، وَرَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالاً فَسَلَّطَهُ عَلَىٰ هَلَكَتِهِ فِي الخَيْرِ» ، وقال : «عَلَىٰ خُلَفَائِي رَحْمَةُ اللَّهِ» قيل: ومن خلفاؤك؟ قال: «الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ» . وأما الآثار، فقد قال عمر رضي الله عنه: من حدث حديثاً فعمل به فله أجر من عمل ذلك العمل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر. وقال بعض العلماء: العالم يدخل فيما بـين الله وبـين خلقه فلينظر كيف يدخل.
وروي أن سفيان الثوري رحمه الله قدم عسقلان فمكث لا يسأله إنسان، فقال: اكروا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم. وإنما قال ذلك حرصاً على فضيلة التعليم واستبقاء العلم به. وقال عطاء رضي الله عنه: دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: ليس أحد يسألني عن شيء. وقال بعضهم: العلماء سرج الأزمنة، كل واحد مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره. وقال الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم: أي إنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية. وقال عكرمة: إن لهذا العلم ثمناً. قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيعه. وقال يحيـى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة. وقيل: أول العلم الصمت ثم الاستماع ثم الحفظ ثم العمل ثم نشره. وقيل: علِّم علمك من يجهل وتعلَّم ممن يعلم ما تجهل؛ فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت وحفظت ما علمت. وقال معاذ بن جبل في التعليم والتعلم ورأيته أيضاً مرفوعاً: «تَعَلَّمُوا العِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِـيحٌ، وَالبَحْث عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، وَهُوَ الأَنِيسُ فِي الوَحْدَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الخَلْوَةِ،وَالدَّلِيلُ عَلَىٰ الدِّينِ، وَالمُصَبِّرُ عَلَىٰ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالوَزِيرُ عِنْدَ الأَخِلاَّءِ، وَالقَرِيبُ عِنْدَ الغُرَبَاءِ، وَمَنَارُ سَبِـيلِ الجَنَّةِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الخَيْرِ قَادَةً سَادَةً هُدَاةً، يُقْتَدَىٰ بِهِمْ، أَدِلَّةً فِي الخَيْرِ تُقْتَصُّ آثارُهُمْ وَتُرْمَقُ أَفْعَالُهُمْ وَتَرْغَبُ المَلائِكَةُ فِي خَلَّتِهِمْ وَبِأَجْنِحَتِها تَمْسَحُهُمْ، وَكُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ لَهُمْ يَسْتَغْفِرُ حَتَّىٰ حِيتانُ البَحْرِ وَهَوَامُّهُ وَسِبَاعُ البَرِّ وَأَنْعَامُهُ وَالسَّمَاءُ وَنُجُومُهَا» ، لأن العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل وبه يعبد، وبه يوعد وبه يوحد وبه يمجد، وبه يتورع، وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء. نسأل الله تعالى حسن التوفيق.
في الشواهد العقلية:
اعلم أن المطلوب من هذا الباب معرفة فضيلة العلم ونفاسته، وما لم تفهم الفضيلة في نفسها ولم يتحقق المراد منها لم يمكن أن تعلم وجودها صفة للعلم أو لغيره من الخصال، فلقد ضل عن الطريق من طمع أن يعرف أن زيداً حكيم أم لا، وهو بعد لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها. والفضيلة مأخوذة من الفضل وهي الزيادة؛ فإذا تشارك شيئان في أمر واختص أحدهما بمزيد يقال فضله وله الفضل عليه مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء كما يقال: الفرس أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكرّ والفرّ وشدة العدو وحسن الصورة، فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة لم يقل إنه أفضل؛ لأنّ تلك زيادة في الجسم ونقصان في المعنى وليست من الكمال في شيء، والحيوان مطلوب لمعناه وصفاته لا لجسمه؛ فإذا فهمت هذا لم يخف عليك أن العلم فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الأوصاف، كما أن للفرس فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الحيوانات؛ بل شدّة العدو فضيلة في الفرس وليست فضيلة على الإطلاق، والعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة؛ فإنه وصف كمال الله سبحانه وبه شرف الملائكة والأنبـياء، بل الكيس من الخيل خير من البليد فهي فضيلة على الإطلاق من غير إضافة. واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره،وإلى ما يطلب لذاته، وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً، فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره، والمطلوب لغيره: الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا منفعة لهما، ولولا أن الله سبحانه وتعالى يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة. والذي يطلب لذاته: فالسعادة في الآخرة ولذة النظر لوجه الله تعالى. والذي يطلب لذاته ولغيره فكسلامة البدن، فإن سلامة الرجل مثلاً مطلوبة من حيث إنها سلامة للبدن عن الألم ومطلوبة للمشي بها والتوصل إلى المآرب والحاجات، وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذاً في نفسه فيكون مطلوباً لذاته، ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به، وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال، وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضاً بشرف ثمرته وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى، هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع حتى إن أغبـياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتميـيز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها: هذه فضيلة العلم مطلقاً ثم تختلف العلوم كما سيأتي بـيانه وتتفاوت لا محالة فضائلها بتفاوتها. وأما فضيلة التعليم والتعلم فظاهرة مما ذكرناه، فإن العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلباً للأفضل فكان تعليمه إفادة للأفضل، وبـيانه أن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها آلة ومنزلاً لمن يتخذها مستقراً ووطناً؛ وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميـين. وأعمالهم وحرفهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام:
أحدها: أصول لا قوام للعالم دونها، وهي أربعة: الزراعة، وهي للمطعم. والحياكة، وهي للملبس. والبناء، وهو للمسكن. والسياسة، وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها.
الثاني: ما هي مهيئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها: كالحدادة فإنها تخدم الزراعة وجملة من الصناعات بإعداد آلاتها كالحلاجة والغزل فإنها تخدم الحياكة بإعداد عملها.
الثالث: ما هي متممة للأصول ومزينة، كالطحن والخبز للزراعة؛ وكالقصارة والخياطة للحياكة؛ وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته فإنها ثلاثة أضرب أيضاً: إما أصول كالقلب والكبد والدماغ؛ وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايـين والأعصاب والأوردة، وإما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبـين، وأشرف هذه الصناعات أصولها، وأشرف أصولها السياسة بالتأليف والاستصلاح ولذلك تستدعي هذه الصناعة من الكمال فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات، ولذلك يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة على أربع مراتب: الأولى: وهي العليا: سياسة الأنبـياء عليهم السلام وحكمهم على الخاصة والعامة جميعاً ظاهرهم وباطنهم.
والثانية: الخلفاء والملوك والسلاطين وحكمهم على الخاصة والعامة جميعاً ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم.
والثالثة: العلماء بالله عز وجل وبدينه الذين هم ورثة الأنبـياء، وحكمهم على باطن الخاصة فقط، ولا يرتفع فهم العامة على الاستفادة منهم ولا تنتهي قوتهم إلى التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع والشرع.
والرابعة: الوعاظ وحكمهم على بواطن العوام فقط؛ فأشرف هذه الصناعات الأربع بعد النبوة إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس عن الأخلاق المذمومة المهلكة وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المسعدة وهو المراد بالتعليم؛ وإنما قلنا إن هذا أفضل من سائر الحرف والصناعات لأن شرف الصناعات يعرف بثلاثة أمور: إما بالالتفات إلى الغريزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل العلوم العقلية على اللغوية: إذ تدرك الحكمة بالعقل، واللغة بالسمع، والعقل أشرف من السمع؛ وإما بالنظر إلى عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة، وإما بملاحظة المحل الذي فيه التصرف كفضل الصياغة على الدباغة: إذ محل أحدهما الذهب ومحل الآخر جلد الميتة؛ وليس يخفى أن العلوم الدينية وهي فقه طريق الآخرة إنما تدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء، والعقل أشرف صفات الإنسان كما سيأتي بـيانه؛ إذ به تقبل أمانة الله، وبه يتوصل إلى جوار الله سبحانه. وأما عموم النفع فلا يستراب فيه فإن نفعه وثمرته سعادة الآخرة. وأما شرف المحل فكيف يخفى والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم،وأشرف موجود على الأرض جنس الإنس وأشرف جزء من جواهر الإنسان قلبه، والمعلم مشتغل بتكميله وتجليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل، فتعليم العلم من وجه: عبادة لله تعالى، ومن وجه خلافة لله تعالى، وهو من أجل خلافة الله؛ فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته. فهو كالخازن لأنفس خزائنه؛ ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه؛ فأي رتبة أجل من كون العبد واسطة بـين ربه سبحانه وبـين خلقه في تقريبهم إلى الله زلفى وسياقتهم إلى جنة المأوى، جعلنا الله منهم بكرمه؛ وصلى الله على كل عبد مصطفى.
الباب الثاني في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامها
وفيه بـيان ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، وبـيان أن موقع الكلام والفقه من علم الدين إلى أي حد هو وتفضيل علم الآخرة.
بـيان العلم الذي هو فرض عين:
قال رسول الله : «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَىٰ كُلِّ مُسْلِمٍ» وقال أيضاً : «اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ» واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم، فتفرّقوا فيه أكثر من عشرين فرقة، ولا نطيل بنقل التفصيل، ولكن حاصله أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده، فقال المتكلمون: هو علم الكلام، إذ به يدرك التوحيد ويعلم ذات الله سبحانه وصفاته، وقال الفقهاء: هو علم الفقه إذ به تعرف العبادات والحلال والحرام وما يحرم من المعاملات وما يحل، وعنوا به ما يحتاج إليه الآحاد دون الوقائع النادرة، وقال المفسرون والمحدّثون: هو علم الكتاب والسنَّة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها. وقال المتصوّفة: المراد به هذا العلم، فقال بعضهم: هو علم العبد بحاله ومقامه من الله عز وجل. وقال بعضهم: هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس وتميـيز لمة الملك من لمة الشيطان. وقال بعضهم: هو علم الباطن، وذلك يجب على أقوام مخصوصين هم أهل ذلك وصرفوا اللفظ عن عمومه. وقال أبو طالب المكي: هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام، وهو قوله : «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَىٰ خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلٰهَ إِلاَّ اللَّهُ» إلى آخر الحديث، لأن الواجب هذه الخمس فيجب العلم بكيفية العمل فيها وبكيفية الوجوب. والذي ينبغي أن يقطع به المحصل ولا يستريب فيه ما سنذكره: وهو أن العلم كما قدّمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة، وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة. والمعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العامل بها ثلاثة: اعتقاد، وفعل، وترك؛ فإذا بلغ الرجل العاقل بالاحتلام أو السنّ ضحوة نهار مثلاً فأوّل واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناهما وهو قول: «لا إلٰه إلا الله، محمد رسول الله» وليس يجب عليه أن يحصل كشف ذلك لنفسه بالنظر والبحث وتحرير الأدلة، بل يكفيه أن يصدّق به ويعتقده جزماً من غير اختلاج ريب واضطراب نفس، وذلك قد يحصل بمجرّد التقليد والسماع من غير بحث ولا برهان؛ إذ اكتفى رسول الله من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل . فإذا فعل ذلك فقد أدى واجب الوقت وكان العلم الذي هو فرض عين عليه في الوقت تعلم الكلمتين وفهمهما، وليس يلزمه أمر وراء هذا في الوقت، بدليل أنه لو مات عقيب ذلك مات مطيعاً لله عز وجل غير عاص له، وإنما يجب غير ذلك بعوارض تعرض وليس ذلك ضرورياً في حق كل شخص بل يتصوّر الانفكاك عنها وتلك العوارض إما أن تكون في الفعل وإما في الترك وإما في الاعتقاد. أما الفعل: فبأن يعيش من ضحوة نهاره إلى وقت الظهر فيتجدّد عليه بدخول وقت الظهر تعلم الطهارة والصلاة، فإن كان صحيحاً وكان بحيث لو صبر إلى وقت زوال الشمس لم يتمكن من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم، فلا يبعد أن يقال: الظاهر بقاؤه فيجب عليه تقديم التعلم على الوقت. ويحتمل أن يقال: وجوب العلم الذي هو شرط العمل بعد وجوب العمل فلا يجب قبل الزوال، وهكذا في بقية الصلوات فإن عاش إلى رمضان تجدّد بسببه وجوب تعلم الصوم: وهو أن وقته من الصبح إلى غروب الشمس؛ وأن الواجب فيه النية والإمساك عن الأكل والشرب والوقاع، وأن ذلك يتمادى إلى رؤية الهلال أو شاهدين؛ فإن تجدّد له مال أو كان له مال عند بلوغه لزمه تعلم ما يجب عليه من الزكاة، ولكن لا يلزمه في الحال إنما يلزمه عند تمام الحول من وقت الإسلام؛ فإن لم يملك إلا الإبل لم يلزمه إلا تعلم زكاة الإبل، وكذلك في سائر الأصناف، فإذا دخل في أشهر الحج فلا يلزمه المبادرة إلى علم الحج مع أن فعله على التراخي فلا يكون تعلمه على الفور، ولكن ينبغي لعلماء الإسلام أن ينبهوه على أن الحج فرض على التراخي عل كل من ملك الزاد والراحلة إذا كان هو مالكاً حتى ربما يرى الحزم لنفسه في المبادرة، فعند ذلك إذا عزم عليه لزمه تعلم كيفية الحج ولم يلزمه إلا تعلم أركانه وواجباته دون نوافله، فإن فعل ذلك نفل فعلمه أيضاً نفل فلا يكون تعلمه فرض عين، وفي تحريم السكوت عن التنبـيه على وجوب أصل الحج في الحال نظر يليق بالفقه، وهكذا التدريج في علم سائر الأفعال التي هي فرض عين.
وأما التروك فيجب تعلم علم ذلك بحسب ما يتجدد من الحال، وذلك يختلف بحال الشخص إذ لا يجب على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام، ولا على الأعمى تعلم ما يحرم من النظر، ولا على البدوي تعلم ما يحرم الجلوس فيه من المساكن، فذلك أيضاً واجب بحسب ما يقتضيه الحال، فما يعلم أنه ينفك عنه ولا يجب تعلمه وما هو ملابس له يجب تنبـيهه عليه كما لو كان عند الإسلام لابساً للحرير،أو جالساً في الغصب، أو ناظراً إلى غير ذي محرم، فيجب تعريفه بذلك وما ليس ملابساً له ولكنه بصدد التعرض له على القرب كالأكل والشرب فيجب تعليمه، حتى إذا كان في بلد يتعاطى فيه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير فيجب تعليمه ذلك وتنبـيهه عليه، وما وجب تعليمه وجب عليه تعلمه.
وأما الاعتقادات وأعمال القلوب فيجب علمها بحسب الخواطر، فإن خطر له شك في المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة فيجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة الشك. فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله سبحانه قديم وأنه مرئي وأنه ليس محلاً للحوادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات، فقد مات على الإسلام إجماعاً، ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يخطر بالطبع وبعضها يخطر بالسماع من أهل البلد، فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق، فإنه لو ألقي إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك، كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا، وهذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب، فمن علم العلم الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذي هو فرض عين، وما ذكره الصوفية من فهم خواطر العدو ولمة الملك حق أيضاً ولكن في حق من يتصدى له، فإذا كان الغالب أن الإنسان لا ينفك عن دواعي الشر والرياء والحسد فيلزمه أن يتعلم من علم ربع المهلكات ما يرى نفسه محتاجاً إليه، وكيف لا يجب عليه وقد قال رسول الله : «ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ» . ولا ينفك عنها بشر، وبقية ما سنذكره من مذمومات أحوال القلب كالكبر والعجب وأخواتهما تتبع هذه الثلاث المهلكات، وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إزالتها إلا بمعرفة حدودها ومعرفة أسبابها ومعرفة علاماتها ومعرفة علاجها؛ فإن من لا يعرف الشر يقع فيه، والعلاج هو مقابلة السبب بضده، وكيف يمكن دون معرفة السبب والمسبب، وأكثر ما ذكرناه في ربع المهلكات من فروض الأعيان، وقد تركها الناس كافة اشتغالاً بما لا يعني. ومما ينبغي أن يبادر في إلقائه إليه إذا لم يكن قد انتقل عن ملة إلى ملة أخرى: الإيمان بالجنة والنار والحشر والنشر حتى يؤمن به ويصدق، وهو من تتمة كلمتي الشهادة، فإنه بعد التصديق بكونه عليه السلام رسولاً ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو مبلغها: وهو أن من أطاع الله ورسوله فله الجنة، ومن عصاهما فله النار، فإذا انتبهت لهذا التدريج علمت أن المذهب الحق هو هذا، وتحققت أن كل عبد هو: في مجاري أحواله في يومه وليلته لا يخلو من وقائع في عباداته ومعاملاته عن تجدد لوازم عليه فيلزمه السؤال عن كل ما يقع له من النوادر ويلزمه المبادرة إلى تعلم ما يتوقع وقوعه على القرب غالباً؛ فإذا تبـين أنه عليه الصلاة والسلام إنما أراد بالعلم المعرّف بالألف واللام في قوله : «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَىٰ كُلِّ مُسْلمٍ» ؛ علم العمل الذي هو مشهور الوجوب على المسلمين لا غير؛ فقد اتضح وجه التدريج ووقت وجوبه، والله أعلم.

بـيان العلم الذي هو فرض كفاية:
اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الفرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية؛ وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبـياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة: فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة: أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان. وكالحساب؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد. وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة. فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك. فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعدّ الأسباب لتعاطيه. فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله. وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه. ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه. وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبـيسات. وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها. وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه.
وأما العلوم الشرعية وهي المقصودة بالبـيان: فهي محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة فتنقسم إلى المحمودة والمذمومة. أما المحمودة فلها أصول وفروع ومقدمات ومتممات وهي أربعة ضرب:
الضرب الأول: الأصول: وهي أربعة: كتاب الله عز وجل، وسنَّة رسول الله عليه السلام، وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة فهو أصل في الدرجة الثالثة. وكذا الأثر فإنه أيضاً يدل على السنة، لأن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل وأدركوا بقرائن الأحوال ما غاب عن غيرهم عيانه، وربما لا تحيط العبارات بما أدرك بالقرائن. فمن هذا الوجه رأى العلماء الاقتداء بهم والتمسك بآثارهم، وذلك بشرط مخصوص على وجه مخصوص عند من يراه ولا يليق بـيانه بهذا الفنّ.
الضرب الثاني: الفروع: وهو ما فهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه لها العقول فاتسع بسببها الفهم حتى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره كما فهم من قوله عليه السلام: «لا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» أنه لا يقضي إذا كان خائفاً أو جائعاً أو متألماً بمرض. وهذا على ضربـين: أحدهما: يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا.
والثاني: ما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة وما هو مرضي عند الله تعالى، وما هو مكروه وهو الذي يحويه الشطر الأخير من هذا الكتاب، أعني جملة كتاب إحياء علوم الدين، ومنه العلم بما يترشح من القلب على الجوارح في عباداتها، وعاداتها، وهو الذي يحويه الشطر الأول من هذا الكتاب.
والضرب الثالث: المقدمات، وهي التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو؛ فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبـيه ، وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة. ومن الآلات علم كتابة الخط إلا أن ذلك ليس ضرورياً إذ كان رسول الله أميّاً . ولو تصور استقلال الحفظ بجميع ما يسمع لاستغنى عن الكتابة، ولكنه صار بحكم العجز في الغالب ضرورياً.
الضرب الرابع: المتممات: وذلك في علم القرآن؛ فإنه ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ كتعلم القراءات ومخارج الحروف وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير؛ فإن اعتماده أيضاً على النقل، إذ اللغة بمجردها لا تستقل به وإلى ما يتعلق بأحكامه كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر. وكيفية استعمال البعض منه مع البعض، وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه ويتناول السنة أيضاً. وأما المتممات في الآثار والأخبار فالعلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم وأسماء الصحابة وصفاتهم، والعلم بالعدالة في الرواة، والعلم بأحوالهم ليميز الضعيف عن القوي، والعلم بأعمارهم ليميز المرسل عن المسند وكذلك ما يتعلق به؛ فهذه هي العلوم الشرعية وكلها محمودة بل كلها من فروض الكفايات.
فإن قلت: لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا وألحقت الفقهاء بعلماء الدنيا؟ فاعلم أن الله عز وجل أخرج آدم عليه السلام من التراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى العرض ثم إلى الجنة أو إلى النار؛ فهذا مبدؤهم وهذا غايتهم وهذه منازلهم. وخلق الدنيا زاداً للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود؛ فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء، ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به؛ فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بـين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات؛ فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا، ولعمري إنه متعلق أيضاً بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا؛ فإن الدنيا مزرعة الآخرة،ولا يتم الدين إلا بالدنيا. والملك والدين توأمان؛ فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه. وكما أن سياسة الخلق بالسلطنة ليس من علم الدين في الدرجة الأولى؛ بل هو معين على ما لا يتم الدين إلا به، فكذلك معرفة طريق السياسة فمعلوم أن الحج لا يتم إلا ببذرقة تحرس من العرب في الطريق ولكن الحج شيء وسلوك الطريق إلى الحج شيء ثان، والقيام بالحراسة التي لا يتم الحج إلا بها شيء ثالث، ومعرفة طرق الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع، وحاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة ويدل على ذلك ما روي مسنداً: «لا يفتي الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو متكلف» ، فالأمير هو الإمام وقد كانوا هم المفتون، والمأمور نائبه، والمتكلف غيرهما: وهو الذي يتقلد تلك العهدة من غير حاجة. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحترزون عن الفتوى، حتى كان يحيل كل واحد منهم على صاحبه،وكانوا لا يحترزون إذا سئلوا عن علم القرآن وطريق الآخرة، وفي بعض الروايات بدل المتكلف: المرائي؛ فإن من تقلد خطر الفتوى وهو غير متعين للحاجة فلا يقصد به إلا طلب الجاه والمال.
فإن قلت هذا إن استقام لك في أحكام الجراحات والحدود والغرامات وفصل الخصومات، فلا يستقيم فيما يشتمل عليه ربع العبادات من الصيام والصلاة ولا فيما يشتمل عليه ربع العادات من المعاملات من بـيان الحلال والحرام، فاعلم أن أقرب ما يتكلم الفقيه فيه من الأعمال التي هي أعمال الآخرة ثلاثة: الإسلام والصلاة والزكاة والحلال والحرام؛ فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيها علمت أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة، وإذا عرفت هذا في هذه الثلاثة فهو في غيرها أظهر. أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه وفيما يفسد وفي شروطه وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان. وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه لعزل رسول الله أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال: «هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟» . للذي قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً بأنه قال ذلك من خوف السيف، بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف، مع أنه يعلم أن السيف لم يكشف له عن نيته ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة، ولكنه مشير على صاحب السيف فإن السيف ممتد إلى رقبته واليد ممتدة إلى ماله، وهذه الكلمة باللسان تعصم رقبته وماله ما دام له رقبة ومال، وذلك في الدنيا، ولذلك قال : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّىٰ يَقُولُوا: لا إِلٰهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوها فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» . جعل أثر ذلك في الدم والمال. وأما الآخرة فلا تنفع فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها، وليس ذلك من فن الفقه، وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب وكان خارجاً عن فنه. وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلاً في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولاً بالتفكير في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبـير، وهذه الصلاة لا تنفع في الآخرة، كما أن القول باللسان في الإسلام لا ينفع، ولكن الفقيه يفتي بالصحة أي أن ما فعله حصل به امتثال صيغة الأمر وانقطع به عن القتل والتعزير، فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر لا يتعرض له الفقيه ولو تعرض له لكان خارجاً عن فنه،وأما الزكاة فالفقيه ينظر إلى ما يقطع به مطالبة السلطان حتى إنه إذا امتنع عن أدائها فأخذها السلطان قهراً حكم بأنه برئت ذمته.
وحكي أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطاً للزكاة، فحكي ذلك لأبـي حنيفة رحمه الله فقال: ذلك من فقهه. وصدق فإن ذلك من فقه الدنيا، ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية، ومثل هذا هو العلم الضار. وأما الحلال والحرام فالورع عن الحرام من الدين، ولكن الورع له أربع مراتب:
الأولى: الورع الذي يشترط في عدالة الشهادة: وهو الذي يخرج بتركه الإنسان عن أهلية الشهادة والقضاء والولاية وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر.
الثانية: ورع الصالحين: وهو التوقي من الشبهات التي يتقابل فيها الاحتمالات. قال : «دَعْ ما يُرِيبُكَ إِلَىٰ ما لا يُرِيبُكَ» . وقال : «الإِثْمُ حَزَّازُ القُلُوبِ» .
الثالثة: ورع المتقين. وهو ترك الحلال المحض الذي يخاف منه أداؤه إلى الحرام. قال : «لا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّىٰ يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ مَخَافَةً مِمَّا بِهِ بَأْسٌ» ، وذلك مثل التورع عن التحدّث بأحوال الناس خيفة من الانجرار إلى الغيبة، والتورّع عن أكل الشهوات خيفة من هيجان النشاط والبطر المؤدي إلى مقارفة المحظورات.
الرابعة: ورع الصدّيقين وهو الإعراض عما سوى الله تعالى خوفاً من صرف ساعة من العمر إلى ما لا يفيد زيادة قرب عند الله عز وجل وإن كان يعلم ويتحقق أنه لا يفضي إلى حرام، فهذه الدرجات كلها خارجة عن نظر الفقيه إلا الدرجة الأولى: وهو ورع الشهود والقضاء وما يقدح في العدالة والقيام بذلك لا ينفي الإثم في الآخرة، قال رسول الله لوابصة: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ» والفقيه لا يتكلم في حزازات القلوب وكيفية العمل بها، بل فيما يقدح في العدالة فقط، فإذن جميع نظر الفقيه مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة، فإن تكلم في شيء من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبـيل التطفل كما قد يدخل في كلامه شيء من الطب والحساب والنجوم وعلم الكلام، وكما تدخل الحكمة في النحو والشعر. وكان سفيان الثوري وهو إمام في علم الظاهر يقول: إن طلب هذا ليس من زاد الآخرة، كيف وقد اتفقوا على أن الشرف في العلم العمل به فكيف يظن أنه علم الظهار واللعان والسلم والإجارة والصرف،ومن تعلم هذه الأمور ليتقرب بها إلى الله تعالى فهو مجنون، وإنما العمل بالقلب والجوارح في الطاعات، والشرف هو تلك الأعمال.
فإن قلت: لِمَ سويت بـين الفقه والطب إذ الطب أيضاً يتعلق بالدنيا وهو صحة الجسد وذلك يتعلق به أيضاً صلاح الدين، وهذه التسوية تخالف إجماع المسلمين؟ فاعلم أن التسوية غير لازمة بل بـينهما فرق، وأن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوّة، بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع.
والثاني: أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة البتة لا الصحيح ولا المريض. وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون. والثالث: أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح، ومصدر أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب، فالمحمود من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة المنجية في الآخرة، والمذموم يصدر من المذموم، وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب. وأما الصحة والمرض فمنشؤهما صفاء في المزاج والأخلاط وذلك من أوصاف البدن لا من أوصاف القلب، فمهما أضيف الفقه إلى الطب ظهر شرفه، وإذا أضيف علم طريق الآخرة إلى الفقه ظهر أيضاً شرف علم طريق الآخرة.
فإن قلت: فصِّل لي علم طريق الآخرة تفصيلاً يشير إلى تراجمه وإن لم يمكن استقصاء تفاصيله. فاعلم أنه قسمان: علم مكاشفة وعلم معاملة.
فالقسم الأوّل: علم المكاشفة وهو علم الباطن وذلك غاية العلوم، فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله. وقال آخر: من كان فيه خصلتان لم يفتح له بشيء من هذا العلم: بدعة، أو كبر. وقيل: من كان محباً للدنيا أو مصراً على هوًى لم يتحقق به وقد يتحقق بسائر العلوم، وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئاً وينشد على قوله:
وارضَ لمن غاب عنك غيبته فذاك ذنبٌ عقابه فيه وهو علم الصدّيقين، والمقرّبـين، أعني علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوّة والنبـيّ، ومعنى الوحي،ومعنى الشيطان، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين، وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبـياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض، ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه، ومعرفة الفرق بـين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى قوله تعالى: {اقْرأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حسيباً} ومعنى قوله تعالى: {وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لهي الحَيَوانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه والنزول في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبـيـين، ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدرّي في جوف السماء إلى غير ذلك مما يطول تفصيله، إذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى، فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة وأن الذي أعدّه الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء. وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها، وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن معرفته، وبعضهم يدّعي أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل، وبعضهم يقول حدّ معرفة الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام: وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم، فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحاً يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه، وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، وإنما نعني بعلم طريق الآخرة: العلم بكيفية تصقيل هذه المرآة عن هذه الخبائث التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله، وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكف عن الشهوات والاقتداء بالأنبـياء صلوات الله وسلامه عليهم في جميع أحوالهم، فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه، ولا سبـيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها في موضعها، وبالعلم والتعليم، وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدّث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه على سبـيل المذاكرة،وبطريق الأسرار، وهذا هو العلم الخفي الذي أراده بقوله: «إِنَّ مِنَ العِلْمِ كَهَيْئَةِ المَكْنُونِ لا يَعْلَمُهُ إِلاَّ أَهْلُ المَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَىٰ، فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يَجْهَلْهُ إِلاَّ أَهْلُ الاغْتِرَارِ بِاللَّهِ تَعَالَىٰ فَلا تَحقرُوا عَالِماً آتاهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ عِلْماً مِنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَحقرْهُ إِذْ آتاهُ إِيَّاهُ» .
وأما القسم الثاني: وهو علم المعاملة، فهو علم أحوال القلب: أما ما يحمد منها فكالصبر، والشكر، والخوف؛ والرجاء، والرضا، والزهد، والتقوى، والقناعة، والسخاء، ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال، والإحسان، وحسن الظن، وحسن الخلق وحسن المعاشرة، والصدق، والإخلاص، فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي بها تكتسب وثمرتهاوعلامتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى وما زال حتى يعود من علم الآخرة، وأما ما يذم، فخوف الفقر، وسخط المقدور، والغل، والحقد، والحسد، والغش، وطلب العلو، وحب الثناء، وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع، والكبر، والرياء والغضب، والأنفة، والعداوة، والبغضاء والطمع، والبخل، والرغبة، والبذخ، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء،والاستهانة بالفقراء، والفخر، والخيلاء، والتنافس، والمباهاة والاستكبار عن الحق، والخوض فيما لا يعني، وحب كثرة الكلام، والصلف، والتزين للخلق، والمداهنة، والعجب، والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس، وزوال الحزن من القلب، وخروج الخشية منه، وشدّة الانتصار للنفس إذا نالها الذل، وضعف الانتصار للحق، واتخاذ إخوان العلانية على عداوة السر، والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى في سلب ما أعطى، والاتكال على الطاعة، والمكر، والخيانة، والمخادعة وطول الأمل، والقسوة، والفظاعة، والفرح بالدنيا والأسف على فواتها، والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم والجفاء، والطيش، والعجلة، وقلة الحياء، وقلة الرحمة، فهذه وأمثالها من صفات القلب مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة. وأضدادها - وهي الأخلاق المحمودة - منبع الطاعات والقربات، فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما أنّ المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا، فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا،وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة. ولو سئل فقيه عن معنًى من هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلاً أو عن التوكل أو عن وجه الاحتراز عن الرياء لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة، ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها، وإن احتيج لم تخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها، فلا يزال يتعب فيها ليلاً ونهاراً وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين، وإذا روجع فيه قال: اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه، والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدّم عليه فرض العين، بل قدّم عليه كثيراً من فروض الكفايات؛ فكم من بلدة ليس فيها طبـيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحداً يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه لا سيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع؛ فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدّم به على الأقران والتسلط به على الأعداء؟ هيهات هيهات، قد اندرس علم الدين بتلبـيس العلماء السوء؛ فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمٰن ويضحك الشيطان، وقد كان أهل الورع من علماء الظاهر مقرّين بفضل علماء الباطن وأرباب القلوب: كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يجلس بـين يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبـي في المكتب ويسأله: كيف يفعل في كذا وكذا؟ فيقال له: مثلك يسأل هذا البدوي؟ فيقول: إنّ هذا وفق لما أغفلناه. وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه ويحيـى بن معين يختلفان إلى معروف الكرخي ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما وكانا يسألانه، وكيف وقد قال رسول الله ، لما قيل له كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب ولا سنة؟ فقال : «سَلُوا الصَّالِحِينَ وَاجْعَلُوهُ شُورَىٰ بَـيْنَهُمْ» ولذلك قيل: علماء الظاهر زينة الأرض والملك، وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت.
وقال الجنيد رحمه الله: قال لي السري شيخي يوماً: إذا قمت من عندي فمن تجالس؟قلت: المحاسبـي، فقال: نعم خذ من علمه وأدبه، ودع عنك تشقيقه الكلام ورده على المتكلمين، ثم لما وليت سمعته يقول: جعلك الله صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث: أشار إلى أنّ من حصل الحديث والعلم ثم تصوف أفلح، ومن تصوف قبل العلم خاطر بنفسه.
فإن قلت: فلم لم تورد في أقسام العلوم: الكلام والفلسفة، وتبـين أنهما مذمومان أو محمودان؟ فاعلم أنّ حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بـيانه، وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها، وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منه مألوفاً في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع، ولكن تغير الآن حكمه إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبغت جماعة لفَّقوا لها شبهاً ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً، فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذوناً فيه، بل صار من فروض الكفايات وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة إلى البدعة، وذلك إلى حدّ محدود ـ سنذكره في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى ـ وأما الفلسفة فليست علماً برأسها بل هي أربعة أجزاء. أحدها: الهندسة والحساب، وهما مباحان كما سبق ولا يمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة؛ فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع، فيصان الضعيف عنهما - لا لعينهما - كما يصان الصبـيّ عن شاطىء النهر خيفة عليه من الوقوع في النهر وكما يصان حديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار خوفاً عليه، مع أن القوي لا يندب إلى مخالطتهم.
الثاني: المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه، ووجه لحدّ وشروطه، وهما داخلان في علم الكلام.
الثالث: الإلهيات، وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته؛ وهو داخل في الكلام أيضاً، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم، بل انفردوا بمذاهب: بعضها كفر وبعضها بدعة، وكما أنّ الاعتزال ليس علماً برأسه بل أصحابه طائفة من المتكلمين وأهل البحث والنظر انفردوا بمذاهب باطلة، فكذلك الفلاسفة.
والرابع: الطبـيعيات، وبعضها مخالف للشرع والدين الحق، فهو جهل وليس بعلم حتى يورد في أقسام العلوم، وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها،وهو شبـيه بنظر الأطباء؛ إلا أن الطبـيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح، وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرّك؛ ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه. وأما علومهم في الطبـيعيات فلا حاجة إليها فإذن الكلام صار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حراسة لقلوب العوام عن تخيـيلات المبتدعة، وإنما حدث ذلك بحدوث البدع كما حدثت حاجة الإنسان إلى استئجار البذرقة في طريق الحج بحدوث ظلم العرب وقطعهم الطريق؛ ولو ترك العرب عدوانهم لم يكن استئجار الحراس من شروط طريق الحج؛ فلذلك لو ترك المبتدع هذيانه لما افتقر إلى الزيادة على ما عهد في عصر الصحابة رضي الله عنهم؛ فليعلم المتكلم حدّه من الدين وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج؛ فإذا تجرّد الحارس للحراسة لم يكن من جملة الحاج، والمتكلم إذا تجرّد للمناظرة والمدافعة ولم يسلك طريق الآخرة ولم يشتغل بتعهد القلب وصلاحه لم يكن من جملة علماء الدين أصلاً، وليس عند المتكلم من الدين إلا العقيدة التي شاركه فيها سائر العوام وهي من جملة أعمال ظاهر القلب واللسان، وإنما يتميز عن العامي بصنعة المجادلة والحراسة، فأما معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وجميع ما أشرنا إليه في علم المكاشفة فلا يحصل من علم الكلام، بل يكاد أن يكون الكلام حجاباً عليه ومانعاً عنه، وإنما الوصول إليه بالمجاهدة التي جعلها الله سبحانه مقدمة للهداية حيث قال تعالى: {والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبُلَنَا وإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنينَ} . فإن قلت: فقد رددت حد المتكلم إلى حراسة عقيدة العوام عن تشويش المبتدعة، كما أن حد البذرقة حراسة أقمشة الحجيج عن نهب العرب، ورددت حد الفقيه إلى حفظ القانون الذي به يكف السلطان شر بعض أهل العدوان عن بعض، وهاتان رتبتان نازلتان بالإضافة إلى علم الدين، وعلماء الأمة المشهورون بالفضل هم الفقهاء والمتكلمون وهم أفضل الخلق عند الله تعالى، فكيف تنزل درجاتهم إلى هذه المنزلة السافلة بالإضافة إلى علم الدين؟ فاعلم أن من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال، فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكاً طريق الحق، وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بـين الناس فلا تغفل عن الصحابة وعلو منصبهم، فقد أجمع الذين عرضت بذكرهم على تقدمهم وأنهم لا يدرك في الدين شأوهم ولا يشق غبارهم ولم يكن تقدمهم بالكلام والفقه بل بعلم الآخرة وسلوك طريقها،وما فضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثرة صيام ولا صلاة ولا بكثرة رواية ولا فتوى ولا كلام، ولكن بشيء وقر في صدره ، كما شهد له سيد المرسلين ؛ فليكن حرصك في طلبك ذلك السر فهو الجوهر النفيس والدر المكنون، ودع عنك ما تطابق أكثر الناس عليه وعلى تفخيمه وتعظيمه لأسباب ودواع يطول تفصيلها، فلقد قبض رسول الله عن آلاف من الصحابة رضي الله عنهم كلهم علماء بالله، أثنى عليهم رسول الله ، ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام، ولا نصب نفسه للفتيا منهم أحد إلا بضعة عشر رجلاً، ولقد كان ابن عمر رضي الله عنهما منهم، وكان إذا سئل عن الفتيا يقول للسائل: اذهب إلى فلان الأمير الذي تقلد أمور الناس، وضعها في عنقه إشارة إلى أن الفتيا في القضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة، ولما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود: مات تسعة أعشار العلم، فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة؟ فقال: لم أرد علم الفتيا والأحكام إنما أريد العلم بالله تعالى. أفترى أنه أراد صنعة الكلام والجدل، فما بالك لا تحرص على معرفة ذلك العلم الذي مات بموت عمر تسعة أعشاره، وهو الذي سد باب الكلام والجدل وضرب صُبـيغاً بالدرة لما أورد عليه سؤالاً في تعارض آيتين في كتاب الله، وهجره وأمر الناس بهجره، وأما قولك إن المشهورين من العلماء هم الفقهاء والمتكلمون، فاعلم أن ما ينال به الفضل عند الله شيء وما ينال به الشهرة عند الناس شيء آخر؛ فلقد كانت شهرة أبـي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة وكان فضله بالسر الذي وقر في قلبه، وكانت شهرة عمر رضي الله عنه بالسياسة وكان فضله بالعلم بالله الذي مات تسعة أعشاره بموته، وبقصده التقرب إلى الله عز وجل في ولايته وعدله وشفقته على خلقه، وهو أمر باطن في سره، فأما سائر أفعاله الظاهرة فيتصور صدورها من طالب الجاه والاسم والسمعة والراغب في الشهرة، فتكون الشهرة فيما هو المهلك، والفضل فيما هو سر لا يطلع عليه أحد، فالفقهاء والمتكلمون مثل الخلفاء والقضاة والعلماء، وقد انقسموا، فمنهم من أراد الله سبحانه بعلمه وفتواه وذبه عن سنة نبـيه ولم يطلب به رياء ولا سمعة، فأولئك أهل رضوان الله تعالى وفضلهم عند الله لعملهم بعلمهم ولإرادتهم وجه الله سبحانه بفتواهم ونظرهم، فإن كل علم عمل فإنه فعل مكتسب، وليس كل عمل علماً، والطبـيب يقدر على التقرب إلى الله تعالى بعلمه فيكون مثاباً على علمه من حيث إنه عامل لله سبحانه وتعالى به، والسلطان يتوسط بـين الخلق لله فيكون مرضياً عند الله سبحانه ومثاباً، لا من حيث إنه متكفل بعلم الدين، بل من حيث هو متقلد بعمل يقصد به التقرب إلى الله عز وجل بعلمه. وأقسام ما يتقرب به إلى الله تعالى ثلاثة: علم مجرد وهو علم المكاشفة، وعمل مجرّد وهو كعدل السلطان مثلاً وضبطه للناس، ومركب من عمل وعلم وهو علم طريق الآخرة فإن صاحبه من العلماء والعمال جميعاً، فانظر إلى نفسك أتكون يوم القيامة في حزب علماء الله، أو عمال الله تعالى، أو في حزبـيهما فتضرب بسهمك مع كل فريق منهما، فهذا أهم عليك من التقليد لمجرد الاشتهار كما قيل:
خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئاً سَمِعْتَ بِهِ * فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ ما يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ
على أنا سننقل من سيرة فقهاء السلف ما تعلم به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة فإنهم ما قصدوا بالعلم إلا وجه الله تعالى، وقد شوهد من أحوالهم ما هو من علامات علماء الآخرة كما سيأتي بـيانه في باب علامات علماء الآخرة، فإنهم ما كانوا متجردين لعلم الفقه، بل كانوا مشتغلين بعلم القلوب ومراقبـين لها، ولكن صرفهم عن التدريس والتصنيف فيه ما صرف الصحابة عن التصنيف والتدريس في الفقه، مع أنهم كانوا فقهاء مستقلين بعلم الفتوى والصوارف والدواعي متيقنة، ولا حاجة إلى ذكرها.
ونحن الآن نذكر من أحوال فقهاء الإسلام ما تعلم به أن ما ذكرناه ليس طعناً فيهم بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلاً مذاهبهم وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم، فالفقهاء الذين هم زعماء الفقه وقادة الخلق أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب خمسة: الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى. وكل واحد منهم كان عابداً وزاهداً وعالماً بعلوم الآخرة وفقيهاً في مصالح الخلق في الدنيا ومريداً بفقهه وجه الله تعالى، فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه، لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة، وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة، إن أريد بها الآخرة قلّ صلاحها للدنيا شمروا لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة، وهيهات أن تقاس الملائكة بالحدادين، فلنورد الآن من أحوالهم ما يدل على هذه الخصال الأربع، فإن معرفتهم بالفقه ظاهرة.
أما الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيدل على أنه كان عابداً: ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً للعلم، وثلثاً للعبادة. وثلثاً للنوم.
قال الربـيع: كان الشافعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة. وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة. وقال الحسن الكرابـيسي: بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحواً من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله تعالى لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين، وكأنما جمع له الرجاء والخوف معاً، فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحره في أسرار القرآن وتدبره فيها. وقال الشافعي رحمه الله: ما شبعت منذ ست عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة، فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع، ثم في جده في العبادة، إذ طرح الشبع لأجلها، ورأس التعبد تقليل الطعام. وقال الشافعي رحمه الله: ما حلفت بالله تعالى لا صادقاً ولا كاذباً قط، فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى، ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه. وسئل الشافعي رضي الله عنه عن مسألة فسكت، فقيل له: ألا تجيب رحمك الله؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابـي؟ فانظر في مراقبته للسانه مع أنه أشد الأعضاء تسلطاً على الفقهاء وأعصاها عن الضبط والقهر، وبه يستبـين أنه كان لا يتكلم ولا يسكت إلا لنيل الفضل وطلب الثواب. وقال أحمد بن يحيـى بن الوزير: خرج الشافعي رحمه الله تعالى يوماً من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت الشافعي إلينا وقال: نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها. وقال الشافعي رضي الله عنه: كتب حكيم إلى حكيم: قد أوتيت علماً فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم.
وأما زهده رضي الله عنه فقد قال الشافعي رحمه الله: من ادعى أنه جمع بـين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب. وقال الحميدي: خرج الشافعي رحمه الله إلى اليمن مع بعض الولاة فانصرف إلى مكة بعشرة الآف درهم فضرب له خباء في موضع خارجاً من مكة فكان الناس يأتونه، فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها. وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالاً كثيراً. وسقط سوطه من يده مرة فرفعه إنسان إليه فأعطاه جزاءعليه خمسين ديناراً. وسخاوة الشافعي رحمه الله أشهر من أن تحكى ورأس الزهد السخاء، لأن من أحب شيئاً أمسكه ولم يفارق المال إلا من صغرت الدنيا في عينه وهو معنى الزهد. ويدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همته بالآخرة: ما روي أنه روى سفيان بن عيـينة حديثاً في الرقائق فغشي على الشافعي فقيل له: قد مات، فقال: إن مات فقد مات أفضل زمانه. وما روى عبد الله بن محمد البلوي قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جلوساً نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه. خرجت أنا وهو والحارث بن لبـيد إلى الصفا وكان الحارث تلميذاً لصالحٍ المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت، فقرأ هذه الآية عليه {هٰذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَلاَ يُؤذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} {إنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} ولم يستفد الشافعي رحمه الله هذ الخوف والزهد من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه،بل هو من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما.
وأما كونه عالماً بأسرار القلب وعلوم الآخرة فتعرفه من الحكم المأثورة عنه، روي أنه سئل عن الرياء فقال على البديهة: الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا أنت خفت على عملك العجب فانظر رضا من تطلب، وفي أي ثواب ترغب، ومن أي عقاب ترهب، وأي عافية تشكر، وأي بلاء تذكر، فإنك إذا تفكرت في واحدة من هذه الخصال صغر في عينك عملك، فانظر كيف ذكر حقيقة الرياء وعلاج العجب وهما من كبار آفات القلب وقال الشافعي رضي الله عنه: من لم يصن نفسه لم ينفعه علمه. وقال رحمه الله: من أطاع الله تعالى بالعلم نفعه سره. وقال: ما من أحد إلا له محب ومبغض، فإذا كان كذلك فكن مع أهل طاعة الله عز وجل. وروي أن عبد القاهر بن عبد العزيز كان رجلاً صالحاً ورعاً وكان يسأل الشافعي رضي الله عنه عن مسائل في الورع والشافعي رحمه الله يقبل عليه لورعه، وقال للشافعي يوماً: أيما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين؟ فقال الشافعي رحمه الله: التمكين درجة الأنبـياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتحن صبر وإذا صبر مكن؛ ألا ترى أن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكنه، وامتحن موسى عليه السلام ثم مكنه، وامتحن أيوب عليه السلام ثم مكنه، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكنه وآتاه مُلكاً، والتمكين أفضل الدرجات، قال الله عز وجل: {وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ} وأيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مكن، قال الله تعالى: {وآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} الآية. فهذا الكلام من الشافعي رحمه الله يدل على تبحره في أسرار القرآن واطلاعه على مقامات السائرين إلى الله تعالى من الأنبـياء والأولياء، وكل ذلك من علوم الآخرة. وقيل للشافعي رحمه الله: متى يكون الرجل عالماً؟ قال: إذا تحقق في علم الدين فعلمه وتعرض لسائر العلوم فنظر فيما فاته فعند ذلك يكون عالماً، فإنه قيل لجالينوس إنك تأمر للداء الواحد بالأدوية الكثيرة المجمعة فقال: إنما المقصود منها واحد وإنما يجعل معه غيره لتسكن حدته لأن الإفراد قاتل، فهذا وأمثاله مما لا يحصى يدل على علو رتبته في معرفة الله تعالى وعلوم الآخرة.
وأما إرادته بالفقه والمناظرة فيه وجه الله تعالى: فيدل عليه ما روي عنه أنه قال: وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم وما نسب إلي شيء منه، فانظر كيف اطلع على آفة العلم وطلب الاسم له، وكيف كان منزه القلب عن الالتفات إليه مجرد النية فيه لوجه الله تعالى. وقال الشافعي رضي الله عنه: ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطىء. وقال: ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يبـين الله الحق على لساني أو على لسانه. وقال: ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته، ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته، فهذه العلامات هي التي تدل على إرادة الله تعالى بالفقه والمناظرة، فانظر كيف تابعه الناس من جملة هذه الخصال الخمس على خصلة واحدة فقط، ثم كيف خالفوه فيها أيضاً، ولهذا قال أبو ثور رحمه الله: ما رأيت ولا رأى الراؤون مثل الشافعي رحمه الله تعالى. وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي رحمه الله تعالى، فانظر إلى إنصاف الداعي وإلى درجة المدعو له وقس به الأقران والأمثال من العلماء في هذه الأعصار وما بـينهم من المشاحنة والبغضاء لتعلم تقصيرهم في دعوى الاقتداء بهؤلاء، ولكثرة دعائه له قال له ابنه: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ فقال أحمد: يا بني كان الشافعي رحمه الله تعالى كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف. وكان أحمد رحمه الله يقول: ما مس أحد بـيده محبرة إلا وللشافعي رحمه لله في عنقه منَّة. وقال يحيـى بن سعيد القطان: ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو فيها للشافعي لما فتح الله عز وجل عليه من العلم ووفقه للسداد فيه. ولنقتصر على هذه النبذة من أحواله فإن ذلك خارج عن الحصر، وأكثر هذه المناقب نقلناه من الكتاب الذي صنفه الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي رحمه الله تعالى في مناقب الشافعي رضي الله عنه وعن جميع المسلمين.
وأما الإمام مالك رضي الله عنه، فإنه كان أيضاً متحلياً بهذه الخصال الخمس، فإنه قيل له: ما تقول يا مالك في طلب العلم؟ فقال: حسن جميل ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه، وكان رحمه الله تعالى في تعظيم علم الدين مبالغاً، حتى كان إذا أراد أن يحدّث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته واستعمل الطيب وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة ثم حدّث، فقيل له في ذلك فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله . وقال مالك: العلم نور يجعله الله حيث يشاء وليس بكثرة الرواية، وهذا الاحترام والتوقير يدل على قوة معرفته بجلال الله تعالى.
وأما إرادته وجه الله تعالى بالعلم فيدل عليه قوله: الجدال في الدين ليس بشيء. ويدل عليه قول الشافعي رحمه الله: إني شهدت مالكاً وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. ومن يرد غير وجه الله تعالى بعلمه فلا تسمح نفسه بأن يقرّ على نفسه بأنه لا يدري، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: إذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب، وما أحد أمن عليَّ من مالك. وروي أن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره ثم دس عليه من يسأله، فروى على ملأ من الناس: ليس على مستكره طلاق، فضربه بالسياط، ولم يترك رواية الحديث. وقال مالك رحمه الله: ما كان رجل صادقاً في حديثه ولا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه مع الهرم آفة ولا خرف.
وأما زهده في الدنيا، فيدل عليه ما روي أن المهدي أمير المؤمنين سأله فقال له: هل لك من دار؟ فقال: لا ولكن أحدّثك. سمعت ربـيعة بن أبـي عبد الرحمٰن يقول: «نسب المرء داره» وسأله الرشيد: هل لك دار؟ فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال: اشتر بها داراً فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص قال لمالك رحمه الله: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت على أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن، فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إليه سبـيل، لأن أصحاب رسول الله افترقوا بعده في الأمصار فحدّثوا، فعند كل أهل مصر علم وقد قال : «اخْتِلافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» وأما الخروج معك فلا سبـيل إليه قال رسول الله : «المَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» وقال عليه الصلاة والسلام: «المَدِينَةُ تَنْفِي خَبَثَهَا كَما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ» وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها، يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إليَّ فلا أؤثر الدنيا على مدينة رسول الله ، فهكذا كان زهد مالك في الدنيا. ولما حملت إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا لانتشار علمه وأصحابه كان يفرّقها في وجوه الخير، ودل سخاؤه على زهده وقلة حبه للدنيا وليس الزهد فقد المال؛ وإنما الزهد فراغ القلب عنه،ولقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزهاد. ويدل على احتقاره للدنيا ما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: رأيت على باب مالك كراعاً من أفراس خراسان ويقال مصر ما رأيت أحسن منه فقلت لمالك رحمه الله: ما أحسنه فقال: هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله، فقلت: دع لنفسك منها دابة تركبها فقال: إني أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبـي الله بحافر دابة. فانظر إلى سخائه إذ وهب جميع ذلك دفعة واحدة وإلى توقيره لتربة المدينة. ويدل على إرادته بالعلم وجه الله تعالى واستحقاره للدنيا: ما روي أنه قال دخلت على هارون الرشيد فقال لي: يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبـياننا منك الموطأ. قال: فقلت أعز الله مولانا الأمير، إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعززتموه عزَّ وإن أنتم أذللتموه ذلَّ والعلم يؤتى ولا يأتي، فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس.
وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى؛ فلقد كان أيضاً عابداً زاهداً عارفاً بالله تعالى، خائفاً منه، مريداً وجه الله تعالى بعلمه، فأما كونه عابداً فيعرف بما روي عن ابن المبارك أنه قال: كان أبو حنيفة رحمه الله له مروءة وكثرة صلاة. وروى حماد بن أبـي سليمان أنه كان يحيـي الليل كله. وروي أنه كان يحيـي نصف الليل فمرّ يوماً في طريق فأشار إليه إنسان وهو يمشي فقال لآخر: هذا هو الذي يحيـي الليل كله، فلم يزل بعد ذلك يحيـي الليل كله وقال: أنا أستحي من الله سبحانه أن أوصف بما ليس فيَّ من عبادته.
وأما زهده، فقد روي عن الربـيع بن عاصم قال: أرسلني يزيد بن عمر بن هبـيرة فقدمت بأبـي حنيفة عليه، فأراده أن يكون حاكماً على بـيت المال فأبى، فضربه عشرين سوطاً. فانظر كيف هرب من الولاية واحتمل العذاب قال الحكم بن هشام الثقفي: حدثت بالشام حديثاً في أبـي حنيفة أنه كان من أعظم الناس أمانة وأراده السلطان على أن يتولى مفاتيح خزائنه أو يضرب ظهره فاختار عذابهم له على عذاب الله تعالى. وروي أنه ذكر أبو حنيفة عند ابن المبارك، فقال: أتذكرون رجلاً عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففرّ منها. وروي عن محمد بن شجاع عن بعض أصحابه أنه قيل لأبـي حنيفة: قد أمر لك أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور بعشرة آلاف درهم. قال: فما رضي أبو حنيفة، قال: فلما كان اليوم الذي توقع أن يؤتى بالمال فيه صلى الصبح ثم تغشى بثوبه فلم يتكلم، فجاء رسول الحسن بن قحطبة بالمال، فدخل عليه، فلم يكلمه،فقال بعض من حضر: ما يكلمنا إلا بالكلمة بعد الكلمة، أي هذه عادته. فقال: ضعوا المال في هذا الجراب في زاوية البـيت، ثم أوصى أبو حنيفة بعد ذلك بمتاع بـيته وقال لابنه: إذا مت ودفنتموني فخذ هذه البدرة واذهب بها إلى الحسن بن قحطبة فقل له خذ وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة. قال ابنه: ففعلت ذلك، فقال الحسن: رحمة الله على أبـيك فلقد كان شحيحاً على دينه. وروي أنه دعي إلى ولاية القضاء فقال: أنا لا أصلح لهذا، فقيل له: لم؟ فقال: إن كنت صادقاً فما أصلح لها، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح للقضاء. وأما علمه بطريق الآخرة وطريق أمور الدين ومعرفته بالله عز وجل فيدل عليه شدّة خوفه من الله تعالى وزهده في الدنيا، وقد قال ابن جريج: قد بلغني عن كوفيكم هذا النعمان بن ثابت أنه شديد الخوف لله تعالى. وقال شريك النخعي: كان أبو حنيفة طويل الصمت دائم الفكر قليل المحادثة للناس، فهذا من أوضح الأمارات على العلم الباطني والاشتغال بمهمات الدين، فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله، فهذه نبذة من أحوال الأئمة الثلاثة.
وأما الإمام أحمد بن حنبل وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى فأتباعهما أقل من أتباع هؤلاء، وسفيان أقل أتباعاً من أحمد، ولكن اشتهارهما بالورع والزهد أظهر، وجميع هذا الكتاب مشحون بحكايات أفعالهما وأقوالهما فلا حاجة إلى التفصيل الآن، فانظر الآن في غير هؤلاء الأئمة الثلاثة وتأمل أن هذه الأحوال والأقوال والأفعال في الإعراض عن الدنيا والتجرّد لله عز وجل هل يثمرها مجرّد العلم بفروع الفقه من معرفة السلم والإجارة والظهار والإيلاء واللعان، أو يثمرها علم آخر أعلى وأشرف منه، وانظر إلى الذين ادعوا الاقتداء بهؤلاء أصدقوا في دعواهم أم لا؟.
الباب الثالث فيما يعده العامة من العلوم المحمودة وليس منها
وفيه بـيان الوجه الذي قد يكون به بعض العلوم مذموماً وبـيان تبديل أسامي العلوم، وهو الفقه والعلم والتوحيد والتذكير والحكمة وبـيان القدر المحمود من العلوم الشرعية والقدر المذموم منها.
بـيان علة ذم العلم المذموم:
لعلك تقول: العلم هو معرفة الشيء على ما هو به وهو من صفات الله تعالى، فكيف يكون الشيء علماً ويكون مع كونه علماً مذموماً؟ فاعلم أن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة:
الأول: أن يكون مؤدياً إلى ضرر إما لصاحبه أو لغيره، كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق، إذ شهد القرآن له وأنه سبب يتوصل به إلى التفرقة بـين الزوجين، وقد سحر رسول الله ومرض بسببه حتى أخبره جبريل عليه السلام بذلك وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر، وهو نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابـية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الجواهر هيكل على صورة الشخص المسحور ويرصد به وقت مخصوص من المطالع وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستعانة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله تعالى العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور، ومعرفة هذه الأسباب من حيث إنها معرفة ليست بمذمومة ولكنها ليست تصلح إلا للإضرار بالخلق والوسيلة إلى الشر شر، فكان ذلك هو السبب في كونه علماً مذموماً، بل من اتبع ولياً من أولياء الله ليقتله وقد اختفى منه في موضع حريز إذا سأل الظالم عن محله لم يجز تنبـيهه عليه؛ بل وجب الكذب فيه؛ وذكر موضعه إرشاد وإفادة علم بالشيء على ما هو عليه، ولكنه مذموم لأدائه إلى الضرر.
الثاني: أن يكون مضراً بصاحبه في غالب الأمر، كعلم النجوم، فإنه في نفسه غير مذموم لذاته، إذ هو قسمان: قسم حسابـي، وقد نطق القرآن بأن مسير الشمس والقمر محسوب، إذ قال عز وجل: {الشَّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} وقال عز وجل: {والقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كالْعُرْجُونِ القَدِيمِ} . والثاني: الأحكام، وحاصله يرجع إلى الاستدلال على الحوادث بالأسباب وهو يضاهي استدلال الطبـيب بالنبض على ما سيحدث من المرض، وهو معرفة لمجاري سنّة الله تعالى وعادته في خلقه ولكن قد ذمه الشرع.
قال : «إِذَا ذُكِرَ القَدَرُ فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِـي فَأَمْسِكُوا» . وقال : «أَخَافُ عَلَىٰ أُمَّتِي بَعْدِي ثَلاثاً: حَيْفَ الأَئِمَّةِ، وَالإِيمَانَ بِالنُّجُومِ، وَالتَّكْذِيبَ بِالقَدَرِ» . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البر والبحر ثم أمسكوا، وإنما زجر عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مضر بأكثر الخلق، فإنه إذا ألقى إليهم أن هذه الآثار تحدث عقيب سير الكواكب، وقع في نفوسهم أن الكواكب هي المؤثرة، وأنها الآلهة المدبرة لأنها جواهر شريفة سماوية، ويعظم وقعها في القلوب فيبقى القلب ملتفتاً إليها، ويرى الخير والشر محذوراً أو مرجوّاً من جهتها، وينمحي ذكر الله سبحانه عن القلب، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط، والعالم الراسخ هو الذي يطلع على أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه وتعالى، ومثال نظر الضعيف إلى حصول ضوء الشمس عقيب طلوع الشمس، مثال النملة لو خلق لها عقل وكانت على سطح قرطاس وهي تنظر إلى سواد الخط يتجدّد، فتعتقد أنه فعل القلم ولا تترقى في نظرها إلى مشاهدة الأصابع، ثم منها إلى اليد، ثم منها إلى الإرادة المحركة اليد، ثم منها إلى الكاتب القادر المريد، ثم منه إلى خالق اليد والقدرة والإرادة؛ فأكثر نظر الخلق مقصور على الأسباب القريبة السافلة. مقطوع من الترقي إلى مسبب الأسباب؛ فهذا أحد أسباب النهي عن النجوم.
وثانيها: أن أحكام النجوم تخمين محض ليس يدرك في حق آحاد الأشخاص لا يقيناً ولا ظناً، فالحكم به حكم بجهل، فيكون ذمه على هذا من حيث إنه جهل لا من حيث إنه علم، فلقد كان ذلك معجزة لإدريس عليه السلام فيما يحكى وقد اندرس وانمحى ذلك العلم وانمحق، وما يتفق من إصابة المنجم على ندور فهو اتفاق لأنه قد يطلع على بعض الأسباب ولا يحصل المسبب عقيبها إلا بعد شروط كثيرة ليس في قدرة البشر الاطلاع على حقائقها، فإن اتفق أن قدّر الله تعالى بقية الأسباب وقعت الإصابة، وإن لم يقدر أخطأ، ويكون ذلك كتخمين الإنسان في أن السماء تمطر اليوم مهما رأى الغيم يجتمع وينبعث من الجبال فيتحرّك ظنه بذلك، وربما يحمى النهار بالشمس ويذهب الغيم، وربما يكون بخلافه، ومجرّد الغيم ليس كافياً في مجيء المطر وبقية الأسباب لا تدرى، وكذلك تخمين الملاح أن السفينة تسلم اعتماداً على ما ألفه من العادة في الرياح ولتلك الرياح أسباب خفية هو لا يطلع عليها،فتارة يصيب في تخمينه وتارة يخطىء، ولهذه العلة يمنع القول عن النجوم أيضاً.
وثالثها: أنه لا فائدة فيه، فأقل أحواله أنه خوض في فضول لا يغني وتضيـيع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان في غير فائدة وذلك غاية الخسران؛ فقد مرَّ رسول الله برجل والناس مجتمعون عليه فقال: «ما هذا؟ فقالوا: رجل علاَّمة. فقال: بماذا؟ قالوا بالشعر وأنساب العرب. فقال: علم لا ينفع وجهل لا يضر» . وقال : «إِنَّما العِلْمُ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» . فإذن الخوض في النجوم وما يشبهه اقتحام خطر وخوض في جهالة من غير فائدة، فإن ما قدّر كائن، والاحتراز منه غير ممكن، بخلاف الطب فإن الحاجة ماسة إليه وأكثر أدلته بما يطلع عليه، وبخلاف التعبـير وإن كان تخميناً لأنه جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة ولا خطر فيه.
السبب الثالث: الخوض في علم لا يستفيد الخائض فيه فائدة علم، فهو مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها، وخفيها قبل جليها، وكالبحث عن الأسرار الإلهية، إذ تطلع الفلاسفة والمتكلمون إليها ولم يستقلوا بها، ولم يستقل بها وبالوقوف على طرق بعضها إلا الأنبـياء والأولياء، فيجب كف الناس عن البحث عنها وردّهم إلى ما نطق به الشرع، ففي ذلك مقنع للموفق، فكم من شخص خاض في العلوم واستضر بها ولو لم يخض فيها لكان حاله أحسن في الدين مما صار إليه ولا ينكر كون العلم ضاراً لبعض الناس كما يضر لحم الطير وأنواع الحلوى اللطيفة بالصبـي الرضيع، بل رب شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور، فلقد حكي أن بعض الناس شكا إلى طبـيب عقم امرأته وأنها لا تلد، فجسّ الطبـيب نبضها وقال: لا حاجة لك إلى دواء الولادة فإنك ستموتين إلى أربعين يوماً، وقد دل النبض عليه، فاستشعرت المرأة الخوف العظيم وتنغص عليها عيشها، وأخرجت أموالها وفرقتها، وأوصت، وبقيت لا تأكل ولا تشرب حتى انقضت المدة فلم تمت، فجاء زوجها إلى الطبـيب وقال له: لم تمت، فقال الطبـيب: قد علمت ذلك فجامعها الآن فإنها تلد؛ فقال: كيف ذاك؟ قال: رأيتها سمينة وقد انعقد الشحم على فم رحمها، فعلمت أنها لا تهزل إلا بخوف الموت، فخوفتها بذلك حتى هزلت وزال المانع من الولادة. فهذا ينبهك على استشعار خطر بعض العلوم ويفهمك معنى قوله : «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ» . فاعتبر بهذه الحكاية ولا تكن بحاثاً عن علوم ذمها الشرع وزجر عنها،ولازم الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واقتصر على اتباع السنة، فالسلامة في الاتباع، والخطر في البحث عن الأشياء والاستقلال، ولا تكثر اللجج برأيك ومعقولك ودليلك وبرهانك وزعمك أني أبحث عن الأشياء لأعرفها على ما هي عليه، فأي ضرر في التفكر في العلم فإن ما يعود عليك من ضرره أكثر، وكم من شيء تطلع عليه فيضرك اطلاعك عليه ضرراً يكاد يهلكك في الآخرة إن لم يتداركك الله برحمته.
واعلم أنه كما يطلع الطبـيب الحاذق على أسرار في المعالجات يستبعدها من لا يعرفها فكذلك الأنبـياء أطباء القلوب والعلماء بأسباب الحياة الأخروية، فلا تتحكم على سننهم بمعقولك فتهلك، فكم من شخص يصيبه عارض في أصبعه فيقتضي عقله أن يطليه، حتى ينبهه الطبـيب الحاذق أن علاجه بطلي الكف من الجانب الآخر من البدن فيستبعد ذلك غاية الاستبعاد من حيث لا يعلم كيفية انشعاب الأعصاب ومنابتها ووجه التفافها على البدن؟ فهكذا الأمر في طريق الآخرة، وفي دقائق سنن الشرع وآدابه، وفي عقائده التي تعبد الناس بها أسرار ولطائف ليست في سعة العقل وقوته الإحاطة بها، كما أن في خواص الأحجار أموراً عجائب غاب عن أهل الصنعة علمها حتى لم يقدر أحد على أن يعرف السبب الذي به يجذب المغناطيس الحديد؛ فالعجائب والغرائب في العقائد والأعمال، وإفادتها لصفاء القلوب ونقائها وطهارتها وتزكيتها وإصلاحها للترقي إلى جوار الله تعالى وتعرضها لنفحات فضله أكثر وأعظم مما في الأدوية والعقاقير، وكما أن العقول تقصر عن إدراك منافع الأدوية مع أن التجربة سبـيل إليها؛ فالعقول تقصر عن إدراك ما ينفع في حياة الآخرة مع أن التجربة غير متطرقة إليها، وإنما كانت التجربة تتطرق إليها لو رجع إلينا بعض الأموات فأخبرنا عن الأعمال المقبولة النافعة المقربة إلى الله تعالى زلفى وعن الأعمال المبعدة عنه، وكذا عن العقائد، وذلك مما لا يطمع فيه فيكفيك من منفعة العقل أن يهديك إلى صدق النبـيّ ويفهمك موارد إشاراته، فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرف ولازم الاتباع فلا تسلم إلا به والسلام؛ ولذلك قال : «إِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلاً وَإِنَّ مِنَ القَوْلِ عِيّاً» ، ومعلوم أن العلم لا يكون جهلاً ولكنه يؤثر تأثير الجهل في الإضرار. وقال أيضاً : «قَلِيلٌ مِنَ التَّوْفِيقِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ العِلْمِ» ، وقال عيسى عليه السلام: ما أكثر الشجر وليس كلها بمثمر وليس كلها بطيب،وما أكثر العلوم وليس كلها بنافع.
بـيان ما بدل من ألفاظ العلوم:
اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة وتبديلها ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول، وهي خمسة ألفاظ: الفقه، والعلم،والتوحيد، والتذكير، والحكمة؛ فهذه أسام محمودة، والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين، ولكنها نقلت الآن إلى معان مذمومة، فصارت القلوب تنفر عن مذمة من يتصف بمعانيها لشيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم.
اللفظ الأول: الفقه؛ فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل؛ إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها؛ فمن كان أشد تعمقاً فيها وأكثر اشتغالاً بها يقال هو الأفقه، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب؛ ويدلك عليه قوله عزوجل: {ليَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة؛ فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له. وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا} وأراد به معاني الإيمان دون الفتاوى؛ ولعمري إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنًى واحد، وإنما يتكلم في عادة الاستعمال به قديماً وحديثاً. قال تعالى: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} الآية؛ فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه؛ فانظر إن كان ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى، أو هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم. وقال : «عُلَمَاء حُكَمَاء فُقَهَاء» للذين وفدوا عليه. وسئل سعد بن إبراهيم الزهري رحمه الله أي أهل المدينة أفقه؟ فقال: أتقاهم لله تعالى؛ فكأنه أشار إلى ثمرة الفقه، والتقوى ثمرة العلم الباطني دون الفتاوى والأقضية. وقال : «أَلاَّ أُنْبِئُكُمْ بِالفَقِيهِ كُلِّ الفَقِيهِ؟» قالوا: بلى، قال: «مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رُوحِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَع القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَىٰ ما سِوَاهُ» ولما روى أنس بن مالك قوله : «لأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَىٰ مِنْ غَدْوَةٍ إِلَىٰ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَ رِقابٍ» قال: فالتفت إلى زيد الرقاشي وزياد النميري وقال: لم تكن مجالس الذكر مثل مجالسكم هذه يقص أحدكم وعظه على أصحابه ويسرد الحديث سرداً، إنما كنا نقعد فنذكر الإيمان ونتدبر القرآن ونتفقه في الدين ونعد نعم الله علينا تفقهاً، فسمى تدبر القرآن وعدّ النعم تفقهاً. قال : «لا يَفْقَهُ العَبْدُ كُلَّ الفِقْهِ حَتَّىٰ يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَحَتَّىٰ يَرَىٰ لِلْقُرْآنِ وُجُوهاً كَثِيرَةً» وروي أيضاً موقوفاً على أبـي الدرداء رضي الله عنه مع قوله: «ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتاً» وقد سأل فرقد السبخي الحسن عن الشيء فأجابه، فقال: إن الفقهاء يخالفونك؛ فقال الحسن رحمه الله: ثكلتك أمك فريقد، وهل رأيت فقيهاً بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكافّ نفسه عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم؛ ولم يقل في جميع في ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى، ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول أو بطريق الاستتباع؛ فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر. فبان من هذا التخصيص تلبـيس بعث الناس على التجرّد له والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلوب، ووجدوا على ذلك معيناً من الطبع، فإن علم الباطن غامض والعمل به عسير، والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال متعذر، فوجد الشيطان مجالاً لتحسين ذلك في القلوب بواسطة تخصيص اسم الفقه الذي هو اسم محمود في الشرع.
اللفظ الثاني: العلم؛ وقد كان يطلق ذلك على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه، حتى أنه لما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود رحمه الله: لقد مات تسعة أعشار العلم. فعرّفه بالألف واللام ثم فسره العلم بالله سبحانه وتعالى، وقد تصرفوا فيه أيضاً بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها؛ فيقال: هو العالم على الحقيقة، وهو الفحل في العلم، ومن لا يمارس ذلك ولا يشتغل به يعدّ من جملة الضعفاء ولا يعدونه في زمرة أهل العلم. وهذا أيضاً تصرف بالتخصيص، ولكن ما ورد من فضائل العلم أكثره في العلماء بالله تعالى وبأحكامه وبأفعاله وصفاته. وقد صار الآن مطلقاً على من لا يحيط من علوم الشرع بشيء سوى رسوم جدلية في مسائل خلافية، فيعدّ بذلك من فحول العلماء مع جهله بالتفسير والأخبار وعلم المذهب وغيره، وصار ذلك سبباً مهلكاً لخلق كثير من أهل الطلب للعلم.
اللفظ الثالث: التوحيد؛ وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدّق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات، حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسمى المتكلمون العلماء بالتوحيد، مع أنّ جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأوّل بل كان يشتدّ منهم النكير على من كان يفتح باباً من الجدل والمماراة؛ فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أوّل السماع فلقد كان ذلك معلوماً للكل، وكان العلم بالقرآن هو العلم كله، وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين، وإن فهموه لم يتصفوا به: وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله؛ فهذا مقام شريف إحدى ثمراته التوكل كما سيأتي بـيانه في كتاب التوكل. ومن ثمراته أيضاً ترك شكاية الخلق، وترك الغضب عليهم، والرضا والتسليم لحكم الله تعالى. وكانت إحدى ثمراته قول أبـي بكر الصدّيق رضي الله عنه لما قيل له في مرضه أنطلب لك طبـيباً فقال: الطبـيب أمرضني، وقول آخر لما مرض فقيل له ماذا قال لك الطبـيب في مرضك؟ فقال: قال لي إني فعَّال لما أريد. وسيأتي في كتاب التوكل وكتاب التوحيد شواهد ذلك.
والتوحيد جوهر نفيس وله قشران: أحدهما أبعد عن اللب من الآخر، فخصص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية؛ فالقشر الأوّل: هو أن تقول بلسانك لا إلٰه إلا لله، وهذا يسمى توحيداً مناقضاً للتثليث الذي صرح به النصارى، ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره. والقشر الثاني: أن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول، بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده وكذلك التصديق به وهو توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن تشويش المبتدعة. والثالث: وهو اللباب ـ أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط، وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره، ويخرج عن هذا التوحيد أتباع الهوى، فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده. قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ} . وقال : «أَبْغَضُ إِلٰهٍ عُبِدَ فِي الأَرْضِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَىٰ هُوَ الهَوَىٰ» . وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم وإنما يعبد هواه، إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى، ويخرج من هذا التوحيد التسخط على الخلق والالتفات إليهم، فإنّ من يرى الكل من الله عز وجل كيف يتسخط على غيره، فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصدّيقين، فانظر إلى ماذا حوّل وبأي قشر قنع منه، وكيف اتخذوا هذا معتصماً في التمدح والتفاخر بما اسمه محمود مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحق الحمد الحقيقي، وذلك كإفلاس من يصبح بكرة ويتوجه إلىالقبلة ويقول: وَجّهْتُ وَجْهِي لِلَّذي فَطَرَ السَّمٰواتِ والأَرْضَ حَنِيفاً وهو أوّل كذب يفاتح الله به كل يوم إن لم يكن وجه قلبه متوجهاً إلى الله تعالى على الخصوص: فإنه إن أراد بالوجه وجه الظاهر فما وجهه إلا إلى الكعبة وما صرفه إلا عن سائر الجهات، والكعبة ليست جهة للذي فطر السموات والأرض حتى يكون المتوجه إليها متوجهاً إليه، تعالى عن أن تحدّه الجهات والأقطار. وإن أراد به وجه القلب وهو المطلوب المتعبد به فكيف يصدق في قوله وقلبه متردّد في أوطاره وحاجاته الدنيوية ومتصرف في طلب الحيل في جمع الأموال والجاه واستكثار الأسباب، ومتوجه بالكلية إليها، فمتى وجه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهذه الكلمة خبر عن حقيقة التوحيد، فالموحد هو الذي لا يرى إلا الواحد ولا يوجه وجهه إلا إليه، وهو امتثال قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} وليس المراد به القول باللسان، فإنما اللسان ترجمان يصدق مرة ويكذب أخرى. وإنما موقع نظر الله تعالى المترجم عنه هو القلب، وهو معدن التوحيد ومنبعه. اللفظ الرابع: الذكر والتذكير، فقد قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فإنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنينَ} وقد ورد في الثناء على مجالس الذكر أخبار كثيرة كقوله : «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا» . قيل: وما رياض الجنة؟ قال: «مَجَالِسُ الذِّكْرِ» وفي الحديث: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَىٰ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الدُّنْيا سِوَىٰ مَلائِكَةِ الخَلْقِ إِذَا رَأَوْا مَجَالِسَ الذِّكْرِ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً أَلاّ هَلُمُّوا إِلَىٰ بُغْيَتِكُمْ فَيَأْتُونَهُمْ وَيَحُفُّونَ بِهِمْ وَيَسْتَمِعُونَ. أَلا فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَذَكِّرُوا أَنْفُسَكُمْ» ، فنقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعاظ في هذا الزمان يواظبون عليه وهو القصص والأشعار والشطح والطامات، أما القصص فهي بدعة، وقد ورد نهي السلف عن الجلوس إلى القصاص وقالوا: لم يكن ذلك في زمن رسول الله ، ولا في زمن أبـي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، حتى ظهرت الفتنة وظهر القصاص. وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما خرج من المسجد فقال: ما أخرجني إلا القاصّ ولولاه لما خرجت. وقال ضمرة: قلت لسفيان الثوري نستقبل القاص بوجوهنا؟ فقال: ولّوا البدع ظهوركم، وقال ابن عون: دخلت على ابن سيرين فقال: ما كان اليوم من خبر؟ فقلت: نهى الأمير القصّاص أن يقصوا. فقال: وفق للصواب. ودخل الأعمش جامع البصرة فرأى قاصّاً يقصّ ويقول: حدّثنا الأعمش، فتوسط الحلقة وجعل ينتف شعر إبطه، فقال القاصّ: يا شيخ، ألا تستحي فقال: لم؟ أنا في سنة وأنت في كذب، أنا الأعمش وما حدّثتك. وقال أحمد: أكثر الناس كذباً القصاص والسؤال. وأخرج علي رضي الله عنه القصاص من مسجد جامع البصرة، فلما سمع كلام الحسن البصري لم يخرجه إذ كان يتكلم في علم الآخرة والتفكير بالموت والتنبـيه على عيوب النفس وآفات الأعمال وخواطر الشيطان ووجه الحذر منها ويذكر بآلاء الله ونعمائه وتقصير العبد في شكره ويعرّف حقارة الدنيا وعيوبها وتصرمها ونكث عهدها وخطر الآخرة وأهوالها، فهذا هو التذكير المحمود شرعاً الذي روي الحث عليه في حديث أبـي ذرّ رضي الله عنه حيث قال: «حُضُور مَجْلِسِ ذِكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ. وَحُضُورُ مَجْلِسِ عِلْمٍ أَفْضَلُ مِنْ عِيَادَةِ أَلْفِ مَرِيضٍ، وَحُضُورُ مَجْلِسِ عِلْمٍ أَفْضَلُ مِنْ شُهُودِ أَلْفِ جَنَازَةٍ،فَقِيلَ: يَا رَسُولَ ااِ، ومِنْ قِرَاءَةِ الْقُرآنِ قَالَ: وَهَلْ تَنْفَعُ قِرَاءَةُ القُرآَنِ إِلاَّ بِالْعِلْمِ» ، وقال عطاء رحمه الله: مجلس ذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو، فقد اتخذ المزخرفون هذه الأحاديث حجة على تزكية أنفسهم، ونقلوا اسم التذكير إلى خرافاتهم، وذهلوا عن طريق الذكر المحمود، واشتغلوا بالقصص التي تتطرّق إليها الاختلافات والزيادة والنقص وتخرج عن القصص الواردة في القرآن وتزيد عليها، فإن من القصص ما ينفع سماعه، ومنها ما يضر وإن كان صدقاً. ومن فتح ذلك الباب على نفسه اختلط عليه الصدق بالكذب والنافع بالضارّ، فمن هذا نهي عنه، ولذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله: ما أحوج الناس إلى قاص صادق، فإن كانت القصة من قصص الأنبـياء عليهم السلام فيما يتعلق بأمور دينهم وكان القاصّ صادقاً صحيح الرواية فلست أرى به بأساً، فليحذر الكذب وحكايات أحوال تومىء إلى هفوات أو مساهلات يقصر فهم العوام عن درك معانيها أو عن كونها هفوة نادرة مردفة بتفكيرات متدراكة بحسنات تغطي عليها، فإن العامي يعتصم بذلك في مساهلاته وهفواته، ويمهد لنفسه عذراً فيه، ويحتج بأنه حكي كيت وكيت عن بعض المشايخ وبعض الأكابر، فكلنا بصدد المعاصي، فلا غرو إن عصيت الله تعالى فقد عصاه من هو أكبر مني، ويفيده ذلك جرأة على الله تعالى من حيث لا يدري،فبعد الاحتراز عن هذين المحذورين فلا بأس به، وعند ذلك يرجع إلى القصص المحمودة وإلى ما يشتمل عليه القرآن، ويصح في الكتب الصحيحة من الأخبار، ومن الناس من يستجيز وضع الحكايات المرغبة في الطاعات ويزعم أن قصده فيها دعوة الخلق إلى الحق، فهذه من نزعات الشيطان، فإن في الصدق مندوحة عن الكذب، وفيما ذكر الله تعالى ورسوله غنية عن الاختراع في الوعظ، كيف وقد كره تكلف السجع وعدّ ذلك من التصنع. قال سعد بن أبـي وقاص رضي الله عنه لابنه عمر - وقد سمعه يسجع -: هذا الذي يبغضك إلي لاقضيت حاجتك أبداً حتى تتوب -وقد كان جاءه في حاجة ــــ وقد قال لعبد الله بن رواحة في سجع من ثلاث كلمات: «إِيَّاكَ وَالسَّجْعَ يا ابْنَ رَوَاحَةَ» فكأن السجع المحذور المتكلف ما زاد على كلمتين: ولذلك لما قال الرجل في دية الجنين: كيف ندّي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك يطل. فقال النبـي «أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ» وأما الأشعار فتكثيرها في المواعظ مذموم. قال الله تعالى: {والشُّعَرَاءُ يَتَّبعُهُمُ الغاوونَ ألمْ تَرَ أنَّهُمْ في كُلِّ وادٍ يَهيمُونَ} وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وأكثر ما اعتاده الوعاظ من الأشعار: ما يتعلق بالتواصف في العشق وجمال المعشوق وروح الوصال وألم الفراق، والمجلس لا يحوي إلا أجلاف العوام، وبواطنهم مشحونة بالشهوات، وقلوبهم غير منفكة عن الالتفات إلى الصور المليحة؛ فلا تحرك الأشعار من قلوبهم إلا ما هو مستكن فيها فتشتعل فيها نيران الشهوات، فيزعقون ويتواجدون؛ وأكثر ذلك أو كله يرجع إلى نوع فساد، فلا ينبغي أن يستعمل من الشعر إلا ما فيه موعظة أو حكمة على سبـيل استشهاد واستئناس. وقد قال : «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» ولو حوى المجلس الخواص الذين وقع الاطلاع على استغراق قلوبهم بحب الله تعالى ولم يكن معهم غيرهم، فإن أولئك لا يضر معهم الشعر الذي يشير ظاهره إلى الخلق، فإن المستمع ينزل كل ما يسمعه على ما يستولي على قلبه، كما سيأتي تحقيق ذلك في كتاب السماع، ولذلك كان الجنيد رحمه الله يتكلم على بضعة عشر رجلاً، فإن كثروا لم يتكلم، وما تم أهل مجلسه قط عشرين. وحضر جماعة باب دار ابن سالم، فقيل له: تكلم فقد حضر أصحابك، فقال: لا، ما هؤلاء أصحابـي، إنما هم أصحاب المجلس، إن أصحابـي هم الخواص. وأما الشطح: فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية. أحدهما: الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا كذا، وقلنا كذا، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله أنا الحق، وبما حكي عن أبـي يزيد البسطامي أنه قال: سبحاني سبحاني، وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوى، فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبـياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة، ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل، والعلم حجاب، والجدل عمل النفس، وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق،فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره، حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة، وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه، فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه، كما لو سمع وهو يقول: «إنني أنا الله لا إلٰه إلاّ أنا فاعبدني» فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبـيل الحكاية.
الصنف الثاني: من الشطح كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل، وذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر. وإما أن تكون مفهومة وله ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره، لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبـير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة، ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان، أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه. وقد قال : «ما حَدَّثَ أَحَدُكُمْ قَوْماً بِحَدِيثٍ لا يَفْقَهُونَهُ إِلاَّ كَانَ فِتْنَةً عَلَيْهِمْ» ، وقال : «كَلِّمُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا ما يُنْكِرُونَ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟» وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع، فكيف فيما لا يفهمه قائله. فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحل ذكره. وقال عيسى عليه السلام: لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبـيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء. وفي لفظ آخر: من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل، ومن منعها أهلها فقد ظلم؛ إن للحكمة حقاً وإن لها أهلاً، فأعط كل ذي حق حقه.
وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح؛ وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة، كدأب الباطنية في التأويلات؛ فهذا أيضاً حرام وضرره عظيم؛ فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله ؛ فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له، بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى؛ وهذا أيضاً من البدع الشائعة العظيمة الضرر، وإنما قصد أصحابها الإغراب؛ لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة له؛ وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم كما حكيناه من مذاهبهم في كتاب المستظهر المصنف في الرد على الباطنية: ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: {اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أنه إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان. وفي قوله تعالى: {وأنْ ألْقِ عَصَاكَ} أي ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه. وفي قوله : «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحورِ بَرَكَةً» أراد به الاستغفار في الأسحار وأمثال ذلك حتى يحرفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره، وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعاً، كتنزيل فرعون على القلب؛ فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى له، كأبـي جهل وأبـي لهب وغيرهما من الكفار وليس من جنس الشياطين والملائكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه، وكذا حمل السحور على الاستغفار، فإنه كان يتناول الطعام ويقول: «تَسَحَّرُوا» و «هَلُمُّوا إِلَىٰ الغِذَاءِ المُبَارَكِ» فهذه أمور تدرك بالتواتر والحس بطلانها نقلاً، وبعضها يعلم بغالب الظن، وذلك في أمور لا يتعلق بها الإحساس؛ فكل ذلك حرام وضلالة وإفساد للدين على الخلق، ولم ينقل شيء من ذلك عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الحسن البصري مع إكبابه على دعوة الخلق ووعظهم، فلا يظهر لقوله : «مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» معنى إلا هذا النمط: وهو أن يكون غرضه ورأيه تقرير أمر وتحقيقه، فيستجر شهادة القرآن إليه، ويحمله عليه، من غير أن يشهد لتنزيله عليه دلالة لفظية لغوية أو نقلية، ولا ينبغي أن يفهم منه أنه يجب أن لا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر، فإن من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة والمفسرين خمسة معان وستة وسبعة. ونعلم أن جميعها غير مسموع من النبـي ، فإنها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع، فيكون ذلك مستنبطاً بحسن الفهم وطول الفكر،ولهذا قال لابن عباس رضي الله عنه: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» . ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ، ويزعم أنه يقصد بها دعوة الخلق إلى الخالق يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع على رسول الله لما هو في نفسه حق ولكن لم ينطق به الشرع، كمن يضع في كل كل مسألة يراها حقاً حديثاً عن النبـي فذلك ظلم وضلال ودخول في الوعيد المفهوم من قوله : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم، لأنها مبطلة للثقة بالألفاظ، وقاطعة طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية فقد عرفت كيف صرف الشيطان دواعي الخلق عن العلوم المحمودة إلى المذمومة، فكل ذلك من تلبـيس علماء السوء بتبديل الأسامي، فإن اتبعت هؤلاء اعتماداً على الاسم المشهور من غير التفات إلى ما عرف في العصر الأول كنت كمن طلب الشرف بالحكمة باتباع من يسمى حكيماً، فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبـيب والشاعر والمنجم في هذا العصر، وذلك بالغفلة عن تبديل الألفاظ.
اللفظ الخامس: وهو الحكمة، فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبـيب والشاعر والمنجم حتى على الذي يدحرج القرعة على أكف السوادية في شوارع الطرق. والحكمة هي التي أثنى الله عز وجلّ عليها فقال تعالى: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِي خَيْراً كَثيراً} وقال : «كَلِمَةٌ مِنَ الحِكْمَةِ يَتَعَلَّمُها الرَّجُلُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيهَا» ، فانظر ما الذي كانت الحكمة عبارة عنه، وإلى ماذا نقل، وقس به بقية الألفاظ واحترز عن الاغترار بتلبـيسات علماء السوء، فإن شرهم على الدين أعظم من شر الشياطين، إذ الشيطان بواسطتهم يتدرج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق، ولهذا لما سئل رسول الله عن شر الخلق أبى وقال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ» حتى كرّروا عليه فقال: «هُمْ عُلَمَاءُ السُّوءِ» ، فقد عرفت العلم المحمود والمذموم ومثار الالتباس وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف. أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف، فكل ما ارتضاه السلف من العلوم قد اندرس، وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع ومحدث،وقد صح قول رسول الله : «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَىٰ لِلْغُرَبَاءِ» ، فقيل: ومن الغرباء؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ ما أَفْسَدَهُ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي وَالَّذِينَ يُحْيُونَ ما أَمَاتُوهُ مِنْ سُنَّتِي» وفي آخر: «هُم المُتَمَسِّكُونَ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ اليَوْمَ» وفي حديث آخر: «الغُرَبَاءُ نَاسٌ قَلِيلٌ صَالِحُونَ بَـيْنَ نَاسٍ كَثِيرٍ، مَنْ يُبْغِضُهُمْ فِي الخَلْقِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ» وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذاكرها، ولذلك قال الثوري رحمه الله: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط، لأنه إن نطق بالحق أبغضوه.
بـيان القدر المحمود من العلوم المحمودة:
اعلم أن العلم بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام: قسم هو مذموم قليله وكثيره، وقسم هو محمود قليله وكثيره، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل، وقسم يحمد منه مقدار الكفاية ولا يحمد الفاضل عليه والاستقصاء فيه، وهو مثل أحوال البدن، فإن منها ما يحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال، ومنها ما يذم قليله وكثيره كالقبح وسوء الخلق، ومنها ما يحمد الاقتصاد فيه كبذل المال فإنّ التبذير لا يحمد فيه وهو بذل، وكالشجاعة فإن التهور لا يحمد فيها، وإن كان من جنس الشجاعة فكذلك العلم.
فالقسم المذموم منه قليله وكثيره هو ما لا فائدة فيه في دين ولا دنيا، إذ فيه ضرر يغلب نفعه كعلم السحر والطلسمات والنجوم، فبعضه لا فائدة فيه أصلاً، وصرف العمر الذي هو أنفس ما يملكه الإنسان إليه إضاعة، وإضاعة النفيس مذمومة. ومنه ما فيه ضرر يزيد على ما يظن أنه يحصل به من قضاء وطر في الدنيا، فإنّ ذلك لا يعتدّ به بالإضافة إلى الضرر الحاصل عنه.
وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله، وسنته في خلقه. وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا، فإن هذا علم مطلوب لذاته وللتوصل به إلى سعادة الآخرة، وبذل المقدور فيه إلى أقصى الجهد قصور عن حد الواجب، فإنه البحر الذي لا يدرك غوره وإنما يحوم الحائمون على سواحله وأطرافه بقدر ما يسّر لهم، وما خاض أطرافه إلا الأنبـياء والأولياء والراسخون في العلم على اختلاف درجاتهم بحسب اختلاف قوّتهم وتفاوت تقدير الله تعالى في حقهم،وهذا هو العلم المكنون الذي لا يسطر في الكتب، ويعين على التنبه له التعلم ومشاهدة أحوال علماء الآخرة، كما سيأتي علامتهم، هذا في أول الأمر ويعين عليه في الآخرة المجاهدة والرياضة وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا والتشبه فيها بالأنبـياء والأولياء، ليتضح منه لكل ساع إلى طلبه بقدر الرزق لا بقدر الجهد ولكن لا غنى فيه عن الاجتهاد، فالمجاهدة مفتاح الهداية لا مفتاح لها سواها.
وأما العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص فهي العلوم التي أوردناها في فروض الكفايات، فإن في كل علم منها اقتصاراً وهو الأقل، واقتصاداً وهو الوسط، واستقصاء وراء ذلك الاقتصاد لا مردَّ له إلى آخر العمر، فكن أحد رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك، وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك، فإن كنت المشغول بنفسك فلا تشتغل إلا بالعلم الذي هو فرض عليك بحسب ما يقتضيه حالك، وما يتعلق منه بالأعمال الظاهرة من تعلم الصلاة والطهارة والصوم، وإنما الأهم الذي أهمله الكل علم صفات القلب وما يحمد منها وما يذم، إذ لا ينفك بشر عن الصفات المذمومة مثل الحرص والحسد والرياء والكبر والعجب وأخواتها وجميع ذلك مهلكات، وإهمالها من الواجبات، مع أن الاشتغال بالأعمال الظاهرة يضاهي الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذي بالجرب والدماميل والتهاون بإخراج المادة بالفصد والإسهال، وحشوية العلماء يشيرون بالأعمال الظاهرة كما يشير الطرقية من الأطباء بطلاء ظاهر البدن، وعلماء الآخرة لا يشيرون إلا بتطهير الباطن وقطع مواد الشر بإفساد منابتها وقلع مغارسها من القلب، وإنما فزع الأكثرون إلى الأعمال الظاهرة عن تطهير القلوب لسهولة أعمال الجوارح واستصعاب أعمال القلوب، كما يفزع إلى طلاء الظاهر من يستصعب شرب الأدوية المرّة، فلا يزال يتعب في الطلاء ويزيد في المواد وتتضاعف به الأمراض، فإن كنت مريداً للآخرة وطالباً للنجاة وهارباً من الهلاك الأبدي فاشتغل بعلم العلل الباطنة وعلاجها على ما فصلناه في ربع المهلكات، ثم ينجرّ بك ذلك إلى المقامات المحمودة المذكورة في ربع المنجيات لا محالة، فإن القلب إذا فرغ من المذموم امتلأ بالمحمود؛ والأرض إذا نقيت من الحشيش نبت فيها أصناف الزرع والرياحين، وإن لم تفرغ من ذلك لم تنبت ذاك، فلا تشتغل بفروض الكفاية لا سيما وفي زمرة الخلق من قد قام بها فإن مهلك نفسه فيما به صلاح غيره سفيه، فما أشد حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب تحت ثيابه وهمت بقتله وهو يطلب مذبة يدفع بها الذباب عن غيره ممن لا يغنيه ولا ينجيه مما يلاقيه من تلك الحيات والعقارب إذا همت به.
وإن تفرغت من نفسك وتطهيرها وقدرت على ترك ظاهر الإثم وباطنه وصار ذلك ديدناً لك وعادة متيسرة فيك - وما أبعد ذلك منك - فاشتغل بفروض الكفايات وراع التدريج فيها؛ فابتدىء، بكتاب الله تعالى ثم بسنة رسول الله ، ثم بعلم التفسير وسائر علوم القرآن من علم الناسخ والمنسوخ والمفصول والموصول والمحكم والمتشابه وكذلك في السُّنة، ثم اشتغل بالفروع وهو علم المذهب من علم الفقه دون الخلاف، ثم بأصول الفقه؛ وهكذا إلى بقية العلوم على ما يتسع له العمر ويساعد فيه الوقت؛ ولا تستغرق عمرك في فن واحد منها طلباً للاستقصاء؛ فإن العلم كثير والعمر قصير، وهذه العلوم آلات ومقدمات وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها، وكل ما يطلب لغيره فلا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه؛ فاقتصر من شائع علم اللغة على ما تفهم منه كلام العرب وتنطق به، ومن غريبه على غريب القرآن وغريب الحديث ودع التعمق فيه، واقتصر من النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة فما من علم إلا وله اقتصار واقتصاد واستقصاء. ونحن نشير إليها في الحديث والتفسير والفقه والكلام لتقيس بها غيرها، فالاقتصار في التفسير ما يبلغ ضعف القرآن في المقدار كما صنفه علي الواحدي النيسابوري وهو الوجيز؛ والاقتصاد ما يبلغ ثلاثة أضعاف القرآن كما صنفه من الوسيط فيه وما وراء ذلك استقصاء مستغنًى عنه فلا مرد له إلى انتهاء العمر.
وأما الحديث فالاقتصار فيه تحصيل ما في الصحيحين بتصحيح نسخة على رجل خبـير بعلم متن الحديث.
وأما حفظ أسامي الرجال فقد كفيت فيه بما تحمله عنك من قبلك؛ ولك أن تعول على كتبهم، وليس يلزمك حفظ متون الصحيحين ولكن تحصله تحصيلاً تقدر منه على طلب ما تحتاج إليه عند الحاجة؛ وأما الاقتصاد فيه فأن تضيف إليهما ما خرج عنهما مما ورد في المسندات الصحيحة. وأما الاستقصاء فما وراء ذلك إلى استيعاب كل ما نقل من الضعيف والقوي والصحيح والسقيم مع معرفة الطرق الكثيرة في النقل ومعرفة أحوال الرجال وأسمائهم وأوصافهم.
وأما الفقه فالاقتصار فيه على ما يحويه مختصر المزني رحمه الله وهو الذي رتبناه في خلاصة المختصر، والاقتصاد فيه ما يبلغ ثلاثة أمثاله وهو القدر الذي أوردناه في الوسيط من المذهب، والاستقصاء ما أوردناه في البسيط إلى ما وراء ذلك من المطولات..
وأما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير؛ وما وراء ذلك طلب لكشف حقائق الأمور من غير طريقتها،ومقصود حفظ السنة تحصيل رتبة الاقتصار منه بمعتقد مختصر؛ وهو القدر الذي أوردناه في كتاب قواعد العقائد من جملة هذا الكتاب، والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة وهو الذي أوردناه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد، ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع ومعارضة بدعته بما يفسدها وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم، وأما المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئاً يسيراً فقلما ينفع معه الكلام؛ فإنك إن أفحمته لم يترك مذهبه وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جواباً وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا صرف عن الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء؛ فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس وهو من آفات علماء السوء؛ فإنهم يبالغون في التعصب للحق وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة - لا في معرض التعصب والتحقير - لأنجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم، وسموه ذباً عن الدين ونضالاً عن المسلمين، وفيه على التحقيق هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس.
وأما الخلافيات التي أحدثت في هذه الأعصار المتأخرة وأبدع فيها من التحريرات والتصنيفات والمجادلات ما لم يعهد مثلها في السلف فإياك وأن تحوم حولها، واجتنبها اجتناب السم القاتل فإنها الداء العضال وهو الذي رد الفقهاء كلهم إلى طلب المنافسة والمباهاة على ما سيأتيك تفصيل غوائلها وآفاتها. وهذا الكلام ربما يسمع من قائله فيقال: الناس أعداء ما جهلوا فلا تظن ذلك، فعلى الخبـير سقطت. فاقبل هذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زماناً، وزاد فيه على الأوّلين تصنيفاً وتحقيقاً وجدلاً وبـياناً، ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره واشتغل بنفسه: فلا يغرّنك قول من يقول الفتوى عماد الشرع ولا يعرف علله إلا بعلم الخلاف، فإن علل المذهب مذكورة في المذهب، والزيادة عليها مجادلات لم يعرفها الأوّلون ولا الصحابة وكانوا أعلم بعلل الفتاوى من غيرهم، بل هي مع أنها غير مفيدة في علم المذهب ضارّة مفسدة لذوق الفقه،فإن الذي يشهد له حدس المفتي إذا صح ذوقه في الفقه لا يمكن تمشيته على شروط الجدل في أكثر الأمر، فمن ألف طبعه رسوم الجدل أذعن ذهنه لمقتضيات الجدل وجبن عن الإذعان لذوق الفقه، وإنما يشتغل به من يشتغل لطلب الصيت والجاه ويتعلل بأنه يطلب علل المذهب، وقد ينقضي عليه العمر ولا تنصرف همته إلى علم المذهب، فكن من شياطين الجن في أمان، واحترز من شياطين الإنس فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال، وبالجملة فالمرضيّ عند العقلاء أن تقدّر نفسك في العالم وحدك مع الله وبـين يديك الموت والعرض والحساب والجنة والنار، وتأمل فيما يعنيك مما بـين يديك، ودع عنك ما سواه والسلام.
وقد رأى بعض الشيوخ بعض العلماء في المنام فقال له: ما خبر تلك العلوم التي كنت تجادل فيها وتناظر عليها فبسط يده ونفخ فيها وقال: طاحت كلها هباء منثوراً وما انتفعت إلا بركعتين خلصتا لي في جوف الليل. وفي الحديث: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاِّ أُوتُوا الجَدَلَ» ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وفي الحديث في معنى قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الآية: «هُمْ أَهْلُ الجَدَلِ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقِوْلِهِ تَعَالَىٰ: {فَاحْذَرْهُمْ} » وقال بعض السلف: يكون في آخر الزمان قوم يغلق عليهم باب العمل ويفتح لهم باب الجدل. وفي بعض الأخبار: إنكم في زمان ألهمتم فيه العمل وسيأتي قوم يلهمون الجدل ، وفي الخبر المشهور: «أَبْغَضُ الخَلْقِ إِلَىٰ اللَّهِ تَعَالَىٰ الأَلَدُّ الخَصِمُ» وفي الخبر: «مَا أُوتِيَ قَوْمٌ المَنْطِقَ إِلاَّ مُنِعُوا العَمَلَ» . والله أعلم.
الباب الرابع في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشروط إباحتها
اعلم أن الخلافة بعد رسول الله تولاها الخلفاء الراشدون المهديون وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادراً في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة، فتفرّغ العلماء لعلم الآخرة وتجرّدوا لها، وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمرّ على الطّراز الأول وملازم صفو الدين ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا؛ فاضطرّ الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبوا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز ودرك الجاه من قبل الولاة؛ فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من حرم ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء - بعد أن كانوا مطلوبـين - طالبـين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين، أذلة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدّة الحاجة إليها في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها: فعلمت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدين وتقلد أحكام المسلمين، إشفاقاً على خلق الله ونصيحة لهم. ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه. لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد،ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبـيان الأولى من مذهب الشافعي وأبـي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافية بـين الشافعي وأبـي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد رحمهم الله تعالى وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع وتقرير علل المذهب وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرّون عليه إلى الآن، ولسنا ندري ما الذي يحدث الله فيما بعدنا من الأعصار؟ فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة أو إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضاً معهم، ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين وأن لا مطلب لهم سوى التقرّب إلى رب العالمين.
بـيان التلبـيس في تشبـيه هذه المناظرات بمشاورات الصحابة ومفاوضات السلف:
اعلم أن هؤلاء قد يستدرجون الناس إلى ذلك بأن غرضنا من المناظرات المباحثة عن الحق ليتضح، فإن الحق مطلوب والتعاون على النظر في العلم وتوارد الخواطر مفيد ومؤثر، هكذا كان عادة الصحابة رضي الله عنهم في مشاوراتهم كتشاورهم في مسألة الجدّ والأخوة وحدّ شرب الخمر ووجوب الغرم على الإمام إذا أخطأ، كما نقل من إجهاض المرأة جنينها خوفاً من عمر رضي الله عنه؛ وكما نقل من مسائل الفرائض وغيرها وما نقل عن الشافعي وأحمد ومحمد بن الحسن ومالك وأبـي يوسف وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى. ويطلعك على هذا التلبـيس ما أذكره وهو أن التعاون على طلب الحق من الدين ولكن له شروط وعلامات ثمان.
الأول: أن لا يشتغل به وهو من فروض الكفايات من لم يتفرغ من فروض الأعيان، ومن عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية وزعم أن مقصده الحق فهو كذاب. ومثاله من يترك الصلاة في نفسه ويتجرد في تحصيل الثياب ونسجها ويقول: غرضي أستر عورة من يصلي عرياناً ولا يجد ثوباً؛ فإن ذلك ربما يتفق ووقوعه ممكن كما يزعم الفقيه أن وقوع النوادر التي عنها البحث في الخلاف ممكن. والمشتغلون بالمناظرة مهملون لأمور هي فرض عين بالاتفاق ومن توجه عليه رد وديعة في الحال فقام وأحرم بالصلاة التي هي أقرب القربات إلى الله تعالى عصى ربه، فلا يكفي في كون الشخص مطيعاً كون فعله من جنس الطاعات ما لم يراع فيه الوقت والشروط والترتيب.
الثاني:
أن لا يرى فرض كفاية أهم من المناظرة فإن رأى ما هو أهم وفعل غيره عصى بفعله، وكان مثاله مثال من يرى جماعة من العطاش أشرفوا على الهلاك وقد أهملهم الناس وهو قادر على إحيائهم بأن يسقيهم الماء فاشتغل بتعلم الحجامة، وزعم أنه من فروض الكفايات ولو خلا البلد عنها لهلك الناس وإذا قيل له في البلد جماعة من الحجامين وفيهم غنية فيقول هذا لا يخرج هذا الفعل عن كونه فرض كفاية. فحال من يفعل هذا ويهمل الاشتغال بالواقعة الملمة بجماعة العطاش من المسلمين كحال المشتغل بالمناظرة وفي البلد فروض كفايات مهملة لا قائم بها، فأما الفتوى فقد قام بها جماعة ولا يخلو بلد من جملة الفروض المهملة ولا يلتفت الفقهاء إليها وأقربها الطب؛ إذ لا يوجد في أكثر البلاد طبـيب مسلم يجوز اعتماد شهادته فيما يعوّل فيه على قول الطبـيب شرعاً ولا يرغب أحد من الفقهاء في الاشتغال به، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من فروض الكفايات، وربما يكون المناظر في مجلس مناظرته مشاهداً للحرير ملبوساً ومفروشاً وهو ساكت ويناظر في مسألة لا يتفق وقوعها قط وإن وقعت قام بها جماعة من الفقهاء، ثم يزعم أنه يريد أن يتقرب إلى الله تعالى بفروض الكفايات. وقد روى أنس رضي الله عنه أنه قيل يا رسول الله: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فقال عليه السلام: «إِذَا ظَهَرَتِ المُدَاهَنَةُ فِي خِيَارِكُمْ وَالفَاحِشَةُ فِي شِرَارِكُمْ وَتَحَوَّلَ المُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ وَالفِقْهُ فِي أَرْذَالِكُمْ» .
الثالث: أن يكون المناظر مجتهداً يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي وأبـي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبـي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له كما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم والأئمة. فأما من ليس له رتبة الاجتهاد وهو حكم كل أهل العصر وإنما يفتي فيما يسأل عنه ناقلاً عن مذهب صاحبه فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يجز له أن يتركه، فأي فائدة له في المناظرة ومذهبه معلوم وليس له الفتوى بغيره؟ وما يشكل عليه يلزمه أن يقول: لعل عند صاحب مذهبـي جواباً عن هذا فإني لست مستقلاً بالاجتهاد في أصل الشرع، ولو كانت مباحثته عن المسائل التي فيها وجهان أو قولان لصاحبه لكان أشبه، فإنه ربما يفتي بأحدهما فيستفيد من البحث ميلاً إلى أحد الجانبـين ولا يرى المناظرات جارية فيها قط، بل ربما ترك المسألة التي فيها وجهان أو قولان وطلب مسألة يكون الخلاف فيها مبتوتاً.
الرابع: أن لا يناظر إلا في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع غالباً فإن الصحابة رضي الله عنهم ما تشاوروا إلا فيما تجدد من الوقائع أو ما يغلب وقوعه كالفرائض، ولا نرى المناظرين يهتمون بانتقاد المسائل التي تعم البلوى بالفتوى فيها بل يطلبون الطبوليات التي تسمع فيتسع مجال الجدل فيها كيفما كان الأمر، وربما يتركون ما يكثر وقوعه ويقولون هذه مسألة خبرية أو هي من الزوايا وليست من الطبوليات، فمن العجائب أن يكون المطلب هو الحق ثم يتركون المسألة لأنها خبرية ومدرك الحق فيها هو الإخبار أو لأنها ليست من الطبول فلا نطول فيها الكلام. والمقصود في الحقّ أن يقصر الكلام ويبلغ الغاية على القرب لا أن يطول.
مسألة خبرية أو هي من الزوايا وليست من الطبوليات، فمن العجائب أن يكون المطلب هو الحق ثم يتركون المسألة لأنها خبرية ومدرك الحق فيها هو الإخبار أو لأنها ليست من الطبول فلا نطول فيها الكلام. والمقصود في الحقّ أن يقصر الكلام ويبلغ الغاية على القرب لا أن يطول.
حرصهم على المحافل والمجامع ليس لله وأن الواحد منهم يخلو بصاحبه مدّة طويلة فلا يكلمه، وربما يقترح عليه فلا يجيب وإذا ظهر مقدم أو انتظم مجمع لم يغادر في قوس الاحتيال منزعاً حتى يكون هو المتخصص بالكلام.
السادس: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرّق بـين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه ويرى رفيقه معيناً لا خصماً ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق، كما لو أخذ طريقاً في طلب ضالته فنبهه صاحبه على ضالته في طريق آخر فإنه كان يشكره ولا يذمه ويكرمه ويفرح به؛ فهكذا كانت مشاورات الصحابة رضي الله عنهم حتى إن امرأة ردّت على عمر رضي الله عنه ونبهته على الحق وهو في خطبته على مَلإٍ من الناس فقال: أصابت امرأة وأخطأ رجل. وسأل رجل علياً رضي الله عنه فأجابه فقال: ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كذا وكذا فقال: أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم. واستدرك ابن مسعود على أبـي موسى الأشعري رضي الله عنهما فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بـين أظهركم وذلك لما سئل أبو موسى عن رجل قاتل في سبـيل الله فقتل فقال: هو في الجنة. وكان أمير الكوفة فقام ابن مسعود فقال: أعده على الأمير فلعله لم يفهم، فأعادوا عليه فأعاد الجواب فقال ابن مسعود: وأنا أقول إن قتل فأصاب الحق فهو في الجنة. فقال أبو موسى: الحق ما قال. وهكذا يكون إنصاف طالب الحق.
ولو ذكر مثل هذا الآن لأقل فقيه لأنكره واستبعده وقال: لا يحتاج إلى أن يقال أصاب الحق فإن ذلك معلوم لكل أحد. فانظر إلى مناظري زمانك اليوم كيف يسودّ وجه أحدهم إذا اتضح الحق عل لسان خصمه وكيف يخجل به وكيف يجتهد في مجاحدته بأقصى قدرته وكيف يذم من أفحمه طول عمره، ثم لا يستحي من تشبـيه نفسه بالصحابة رضي الله عنهم في تعاونهم على النظر في الحق.
السابع: أن لا يمنع معينه في النظر من الانتقال من دليل إلى دليل ومن إشكال إلى إشكال، فهكذا كانت مناظرات السلف: ويخرج من كلامه جميع دقائق الجدل المبتدعة فيما له وعليه كقوله: هذا لا يلزمني ذكره، وهذا يناقض كلامك الأول فلا يقبل منك؛ فإن الرجوع إلى الحق مناقض للباطل ويجب قبوله. وأنت ترى أن جميع المجالس تنقضي في المدافعات والمجادلات حتى يقيس المستدل على أصل بعلة يظنها فيقال له: ما الدليل على أن الحكم في الأصل معلل بهذه العلة؟ فيقول: هذا ما ظهر لي؛ فإن ظهر لك ما هو أوضح منه وأولى فاذكره حتى أنظر فيه. فيصر المعترض ويقول فيه معان سوى ما ذكرته وقد عرفتها ولا أذكرها إذ لا يلزمني ذكرها، ويقول المستدل: عليك إيراد ما تدعيه وراء هذا ويصر المعترض على أنه لا يلزمه ويتوخى مجالس المناظرة بهذا الجنس من السؤال وأمثاله ولا يعرف هذا المسكين أن قوله: إني أعرفه ولا أذكره إذ لا يلزمني، كذب على الشرع: فإنه إن كان لا يعرف معناه وإنما يدعيه ليعجز خصمه فهو فاسق كذاب عصى الله تعالى وتعرض لسخطه بدعواه معرفة هو خال عنها وإن كان صادقاً فقد فسق بإخفائه ما عرفه من أمر الشرع. وقد سأله أخوه المسلم ليفهمه وينظر فيه، فإن كان قوياً رجع إليه، وإن كان ضعيفاً أظهر له ضعفه وأخرجه عن ظلمة الجهل إلى نور العلم. ولا خلاف أن إظهار ما علم من علوم الدين بعد السؤال عنه واجب لازم فمعنى قوله: لا يلزمني؛ أي في شرع الجدل الذي أبدعناه بحكم التشهي والرغبة في طريق الاحتيال والمصارعة بالكلام لا يلزمني وإلا فهو لازم بالشرع، فإنه بامتناعه عن الذكر إما كاذب وإما فاسق، فتفحص عن مشاورات الصحابة ومفاوضات السلف رضي الله عنهم هل سمعت فيها ما يضاهي هذا الجنس وهل منع أحد من الانتقال من دليل إلى دليل ومن قياس إلى أثر ومن خبر إلى آية؟ بل جميع مناظراتهم من هذا الجنس إذ كانوا يذكرون كل ما يخطر لهم كما يخطر وكانوا ينظرون فيه.
الثامن: أن يناظر من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم. والغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول والأكابر خوفاً من ظهور الحق على ألسنتهم فيرغبون فيمن دونهم طمعاً في ترويج الباطل عليهم ووراء هذه شروط دقيقة كثيرة،ولكن في هذه الشروط الثمانية ما يهديك إلى من يناظر لله ومن يناظر لعلة. واعلم بالجملة أن من لا يناظر الشيطان وهو مستول على قلبه وهو أعدى عدوّ له ولا يزال يدعوه إلى هلاكه ثم يشتغل بمناظرة غيره في المسائل التي المجتهد فيها مصيب، أو مساهم للمصيب في الأجر فهو ضحكة للشيطان وعبرة للمخلصين، ولذلك شمت الشيطان به لما غمسه فيه من ظلمات الآفات التي نعدّدها ونذكر تفاصيلها؛ فنسأل الله حسن العون والتوفيق.
بـيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق:
اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدّق عند الناس، وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدوّ الله إبليس. ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة. وكما أن الذي خير بـين الشرب وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره، فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة. وهذه الأخلاق ستأتي أدلة مذمتها من الأخبار والآيات في ربع المهلكات ولكنا نشير الآن إلى مجامع ما تهيجه المناظرة.
فمنها الحسد؛ وقد قال رسول الله : «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ»، ولا ينفك المناظر عن الحسد فإنه تارة يغلب وتارة يُغلب وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره. فما دام يبقى في الدنيا واحد يذكره بقوّة العلم والنظر أو يظن أنه أحسن منه كلاماً وأقوى نظراً فلا بدّ أن يحسده ويحب زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه. والحسد نار محرقة فمن بلي به فهو في العذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأعظم؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: خذوا العلم حيث وجدتموه ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة. ومنها التكبر والترفع على الناس، فقد قال «مَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ» ، وقال حكاية عن الله تعالى: «العَظَمَةُ إِزَارِي وَالكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا قَصَمْتُهُ» ،ولا ينفك المناظر عن التكبر على الأقران والأمثال والترفع إلى فوق قدره حتى إنهم ليتقاتلون على مجلس من المجالس يتنافسون فيه في الارتفاع والانخفاض والقرب من وسادة الصدر والبعد منها والتقدّم في الدخول عند مضايق الطرق، وربما يتعلل الغبـي والمكار الخداع منهم بأنه يبغي صيانة عز العلم، «وأن المؤمن منهيٌّ عن الإذلال لنفسه» ، فيعبر عن التواضع الذي أثنى الله عليه وسائر أنبـيائه بالذل، وعن التكبر الممقوت عند الله بعز الدين تحريفاً للاسم وإضلالاً للخلق به كما فعل في اسم الحكمة والعلم وغيرهما.
ومنها الحقد فلا يكاد المناظر يخلو عنه. وقد قال : «المُؤْمِنُ لَيْسَ بِحَقُودٍ» ، وورد في ذم الحقد ما لا يخفى. ولا ترى مناظراً يقدر على أن لا يضمر حقداً على من يحرك رأسه من كلام خصمه ويتوقف في كلامه فلا يقابله بحسن الإصغاء، بل يضطر إذا شاهد ذلك إلى إضمار الحقد وتربـيته في نفسه وغاية تماسكه الإخفاء بالنفاق ويترشح منه إلى الظاهر لا محالة في غالب الأمر. وكيف ينفك عن هذا ولا يتصوّر اتفاق جميع المستمعين على ترجيح كلامه واستحسان جميع أحواله في إيراده وإصداره؟ بل لو صدر من خصمه أدنى سبب فيه قلة مبالاة بكلامه انغرس في صدره حقد لا يقلعه مدى الدهر إلى آخر العمر.
ومنها الغيبة وقد شبهها الله بأكل الميتة ولا يزال المناظر مثابراً على أكل الميتة فإنه لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته، وغاية تحفظه أن يصدق فيما يحكيه عليه ولا يكذب في الحكاية عنه، فيحكي عنه لا محالة ما يدل على قصور كلامه وعجزه ونقصان فضله وهو الغيبة.
فأما الكذب، فبهتان وكذلك لا يقدر على أن يحفظ لسانه عن التعرض لعرض من يعرض من كلامه ويصغي إلى خصمه ويقبل عليه حتى ينسبه إلى الجهل والحماقة وقلة الفهم والبلادة.
ومنها تزكية النفس، قال الله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بمَنِ اتَّقَى} وقيل لحكيم؛ ما الصدق القبـيح؟ فقال: ثناء المرء على نفسه. ولا يخلو المناظر من الثناء على نفسه بالقوّة والغلبة والتقدم على الأقران ولا ينفك في أثناء المناظرة عن قوله: لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور، وأنا المتفنن في العلوم والمستقل بالأصول وحفظ الأحاديث وغير ذلك مما يتمدّح به تارة على سبـيل الصلف وتارة للحاجة إلى ترويج كلامه. ومعلوم أن الصلف والتمدح مذمومان شرعاً وعقلاً.
ومنها التجسس وتتبع عورات الناس، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} والمناظر لا ينفك عن طلب عثرات أقرانه وتتبع عورات خصومه حتى إنه ليخبر بورود مناظر إلى بلده، فيطلب من يخبر بواطن أحواله ويستخرج بالسؤال مقابحه حتى يعدها ذخيرة لنفسه في إفضاحه وتخجيله إذا مست إليه حاجة، حتى إنه ليستكشف عن أحوال صباه وعن عيوب بدنه فعساه يعثر على هفوة أو على عيب به من قرع أو غيره، ثم إذا أحس بأدنى غلبة من جهته عرّض به إن كان متماسكاً ويستحسن ذلك منه ويعد من لطائف التسبب ولا يمتنع عن الإفصاح به إن كان متبجحاً بالسفاهة والاستهزاء، كما حكي عن قوم من أكابر المناظرين المعدودين من فحولهم.
ومنها الفرح لمساءة الناس والغم لمسارّهم ومن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فهو بعيد من أخلاق المؤمنين، فكل من طلب المباهاة بإظهار الفضل يسره لا محالة ما يسوء أقرانه وأشكاله الذين يسامونه في الفضل، ويكون التباغض بـينهم كما بـين الضرائر، فكما أنّ إحدى الضرائر إذا رأت صاحبتها من بعيد ارتعدت فرائصها واصفرّ لونها، فكذا ترى المناظر إذا رأى مناظراً تغير لونه واضطرب عليه فكره فكأنه يشاهد شيطاناً مارداً أو سبعاً ضارياً، فأين الاستئناس والاسترواح الذي كان يجري بـين علماء الدين عند اللقاء وما نقل عنهم من المؤاخاة والتناصر والتساهم في السراء والضراء حتى قال الشافعي رضي الله عنه: العلم بـين أهل الفضل والعقل رحم متصل؟ فلا أدري كيف يدعي الاقتداء بمذهبه جماعة صار العلم بـينهم عداوة قاطعة فهل يتصور أن ينسب الأنس بـينهم مع طلب الغلبة والمباهاة هيهات هيهات، وناهيك بالشر شراً أن يلزمك أخلاق المنافقين ويبرئك عن أخلاق المؤمنين والمتقين. ومنها النفاق فلا يحتاج إلى ذكر الشواهد في ذمه وهم مضطرون إليه، فإنهم يلقون الخصوم ومحبـيهم وأشياعهم ولا يجدون بدّاً من التودد إليهم باللسان وإظهار الشوق والاعتداد بمكانهم وأحوالهم، ويعلم ذلك المخاطب والمخاطب وكل من يسمع منهم أن ذلك كذب وزور ونفاق وفجور، فإنهم متوددون بالألسنة متباغضون بالقلوب نعوذ بالله العظيم منهم؛ فقد قال : «إِذَا تَعَلَّمَ النَّاسُ العِلْمَ وَتَرَكُوا العَمَلَ وَتَحَابُّوا بِالأَلْسُنِ وَتَبَاغَضُوا بِالقُلُوبِ وَتَقَاطَعُوا فِي الأَرْحَامِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عِنْدَ ذٰلِكَ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ» . رواه الحسن وقد صح ذلك بمشاهدة هذه الحالة.
ومنها الاستكبار عن الحق وكراهته والحرص على المماراة فيه حتى إن أبغض شيء إلى المناظر أن يظهر على لسان خصمه الحق، ومنهما ظهر تشمر لجحده وإنكاره بأقصى جهده وبذل غاية إمكانه في المخادعة والمكر والحيلة لدفعه حتى تصير المماراة فيه عادة طبـيعية، فلا يسمع كلاماً إلا وينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك على قلبه في أدلة القرآن وألفاظ الشرع، فيضرب البعض منها بالبعض، والمراء في مقابلة الباطل محذور إذ ندب رسول الله إلى ترك المراء بالحق على الباطل. قال : «مَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بَنَىٰ اللَّهُ لَهُ بَـيْتاً فِي رَبَضِ الجَنَّةِ وَمَنْ تَرَك المِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بَنَىٰ اللَّهُ لَهُ بَـيْتاً فِي أَعْلَىٰ الجَنَّةِ» . وقد سوّى الله تعالى بـين من افترى على الله كذباً وبـين من كذب بالحق فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أوْ كَذَّبَ بالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} وقال تعالى: {فَمَنْ أظْلَمُ مَّمنْ كَذَّبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ} .
ومنها الرياء وملاحظة الخلق والجهد في استمالة قلوبهم وصرف وجوههم. والرياء هو الداء العضال الذي يدعو إلى أكبر الكبائر- كما سيأتي في كتاب الرياء- والمناظر لا يقصد إلا الظهور عند الخلق وانطلاق ألسنتهم بالثناء عليه؛ فهذه عشر خصال من أمهات الفواحش الباطنة سوى ما يتفق لغير المتماسكين منهم من الخصام المؤدي إلى الضرب واللكم واللطم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسب الوالدين وشتم الأستاذين والقذف الصريح، فإن أولئك ليسوا معدودين في زمرة الناس المعتبرين، وإنما الأكابر والعقلاء منهم هم الذين لا ينفكون عن هذه الخصال العشر، نعم قد يسلم بعضهم من بعضها مع من هو ظاهر الانحطاط عنه أو ظاهر الارتفاع عليه أو هو بعيد عن بلده وأسباب معيشته، ولا ينفك أحد منهم عنه مع أشكاله المقارنين له في الدرجة. ثم يتشعب من كل واحدة من هذه الخصال العشر عشر أخرى من الرذائل لم نطول بذكرها وتفصيل آحادها مثل: الأنفة، والغضب، والبغضاء، والطمع، وحب طلب المال، والجاه للتمكن من الغلبة، والمباهاة، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء والسلاطين والتردد إليهم والأخذ من حرامهم، والتجمل بالخيول والمراكب والثياب المحظورة، والاستحقار للناس بالفخر والخيلاء،والخوض فيما لا يعني، وكثرة الكلام، وخروج الخشية والخوف والرحمة من القلب، واستيلاء الغفلة عليه لا يدري المصلي منهم في صلاته ما صلى وما الذي يقرأ ومن الذي يناجيه؟ ولا يحس بالخشوع من قلبه مع استغراق العمر في العلوم التي تعين في المناظرة مع أنها لا تنفع في الآخرة: من تحسين العبارة وتسجيع اللفظ وحفظ النوادر إلى غير ذلك من أمور لا تحصى. والمناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم ولهم درجات شتى ولا ينفك أعظمهم ديناً وأكثرهم عقلاً عن جمل من مواد هذه الأخلاق وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها.
واعلم أن هذه الرذائل لازمة للمشتغل بالتذكير والوعظ أيضاً إذا كان قصده طلب القبول وإقامة الجاه ونيل الثروة والعزة وهي لازمة أيضاً للمشتغل بعلم المذهب والفتاوى إذا كان قصده طلب القضاء وولاية الأوقاف والتقدّم على الأقران. وبالجملة هي لازمة لكل من يطلب بالعلم غير ثواب الله تعالى في الآخرة، فالعلم لا يهمل العالم بل يهلكه هلاك الأبد أو يحيـيه حياة الأبد، ولذلك قال : «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» فلقد ضره مع أنه لم ينفعه؛ وليته نجا منه رأساً برأس؛ وهيهات هيهات فخطر العلم عظيم؛ وطالبه طالب الملك المؤبد، والنعيم السرمد، فلا ينفك عن الملك أو الهلك؛ وهو كطالب الملك في الدنيا، فإن لم يتفق له الإصابة في الأموال لم يطمع في السلامة من الإذلال بل لا بدّ من لزوم أفضح الأحوال.
فإن قلت: في الرخصة في المناظرة فائدة وهي ترغيب الناس في طلب العلم إذ لولا حب الرئاسة لاندرست العلوم؛ فقد صدقت فيما ذكرته من وجه، ولكنه غير مفيد إذ لولا الوعد بالكرة والصولجان واللعب بالعصافير ما رغب الصبـيان في المكتب وذلك لا يدل على أن الرغبة فيه محمودة، ولولا حب الرياسة لاندرس العلم. ولا يدل ذلك على أن طالب الرياسة ناج، بل هو من الذين قال صلى الله عليه وآله وسلم فيهم: «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هٰذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لا خَلاَقَ لَهُمْ» ، وقال : «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هٰذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ» ، فطالب الرياسة في نفسه هالك وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدنيا وذلك فيمن كان ظاهر حاله في ظاهر الأمر ظاهر حال علماء السلف، ولكنه يضمر قصد الجاه، فمثاله مثال الشمع الذي يحترق في نفسه ويستضيء به غيره فصلاح غيره في هلاكه،فأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النار المحرقة التي تأكل نفسها وغيرها. فالعلماء ثلاثة: إما مهلك نفسه وغيره وهم المصرحون بطلب الدنيا والمقبلون عليها، وإما مسعد نفسه وغيره وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهراً وباطناً، وإما مهلك نفسه مسعد غيره وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره وقصده في الباطن قبول الخلق وإقامة الجاه، فانظر من أي الأقسام أنت ومن الذي اشتغلت بالاعتداد له؟ فلا تظنن أن الله تعالى يقبل غير الخالص لوجهه تعالى من العلم والعمل، وسيأتيك في كتاب الرياء بل في جميع ربع المهلكات ما ينفي عنك الريبة فيه إن شاء الله تعالى.
الباب الخامسفي آداب المتعلم والمعلم
أما المتعلم فآدابه ووظائفه الظاهرة كثيرة ولكن تنظم تفاريقها عشر جمل:
الوظيفة الأولى: تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى؛ وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف. قال : «بُنِيَ الدِّينُ عَلَىٰ النَّظَافَةِ» وهو كذلك باطناً وظاهراً قال الله تعالى: {إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} تنبـيهاً للعقول على أنَّ الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر بالحس، فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ولكنه نجس الجوهر أي باطنه ملطخ بالخبائث. والنجاسة عبارة عما يجتنب ويطلب البعد منه وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب، فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل. ولذلك قال : «لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَـيْتاً فِيهِ كَلْبٌ» ، والقلب بـيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم؛ والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة فأنَّى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أو مِن وراءِ حِجَابٍ أوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فيُوحي بإذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها وهم المقدسون المطهرون المبرؤون من الصفات المذمومات فلا يلاحظون إلا طيباً ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيباً طاهراً. ولست أقول المراد بلفظ «البـيت» هو القلب و«بالكلب» هو الغضب،فعبوره من غيره إلى نفسه ومن نفسه إلى أصل الدنيا عبرة محمودة، فاعبر أنت أيضاً من البـيت الذي هو بناء الخلق إلى القلب الذي هو بـيت من بناء الله تعالى، ومن الكلب الذي ذم لصفته - لا لصورته - وهو ما فيه من سبعية ونجاسة إلى الروح الكلبـية وهي السبعية.
واعلم أن القلب المشحون بالغضب والشره إلى الدنيا والتكلب عليها والحرص على التمزيق لأعراض الناس كلب في المعنى وقلب في الصورة. فنور البصيرة يلاحظ المعاني لا الصور. والصور في هذا العالم غالبة على المعاني والمعاني باطنة فيها. وفي الآخرة تتبع الصور المعاني وتغلب المعاني. فلذلك يحشر كل شخص على صورته المعنوية «فيحشر الممزق لأعراض الناس كلباً ضارياً، والشره إلى أموالهم ذئباً عادياً، والمتكبر عليهم في صورة نمر، وطالب الرئاسة في صورة أسد» . وقد وردت بذلك الأخبار وشهد به الاعتبار عند ذوي البصائر والأبصار. فإن قلت: كم من طالب رديء الأخلاق حصل العلوم فهيهات ما أبعده عن العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر له أن المعاصي سموم قاتلة مهلكة وهل رأيت من يتناول سماً مع علمه بكونه سماً قاتلاً؟ إنما الذي تسمعه من المترسمين حديث يلفقونه بألسنتهم مرة ويرددونه بقلوبهم أخرى وليس ذلك من العلم في شيء. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم نور يقذف في القلب. وقال بعضهم: إنما العلم الخشية لقوله تعالى: {إنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} وكأنه أشار إلى ثمرات العلم. ولذلك قال بعض المحققين: معنى قولهم: «تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله» أن العلم أبى وامتنع علينا، فلم تنكشف لنا حقيقته وإنما حصل لنا حديثه وألفاظه.
فإن قلت: إني أرى جماعة من العلماء الفقهاء المحققين برزوا في الفروع والأصول وعدوا من جملة الفحول وأخلاقهم ذميمة لم يتطهروا منها؟ فيقال: إذا عرفت مراتب العلوم وعرفت علم الآخرة استبان لك أن ما اشتغلوا به قليل الغناء من حيث كونه علماً، وإنما غناؤه من حيث كونه عملاً لله تعالى إذا قصد به التقرب إلى الله تعالى وقد سبقت إلى هذا إشارة. وسيأتيك فيه مزيد بـيان وإيضاح إن شاء الله تعالى.
«العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر»، والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرّق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزدرع.
الوظيفة الثالثة: أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبـيب المشفق الحاذق. وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته. قال الشعبـي: «صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت إليه بغلته ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال زيد: خل عنه يا ابن عم رسول الله فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء فقبَّل زيد بن ثابت يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بـيت نبـينا » . وقال : «لَيْسَ مِنْ أَخْلاقِ المُؤْمِنِ التَّمَلُّقُ إِلاَّ فِي طَلَبِ العِلْمِ» ، فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين وهو عين الحماقة، فإن العلم سبب النجاة والسعادة، ومن يطلب مهرباً من سبع ضار يفترسه لم يفرق بـين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، وضراوة سباع النار بالجهال بالله تعالى أشدّ من ضراوة كل سبع، فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائناً من كان؛ فلذلك قيل:
العلمُ حربٌ للفتى المتعالي
كالسيل حرب للمكان العالي فلا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع. قال الله تعالى: {إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقَى السَّمْعَ وَهوَ شَهيدٌ} ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلاً للعلم فهماً، ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقي السمع وهو شهيد حاضر القلب ليستقبل كل ما ألقي إليه بحسن الإصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنة. فليكن المتعلم لمعلمه كأرض دمثة نالت مطراً غزيراً فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله. ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده وليدع رأيه فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها مع أنه يعظم نفعها، فكم من مريض محرور يعالجه الطبـيب في بعض أوقاته بالحرارة ليزيد قوته إلى حد يحتمل صدمة العلاج فيعجب منه من لا خبرة له به، وقد نبه الله تعالى بقصة الخضر وموسى عليهما السلام حيث قال الخضر: {إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} ثم شرط عليه السكوت والتسليم فقال: {فإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَنْ شيءٍ حَتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} ثم لم يصبر ولم يزل في مراودته إلى أن كان ذلك سبب الفراق بـينهما. وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأياً واختياراً دون اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق والخسران.
فإن قلت: فقد قال الله تعالى: {فاسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فالسؤال مأمور به؟ فاعلم أنه كذلك ولكن فيما يأذن المعلم في السؤال عنه فإن السؤال عما لم تبلغ مرتبتك إلى فهمه مذموم، ولذلك منع الخضر موسى عليه السلام من السؤال: أي دع السؤال قبل أوانه فالمعلم أعلم بما أنت أهل له وبأوان الكشف. وما لم يدخل أوان الكشف في كل درجة من مراقي الدرجات لا يدخل أوان السؤال عنه. وقد قال علي رضي الله عنه: إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سراً ولا تغتابن أحداً عنده ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته.
الوظيفة الرابعة: أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة: فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه عن الإدراك والاطلاع، بل ينبغي أن يتقن أولاً الطريق الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه، ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه. وإن لم يكن أستاذه مستقلاً باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحذر منه، فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم، ومن هذا حاله يعد في عمى الحيرة وتيه الجهل، ومنع المبتدىء عن الشبه يضاهي منع الحديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار، وندب القوي إلى النظر في الاختلافات يضاهي حث القوي على مخالطة الكفار؛ ولهذا يمنع الجبان عن التهجم على صف الكفار ويندب الشجاع له. ومن الغفلة عن هذه الدقيقة ظن بعض الضعفاء أن الاقتداء بالأقوياء فيما ينقل عن المساهلات جائز،ولم يدر أن وظائف الأقوياء تخالف وظائف الضعفاء. وفي ذلك قال بعضهم: من رآني في البداية صار صديقاً، ومن رآني في النهاية صار زنديقاً، إذ النهاية ترد الأعمال إلى الباطن وتسكن الجوارح إلا عن رواتب الفرائض؛ فيتراءى للناظرين أنها بطالة وكسل وإهمال، وهيهات فذلك مرابطة القلب في عين الشهود والحضور وملازمة الذكر الذي هو أفضل الأعمال على الدوام؛ وتشبه الضعيف بالقوي فيما يرى من ظاهره أنه هفوة يضاهي اعتذار من يلقي نجاسة يسيرة في كوز ماء ويتعلل بأن أضعاف هذه النجاسة قد يلقى في البحر والبحر أعظم من الكوز فما جاز للبحر فهو للكوز أجوز. ولا يدري المسكين أن البحر بقوّته يحيل النجاسة ماء فتنقلب عين النجاسة باستيلائه إلى صفته، والقليل من النجاسة يغلب على الكوز ويحيله إلى صفته، ولمثل هذا جُوِّز للنبـي ما لم يجوز لغيره حتى أبـيح له تسع نسوة . إذ كان له من القوّة ما يتعدّى منه صفة العدل إلى نسائه وإن كثرن، وأما غيره فلا يقدر على بعض العدل بل يتعدى ما بـينهن من الضرار إليه حتى ينجر إلى معصية الله تعالى في طلبه رضاهن. فما أفلح من قاس الملائكة بالحدادين. الوظيفة الخامسة: أن لا يدع طالب العلم فناً من العلوم المحمودة ولا نوعاً من أنواعه إلا وينظر فيه نظراً يطلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده العمر طلب التبحّر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية؛ فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض، ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله؛ فإن الناس أعداء ما جهلوا قال تعالى: {وإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إفكٌ قديمٌ} . قال الشاعر:
ومَنْ يَكُ ذا فمٍ مُرَ مريضٍ
يجد مرّاً به الماء الزلالا فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى، أو معينة على السلوك نوعاً من الإعانة، ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود، والقوّام بها حفظة كحفاظ الرباطات والثغور، ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى.
الوظيفة السادسة: أن لا يخوض في فن من فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدىء بالأهم. فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالباً فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة. أعني قسمي المعاملة والمكاشفة، فغاية المعاملة المكاشفة. وغاية المكاشفة معرفة الله تعالى؛ ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقفه العامي وراثة أو تلقفاً؛ ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة في تحصين الكلام عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم، بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان أبـي بكر رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح ، كما شهد له به سيد البشر ، فما عندي أن ما يعتقده العامي ويرتبه المتكلم الذي لا يزيد على العامي إلا في صنعة الكلام، ولأجله سميت صناعته كلاماً، وكان يعجز عنه عمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، حتى كان يفضلهم أبو بكر بالسر الذي وقر في صدره. والعجب ممن يسمع مثل هذه الأقوال من صاحب الشرع ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثم يزدري ما يسمعه على وفقه ويزعم أنه من ترهات الصوفية وأن ذلك غير معقول؛ فينبغي أن تتئد في هذا فعنده ضيعت رأس المال، فكن حريصاً على معرفة ذلك السر الخارج عن بضاعة الفقهاء والمتكلمين ولا يرشدك إليه إلا حرصك في الطلب.
وعلى الجملة فأشرف العلوم وغايتها معرفة الله عز وجل وهو بحر لا يدرك منتهى غوره، وأقصى درجات البشر فيه رتبة الأنبـياء ثم الأولياء ثم الذين يلونهم. وقد روي أنه رئي صورة حكيمين من الحكماء المتقدمين في مسجد وفي يد أحدهما رقعة فيها: إن أحسنت كل شيء فلا تظنن أنك أحسنت شيئاً حتى تعرف الله تعالى وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء. وفي يد الآخر: كنت قبل أن أعرف الله أشرب وأظمأ، حتى إذا عرفته رويت بلا شرب.
الوظيفة السابعة: أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله؛ فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض، والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج. قال الله تعالى: {الَّذِين آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي لا يجاوزون فناً حتى يحكموه علماً وعملاً، وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه؛ فينبغي ألا يحكم على علم بالفساد لوقوع الخلف بـين أصحابه فيه، ولا بخطأ واحد أو آحاد فيه، ولا بمخالفتهم موجب علمهم بالعمل؛ فترى جماعة تركوا النظر في العقليات والفقهيات، متعللين فيها بأنها لو كان لها أصل لأدركه أربابها؛ وقد مضى كشف هذه الشبه في كتاب (معيار العلم) وترى طائفة يعتقدون بطلان الطب لخطأ شاهدوه من طبـيب، وطائفة اعتقدوا صحة النجوم لصواب اتفق لواحد، وطائفة اعتقدوا بطلانه لخطأ اتفق لآخر. والكل خطأ، بل ينبغي أن يعرف الشيء في نفسه، فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص، ولذلك قال علي رضي الله عنه: لا تعرف الحق بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله.
الوظيفة الثامنة: أن يعرف السبب الذي به يدرك أشرف العلوم، وأن ذلك يراد به شيئان: أحدهما: شرف الثمرة، والثاني: وثاقة الدليل وقوته، وذلك كعلم الدين وعلم الطب، فإن ثمرة أحدهما الحياة الأبدية وثمرة الآخر الحياة الفانية فيكون علم الدين أشرف. ومثل علم الحساب وعلم النجوم، فإن علم الحساب أشرف لوثاقة أدلته وقوتها وإن نسب الحساب إلى الطب كان الطب أشرف باعتبار ثمرته والحساب أشرف باعتبار أدلته وملاحظة الثمرة أولى؛ ولذلك كان الطب أشرف وإن كان أكثره بالتخمين. وبهذا تبـين أن أشرف العلوم العلم بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله والعلم بالطريق الموصل إلى هذه العلوم، فإياك أن ترغب إلا فيه وأن تحرص إلا عليه.
الوظيفة التاسعة: أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة وفي المآل القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة والمقربـين، ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران وإذا كان هذا مقصده طلب لا محالة الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة، ومع هذا فلا ينبغي له أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم أعني علم الفتاوى وعلم النحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك مما أوردناه في المقدّمات والمتممات من ضروب العلوم التي هي فرض كفاية، ولا تفهمن من غلونا في الثناء على علم الآخرة تهجين هذه العلوم، فالمتكفلون بالعلوم كالمتكفلين بالثغور والمرابطين بها والغزاة المجاهدين في سبـيل الله، فمنهم المقاتل، ومنهم الردء، ومنهم الذي يسقيهم الماء، ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدهم ولا ينفك أحد منهم عن أجر إذا كان قصده إعلاء كلمة الله تعالى دون حيازة الغنائم، فكذلك العلماء قال الله تعالى: {يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} والفضيلة نسبـية. واستحقارنا للصيارفة عند قياسهم بالملوك لا يدل على حقارتهم إذا قيسوا بالكناسين فلا تَظُنَّنَّ أنّ ما نزل عن الرتبة القصوى ساقط القدر، بل الرتبة العليا للأنبـياء، ثم الأولياء، ثم العلماء الراسخين في العلم، ثم للصالحين على تفاوت درجاتهم وبالجملة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ومن قصد الله تعالى بالعلم أي علم كان نفعه ورفعه لا محالة.
الوظيفة العاشرة: أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كيما يؤثر الرفيع القريب على البعيد والمهم على غيره- ومعنى المهم ما يهمك- ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة. وإذا لم يمكنك الجمع بـين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له من نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد، وعند ذلك تصير الدنيا منزلاً والبدن مركباً والأعمال سعياً إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله، وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون. والعلوم بالإضافة إلى سعادة لقاء الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم - أعني النظر الذي طلبه الأنبـياء وفهموه دون ما يسبق إلى فهم العوام والمتكلمين-على ثلاث مراتب تفهمها بالموازنة بمثال، وهو أن العبد الذي علق عتقه وتمكينه من الملك بالحج وقيل له إن حججت وأتممت وصلت إلى العتق والملك جميعاً، وإن ابتدأت بطريق الحج والاستعداد له وعاقك في الطريق مانع ضروري فلك العتق والخلاص من شقاء الرق فقط دون سعادة الملك فله ثلاثة أصناف من الشغل؛ الأول: تهيئة الأسباب بشراء الناقة وخرز الراوية وإعداد الزاد والراحلة. والثاني: السلوك ومفارقة الوطن بالتوجه إلى الكعبة منزلاً بعد منزل. والثالث: الاشتغال بأعمال الحج ركناً بعد ركن ثم بعد الفراغ والنزوع عن هيئة الإحرام وطواف الوداع استحق التعرض للملك والسلطنة، وله في كل مقام منازل من أول إعداد الأسباب إلى آخره، ومن أول سلوك البوادي إلى آخره، ومن أول أركان الحج إلى آخره. وليس قرب من ابتدأ بأركان الحج من السعادة كقرب من هو بعد في إعداد الزاد والراحلة ولا كقرب من ابتدأ بالسلوك بل هو أقرب منه، فالعلوم أيضاً ثلاثة أقسام: قسم يجري مجرى إعداد الزاد والراحلة وشراء الناقة، وهو علم الطب والفقه وما يتعلق بمصالح البدن في الدنيا. وقسم يجري مجرى سلوك البوادي وقطع العقبات، وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات وطلوع تلك العقبات الشامخة التي عجز عنها الأولون والآخرون إلا الموفقين، فهذا سلوك الطريق وتحصيل علمه كتحصيل علم جهات الطريق ومنازله. وكما لا يغني علم المنازل وطرق البوادي دون سلوكها كذلك لا يغني علم تهذيب الأخلاق دون مباشرة التهذيب ولكن المباشرة دون العلم غير ممكن. وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وأفعاله وجميع ما ذكرناه في تراجم المكاشفة وههنا نجاة وفوز بالسعادة، والنجاة حاصلة لكل سالك للطريق إذا كان غرضه المقصد الحق وهو السلامة.
وأما الفوز بالسعادة فلا يناله إلا العارفون بالله تعالى، وهم المقربون المنعمون في جوار الله تعالى بالروح والريحان وجنة النعيم، وأما الممنوعون دون ذروة الكمال فلهم النجاة والسلامة كما قال الله عز وجل: {فأما إنْ كَانَ مِن المُقَرَّبِـينَ فرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وجَنَّةُ نَعيم وأمَّا إنْ كَانَ مِنْ أصْحَابِ اليمينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصْحَابِ اليمين} وكل من لم يتوجه إلى المقصد ولم ينتهض له أو انتهض إلى جهته لا على قصد الامتثال والعبودية بل لغرض عاجل فهو من أصحاب الشمال ومن الضالين فله نزل من حميم وتصلية جحيم.
واعلم أن هذا هو حق اليقين عند العلماء الراسخين أعني أنهم أدركوه بمشاهدة من الباطن هي أقوى وأجلى من مشاهدة الأبصار وترقوا فيه عن حد التقليد لمجرد السماع، وحالهم حال من أخبر فصدق ثم شاهد فحقق، وحال غيرهم حال من قبل بحسن التصديق والإيمان ولم يحظ بالمشاهدة والعيان. فالسعادة وراء علم المكاشفة، وعلم المكاشفة وراء علم المعاملة التي هي سلوك طريق الآخرة وقطع عقبات الصفات، وسلوك طريق محو الصفات المذمومة وراء علم الصفات، وعلم طريق المعالجة وكيفية السلوك في ذلك وراء علم سلامة البدن ومساعدة أسباب الصحة. وسلامة البدن بالاجتماع والتظاهر والتعاون الذي يتوصل به إلى الملبس والمطعم والمسكن وهو منوط بالسلطان وقانونه في ضبط الناس على منهج العدل والسياسة في ناصية الفقيه. وأما أسباب الصحة ففي ناصية الطبـيب ومن قال: «العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان» وأشار به إلى الفقه أراد به العلوم الظاهرة الشائعة لا العلوم العزيزة الباطنة.
فإن قلت: لِمَ شبهت علم الطب والفقه بإعداد الزاد والراحلة؟ فاعلم أن الساعي إلى الله تعالى لينال قربه هو القلب دون البدن ولست أعني بالقلب اللحم المحسوس، بل هو سرّ من أسرار الله عزّ وجلّ لا يدركه الحس، ولطيفة من لطائفه تارة يعبر عنه بالروح وتارة بالنفس المطمئنة، والشرع يعبر عنه بالقلب لأنه المطية الأولى لذلك السر وبواسطته صار جميع البدن مطية وآلة لتلك اللطيفة، وكشف الغطاء عن ذلك السر من علم المكاشفة وهو مضنون به بل لا رخصة في ذكره،وغاية المأذون فيه أن يقال هو جوهر نفيس ودرّ عزيز أشرف من هذه الأجرام المرئية وإنما هو أمر إلهي كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرَّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّـي} وكل المخلوقات منسوبة إلى الله تعالى، ولكن نسبته أشرف من نسبة سائر أعضاء البدن فللَّه الخلق والأمر جميعاً، والأمر أعلى من الخلق. وهذه الجوهرة النفيسة الحاملة لأمانة الله تعالى المتقدمة بهذه الرتبة على السموات والأرضين والجبال إذ أبـين أن يحملنها وأشفقن منها من عالم الأمر: ولا يفهم من هذا أنه تعريض بقدمها، فإن القائل بقدم الأرواح مغرور جاهل لا يدري ما يقول فلنقبض عنان البـيان عن هذا الفنّ فهو وراء ما نحن بصدده. والمقصود أن هذه اللطيفة هي الساعية إلى قرب الرب لأنها من أمر الرب فمنه مصدرها وإليه مرجعها، وأما البدن فمطيتها التي تركبها وتسعى بواسطتها، فالبدن لها في طريق الله تعالى كالناقة للبدن في طريق الحج وكالراوية الخازنة للماء الذي يفتقر إليه البدن فكل علم مقصده مصلحة البدن فهو من جملة مصالح المطية. ولا يخفى أن الطب كذلك فإنه قد يحتاج إليه في حفظ الصحة على البدن ولو كان الإنسان وحده لاحتاج إليه؛ والفقه يفارقه في أنه لو كان الإنسان وحده ربما كان يستغني عنه، ولكنه خلق على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده إذ لا يستقل بالسعي وحده في تحصيل طعامه بالحراثة والزرع والخبز والطبخ وفي تحصيل الملبس والمسكن، وفي إعداد آلات ذلك كله فاضطر إلى المخالطة والاستعانة. ومهما اختلط الناس وثارت شهواتهم تجاذبوا أسباب الشهوات وتنازعوا وتقاتلوا وحصل من قتالهم هلاكهم بسبب التنافس من خارج كما يحصل هلاكهم بسبب تضاد الأخلاط من داخل، وبالطب يحفظ الاعتدال في الأخلاط المتنازعة من داخل، وبالسياسة والعدل يحفظ الاعتدال في التنافس من خارج، وعلم طريق اعتدال الأخلاط طب، وعلم طريق اعتدال أحوال الناس في المعاملات والأفعال فقه. وكل ذلك لحفظ البدن الذي هو مطية، فالمتجرد لعلم الفقه أو الطب إذا لم يجاهد نفسه ولا يصلح قلبه كالمتجرد لشراء الناقة وعلفها وشراء الراوية وخرزها إذا لم يسلك بادية الحج. والمستغرق عمره في دقائق الكلمات التي تجري في مجادلات الفقه كالمستغرق عمره في دقائق الأسباب التي بها تستحكم الخيوط التي تخرز بها الراوية للحج. ونسبة هؤلاء من السالكين لطريق إصلاح القلب الموصل إلى علم المكاشفة كنسبة أولئك إلى سالكي طريق الحج أو ملابسي أركانه.
فتأمل هذا أوّلاً واقبل النصيحة مجاناً ممن قام عليه ذلك غالباً ولم يصل إليه إلا بعد جهد جهيد وجراءة تامة على مباينة الخلق العامة والخاصة في النزوع من تقليدهم بمجرد الشهوة، فهذا القدر كاف في وظائف المتعلم.
بـيان وظائف المرشد المعلم:
اعلم أن للإنسان في علمه أربعة أحوال كحاله في اقتناء الأموال: إذ لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسباً، وحال ادخار لما اكتسبه فيكون به غنياً عن السؤال، وحال إنفاق على نفسه فيكون منتفعاً، وحال بذل لغيره فيكون به سخياً متفضلاً وهو أشرف أحواله. فكذلك العلم يقتنى كما يقتنى المال فله حال طلب واكتساب، وحال تحصيل يغني عن السؤال، وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به وحال تبصير وهو أشرف الأحوال؛ فمن علم وعمل وعلم فهو الذي يدعى عظيماً في ملكوت السموات، فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها، وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب. والذي يعلم ولا يعمل به كالدفتر الذي يفيد غيره وهو خال عن العلم، وكالمسن الذي يشحذ غيره ولا يقطع، والإبرة التي تكسو غيرها وهي عارية، وذبالة المصباح تضيء لغيرها وهي تحترق كما قيل: ما هو إلا ذبالة وقدت تضيء للناس وهي تحترقُ ومهما اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمراً عظيماً وخطراً جسيماً فليحفظ آدابه ووظائفه.
الوظيفة الأولى: الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه. قال رسول الله : «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ» بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا؛ ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين، فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية. ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم، وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة. أعني معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا، فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك نعوذ بالله منه. وكما أن حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابوا ويتعاونوا على المقاصد كلها، فكذلك حق تلامذة الرجل الواحد التحاب والتوادد ولا يكون إلا كذلك إن كان مقصدهم الآخرة، ولا يكون إلا التحاسد والتباغض إن كان مقصدهم الدنيا. فإن العلماء وأبناء الآخرة مسافرون إلى الله تعالى وسالكون إليه الطريق من الدنيا، وسنوها وشهورها منازل الطريق. والترافق في الطريق بـين المسافرين إلى الأمصار سبب التواد والتحاب فكيف السفر إلى الفردوس الأعلى والترافق في طريقه ولا ضيق في سعادة الآخرة؟
فلذلك لا يكون بـين أبناء الآخرة تنازع ولا سعة في سعادات الدنيا فلذلك لا ينفك عن ضيق التزاحم. والعادلون إلى طلب الرئاسة بالعلوم خارجون عن موجب قوله تعالى: {إنَّما المؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} وداخلون في مقتضى قوله تعالى: {الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ} .
الوظيفة الثانية: أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه، فلا يطلب على إفادة العلم أجراً ولا يقصد به جزاء ولا شكراً، بل يعلم لوجه الله تعالى وطلباً للتقرّب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة عليهم، بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها، كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعة فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض، فكيف تقلده منة وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى؟ ولولا المتعلم ما نلت هذا الثواب فلا تطلب الأجر إلا من الله تعالى كما قال عز وجل: {وَيَا قَوْم لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إنْ أجْريَ إلاَّ عَلَى الله} فإن المال وما في الدنيا خادم البدن، والبدن مركب النفس ومطيتها والمخدوم هو العلم إذ به شرف النفس. فمن طلب بالعلم المال كان كمن مسح أسفل مداسه بوجهه لينظفه، فجعل المخدوم خادماً والخادم مخدوماً وذلك هو الانتكاس على أم الرأس، ومثله هو الذي يقوم في العرض الأكبر مع المجرمين ناكسي رؤوسهم عند ربهم. وعلى الجملة فالفضل والمنة للمعلم. فانظر كيف انتهى أمر الدين إلى قوم يزعمون أن مقصودهم التقرب إلى الله تعالى بما هم فيه من علم الفقه والكلام والتدريس فيهما وفي غيرهما، فإنهم يبذلون المال والجاه ويتحملون أصناف الذل في خدمة السلاطين لاستطلاق الجرايات ولو تركوا ذلك لتركوا ولم يختلف إليهم، ثم يتوقع المعلم من المتعلم أن يقوم له في كل نائبة وينصر وليه ويعادي عدوه وينتهض جهاراً له في حاجاته ومسخراً بـين يديه في أوطاره، فإن قصر في حقه ثار عليه وصار من أعدى أعدائه. فأخسس بعالم يرضى لنفسه بهذه المنزلة ثم يفرح بها ثم لا يستحي من أن يقول: غرضي من التدريس نشر العلم تقرّباً إلى الله تعالى ونصرة لدينه فانظر إلى الأمارات حتى ترى ضروب الاغترارات.
الوظيفة الثالثة: أن لا يدع من نصح المتعلم شيئاً وذلك بأن يمنعه من التصدّي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي،ثم ينبهه على أن الغرض بطلب العلوم القرب إلى الله تعالى دون الرئاسة والمباهاة والمنافسة، ويقدم تقبـيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده؛ فإن علم من باطنه أنه لا يطلب العلم إلا للدنيا نظر إلى العلم الذي يطلبه فإن كان هو علم الخلاف في الفقه، والجدل في الكلام، والفتاوى في الخصومات والأحكام، فيمنعه من ذلك فإن هذه العلوم ليست من علوم الآخرة ولا من العلوم التي قيل فيها: «تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله» وإنما ذلك علم التفسير وعلم الحديث وما كان الأولون يشتغلون به من علم الآخرة، ومعرفة أخلاق النفس، وكيفية تهذيبها، فإذا تعلمه الطالب وقصد به الدنيا فلا بأس أن يتركه فإنه يثمر له طمعاً في الوعظ والاستتباع، ولكن قد يتنبه في أثناء الأمر أو آخره إذ فيه العلوم المخوفة من الله تعالى المحقرة للدنيا المعظمة للآخرة، وذلك يوشك أن يؤدي إلى الصواب في الآخرة حتى يتعظ بما يعظ به غيره. ويجري حب القبول والجاه مجرى الحب الذي ينثر حوالي الفخ ليقتنص به الطير، وقد فعل الله ذلك بعباده إذ جعل الشهوة ليصل الخلق بها إلى بقاء النسل. وخلق أيضاً حب الجاه ليكون سبباً لإحياء العلوم وهذا متوقع في هذه العلوم، فأما الخلافيات المحضة ومجادلات الكلام ومعرفة التفاريع الغريبة، فلا يزيد التجرد لها مع الإعراض عن غيرها إلا قسوة في القلب وغفلة عن الله تعالى وتمادياً في الضلال وطلباً للجاه إلا من تداركه الله تعالى برحمته أو مزج به غيره من العلوم الدينية. ولا برهان على هذا كالتجربة والمشاهدة، فانظر واعتبر واستبصر لتشاهد تحقيق ذلك في العباد والبلاد والله المستعان. وقد رؤي سفيان الثوري رحمه الله حزيناً فقيل له: ما لَك؟ فقال: صرنا متجراً لأبناء الدنيا يلزمنا أحدهم حتى إذا تعلم جعل قاضياً أو عاملاً أو قهرماناً.
الوظيفة الرابعة: وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح. وبطريق الرحمة لا بطريق التوبـيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيئة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار إذ قال وهو مرشد كل معلم: «لَوْ مُنِعَ النَّاسُ عَنْ فَتِّ البَعْرِ لَفَتُّوهُ وَقَالُوا: ما نُهِينا عَنْهُ إِلاَّ وَفِيهِ شَيْءٌ» . وينبهك على هذا قصة آدم وحواء عليهما السلام وما نهيا عنه؛ فما ذكرت القصة معك لتكون سمراً بل لتتنبه بها على سبـيل العبرة،ولأن التعريض أيضاً يميل النفوس الفاضلة والأذهان الذكية إلى استنباط معانيه فيفيد فرح التفطن لمعناه رغبة في العلم به ليعلم أن ذلك مما لا يعزب عن فطنته.
الوظيفة الخامسة: أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه، كمعلم اللغة إذ عادته تقبـيح علم الفقه. ومعلم الفقه عادته تقبـيح علم الحديث والتفسير، وأن ذلك نقل محض وسماع وهو شأن العجائز ولا نظر للعقل فيه، ومعلم الكلام ينفر عن الفقه ويقول: ذلك فروع وهو كلام في حيض النسوان فأين ذلك من الكلام في صفة الرحمٰن؟ فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين ينبغي أن تجتنب، بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعلم في غيره وإن كان متكفلاً بعلوم، فينبغي أن يراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة.
الوظيفة السادسة: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه فينفره عقله أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر حيث قال: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِـيَاءِ أُمِرْنا أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ وَنُكَلِّمَهُمْ عَلَىٰ قَدْرِ عُقُولِهِمْ» فليبثَّ إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها، وقال : «ما أَحَدٌ يُحَدِّثُ قَوْماً بِحَدِيثٍ لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ فِتْنَةً عَلَىٰ بَعْضِهِمْ» . وقال علي رضي الله عنه - وأشار إلى صدره -: «إن هٰهنا لعلوماً جمة لو وجدت لها حملة»، وصدق رضي الله عنه فقلوب الأبرار قبور الأسرار. فلا ينبغي أن يفشي العالم كل ما يعلم إلى كل أحد؛ هذا إذا كان يفهمه المتعلم ولم يكن أهلاً للانتفاع به، فكيف فيما لا يفهمه؟ وقال عيسى عليه السلام: «لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير فإن الحكمة خير من الجوهر ومن كرهها فهو شر من الخنازير». ولذلك قيل: كلْ لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، وسئل بعض العلماء عن شيء فلم يجب فقال السائل: أما سمعت رسول الله قال: «مَنْ كَتَمَ عِلْماً نَافِعاً جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلْجَماً بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ؟ فقال: اترك اللجام واذهب فإن جاء من يفقه وكتمته فليلجمني فقد قال الله تعالى {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَكُم} تنبـيهاً على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى،وليس الظلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المستحق:
أأنثُرُ درّاً بـين سارحة النعم * فأصبح مخزوناً براعية الغنم
لأنَّهم أمسوا بجهلٍ لقدره * فلا أنا أضحي أن أطوقه البهم
فإنْ لطفَ اللَّهُ اللطيف بلطفه * وصادفت أهلاً للعلوم وللحِكَم
نشرت مفيداً واستفدت مودّة * وإلاَّ فمخزون لدي ومكتتمً
فمن منح الجهال علماً أضاعه * ومن منع المستوجبـين فقد ظلم
الوظيفة السابعة: إن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقى إليه الجلي اللائق به ولا يذكر أن له وراء هذا تدقيقاً وهو يدخره عنه، فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق. فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله، وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلاً هوأفرحهم بكمال عقله. وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع ورسخ في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبـيه ومن غير تأويل وحسن مع ذلك سريرته ولم يحتمل عقله أكثر من ذلك، فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده، بل ينبغي أن يخلى وحرفته، فإنه لو ذكر له تأويلات الظاهر انحل عنه قيد العوام ولم يتيسر قيده بقيد الخواصّ فيرتفع عنه السد الذي بـينه وبـين المعاصي وينقلب شيطاناً مريداً يهلك نفسه وغيره؛ بل لا ينبغي أن يخاض مع العوام في حقائق العلوم الدقيقة، بل يقتصر معهم على تعليم العبادات وتعليم الأمانة في الصناعات التي هم بصددها ويملأ قلوبهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار، كما نطق به القرآن ولا يحرّك عليهم شبهة، فإنه ربما تعلقت الشبهة بقلبه ويعسر عليه حلها فيشقى ويهلك. وبالجملة: لا ينبغي أن يفتح للعوام باب البحث فإنه يعطل عليهم صناعاتهم التي بها قوام الخلق ودوام عيش الخواص.
الوظيفة الثامنة: أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذب قوله فعله، لأن العلم يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر. فإذا خالف العمل العلم منع الرشد وكل من تناول شيئاً وقال للناس: لا تتناولوه فإنه سمّ مهلك سخر الناس به واتهموه وزاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به. ومثل المعلم المرشد من المسترشدين مثل النقش من الطين والظل من العود فكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه ومتى استوى الظل والعود أعوج؟ ولذلك قيل في المعنى:
لا تنهَ عَن خُلُقٍ وتأتيَ مثله * عارٌ عليك إذا فَعَلْتَ عظيمُ
وقال الله تعالى:{أَتأْمُرُونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ} ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكبر من وزر الجاهل إذ يزل بزلته عالم كثير ويقتدون به. ومن سنَّ سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها. ولذلك قال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان؛ عالم متهتك وجاهل متنسك؛ فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم يغرّهم بتهتكه. والله أعلم.

الباب السادس في آفات العلم وبـيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء
قد ذكرنا ما ورد من فضائل العلم والعلماء، وقد ورد في العلماء السوء تشديدات عظيمة دلت على أنهم أشد الخلق عذاباً يوم القيامة. فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بـين علماء الدنيا وعلماء الآخرة، ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها، قال : «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» . وعنه أنه قال: «لا يَكُونُ المَرْءُ عَالِماً حَتَّىٰ يَكُونَ بِعِلْمِهِ عَامِلاً» ، وقال : «العِلْمُ عِلْمانِ: عِلْمٌ عَلَىٰ اللِّسَانِ فَذٰلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَىٰ عَلَىٰ خَلْقِهِ وَعِلْمٌ فِي القَلْبِ فَذٰلِكَ العِلْمُ النَّافِعُ» ، وقال : «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِبَادٌ جُهَّالٌ وَعُلَمَاءُ فُسَّاقٌ» ، وقال : «لا تَتَعَلَّمُوا العِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ العُلَمَاءَ وَلِتُهَادُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلِتَصْرِفُوا بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ، فَمَنْ فَعَلَ ذٰلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ» ، وقال : «مَنْ كَتَمَ عِلْماً عِنْدَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وقال : «لأَنَا مِنْ غَيْرِ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنَ الدَّجَّالِ» . فقيل: وما ذلك؟ فقال: «مِنَ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ» ، وقال : «مَنِ ازْدَادَ عِلْماً وَلَمْ يَزْدَدْ هُدًى لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ بُعْداً» ، وقال عيسى عليه السلام: «إلى متى تصفون الطريق للمدلجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين»، فهذا وغيره من الأخبار يدل على عظيم خطر العلم، فإن العالم إما متعرّض لهلاك الأبد أو لسعادة الأبد وإنه بالخوض في العلم قد حرم السلامة إن لم يدرك السعادة.
وأما الآثار فقد قال عمر رضي الله عنه: إنّ أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم. قالوا: وكيف يكون منافقاً عليماً؟ قال: عليم اللسان جاهل القلب والعمل.
وقال الحسن رحمه الله: لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء. وقال رجل لأبـي هريرة رضي الله عنه: أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه فقال: كفى بترك العلم إضاعة له. وقيل لإبراهيم بن عيـينة: أي الناس أطول ندماً؟ قال: أما في عاجل الدنيا فصانع المعروف إلى من لا يشكره وأما عند الموت فعالم مفرّط. وقال الخليل بن أحمد: الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه. وقال سفيان الثوري رحمه الله: يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وقال ابن المبارك: لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: إني لأرحم ثلاثة: عزيز قوم ذلّ، وغني قوم افتقر، وعالماً تلعب به الدنيا. وقال الحسن: عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة وأنشدوا:
عجبتُ لمبتاعِ الضّلالة بالهُدى * ومن يشتري دنياه بالدين أعجبُ

وأَعجبُ من هذين من باع دينه بدنيا سواه فهو من ذَيْنِ أعجبُ وقال : «إِنَّ العَالِمَ لَيُعَذَّبُ عَذَاباً يُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ اسْتِعْظَاماً لِشِدَّةِ عَذَابِهِ» ، أراد به العالم الفاجر. وقال أسامة بن زيد: سمعت رسول الله يقول: «يُؤْتَىٰ بِالعَالِمِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَىٰ فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ بِها كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِالرَّحَىٰ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: مَا لَكُمْ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُ بِالخَيْرِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَىٰ عَنِ الشَّرِّ وَآتِيهِ» ، وإنما يضاعف عذاب العالم في معصيته لأنه عصى عن علم، ولذلك قال الله عز وجل: {إنّ المُنَافِقينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} لأنهم جحدوا بعد العلم، وجعل اليهود شراً من النصارى مع أنهم ما جعلوا لله سبحانه ولداً ولا قالوا: إنه ثالث ثلاثة، إلا أنهم أنكروا بعد المعرفة إذ قال الله: {يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبنَاءَهُمْ} وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرينَ} وقال تعالى - في قصة بلعام بن باعوراء - {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْها فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوينَ} حتى قال:
{فَمَثَلُه كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْركْهُ يَلْهَثْ} فكذلك العالم الفاجر. فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات فشبّه بالكلب أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث إلى الشهوات.
وقال عيسى عليه السلام: مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع، ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى؛ فهذه الأخبار والآثار تبـين أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا أخس حالاً وأشدّ عذاباً من الجاهل. وأن الفائزين المقربـين هم علماء الآخرة ولهم علامات: فمنها أن لا يطلب الدنيا بعلمه فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر. فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له؟ ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بـينهما طمع في غير مطمع؟ فهو جاهل بشرائع الأنبـياء كلهم، بل هو كافر بالقرآن كله من أوّله إلى آخره، فكيف يعدّ من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته؟.
وفي أخبار داود عليه السلام حكاية عن الله تعالى: «إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود لا تسأل عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي، يا داود، إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً؛ يا داود من رد إليَّ هارباً كتبته جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً» ولذلك قال الحسن رحمه الله: عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة.
ولذلك قال يحيـى بن معاذ: إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص. وقال عمر رضي الله عنه: إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم فإن كل محب يخوض فيما أحب، وقال مالك بن دينار رحمه الله: قرأت في بعض الكتب السالفة أن الله تعالى يقول: إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه. وكتب رجل إلى أخ له: إنك قد أوتيت علماً فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم، وكان يحيـى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول لعلماء الدنيا: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبـيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية فأين الشريعة المحمدية؟ قال الشاعر:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها * فكيف إذا الرعاة لها ذئابُ؟
وقال الآخر:
يا معشرَ القرّاء يا ملحَ البلد * ما يصلح المِلْحُ إذا الملح فسدْ؟
وقيل لبعض العارفين: أترى أن من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله؟ قال لا شك أن من تكون الدنيا عنده آثر من الآخرة أنه لا يعرف الله تعالى. وهذا دون ذلك بكثير ولا تظنن أن ترك المال يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة فإن الجاه أضر من المال. ولذلك قال بشر: «حدثنا» باب من أبواب الدنيا فإذا سمعت الرجل يقول: «حدّثنا» فإنما يقول: أوسعوا لي. ودفن بشر بن الحارث بضعة عشر ما بـين قمطرة وقوصرة من الكتب، وكان يقول: أنا أشتهي أن أحدث، ولو ذهبت عني شهوة الحديث لحدثت، وقال هو وغيره: إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت فإذا لم تشته فحدث. وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم لذة من كل تنعم في الدنيا، فمن أجاب شهوته فيه فهو من أبناء الدنيا. ولذلك قال الثوري: فتنة الحديث أشدّ من فتنة الأهل والمال والولد، وكيف لا تخاف فتنته وقد قيل لسيد المرسلين : {وَلْوَلا أنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْت تَرْكَنُ إليْهِمْ شيئاً قَليلاً} وقال سهل رحمه الله: العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل كله هباء إلا الإخلاص. وقال: الناس كلهم موتى إلا العلماء سكارى والعلماء إلا العاملين، والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين، والمخلص على وجل حتى يدري ماذا يختم له به.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا وإنما أراد به طلب الأسانيد العالية أو طلب الحديث الذي يحتاج إليه في طلب الآخرة، وقال عيسى عليه السلام: كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على طريق دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به؟ وقال صالح بن كيسان البصري: أدركت الشيوخ وهم يتعوّذون بالله من الفاجر العالم بالسنة.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «مَنْ طَلَبَ عِلْماً مِمَّا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَىٰ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
وقد وصف الله علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد. فقال عز وجل في علماء الدنيا: {وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لتُبَـيِّننَّهُ للنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ واشْتَروا بِهِ ثَمناً قليلاً} وقال تعالى في علماء الآخرة: {وإنّ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إليْهِمْ خَاشِعينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بآياتِ اللَّه ثمناً قليلاً أولَئكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وقال بعض السلف: العلماء يحشرون في زمرة الأنبـياء، والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين. وفي معنى القضاة كل فقيه قصده طلب الدنيا بعلمه.
وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبـيّ أنه قال: «أَوْحَىٰ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَىٰ بَعْضِ الأَنْبِـيَاءِ: قُلْ لِلَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ لِغَيْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ العَمَلِ وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ يَلْبَسُونِ لِلنَّاسِ مُسُوكَ الكِباشِ وَقُلُوبُهُمْ كَقُلُوبِ الذِّئَابِ. أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَىٰ مِنَ العَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ وَبِـي يَسْتَهْزِئُونَ لأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَذَرُ الحَلِيمَ حَيْرَانَ» وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «عُلَمَاءُ هٰذِهِ الأُمَّةِ رَجُلانِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ عِلْماً فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعاً وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَناً،فَذٰلِكَ يُصَلِّي عَلَيْهِ طَيْرُ السَّمَاءِ وَحِيتَانُ المَاءِ وَدَوَابُّ الأَرْضِ وَالكِرَامُ الكَاتِبُونَ يُقْدِمُ عَلَىٰ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ سَيِّداً شَرِيفاً حَتَّىٰ يُرَافِقَ المُرْسَلِينَ، وَرَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ عِلْماً فِي الدُّنْيا فَضَنَّ بِهِ عَلَىٰ عبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعاً وَاشْتَرَىٰ بِهِ ثَمَناً فَذٰلِكَ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُلْجَماً بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يُنَادِي مُنَادٍ عَلَىٰ رُؤُوسِ الخَلائِقِ هٰذَا فُلانُ بْنُ فُلانٍ آتاهُ اللَّهُ عِلْماً فِي الدُّنْيا فَضَنَّ بِهِ عَلَىٰ عِبَادِهِ وَأَخَذَ بِهِ طَمَعاً وَاشْتَرَىٰ بِهِ ثَمَناً فَيُعَذَّبُ حَتَّىٰ يُفْرَغَ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ» ، وأشد من هذا ما روي: «أن رجلاً كان يخدم موسى عليه السلام فجعل يقول: حدّثني موسى صفي الله، حدّثني موسى نجي الله. حدثني موسى كليم الله حتى أثرى وكثر ماله، ففقده موسى عليه السلام فجعل يسأل عنه ولا يحس له خبراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود، فقال له موسى عليه السلام: أتعرف فلاناً؟ قال: نعم. هو هذا الخنزير، فقال موسى: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا؟ فأوحى الله عز وجل إليه: لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت هذا به؟ لأنه كان يطلب الدنيا بالدين». وأغلظ من هذا ما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً في رواية عن النبـيّ قال: «مِنْ فِتْنَةِ العَالِمِ أَنْ يَكُونَ الكَلامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الاسْتِمَاعِ» ، وفي الكلام تنميق وزيادة ولا يؤمن على صاحبه الخطأ، وفي الصمت سلامة وعلم.
ومن العلماء من يخزن علمه فلا يحب أن يوجد عند غيره فذلك في الدرك الأوّل من النار. ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان إن رد عليه شيء من علمه أو تُهُووِنَ بشيء من حقه غضب، فذلك في الدرك الثاني من النار. ومن العلماء من يجعل علمه وغرائب حديثه لأهل الشرف واليسار ولا يرى أهل الحاجة له أهلاً، فذلك في الدرك الثالث من النار. ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي بالخطأ والله تعالى يبغض المتكلفين فذلك في الدرك الرابع من النار. ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغزر به علمه، فذلك في الدرك الخامس من النار. ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلاً وذكراً في الناس فذلك في الدرك السادس من النار.
ومن العلماء من يستفزه الزهو والعجب فإن وعظ عنف وإن وعظ أنف، فذلك في الدرك السابع من النار. فعليك يا أخي بالصمت فبه تغلب الشيطان. وإياك أن تضحك من غير عجب أو تمشي في غير أرب.
وفي خبر آخر: «إن العبد لينتشر له من الثناء ما يملأ ما بـين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة» ، وروي أن الحسن حمل إليه رجل من خراسان كيساً بعد انصرافه من مجلسه فيه خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب من رقيق البز وقال: يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة؛ فقال الحسن: عافاك الله تعالى، ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله تعالى يوم القيامة ولا خلاق له. وعن جابر رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً قال: قال رسول الله : «لا تَجْلِسُوا عِنْدَ كُلِّ عَالِمٍ إِلاَّ إِلَىٰ عَالِمٍ يَدْعُوكُمْ مِنْ خَمْسٍ إِلَىٰ خَمْسٍ: مِنَ الشَّكِّ إِلَىٰ اليَقِينِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ إِلَىٰ الإِخْلاصِ، وَمِنَ الرَّغْبَةِ إِلَىٰ الزُّهْد، وَمِنَ الكِبْرِ إِلَىٰ التَّواضُعِ، وَمِنَ العَدَاوَةِ إِلَىٰ النَّصِيحَةِ» وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ في زينَتِهِ قَالَ الَّذينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنيا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إنَّهُ لَذُو حَظَ عَظيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ويْلَكُم ثَوابُ اللَّهِ خيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} الآية، فعرّف أهل العلم بإيثار الآخرةِ على الدنيا.
ومنها أن لا يخالف فعله قوله بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أوّل عامل به. قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} وقال تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وقال تعالى في قصة شعيب: {وَمَا أُريدُ أنْ أُخَالِفَكُمْ إلى ما أنْهَاكُمْ عَنْهُ} وقال تعالى: {واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّه} وقال تعالى: {واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا} ، {واتَّقُوا اللَّهَ واسْمَعُوا} وقال تعالى لعيسى عليه السلام: «يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني»،وقال رسول الله : «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِـي بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: كُنَّا نَأْمُرُ بِالخَيْرِ وَلاَ نَأْتِيهِ وَنَنْهَىٰ عَنِ الشَّرِّ وَنَأْتِيهِ» وقال : «هَلاكُ أُمَّتِي عَالِمٌ فَاجِرٌ وَعَابِدٌ جَاهِلٌ، وَشَرُّ الشِّرَارِ شِرَارُ العُلَمَاءِ، وَخَيْرُ الخِيَارِ خِيَارُ العُلَمَاءِ» . وقال الأوزاعي رحمه الله: شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار فأوحى الله إليها: بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات. وقال الشعبـي: يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم: ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله وننهى عن الشر ونفعله. وقال حاتم الأصم رحمه الله: ليس في القيامة أشدّ حسرة من رجل علم الناس علماً فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسببه وهلك هو. وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا. وأنشدوا:
يا واعِظَ النَّاسِ قد أصبحت متهماً * إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها
أصبحتَ تنصحهم بالوعظ مجتهداً* فالموبقات لعمري أنت جانيها
تعيب دنيا وناساً راغبـين لها * وأنت أكثر منهم رغبة فيها
وقال آخر:
لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثله * عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: مررت بحجر بمكة مكتوب عليه «اقلبني تعتبر» فقلبته فإذا عليه مكتوب «أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم»؟ وقال ابن السماك رحمه الله: كم من مذكر بالله ناس لله وكم من مخوّف بالله جريء على الله وكم من مقرّب إلى الله بعيد من الله وكم من داع إلى الله فارّ من الله وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن ولحنا في أعمالنا فلم نعرب. وقال الأوزاعي: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع. وروى مكحول عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال: حدثني عشرة من أصحاب رسول الله قالوا،كنا ندرس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله فقال: «تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا» ، وقال عيسى عليه السلام: مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت فظهر حملها فافتضحت، فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. وقال معاذ رحمه الله: احذروا زلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم فيتبعونه على زلته. وقال عمر رضي الله عنه: إذا زل العالم زل بزلته عالم من الخلق، وقال عمر رضي الله عنه: ثلاث بهن ينهدم الزمان إحداهن زلة العالم. وقال ابن مسعود: سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب فلا ينتفع بالعلم يومئذٍ عالمه ولا متعلمه فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح ينزل عليها قطر السماء فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابـيع الحكمة ويطفىء مصابـيح الهدى من قلوبهم فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذٍ وما أجدب القلوب فوالله الذي لا إلٰه إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى. وفي التوراة والإنجيل مكتوب: لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما علمتم. وقال حذيفة رضي الله عنه: إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا وذلك لكثرة البطالين.
واعلم أن مثل العالم مثل القاضي وقد قال : «القُضَاةُ ثَلاثَةٌ: قَاضٍ قَضَىٰ بَالحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ فَذٰلِكَ فِي الجَنَّةِ، وَقَاضٍ قَضَىٰ بِالجَوْرِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَىٰ بِغَيْرِ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ» وقال كعب رحمه الله: يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، ويخوّفون الناس ولا يخافون، وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم، ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم، يقرّبون الأغنياء دون الفقراء، يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال؛ يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره، أولئك الجبارون أعداء الرحمن. وقال : «إِنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّما يُسَوِّفُكُمْ بِالعِلْمِ» ،فقيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال : «يَقُولُ: اطْلُبِ العِلْمَ وَلا تَعْمَلْ حَتَّىٰ تَعْلَمَ فَلا يَزَالُ لِلْعِلْمِ قَائِلاً وَلِلْعَمَلِ مُسَوِّفاً حَتَّىٰ يَمُوتَ وَما عَمِلَ» ، وقال سري السقطي: «اعتزل رجل للتعبد كان حريصاً على طلب علم الظاهر فسألته فقال: رأيت في النوم قائلاً يقول لي: «إلى كم تضيع العلم ضيعك الله» فقلت: إني لأحفظه فقال: «حفظ العلم العمل به» فتركت الطلب وأقبلت على العمل». وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية. وقال الحسن: تعلموا ما شئتم فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية والعلماء همتهم الرعاية. وقال مالك رحمه الله: إن طلب العلم لحسن وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فلا تؤثرن عليه شيئاً. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة ولا يجدها. وفي مثله قوله تعالى: {وَلَكُمُ الويلُ مِمَّا تَصِفُونَ} وفي الخبر: «مِمَّا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي زَلَةَ عَالِمٍ وَجِدالُ مُنَافِقٍ فِي القُرْآنِ» .
ومنها: أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنباً للعلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدال والقيل والقال. فمثال من يعرض عن علم الأعمال ويشتغل بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبـيباً حاذقاً في وقت ضيق يخشى فواته فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به، وذلك محض السفه. وقد روي «أنّ رجلاً جاء رسول الله فقال: عَلِّمْنِي مِنْ غَرَائِبِ العِلْمِ، فقال له: مَا صَنَعْتَ فِي رَأْسِ العِلْمِ؟ فقال: وَمَا رَأْسُ العِلْمِ؟ قال : هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ تَعَالَىٰ؟ قال: نَعَمْ. قال: فَمَا صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ قال: ما شاءَ اللَّهُ، فقال : هَلْ عَرَفْتَ المَوْتَ؟ قال: نَعَمْ، قال: فَمَا أَعْدَدْتَ لَهُ؟ قال: ما شاءَ اللَّهُ، قال : اذْهَبْ فَاحْكُمْ ما هُنَاكَ ثُمَّ تَعَالَ نُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ العِلْمِ» . بل ينبغي أن يكون المتعلم من جنس ما روي عن حاتم الأصم - تلميذ شقيق البلخي رضي الله عنهما - أنه قال له شقيق: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة، قال: فما تعلمت مني في هذه المدّة؟ قال: ثماني مسائل، قال شقيق له: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل؟ قال: يا أستاذ لم أتعلم غيرها وإني لا أحب أن أكذب، فقال هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها.
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو مع محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه فجعلت الحسنات محبوبـي، فإذا دخلت القبر دخل محبوبـي معي. فقال: أحسنت يا حاتم فما الثانية؟
فقال: نظرت في قول الله عز وجل: {وأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَىٰ فإنّ الجَنَّةَ هِيَ المأْوَىٰ} فعلمت أنّ قوله سبحانه وتعالى هو الحق فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرّت على طاعة الله تعالى.
الثالثة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَد وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.
الرابعة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى: {إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً.
الخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضاً وأصل هذا كله الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَـيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ في الحياة الدُّنيا} فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني.
السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضاً فرجعت إلى قول الله عز وجل: {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدوٌ فاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدوّ لي فتركت عداوة الخلق غيره.
السابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم هذه الكسرة فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له،ثم نظرت إلى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها، فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت مالي عنده.
الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق ـ هذا على ضيعته، وهذا على تجارته، وهذا على صناعته، وهذا على صحة بدنه ـ وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبـي. قال شقيق: يا حاتم وفقك الله تعالى فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذا الثمان مسائل، فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة، فهذا الفن من العلم لا يهتم بإدراكه والتفطن له إلا علماء الآخرة، فأما علماء الدنيا فيشتغلون بما يتيسر به اكتساب المال والجاه، ويهملون أمثال هذه العلوم التي بعث الله بها الأنبـياء كلهم عليهم السلام. وقال الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلم بعضهم من بعض إلا الورع وهم اليوم ما يتعلمون إلا بالكلام.
ومنها أن يكون غير مائل إلى الترفه في المطعم والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن، بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك ويتشبه فيه بالسلف رحمهم الله تعالى، ويميل إلى الاكتفاء بالأقل في جميع ذلك، وكلما زاد إلى طرف القلة ميله ازداد من الله قربه وارتفع في علماء الآخرة حزبه. ويشهد لذلك ما حكي عن أبـي عبد الله الخواص-وكان من أصحاب حاتم الأصم - قال: دخلت مع حاتم إلى الري ومعنا ثلاثمائة وعشرون رجلاً يريد الحج وعليهم الزرمانقات وليس معهم جراب ولا طعام، فدخلنا على رجل من التجار متقشف يحب المساكين فأضافنا تلك الليلة فلما كان من الغد قال لحاتم: ألك حاجة فإني أريد أن أعود فقيهاً لنا هو عليل؟ قال حاتم: عيادة المريض فيها فضل والنظر إلى الفقيه عبادة وأنا أيضاً أجيء معك. وكان العليل محمد بن مقاتل - قاضي الري - فلما جئنا إلى الباب فإذا قصر مشرف حسن فبقي حاتم متفكراً يقول: باب عالم على هذه الحالة؟ ثم أذن لهم فدخلوا فإذا دار حسناء فوراء واسعة نزهة وإذا بزة وستور، فبقي حاتم متفكراً ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه وإذا بفرش وطيئة وهو راقد عليها وعند رأسه غلام وبـيده مذبة، فقعد الزائر عند رأسه وسأل عن حاله وحاتم قائم فأومأ إليه ابن مقاتل أن اجلس، فقال: لا أجلس. فقال: لعل لك حاجة. فقال: نعم، قال: وما هي؟ قال: مسألة أسألك عنها. قال: سل، قال: قم فاستو جالساً حتى أسألك. فاستوى جالساً. قال حاتم: علمك هذا من أين أخذته؟ فقال: من الثقات حدثوني به، قال: عمن؟ قال: عن أصحاب رسول الله ، قال: وأصحاب رسول الله عمن؟ قال: عن رسول الله ، قال: ورسول الله عمن؟ قال: عن جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل. قال حاتم: ففيما أداه جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل إلى رسول الله ، وأداه رسول الله إلى أصحابه وأصحابه إلى الثقات، وأداه الثقات إليك هل سمعت فيه من كان في داره إشراف وكانت سعتها أكثر كان له عند الله عز وجل المنزلة أكبر: قال: لا. قال: فكيف سمعت؟ قال: سمعت أنه من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته كانت له عند الله المنزلة، قال له حاتم: فأنت بمن اقتديت أبالنبـي وأصحابه رضي الله عنهم والصالحين رحمهم الله أم بفرعون ونمروذ أول من بنى بالجص والآجر؟ يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل المتكالب على الدنيا الراغب فيها فيقول: العالم على هذه الحالة: أفلا أكون أنا شراً منه؟ وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل مرضاً وبلغ أهل الري ما جرى بـينه وبـين ابن مقاتل فقالوا له: إن الطنافسي بقزوين أكثر توسعاً منه. فسار حاتم متعمداً فدخل عليه فقال: رحمك الله أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني مبدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة؟ قال: نعم وكرامة يا غلام هات إناء فيه ماء. فأتى به فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا فتوضأ. فقال حاتم: مكانك حتى أتوضأ بـين يديك فيكون أوكد لما أريد، فقام الطنافسي وقعد حاتم فتوضأ ثم غسل ذراعيه أربعاً أربعاً فقال الطنافسي: يا هذا أسرفت. قال له حاتم: فبماذا؟ قال غسلت ذراعيك أربعاً. فقال حاتم: يا سبحان الله العظيم أنا في كف من ماء أسرفت وأنت في جميع هذا كله لم تسرف؟ فعلم الطنافسي أنه قصد ذلك دون التعلم فدخل منزله فلم يخرج إلى الناس أربعين يوماً، فلما دخل حاتم بغداد اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا: يا أبا عبد الرحمٰن أنت رجل ألكن أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته، قال: معي ثلاث خصال أظهر بهن على خصمي. أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه. فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما أعقله قوموا بنا إليه. فلما دخلوا عليه قال له: يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا؟ قال: يا أبا عبد الله لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال: تغفر للقوم جهلهم، وتمنع جهلك منهم، وتبذل لهم شيئك، وتكون من شيئهم آيساً، فإذا كنت هكذا سلمت، ثم سار إلى المدينة فاستقبله أهل المدينة فقال: يا قوم أية مدينة هذه؟ قالوا: مدينة رسول الله ، قال: فأين قصر رسول الله حتى أصلي فيه؟ قالوا: ما كان له قصر إنما كان له بـيت لاطىء بالأرض، قال: فأين قصور أصحابه رضي الله عنهم؟ قالوا: ما كان لهم قصور إنما كان لهم بـيوت لاطئة بالأرض؛ قال حاتم: يا قوم فهذه مدينة فرعون، فأخذوه وذهبوا به إلى السلطان وقالوا: هذا العجمي يقول هذه مدينة فرعون، قال الوالي: ولم ذلك؟ قال حاتم: لا تعجل عليَّ أنا رجل أعجمي غريب دخلت البلد فقلت: مدينة من هذه؟ فقالوا: مدينة رسول الله ، فقلت: فأين قصره وقص القصة، ثم قال: وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فأنتم بمن تأسيتم أبرسول الله أم بفرعون أول من بنى بالجص والآجرّ؟ فخلوا عنه وتركوه. فهذه حكاية حاتم الأصم رحمه الله تعالى. وسيأتي من سيرة السلف في البذاذة وترك التجمل ما يشهد لذلك في مواضعه.
والتحقيق فيه أن التزين بالمباح ليس بحرام، ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه، واستدامة الزينة لا تمكن إلا بمباشرة أسباب في الغالب يلزم من مراعاتها ارتكاب المعاصي من المداهنة، ومراعاة الخلق ومراءاتهم وأمور أخرى هي محظورة والحزم اجتناب ذلك، لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة، ولو كانت السلامة مبذولة مع الخوض فيها لكان لا يبالغ في ترك الدنيا حتى نزع القميص المطرز بالعلم ، ونزع خاتم الذهب في أثناء الخطبة إلى غير ذلك مما سيأتي بـيانه.
وقد حكي أن يحيـى بن يزيد النوفلي كتب إلى مالك بن أنس رضي الله عنهما: «بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين، من يحيـى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس، أما بعد، فقد بلغني أنك تلبس الدقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطىء، وتجعل على بابك حاجباً، وقد جلست مجلس العلم، وقد ضربت إليك المطي، وارتحل إليك الناس، واتخذوك إماماً ورضوا بقولك؛ فاتق الله تعالى يا مالك وعليك بالتواضع. كتبت إليك بالنصيحة مني كتاباً ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى والسلام» فكتب إليه مالك: «بسم الله الرحمٰن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. من مالك بن أنس إلى يحيـى بن يزيد سلام الله عليك،أما بعد: فقد وصل إليَّ كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب. أمتعك الله بالتقوى وجزاك بالنصيحة خيراً، وأسأل الله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الوطىء، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى فقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه. ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسلام». فانظر إلى إنصاف مالك إذ اعترف أن ترك ذلك خير من الدخول فيه وأفتى بأنه مباح وقد صدق فيهما جميعاً، ومثل مالك في منصبه إذا سمحت نفسه بالإنصاف والاعتراف في مثل هذه النصيحة فتقوى أيضاً نفسه على الوقوف على حدود المباح حتى لا يحمله ذلك على المراءاة والمداهنة والتجاوز إلى المكروهات، وأما غيره فلا يقدر عليه فالتعريج على التنعم بالمباح خطر عظيم وهو بعيد من الخوف والخشية وخاصية علماء الله تعالى الخشية، وخاصية الخشية التباعد من مظان الخطر.
ومنها أن يكون مستقصياً عن السلاطين فلا يدخل عليهم البتة ما دام يجد إلى الفرار عنهم سبـيلاً، بل ينبغي أن يحترز عن مخالطتهم وإن جاؤوا إليه، فإن الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدي السلاطين. والمخالط لهم لا يخلو عن تكلف في طلب مرضاتهم واستمالة قلوبهم مع أنهم ظلمة. ويجب على كل متدين الإنكار عليهم وتضيـيق صدورهم بإظهار ظلمهم وتقبـيح فعلهم، فالداخل عليهم إما أن يلتفت إلى تجملهم فيزدري نعمة الله عليه، أو يسكت عن الإنكار عليهم فيكون مداهناً لهم، أو يتكلف في كلامه كلاماً لمرضاتهم وتحسين حالهم وذلك هو البهت الصريح، أو أن يطمع في أن ينال من دنياهم وذلك هو السحت، وسيأتي في كتاب الحلال والحرام ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين وما لا يجوز من الإدرار والجوائز وغيرها. وعلى الجملة فمخالطتهم مفتاح للشرور وعلماء الآخرة طريقهم الاحتياط. وقد قال : «مَنْ بَدا جَفا» - يعني من سكن البادية جفا - «وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفِلَ وَمَنْ أَتَىٰ السُّلْطَانَ افْتُتِنِ» وقال : «سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِىءَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ،وَلٰكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ أَبْعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ» . قيل: أفلا نقاتلهم؟ قال : «لا مَا صَلَّوا» ، وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وقال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن، قيل وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول فيه ما ليس فيه. وقال رسول الله : «العُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَىٰ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَىٰ مَا لَمْ يُخَالِطُوا السَّلاطِينَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذٰلِكَ فَقَدْ خَانُوا الرُّسُلَ فَاحْذَرُوهُمْ وَاعْتَزِلُوهُمْ» . رواه أنس. وقيل للأعمش: لقد أحيـيت العلم لكثرة من يأخذه عنك فقال: لا تعجلوا ثلث يموتون قبل الإدراك، وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهم شر الخلق، والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل. ولذلك قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه فإنه لص. وقال الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً. وقال رسول الله : «شِرَارُ العُلَمَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَ الأُمَرَاءَ وَخِيَارُ الأُمَرَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَ العُلَمَاءَ» ، وقال مكحول الدمشقي رحمه الله: من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم صحب السلطان تملقاً إليه وطمعاً فيما لديه خاض في بحر من نار جهنم بعدد خطاه. وقال سمنون: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال هو عند الأمير قال: وكنت أسمع أنه يقال إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك؛ إذ ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك وأنتم ترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة وكثرة المخالفة لهواه، ولوددت أن أنجو من الدخول عليه كفافاً مع أني لا آخذ منه شيئاً ولا أشرب له شربة ماء. ثم قال: وعلماء زماننا شر من علماء بني إسرائيل يخبرون السلطان بالرخص وبما يوافق هواه ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم وكره دخولهم عليه وكان ذلك نجاة لهم عند ربهم. وقال الحسن: كان فيمن كان قبلكم رجل له قدم في الإسلام وصحبة لرسول الله- قال عبد الله بن المبارك عنى به سعد بن أبـي وقاص رضي الله عنه - قال: وكان لا يغشى السلاطين وينفر عنهم. فقال له بنوه: يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدم في الإسلام فلو أتيتهم، فقال: يا بني آتي جيفة قد أحاط بها قوم والله لئن استطعت لا أشاركهم فيها؛ قالوا: يا أبانا إذن نهلك هزالاً قال: يا بني لأن أموت مؤمناً مهزولاً ولا أحب إليَّ من أن أموت منافقاً سميناً. قال الحسن: خصمهم والله إذ علم أن التراب يأكل اللحم والسمن دون الإيمان. وفي هذا إشارة إلى أن الداخل على السلطان لا يسلم من النفاق البتة وهو مضاد للإيمان. وقال أبو ذرّ لسلمة: يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب شيئاً من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه. وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم لا سيما من له لهجة مقبولة وكلام حلو، إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أن في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع إلى أن يخيل إليه أن الدخول عليهم من الدين، ثم إذا دخل لم يلبث أن يتلطف في الكلام ويداهن ويخوض في الثناء والإطراء وفيه هلاك الدين. وكان يقال: العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا.
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الحسن: أما بعد؛ فأشر عليَّ بأقوام أستعين بهم على أمر الله تعالى. فكتب إليه: أما أهل الدين فلا يريدونك وأما أهل الدنيا فلن تريدهم ولكن عليك بالأشراف فإنهم يصونون شرفهم أن يدنسوه بالخيانة. هذا في عمر بن عبد العزيز رحمه الله وكان أزهد أهل زمانه فإذا كان شرط أهل الدين الهرب منه فكيف يستنسب طلب غيرهم ومخالطته؟ ولم يزل السلف العلماء مثل الحسن والثوري وابن المبارك والفضيل وإبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلمون في علماء الدنيا من أهل مكة والشام وغيرهم إما لميلهم إلى الدنيا وإما لمخالطتهم السلاطين منها أن لا يكون مسارعاً إلى الفتيا، بل يكون متوقفاً ومحترزاً ما وجد إلى الخلاص سبـيلاً. فإن سئل عما يعلمه تحقيقاً بنص كتاب الله أو بنص حديث أو إجماع أو قياس جلي أفتى، وإن سئل عما يشك فيه قال: لا أدري وإن سئل عما يظنه باجتهاد وتخمين احتاط ودفع عن نفسه وأحال على غيره إن كان في غيره غنية. هذا هو الحزم لأن تقلد خطر الاجتهاد عظيم. وفي الخبر: «العلم ثلاثة: كتاب ناطق وسنة قائمة ولا أدري» . قال الشعبـي: «لا أدري» نصف العلم. ومن سكت حيث لا يدري لله تعالى فليس بأقل أجراً ممن نطق لأن الاعتراف بالجهل أشدّ على النفس، فهكذا كانت عادة الصحابة والسلف رضي الله عنهم. كان ابن عمر إذا سئل عن الفتيا قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلد أمور الناس فضعها في عنقه؛ وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وقال: جنة العالم «لا أدري» فإن أخطأها فقد أصيبت مقاتله. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ليس شيء أشد على الشيطان من عالم يتكلم بعلم ويسكت بعلم، يقول: انظروا إلى هذا سكوته أشدّ عليَّ من كلامه. ووصف بعضهم الأبدال فقال: أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة؛ أي لا يتكلمون حتى يسألوا وإذا سئلوا ووجدوا من يكفيهم سكتوا، فإن اضطروا أجابوا وكانوا يعدون الابتداء قبل السؤال من الشهوة الخفية للكلام. ومرّ علي وعبد الله رضي الله عنهما برجل يتكلم على الناس فقال: هذا يقول اعرفوني. وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا سئل عن المسألة فكأنما يقلع ضرسه. وكان ابن عمر يقول: تريدون أن تجعلونا جسراً تعبرون علينا إلى جهنم. وقال أبو حفص النيسابوري: العالم هو الذي يخاف عند السؤال أن يقال له يوم القيامة من أين أجبت؟ وكان إبراهيم التيمي إذا سئل عن مسألة يبكي ويقول: لم تجدوا غيري حتى احتجتم إليَّ. وكان أبو العالية الرياحي وإبراهيم بن أدهم والثوري يتكلمون على الاثنين والثلاثة والنفراليسير، فإذا كثروا انصرفوا. وقال : «مَا أَدْرِي أَعُزَيْرٌ نَبِـيٌّ أَمْ لا؟ وَمَا أَدْرِي أَتُّبَعٌ مَلْعُونٌ أَمْ لا؟ وَمَا أَدْرِي ذُو القَرْنَيْنِ نَبِـيٌّ أَمْ لا؟» ولما سئل رسول الله عن خير البقاع في الأرض وشرها قال: «لا أَدْرِي» ، حتى نزل عليه جبريل عليه السلام فسأله فقال: «لا أَدْرِي» إلى أن أعلمه الله عز وجل «أن خير البقاع المساجد وشرها الأسواق» وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسع. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يجيب عن تسع ويسكت عن واحدة. وكان في الفقهاء من يقول: «لا أدري» أكثر ممن يقول: «أدري» منهم سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، والفضيل بن عياض، وبشر بن الحارث. وقال عبد الرحمن بن أبـي ليلى: أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله ما منهم أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك. وفي لفظ آخر: كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأوّل.
وروي أن أصحاب الصفة أهدي إلى واحد منهم رأس مشوي وهو في غاية الضر فأهداه إلى الآخر وأهداه الآخر إلى الآخر؛ هكذا دار بـينهم حتى رجع إلى الأول. فانظر الآن كيف انعكس أمر العلماء فصار المهروب منه مطلوباً والمطلوب مهروباً منه؟ ويشهد لحسن الاحتراز من تقلد الفتاوى ما روي مسنداً عن بعضهم أنه قال: لا يفتي الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو متكلف. وقال بعضهم: كان الصحابة يتدافعون أربعة أشياء؛ الإمامة والوصية والوديعة والفتيا. وقال بعضهم: كان أسرعهم إلى الفتيا أقلهم علماً وأشدهم دفعاً لها أورعهم. وكان شغل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في خمسة أشياء: قراءة القرآن، وعمارة المساجد، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وذلك لما سمعوه من قوله : «كُلُّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ إِلاَّ ثَلاثَة: أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَىٰ» وقال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاَحٍ بَـيْنَ النَّاسِ} الآية.
ورأى بعض العلماء بعض أصحاب الرأي من أهل الكوفة في المنام فقال: ما رأيت فيما كنت عليه من الفتيا والرأي؟ فكره وجهه وأعرض عنه وقال: ما وجدناه شيئاً وما حمدنا عاقبته. وقال ابن حصين: إن أحدهم ليفتي في مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر. فلم يزل السكوت دأب أهل العلم إلا عند الضرورة. وفي الحديث: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُوتِيَ صَمْتاً وَزُهْداً فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ» وقيل: العالم إما عالم عامة وهو المفتي وهم أصحاب السلاطين أو عالم خاصة وهو العالم بالتوحيد وأعمال القلوب، وهم أصحاب الزوايا المتفرقون المنفردون. وكان يقال: مثل أحمد بن حنبل مثل دجلة كل أحد يغترف منها، ومثل بشر بن الحارث مثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا واحد بعد واحد. وكانوا يقولون: فلان عالم وفلان متكلم وفلان أكثر كلاماً وفلان أكثر عملاً، وقال أبو سليمان: المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام وقيل: إذا كثر العلم قل الكلام، وإذا كثر الكلام قل العلم، وكتب سلمان إلى أبـي الدرداء رضي الله عنهما - وكان قد آخى بـينهما رسول الله-: يا أخي بلغني أنك قعدت طبـيباً تداوي المرضى،فانظر فإن كنت طبـيباً فتكلم فإن كلامك شفاء، وإن كنت متطبباً فالله الله لا تقتل مسلماً. فكان أبو الدرداء يتوقف بعد ذلك إذا سئل، وكان أنس رضي الله عنه إذا سئل يقول: سلوا مولانا الحسن وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل يقول: سلوا حارثة بن زيد وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سلوا سعيد بن المسيب.
وحكي أنه روى صحابـي في حضرة الحسن عشرين حديثاً فسئل عن تفسيرها فقال: ما عندي إلا ما رويت، فأخذ الحسن في تفسيرها حديثاً حديثاً، فتعجبوا من حسن تفسيره وحفظه فأخذ الصحابـي كفاً من حصى ورماهم به وقال: تسألوني عن العلم وهذا الحبر بـين أظهركم.
ومنها أن يكون أكثر اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه وصدق الرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة فإن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة، ودقائق علوم القلب تتفجر بها ينابـيع الحكمة من القلب، وأما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك، بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعدّ إنما تنفتح بالمجاهدة والمراقبة ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله عز وجل في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة والانقطاع إلى الله تعالى عما سواه، فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف، فكم من متعلم طال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة، وكم من مقتصر على المهم في التعلم ومتوفر على العمل ومراقبة القلب فتح الله له من لطائف الحكمة ما تحار فيه عقول ذوي الألباب، ولذلك قال : «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ» ، وفي بعض الكتب السالفة: «يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به إلى الأرض، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحار من يعبر يأتي به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بـين يدي بآداب الروحانيـين وتخلقوا لي بأخلاق الصديقين أظهر العلم في قلوبكم حتى يغطيكم ويغمركم». وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: خرج العلماء والعباد والزهاد من الدنيا وقلوبهم مقفلة ولم تفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء. ثم تلا قوله تعالى: {وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ} الآية. ولولا أن إدراك قلب من له قلب بالنور الباطن حاكم على علم الظاهر لما قال : «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ وَأَفْتَوْكَ وَأَفْتَوْكَ» وقال فيما يرويه عن ربه تعالى: «لا يَزَالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّىٰ أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ» ... «الحديث»، فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجرّدين للذكر والفكر تخلو عنها كتب التفاسير، ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين، وإذا انكشف ذلك للمريد المراقب وعرض على المفسرين استحسنوه وعلموا أن ذلك من تنبـيهات القلوب الزكية وألطاف الله تعالى بالهمم العالية المتوجهة إليه. وكذلك في علوم المكاشفة وأسرار علوم المعاملة ودقائق خواطر القلوب، فإن كل علم من هذه العلوم بحر لا يدرك عمقه، وإنما يخوضه كل طالب بقدر ما رزق منه وبحسب ما وفق له من حسن العمل، وفي وصف هؤلاء العلماء قال علي رضي الله عنه في حديث طويل: «القلوب أوعية وخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: عالم رباني ومتعلم على سبـيل النجاة وهمج رعاع أتباع لكل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم يزكو على الإنفاق والمال ينقصه الإنفاق، والعلم دين يدان به تكتسب به الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته؛ العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومنفعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر، ثم تنفس الصعداء وقال: هاه إن ههنا علماً جمّاً لو وجدت له حملة، بل أجد طالباً غير مأمون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا ويستطيل بنعم الله على أوليائه ويستظهر بحجته على خلقه، أو منقاداً لأهل الحق لكن ينزرع الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا بصيرة له لا ذا ولا ذاك؛ أو منهوماً باللذات سلس القياد في طلب الشهوات، أو مغرى بجمع الأموال والإدخار منقاداً لهواه أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة؛ اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه ثم لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبـيناته وكم وأين أولئك؟ هم الأقلون عدداً الأعظمون قدراً أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعوها من وراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما استوحش منه الغافلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه وأمناؤه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه ثم بكى وقال: واشوقاه إلى رؤيتهم فهذا الذي ذكره أخيراً هو وصف علماء الآخرة وهو العلم الذي يستفاد أكثره من العمل والمواظبة على المجاهدة. ومنها؛ أن يكون شديد العناية بتقوية اليقين، فإن اليقين هو رأس مال الدين. قال رسول الله : «اليَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ» فلا بد من تعلم علم اليقين أعني أوائله ثم ينفتح للقلب طريقه، ولذلك قال : «تَعَلَّمُوا اليَقِينَ» ، ومعناه جالسوا الموقنين واستمعوا منهم علم اليقين وواظبوا على الاقتداء بهم ليقوى يقينكم كما قوي يقينهم وقليل من اليقين خير من كثير من العمل. وقال لما قيل له: رجل حسن اليقين كثير الذنوب ورجل مجتهد في العبادة قليل اليقين، فقال : «ما مِنْ آدَمِيَ إِلاَّ وَلَهُ ذُنُوبٌ وَلٰكِنْ مَنْ كَانَ غَرِيزَتُهُ العَقْلَ وَسَجِيَّتُهُ اليَقِينَ لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ لأَنَّهُ كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ وَنَدِمَ فَتُكَفَّرَ ذُنُوبُهُ وَيَبْقَىٰ لَهُ فَضْلٌ يَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ» ، ولذلك قال : «إِنَّ مِنْ أَقَلِّ مَا أُوتِيتُم: اليَقِينَ وَعَزِيمَةَ الصَّبْرِ وَمَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْهُما لَمْ يُبَالِ ما فَاتَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ» . وفي وصية لقمان لابنه: يا بني لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا يقصر عامل حتى ينقص يقينه، وقال يحيـى بن معاذ: إن للتوحيد نوراً وللشرك ناراً، وإن نور التوحيد أحرق لسيئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين. وأراد به اليقين، وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى ذكر الموقنين في مواضع دل بها على أن اليقين هو الرابطة للخيرات والسعادات.
فإن قلت: فما معنى اليقين وما معنى قوّته وضعفه فلا بد من فهمه أولاً ثم الاشتغال بطلبه وتعلمه فإن ما لا تفهم صورته لا يمكن طلبه؟ فاعلم أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيـين مختلفين. أما النظار والمتكلمون فيعبرون به عن عدم الشك إذ ميل النفس إلى التصديق بالشيء له أربع مقامات:
الأول: أن يعتدل التصديق والتكذيب ويعبر عنه بالشك، كما إذا سئلت عن شخص معين، أن الله تعالى يعاقبه أم لا؟ وهو مجهول الحال عندك فإن نفسك لا تميل إلى الحكم فيه بإثبات ولا نفي، بل يستوي عندك إمكان الأمرين فيسمى هذا شكاً.
الثاني:أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه ولكنه إمكان لا يمنع ترجيح الأول، كما إذا سئلت عن رجل تعرفه بالصلاح والتقوى أنه بعينه لو مات على هذه الحالة هل يعاقب؟ فإن نفسك تميل إلى أنه لا يعاقب أكثر من ميلها إلى العقاب وذلك لظهور علامات الصلاح. ومع هذا فأنت تجوّز اختفاء أمر موجب للعقاب في باطنه وسريرته، فهذا التجويز مساوٍ لذلك الميل ولكنه غير دافع رجحانه، فهذه الحالة تسمى ظناً.
الثالث: أن تميل النفس إلى التصديق بشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله، ولكن ليس ذلك مع معرفة محققة إذ لو أحسن صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز اتسعت نفسه للتجويز، وهذا يسمى اعتقاداً مقارباً لليقين وهو اعتقاد العوام في الشرعيات كلها إذ رسخ في نفوسهم بمجرد السماع، حتى إن كل فرقة تثق بصحة مذهبها وإصابة إمامها ومتبوعها، ولو ذكر لأحدهم إمكان خطأ إمامه نفر عن قبوله.
الرابع: المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي لا يشك فيه ولا يتصوّر الشك فيه، فإذا امتنع وجود الشك وإمكانه يسمى يقيناً عند هؤلاء، ومثاله أنه إذا قيل للعاقل هل في الوجود شيء هو قديم؟ فلا يمكنه التصديق به بالبديهة لأن القديم غير محسوس لا كالشمس والقمر فإنه يصدق بوجودهما بالحس، وليس العلم بوجود شيء قديم أزلي ضرورياً مثل العلم بأنّ الاثنين أكثر من الواحد، ومثل العلم بأن حدوث حادث بلا سبب محال، فإن هذا أيضاً ضروري فحق غريزة العقل أن تتوقف عن التصديق بوجود القديم على طريق الارتجال والبديهة، ثم من الناس من يسمع ذلك ويصدّق بالسماع تصديقاً جزماً ويستمرّ عليه وذلك هو الاعتقاد وهو حال جميع العوام. ومن الناس من يصدّق به بالبرهان وهو أن يقال له: إن لم يكن في الوجود قديم فالموجودات كلها حادثة، فإن كانت كلها حادثة فهي حادثة بلا سبب أو فيها حادث بلا سبب وذلك محال، فالمؤدي إلى المحال محال، فيلزم في العقل التصديق بوجود شيء قديم بالضرورة لأن الأقسام ثلاثة. وهي أن تكون الموجودات كلها قديمة أو كلها حادثة أو بعضها قديمة وبعضها حادثة، فإن كانت كلها قديمة فقد حصل المطلوب إذ ثبت على الجملة قديم، وإن كان الكل حادثاً فهو محال إذ يؤدي إلى حدوث بغير سبب فيثبت القسم الثالث أو الأول. وكل علم حصل على هذا الوجه يسمى يقيناً عند هؤلاء سواء حصل بنظر مثل ما ذكرناه أو حصل بحس أو بغريزة العقل كالعلم باستحالة حادث بلا سبب أو بتواتر،كالعلم بوجود مكة أو بتجربة كالعلم بأن السقمونيا المطبوخ مسهل. أو بدليل كما ذكرنا. فشرط إطلاق هذا الاسم عندهم عدم الشك فكل علم لا شك فيه يسمى يقيناً عند هؤلاء، وعلى هذا لا يوصف اليقين بالضعف إذ لا تفاوت في نفي الشك.
الاصطلاح الثاني اصطلاح الفقهاء والمتصوفة وأكثر العلماء وهو أن لا يلتفت فيه إلى اعتبار التجويز والشك بل إلى استيلائه وغلبته على العقل حتى يقال: فلان ضعيف اليقين بالموت مع أنه لا شك فيه؛ ويقال: فلان قوي اليقين في إتيان الرزق مع أنه قد يجوز أنه لا يأتيه، فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب واستولى حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالتجويز والمنع سمي ذلك يقيناً ولا شك في أن الناس يشتركون في القطع بالموت والانفكاك عن الشك فيه، ولكن فيهم من لا يلتفت إليه ولا إلى الاستعداد له وكأنه غير موقن به. ومنهم من استولى ذلك على قلبه حتى استغرق جميع همه بالاستعداد له ولم يغادر فيه متسعاً لغيره فيعبر عن مثل هذه الحالة بقوّة اليقين، ولذلك قال بعضهم: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت، وعلى هذا الاصطلاح يوصف اليقين بالضعف والقوّة ونحن إنما أردنا بقولنا: «إن من شأن علماء الآخرة صرف العناية إلى تقوية اليقين» بالمعنيـين جميعاً وهو نفي الشك ثم تسليط اليقين على النفس حتى يكون هو الغالب المتحكم عليها المتصرف فيها. فإذا فهمت هذا علمت أن المراد من قولنا: «إن اليقين ينقسم ثلاثة أقسام» بالقوّة والضعف والكثرة والقلة والخفاء والجلاء، فأما بالقوّة والضعف فعلى الاصطلاح الثاني وذلك في الغلبة والاستيلاء على القلب، ودرجات معاني اليقين في القوّة والضعف لا تتناهى، وتفاوت الخلق في الاستعداد للموت بحسب تفاوت اليقين بهذه المعاني، وأما التفاوت بالخفاء والجلاء في الاصطلاح الأوّل فلا ينكر أيضاً، أما فيما يتطرّق إليه التجويز فلا ينكر- أعني الاصطلاح الثاني - وفيما انتفى الشك أيضاً عنه لا سبـيل إلى إنكاره فإنك تدرك تفرقه بـين تصديقك بوجود مكة ووجود فدك مثلاً، وبـين تصديقك بوجود موسى ووجود يوشع عليهما السلام مع أنك لا تشك في الأمرين جميعاً فمستندهما جميعاً التواتر، ولكن ترى أحدهما أجلى وأوضح في قلبك من الثاني، لأن السبب في أحدهما أقوى وهو كثرة المخبرين، وكذلك يدرك الناظر هذا في النظريات المعروفة بالأدلة فإنه ليس وضوح ما لاح له بدليل واحد كوضوح ما لاح له بالأدلة الكثيرة مع تساويهما في نفي الشك،وهذا قد ينكره المتكلم الذي يأخذ العلم من الكتب والسماع ولا يراجع نفسه فيما يدركه من تفاوت الأحوال. وأما القلة والكثرة؛ فذلك بكثرة متعلقات اليقين، كما يقال: فلان أكثر علماً من فلان، أي معلوماته أكثر. ولذلك قد يكون العالم قوي اليقين في جميع ما ورد الشرع به وقد يكون قوي اليقين في بعضه.
فإن قلت: قد فهمت اليقين وقوّته وضعفه وكثرته وقلته وجلاءه وخفاءه بمعنى نفي الشك أو بمعنى الاستيلاء على القلب، فما معنى متعلقات اليقين ومجاريه وفيماذا يطلب اليقين فإني ما لم أعرف ما يطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه؟ فاعلم أن جميع ما ورد به الأنبـياء صلوات الله وسلامه عليهم من أوله إلى آخره هو من مجاري اليقين، فإن اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة ومتعلقه المعلومات التي وردت بها الشرائع فلا مطمع في إحصائها ولكني أشير إلى بعضها وهي أمهاتها.
فمن ذلك: التوحيد... وهو أن يرى الأشياء كلها من مسبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط، بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها فالمصدق بهذا موقن، فإن انتفى عن قلبه مع الإيمان إمكان الشك فهو موقن بأحد المعنيـين، فإن غلب على قلبه مع الإيمان غلبة أزالت عنه الغضب على الوسائط والرضا عنهم والشكر لهم، ونزل الوسائط في قلبه منزلة القلم واليد في حق المنعم بالتوقيع، فإنه لا يشكر القلم ولا اليد ولا يغضب عليهما بل يراهما آلتين مسخرتين وواسطتين فقد صار موقناً بالمعنى الثاني وهو الإشراف، وهو ثمرة اليقين الأول وروحه وفائدته. ومهما تحقق أن الشمس والقمر والنجوم والجماد والنبات والحيوان وكل مخلوق فهي مسخرات بأمره حسب تسخير القلم في يد الكاتب، وأن القدرة الأزلية هي المصدر للكل استولى على قلبه غلبة التوكل والرضا والتسليم، وصار موقناً بريئاً من الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق، فهذا أحد أبواب اليقين.
ومن ذلك: الثقة بضمان الله سبحانه بالرزق في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُها} واليقين بأن ذلك يأتيه وأن ما قدّر له سيساق إليه، ومهما غلب ذلك على قلبه كان مجملاً في الطلب ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما فاته، وأثمر هذا اليقين أيضاً جملة من الطاعات والأخلاق الحميدة.
ومن ذلك: أن يغلب على قلبه أن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وهو اليقين بالثواب والعقاب حتى يرى نسبة الطاعات إلى الثواب كنسبة الخبز إلى الشبع،ونسبة المعاصي إلى العقاب كنسبة السموم والأفاعي إلى الهلاك، فكما يحرص على التحصيل للخبز طلباً للشبع فيحفظ قليله وكثيره، فكذلك يحرص على الطاعات كلها قليلها وكثيرها، وكما يجتنب قليل السموم وكثيرها، فكذلك يجتنب المعاصي قليلها وكثيرها وصغيرها وكبـيرها؛ فاليقين بالمعنى الأول قد يوجد لعموم المؤمنين أما بالمعنى الثاني فيختص به المقربون، وثمرة هذا اليقين صدق المراقبة في الحركات والسكنات والخطرات والمبالغة في التقوى والتحرّز عن كل السيئات، وكلما كان اليقين أغلب كان الاحتراز أشد والتشمير أبلغ.
ومن ذلك؛ اليقين بأن الله تعالى مطلع عليك في كل حال، ومشاهد لهواجس ضميرك وخفايا خواطرك وفكرك فهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأوّل وهو عدم الشك، وأما بالمعنى الثاني وهو المقصود فهو عزيز يختص به الصديقون، وثمرته أن يكون الإنسان في خلوته متأدباً في جميع أحواله كالجالس بمشهد ملك معظم ينظر إليه فإنه لا يزال مطرقاً متأدباً في جميع أعماله متماسكاً محترزاً عن كل حركة تخالف هيئة الأدب، ويكون في فكرته الباطنة كهو في أعماله الظاهرة إذ يتحقق أن الله تعالى مطلع على سريرته كما يطلع الخلق على ظاهره، فتكون مبالغته في عمارة باطنه وتطهيره وتزيـينه بعين الله تعالى الكائنة أشد من مبالغته في تزيـين ظاهره لسائر الناس، وهذا المقام في اليقين يورث الحياء والخوف والانكسار والذل والاستكانة والخضوع وجملة من الأخلاق المحمودة، وهذه الأخلاق تورث أنواعاً من الطاعات رفيعة، فاليقين في كل باب من هذه الأبواب مثل الشجرة، وهذه الأخلاق في القلب مثل الأغصان المتفرعة منها، وهذه الأعمال والطاعات الصادرة من الأخلاق كالثمار وكالأنوار المتفرّعة من الأغصان، فاليقين هو الأصل والأساس وله مجار وأبواب أكثر مما عددناه، وسيأتي ذلك في ربع المنجيات ومنها: أن يكون حزيناً منكسراً مطرقاً صامتاً يظهر أثر الخشية على هيئته وكسوته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته لا ينظر إليه ناظر إلا وكان نظره مذكراً لله تعالى وكانت صورته دليلاً على عمله، فالجواد عينه مرآته، وعلماء الآخرة يعرفون بسيماهم في السكينة والذلة والتواضع، وقد قيل: ما ألبس الله عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكينة فهي لبسة الأنبـياء وسيما الصالحين والصديقين والعلماء، وأما التهافت في الكلام والتشدق والاستغراق في الضحك والحدة في الحركة والنطق،فكل ذلك من آثار البطر والأمن والغفلة عن عظيم عقاب الله تعالى وشديد سخطه، وهو دأب أبناء الدنيا الغافلين عن الله دون العلماء به، وهذا لأن العلماء ثلاثة كما قال سهل التستري رحمه الله: عالم بأمر الله تعالى لا بأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام وهذا العلم لا يورث الخشية، وعالم بالله تعالى لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم عموم المؤمنين، وعالم بالله تعالى وبأمر الله تعالى وبأيام الله تعالى وهم الصديقون، والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم، وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة، فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه وظهر خشوعه. وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم وتواضعوا لمن تتعلمون منه وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم. ويقال: ما آتى الله عبداً علماً إلا آتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً فذلك هو العلم النافع. وفي الأثر: من آتاه الله علماً وزهداً وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين. وفي الخبر: «إن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله ويبكون سراً من خوف عذابه، أبدانهم في الأرض وقلوبهم في السماء، أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة، يتمشون بالسكينة ويتقربون بالوسيلة» . وقال الحسن: الحلم وزير العلم والرفق أبوه والتواضع سرباله. وقال بشر بن الحارث: من طلب الرئاسة بالعلم فتقرب إلى الله تعالى ببغضه فإنه ممقوت في السماء والأرض. ويروى في الإسرائيليات: أن حكيماً صنف ثلاثمائة وستين مصنفاً في الحكمة حتى وصف بالحكيم فأوحى الله تعالى إلى نبـيهم: قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقاً ولم تردني من ذلك بشيء وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً. فندم الرجل وترك ذلك وخالط العامة في الأسواق وواكل بني إسرائيل وتواضع في نفسه فأوحى الله تعالى إلى نبـيهم: قل له الآن وفقت لرضاي. وحكى الأوزاعي رحمه الله عن بلال بن سعد أنه كان يقول: ينظر أحدكم إلى الشرطي فيستعيذ بالله منه، وينظر إلى علماء الدنيا المتصنعين للخلق المتشوقين إلى الرئاسة فلا يمقتهم وهم أحق بالمقت من ذلك الشرطي. وروي أنه قيل: «يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: اجْتِنَابُ المَحَارِمِ وَلاَ يَزَالُ فُوكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَىٰ ، قيل: فأي الأصحاب خير؟ قال : صَاحِبٌ إِنْ ذَكَرْتَ اللَّهَ أَعَانَكَ وَإِنْ نَسِيتَهُ ذَكَّرَكَ ،قيل: فأي الأصحاب شر؟ قال : صَاحِبٌ إِنْ نَسِيتَ لَمْ يُذَكِّرْكَ وَإِنْ ذَكَرْتَ لَمْ يُعِنْكَ ، قيل: فأي الناس أعلم؟ قال: أَشَدُّهُمْ لِلَّهِ خشْيَةً ، قيل: فأخبرنا بخيارنا نجالسهم قال : الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ ، قيل: فأي الناس شر؟ قال: اللَّهُمَّ غُفْراً ، قالوا: أخبرنا يا رسول الله قال: العُلَمَاءُ إِذَا فَسَدُوا» ، وقال : «إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَمَاناً يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ فِكْراً فِي الدُّنْيا، وَأَكْثَرَ النَّاسِ ضَحِكاً فِي الآخِرَةِ أَكْثَرُهُمْ بُكَاءً فِي الدُّنْيا، وَأَشَدَّ النَّاسِ فَرَحاً فِي الآخِرَةِ أَطْوَلُهُمْ حُزْناً فِي الدُّنْيا» . وقال علي رضي الله عنه في خطبة له: «ذمتي رهينة وأنا به زعيم إنه لا يهيج على التقوى زرع قوم، ولا يظمأ على الهدى سنخ أصل، وإن أجهل الناس من لا يعرف قدره، وإن أبغض الخلق إلى الله تعالى رجل قمش علماً أغار به في أغباش الفتنة سماه أشباه له من الناس وأرذالهم عالماً ولم يعش في العلم يوماً سالماً، بكر واستكثر فما قل منه وكفى خير مما كثر وألهى حتى إذا ارتوى من ماء آجن وأكثر من غير طائل جلس للناس معلماً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المهمات هيأ لها من رأيه حشو الرأي فهو من قطع الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أخطأ أم أصاب؟ ركاب جهالات خباط عشوات لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولا يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم، تبكي منه الدماء وتستحل بقضائه الفروج الحرام لا ملىء والله بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما فوّض إليه أولئك الذين حلت عليهم المثلات وحقت عليهم النياحة والبكاء أيام حياة الدنيا». وقال علي رضي الله عنه: «إذا سمعتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب». وقال بعض السلف: العالم إذا ضحك ضحكة مجّ من العلم مجة. وقيل: إذا جمع المعلم ثلاثاً تمت النعمة بها على المتعلم: الصبر والتواضع وحسن الخلق. وإذا جمع المتعلم ثلاثاً تمت النعمة بها على المعلم: العقل والأدب وحسن الفهم. وعلى الجملة فالأخلاق التي ورد بها القرآن لا ينفك عنها علماء الآخرة لأنهم يتعلمون القرآن للعمل لا للرئاسة. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وأوامرها وزواجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها،ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بـين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره وما زاجره وما ينبغي أن يقف عنده ينثره نثر الدقل . وفي خبر آخر بمثل معناه: كنا أصحاب رسول الله أوتينا الإيمان قبل القرآن وسيأتي بعدكم قوم يؤتون القرآن قبل الإيمان يقيمون حروفه ويضيعون حدوده وحقوقه. يقولون قرأنا فمن أقرأ منا وعلمنا فمن أعلم منا؟ فذلك حظهم . وفي لفظ: أولئك شرار هذه الأمة. وقيل خمس من الأخلاق هي من علامات علماء الآخرة مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عز وجل: الخشية والخشوع والتواضع وحسن الخلق وإيثار الآخرة على الدنيا وهو الزهد، فأما الخشية فمن قوله تعالى: {إنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلماءُ} ، وأما الخشوع فمن قوله تعالى: {خَاشِعينَ للَّهِ لا يَشْتَرُونَ بآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قليلاً} وأما التواضع فمن قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ للمُؤْمنينَ} وأما حسن الخلق فمن قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وأما الزهد فمن قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحاً} ولما تلا رسول الله قوله تعالى: {فَمَنْ يُردِ اللَّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلاَمِ} فقيل له ما هذا الشرح؟ فقال: «إِنَّ النُّورَ إِذَا قُذِفَ فِي القَلْبِ انْشَرَحَ لَهُ الصَّدْرُ وَانْفَسَحَ» قيل: فهل لذلك من علامة؟ قال : «نَعَمْ، التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ وَالإِنَابَةِ إِلَىٰ دَارِ الخُلُودِ، وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوتِ قَبْلَ نُزُولِهِ» .
ومنها أن يكون أكثر بحثه عن علم الأعمال وعما يفسدها ويشوش القلوب ويهيج الوسواس ويثير الشر فإن أصل الدين التوقي من الشر ولذلك قيل:
عرفتُ الشرَّ لا * للشرِّ لكن لتوقِّيهِ
ومَن لا يعرفِ * الشرَّ مِنَ النَّاسِ يقع فيهِ
ولأن الأعمال الفعلية قريبة وأقصاها بل أعلاها المواظبة على ذكر الله تعالى بالقلب واللسان، وإنما الشأن في معرفة لا يفسدها ويشوشها وهذا مما تكثر شعبه ويطول تفريعه، وكل ذلك مما يغلب مسيس الحاجة إليه وتعم به البلوى في سلوك طريق الآخرة،وأما علماء الدنيا فإنهم يتبعون غرائب التفريعات في الحكومات والأقضية ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع أبداً، وإن وقعت فإنما تقع لغيرهم لا لهم، وإذا وقعت كان في القائمين بها كثرة، ويتركون ما يلازمهم ويتكرر عليهم آناء الليل وأطراف النهار في خواطرهم ووساوسهم وأعمالهم، وما أبعد عن السعادة من باع مهم نفسه اللازم بمهم غيره النادر إيثاراً للتقرب والقبول من الخلق على التقرب من الله سبحانه. وشرها في أن يسميه البطالون من أبناء الدنيا فاضلاً محققاً عالماً بالدقائق وجزاؤه من الله أن لا ينتفع في الدنيا بقبول الخلق، بل يتكدر عليه صفوه بنوائب الزمان ثم يرد القيامة مفلساً متحسراً على ما يشاهده من ربح العاملين وفوز المقربـين وذلك هو الخسران المبـين، ولقد كان الحسن البصري رحمه الله أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبـياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربهم هدياً من الصحابة رضي الله عنهم. اتفقت الكلمة في حقه على ذلك، وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساس النفوس والصفات الخفية الغامضة في شهوات النفس؛ وقد قيل له: يا أبا سعيد إنك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك فمن أين أخذته؟ قال: من حذيفة بن اليمان. وقيل لحذيفة: نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة فمن أين أخذته؟ قال: خصني به رسول الله ، كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه وعلمت أن الخير لا يسبقني علمه . وقال مرة: فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير. وفي لفظ آخر: كانوا يقولون يا رسول الله ما لمن عمل كذا وكذا؟ يسألونه عن فضائل الأعمال،وكنت أقول يا رسول الله: ما يفسد كذا وكذا؟ فلما رآني أسأله عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم. وكان حذيفة رضي الله عنه أيضاً قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وأسبابه ودقائق الفتن، فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة رضي الله عنهم يسألونه عن الفتن العامة والخاصة، وكان يسأل عن المنافقين فيخبر بعدد من بقي منهم ولا يخبر بأسمائهم، وكان عمر رضي الله عنه يسأله عن نفسه هل يعلم فيه شيئاً من النفاق؟ فبرأه من ذلك، وكان عمر رضي الله عنه إذا دعي إلى جنازة ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة صلى عليها وإلا ترك، وكان يسمى صاحب السر. فالعناية بمقامات القلب وأحواله دأب علماء الآخرة لأن القلب هو الساعي إلى قرب الله تعالى، وقد صار هذا الفن غريباً مندرساً وإذا تعرض العالم لشيء منه استغرب واستبعد. وقيل هذا تزويق المذكرين فأين التحقيق؟ ويرون أن التحقيق في دقائق المجادلات ولقد صدق من قال:
الطرق شتَّى وطرق الحقِّ مفردة *والسالكون طريق الحقِّ أفرادُ
لا يُعرفون ولا تُدرى مقاصدهم *فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يُراد بهم *فجلُّهم عن سبـيل الحقِّ رقادُ
وعلى الجملة؛ فلا يميل أكثر الخلق إلا إلى الأسهل والأوفق لطباعهم، فإن الحق مر والوقوف عليه صعب وإدراكه شديد وطريقه مستوعر ولا سيما معرفة صفات القلب وتطهيره عن الأخلاق المذمومة، فإن ذلك نزع للروح على الدوام، وصاحبه ينزل منزلة الشارب للدواء يصبر على مرارته رجاء الشفاء، وينزل منزلة من جعل مدّة العمر صومه فهو يقاسي الشدائد ليكون فطره عند الموت، ومتى تكثر الرغبة في هذا الطريق؟ ولذلك قيل: إنه كان في البصرة مائة وعشرون متكلماً في الوعظ والتذكير ولم يكن من يتكلم في علم اليقين وأحوال القلوب وصفات الباطن إلا ثلاثة: منهم - سهل التستري والصبـيحي وعبد الرحيم - وكان يجلس إلى أولئك الخلق الكثير الذي لا يحصى وإلى هؤلاء عدد يسير قلما يجاوز العشرة، لأن النفيس العزيز لا يصلح إلا لأهل الخصوص وما يبذل للعموم فأمره قريب.
ومنها، أن يكون اعتماده في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء قلبه لا على الصحف والكتب ولا على تقليد ما يسمعه من غيره، وإنما المقلد صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فيما أمر به وقاله، وإنما يقلد الصحابة رضي الله عنهم من حيث إن فعلهم يدل على سماعهم من رسول الله . ثم إذا قلد صاحب الشرع في تلقي أقواله وأفعاله بالقبول، فينبغي أن يكون حريصاً على فهم أسراره، فإن المقلد إنما يفعل الفعل لأن صاحب الشرع فعله، وفعله لا بد وأن يكون لسر فيه، فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال والأقوال فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم ولا يكون عالماً. ولذلك كان يقال: فلان من أوعية العلم؛ فلا يسمى عالماً إذا كان شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار. ومن كشف عن قلبه الغطاء واستنار بنور الهداية صار في نفسه متبوعاً مقلداً فلا ينبغي أن يقلد غيره. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله ، وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه، وقرأ على أُبـيّ بن كعب ثم خالفهما في الفقه والقراءة جميعاً. وقال بعض السلف: ما جاءنا عن رسول الله قبلناه على الرأس والعين، وما جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم فنأخذ منه ونترك،وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال: وإنما فضل الصحابة لمشاهدتهم قرائن أحوال رسول الله واعتلاق قلوبهم أموراً أدركت بالقرائن، فسددهم ذلك إلى الصواب من حيث لا يدخل في الرواية والعبارة إذ فاض عليهم من نور النبوّة ما يحرسهم في الأكثر عن الخطأ. وإذا كان الاعتماد على المسموع من الغير تقليداً غير مرضي فالاعتماد على الكتب والتصانيف أبعد. بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنما حدثت بعد سنة مائة وعشرين من الهجرة وبعد وفاة جميع الصحابة وجملة التابعين رضي الله عنهم، وبعد وفاة سعيد بن المسيب والحسن وخيار التابعين؛ بل كان الأوّلون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبر والتذكر وقالوا: احفظوا كما كنا نحفظ. ولذلك كره أبو بكر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم تصحيف القرآن في مصحف وقالوا: كيف نفعل شيئاً ما فعله رسول الله ؟ وخافوا اتكال الناس على المصاحف وقالوا: نترك القرآن يتلقاه بعضهم من بعض بالتلقين والإقراء ليكون هذا شغلهم وهمهم، حتى أشار عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة بكتب القرآن خوفاً من تخاذل الناس وتكاسلهم وحذراً من أن يقع نزاع فلا يوجد أصل يرجع إليه في كلمة أو قراءة من المتشابهات، فانشرح صدر أبـي بكر رضي الله عنه لذلك فجمع القرآن في مصحف واحد. وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه الموطأ ويقول: ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضي الله عنهم وقيل: أوّل كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس رضي الله عنهم بمكة. ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن جمع فيه سنناً مأثورة نبوية، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس، ثم جامع سفيان الثوري. ثم في القرن الرابع حدثت مصنفات الكلام وكثر الخوض في الجدال والغوص في إبطال المقالات، ثم مال الناس إليه وإلى القصص والوعظ بها، فأخذ علم اليقين في الاندراس من ذلك الزمان فصار بعد ذلك يستغرب علم القلوب والتفتيش عن صفات النفس ومكائد الشيطان وأعرض عن ذلك إلا الأقلون، فصار يسمى المجادل المتكلم عالماً والقاص المزخرف كلامه بالعبارات المسجعة عالماً، وهذا لأن العوام هم المستمعون إليهم، فكان لا يتميز لهم حقيقة العلم من غيره، ولم تكن سيرة الصحابة رضي الله عنهم وعلومهم ظاهرة عندهم حتى كانوا يعرفون بها مباينة هؤلاء لهم، فاستمرّ عليهم اسم العلماء وتوارث اللقب خلف عن سلف وأصبح علم الآخرة مطوياً،وغاب عنهم الفرق بـين العلم والكلام إلا عن الخواص منهم كانوا إذا قيل لهم: فلان أعلم أم فلان؟ يقولون: فلان أكثر علماً وفلان أكثر كلاماً. فكان الخواص يدركون الفرق بـين العلم وبـين القدرة على الكلام.
هكذا ضعف الدين في قرون سالفة، فكيف الظن بزمانك هذا؟ وقد انتهى الأمر إلى أن مظهر الإنكار يستهدف لنسبته إلى الجنون، فالأولى أن يشتغل الإنسان بنفسه ويسكت.
ومنها: أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور وإن اتفق عليها الجمهور فلا يغرنّه إطباق الخلق على ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم، وليكن حريصاً على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم، وما كان فيه أكثر همهم أكان في التدريس والتصنيف والمناظرة والقضاء والولاية وتولي الأوقاف والوصايا وأكل مال الأيتام ومخالطة السلاطين ومجاملتهم في العشرة؟ أم كان في الخوف والحزن والتفكر والمجاهدة ومراقبة الظاهر والباطن واجتناب دقيق الإثم وجليله والحرص على إدراك خفايا شهوات النفوس ومكائد الشيطان إلى غير ذلك من علوم الباطن؟ واعلم تحقيقاً أن أعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريق السلف فمنهم أخذ الدين. ولذلك قال علي رضي الله عنه: «خيرنا أتبعنا لهذا الدين» لما قيل له: خالفت فلاناً. فلا ينبغي أن يكترث بمخالفة أهل العصر في موافقة أهل عصر رسول الله ، فإن الناس رأوا رأياً فيما هم فيه لميل طباعهم إليه ولم تسمح نفوسهم بالاعتراف بأن ذلك سبب الحرمان من الجنة فادعوا أنه لا سبـيل إلى الجنة سواه. ولذلك قال الحسن: محدثان أحدثا في الإسلام: رجل ذو رأي سيِّـىءٍ زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، ومترف يعبد الدنيا لها يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار. وأن رجلاً أصبح في هذه الدنيا بـين مترف يدعوه إلى دنياه، وصاحب هوًى يدعوه إلى هواه وقد عصمه الله تعالى منهما يحن إلى السلف الصالح يسأل عن أفعالهم ويقتفي آثارهم متعرّض لأجر عظيم فكذلك كونوا.
وقد روي عن ابن مسعود موقوفاً ومسنداً أنه قال: «إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ الْكَلامُ وَالْهَدْيُ، فَأَحْسَنُ الْكَلاَمُ كَلاَمُ الله تَعَالَىٰ، وَأَحْسَنُ الْهَدْي هَدْيَ رَسُولِ الله تَعَالَىٰ صَلَّىٰ ااُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ، أَلاَ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتُ الأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، أَلاَ لاَ يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ فَتَقْسُو قُلُوبُكُمْ، أَلاَ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلا إِنَّ البَعِيدَ مَا لَيْسَ بِآتٍ .
وفي خطبة رسول الله : «طُوبَىٰ لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، وَأَنْفَقَ مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَخَالَطَ أَهْلَ الفِقْهِ وَالحِكَمِ وَجَانَبَ أَهْلَ الزَّلَلِ وَالمَعْصِيَةِ. طُوبَىٰ لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ وَصَلُحَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ. طُوبَىٰ لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ وَأَنْفَقَ الفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ وَلَمْ يَعْدُهَا إِلَىٰ بِدْعَةٍ» .
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: حسن الهدى في آخر الزمان خير من كثير من العمل، وقال: أنتم في زمان خيركم فيه المسارع في الأمور وسيأتي بعدكم زمان يكون خيرهم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات. وقد صدق فمن لم يتوقف في هذا الزمان ووافق الجماهير فيما هم عليه وخاض فيما خاضوا فيه هلك كما هلكوا. وقال حذيفة رضي الله عنه: أعجب من هذا أنّ معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى، وأنّ منكركم اليوم معروف زمان قد أتى، وإنكم لا تزالون بخير ما عرفتم الحق وكان العالم فيكم غير مستخف به. ولقد صدق فإنّ أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة رضي الله عنهم إذ من غرر المعروفات في زماننا تزيـين المساجد وتنجيدها وإنفاق الأموال العظيمة في دقائق عماراتها وفرش البسط الرفيعة فيها، ولقد كان يعدّ فرش البواري في المسجد بدعة، وقيل إنه من محدثات الحجاج. فقد كان الأوّلون قلما يجعلون بـينهم وبـين التراب حاجزاً. وكذلك الاشتغال بدقائق الجدل والمناظرة من أجل علوم أهل الزمان ويزعمون أنه من أعظم القربات، وقد كان من المنكرات. ومن ذلك التلحين في القرآن والأذان. ومن ذلك التعسف في النظافة والوسوسة في الطهارة وتقدير الأسباب البعيدة في نجاسة الثياب مع التساهل في حل الأطعمة وتحريمها إلى نظائر ذلك. ولقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: أنتم اليوم في زمان الهوى فيه تابع للعلم وسيأتي عليكم زمان يكون العلم فيه تابعاً للهوى. وقد كان أحمد بن حنبل يقول: تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب ما أقل العلم فيهم والله المستعان. وقال مالك بن أنس رحمه الله: لم تكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل الناس اليوم، ولم يكن العلماء يقولون حرام ولا حلال، ولكن أدركتهم يقولون مستحب ومكروه (ومعناه أنهم كانوا ينظرون في دقائق الكراهة والاستحباب فأما الحرام فكان فحشه ظاهراً). وكان هشام بن عروة يقول: لا تسألوهم اليوم عما أحدثوه بأنفسهم فإنهم قد أعدوا له جواباً، ولكن سلوهم عن السنة، فإنهم لا يعرفونها. وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله يقول: لا ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمع به في الأثر فيحمد الله تعالى إذا وافق ما في نفسه، وإنما قال هذا لأن ما قد أبدع من الآراء قد قرع الأسماع وعلق بالقلوب، وربما يشوش صفاء القلب فيتخيل بسببه الباطل حقاً فيحتاط فيه بالاستظهار بشهادة الآثار. ولهذا لما أحدث مروان المنبر في صلاة العيد عند المصلى قام إليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا مروان ما هذه البدعة؟ فقال: إنها ليست ببدعة إنها خير مما تعلم، إن الناس قد كثروا فأردت أن يبلغهم الصوت، فقال أبو سعيد: والله لا تأتون بخير مما أعلم أبداً ووالله لا صليت وراءك اليوم وإنما أنكر ذلك عليه «لأن رسول الله كان يتوكأ في خطبة العيد والاستسقاء على قوس أو عصا لا على المنبر» . وفي الحديث المشهور: «مَنْ أَحْدَثَ فِي دِيننا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رِدٌّ» وفي خبر آخر: «مَنْ غَشَّ أُمَّتِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، قيل: يا رسول الله وما غش أمتك؟ قال: أَنْ يَبْتَدِعَ بِدْعَةً يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهَا» ، وقال رسول الله : «إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكاً يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ مَنْ خَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتُهُ» ، ومثال الجاني على الدين بإبداع ما يخالف السنة بالنسبة إلى من يذنب ذنباً مثال من عصى الملك في قلب دولته بالنسبة إلى من خالف أمره في خدمة معينة، وذلك قد يغفر له فأما في قلب الدولة فلا. وقال بعض العلماء: ما تكلم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف. وقال غيره: الحق ثقيل من جاوزه ظلم ومن قصر عنه عجز، ومن وقف معه اكتفى. وقال : «عَلَيْكُمْ بِالنَّمَطِ الأَوْسَطِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ العَالي وَيَرْتَفِعُ إِلَيْهِ التَّالِي» ،وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها: قال الله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً ولَهْواً} وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} فكل ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم مما جاوز قدر الضرورة والحاجة فهو من اللعب واللهو. وحكي عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة رضي الله عنهم فرجعوا إليه محسورين فقال: ما شأنكم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء ما نصيب منهم شيئاً وقد أتعبونا فقال: إنكم لا تقدرون عليهم قد صحبوا نبـيهم وشهدوا تنزيل ربهم، ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم. فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا إليه منكسين فقالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب فإذا كان آخر النهار أخذوا في الاستغفار فيبدل الله سيئاتهم حسنات فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئاً لصحة توحيدهم واتباعهم لسنَّة نبـيهم، ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقرّ أعينكم بهم تلعبون بهم لعباً وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم إن استغفروا لم يغفر لهم ولا يتوبون، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، قال: فجاء قوم بعد القرن الأوّل فبث فيهم الأهواء وزيَّن لهم البدع فاستحلوها واتخذوها ديناً لا يستغفرون الله منها ولا يتوبون عنها، فسلط عليهم الأعداء وقادوهم أين شاؤوا. فإن قلت: من أين عرف قائل هذا ما قاله إبليس ولم يشاهد إبليس ولا حدّثه بذلك؟ فاعلم أنّ أرباب القلوب يكاشفون بأسرار الملكوت تارة على سبـيل الإلهام بأن يخطر لهم على سبـيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون، وتارة على سبـيل الرؤيا الصادقة، وتارة في اليقظة على سبـيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة - كما يكون في المنام - وهذا أعلى الدرجات وهي من درجات النبوّة العالية كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة. فإياك أن يكون حظك من هذا العلم إنكار ما جاوز حد قصورك، ففيه هلك المتحذلقون من العلماء الزاعمون أنهم أحاطوا بعلوم العقول، فالجهل خير من عقل يدعو إلى إنكار مثل هذه الأمور لأولياء الله تعالى، ومن أنكر ذلك للأولياء لزمه إنكار الأنبـياء وكان خارجاً عن الدين بالكلية. قال بعض العارفين: إنما انقطع الأبدال في أطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء الوقت لأنهم عندهم جهال بالله تعالى وهم عند أنفسهم وعند الجاهلين علماء. قال سهل التستري رضي الله عنه: إن من أعظم المعاصي الجهل بالجهل والنظر إلى العامة واستماع كلام أهل الغفلة. وكل عالم خاض في الدنيا فلا ينبغي أن يصغى إلى قوله، بل ينبغي أن يتهم في كل ما يقول لأن كل إنسان يخوض فيما أحب ويدفع مالا يوافق محبوبه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً} والعوام العصاة أسعد حالاً من الجهال بطريق الدين المعتقدين أنهم من العلماء؛ لأن العامي العاصي معترف بتقصيره فيستغفر ويتوب، وهذا الجاهل الظان أنه عالم وأن ما هو مشتغل به من العلوم التي هي وسائله إلى الدنيا عن سلوك طريق الدين فلا يتوب ولا يستغفر؛ بل لا يزال مستمراً عليه إلى الموت. وإذ غلب هذا على أكثر الناس إلا من عصمه الله تعالى وانقطع الطمع من إصلاحهم فالأسلم لذي الدين المحتاط العزلة والانفراد عنهم - كما سيأتي في كتاب العزلة بـيانه إن شاء الله تعالى - ولذلك كتب يوسف بن أسباط إلى حذيفة المرعشي: ما ظنك بمن بقي لا يجد أحداً يذكر الله تعالى معه إلا كان آثماً أو كانت مذاكرته معصية وذلك أنه لا يجد أهله؟ ولقد صدق فإن مخالطة الناس لا تنفك عن غيبة أو سماع غيبة أو سكوت على منكر وأن أحسن أحواله أن يفيد علماً أو يستفيده، ولو تأمل هذا المسكين وعلم أنّ إفادته لا تخلو عن شوائب الرياء وطلب الجمع والرئاسة علم أن المستفيد إنما يريد أن يجعل ذلك آلة إلى طلب الدنيا ووسيلة إلى الشر، فيكون هو معيناً له على ذلك وردءاً وظهيراً ومهيئاً لأسبابه كالذي يبـيع السيف من قطاع الطريق. فالعلم كالسيف وصلاحه للخير كصلاح السيف للغزو، ولذلك لا يرخص له في البـيع ممن يعلم بقرائن أحواله أنه يريد به الاستعانة على قطع الطريق.
فهذه اثنتا عشرة علامة من علامات علماء الآخرة تجمع كل واحدة منها جملة من أخلاق علماء السلف؛ فكن أحد رجلين إما متصفاً بهذه الصفات أو معترفاً بالتقصير مع الإقرار به، وإياك أن تكون الثالث فتلبس على نفسك بأن تبدل آلة الدنيا بالدين وتشبه سيرة البطالين بسيرة العلماء الراسخين وتلتحق بجهلك وإنكارك بزمرة الهالكين الآيسين. نعوذ بالله من خدع الشيطان، فبها هلك الجمهور. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن لا تغره الحياة الدنيا ولا يغره بالله الغرور.
الباب السابع في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه
بـيان شرف العقل:
اعلم أن هذا مما لا يحتاج إلى تكلف في إظهاره لا سيما وقد ظهر شرف العلم من قبل العقل، والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس والرؤية من العين، فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة؟ أو كيف يستراب فيه والبهيمة مع قصور تميـيزها تحتشم العقل حتى إن أعظم البهائم بدناً وأشدّها ضراوة وأقواها سطوة إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه لشعوره باستيلائه عليه لما خص به من إدراك الحيل. ولذلك قال : «الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِـيِّ فِي أُمَّتِهِ» وليس ذلك لكثرة ماله ولا لكبر شخصه ولا لزيادة قوّته، بل لزيادة تجربته التي هي ثمرة عقله. ولذلك ترى الأتراك والأكراد وأجلاف العرب وسائر الخلق مع قرب منزلتهم من رتبة البهائم يوقرون المشايخ بالطبع. ولذلك حين قصد كثير من المعاندين قتل رسول الله فلما وقعت أعينهم عليه واكتحلوا بغرّته الكريمة هابوه وتراءى لهم ما كان يتلألأ على ديباجة وجهه من نور النبوّة، وإن كان ذلك باطناً في نفسه بطون العقل فشرف العقل ما يدرك بالضرورة؛ وإنما القصد أن نورد ما وردت به الأخبار والآيات في ذكر شرفه، وقد سماه الله نوراً في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمٰواتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وسمي العلم المستفاد منه روحاً ووحياً وحياة فقال تعالى: {وَكَذٰلِكَ أوْحَيْنَا إليكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا} وقال سبحانه: {أوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فأحْيَـيْنَاهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشي بِه فِي النَّاسِ} وحيث ذكر النور والظلمة أراد به العلم والجهل كقوله: {يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ} وقال : «يَا أَيُّها النَّاسُ اعْقِلُوا عَنْ رَبِّكُمْ وَتَوَاصَوْا بَالعَقْلِ تَعْرِفُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يُنْجِدُكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ العَاقِلَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ دَمِيمَ المَنْظَرِ حَقِيرَ الخَطَرِ دَنِيءَ المَنْزِلَةِ رَثَّ الهَيْئَةِ، وَأَنَّ الجَاهِلَ مَنْ عَصَىٰ اللَّهَ تَعَالَىٰ وَإِنْ كَانَ جَمِيلَ المَنْظَرِ عَظِيمَ الخَطَرِ شَرِيفَ المَنْزِلَةِ حَسَنَ الهَيْئَةِ فَصِيحاً نَطُوقاً فَالقِرَدَةُ وَالخَنَازِيرُ أَعْقَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَىٰ مِمَّنْ عَصَاهُ،وَلا تَغْتَرَّ بِتَعْظِيمِ أَهْلِ الدُّنْيا إِيَّاهُمْ فَإِنَّهُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ» . وقال : «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ العَقْلَ، فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي ما خَلَقْتُ خَلْقاً أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْكَ، بِكَ آخُذُ وَبِكَ أُثِيبُ وَبِكَ أُعَاقِبُ» .
فإن قلت: فهذا العقل إن كان عرضاً فكيف خلق قبل الأجسام؟ وإن كان جوهراً فكيف يكون جوهر قائم بنفسه ولا يتحيز؟ فاعلم أن هذا من علم المكاشفة فلا يليق ذكره بعلم المعاملة، وغرضنا الآن ذكر علوم المعاملة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: «أثنى قوم على رجل عند النبـي حتى بالغوا فقال : «كَيْفَ عَقْلُ الرَّجُلِ؟» فقالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال : «إِنَّ الأَحْمَقَ يُصِيبُ بِجَهْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ فُجُورِ الفَاجِرِ وَإِنَّما يَرْتَفِعُ العِبَادُ غَداً فِي الدَّرَجَاتِ الزُّلْفَىٰ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَىٰ قَدْرِ عُقُولِهِمْ» . وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «ما اكْتَسَبَ رَجُلٌ مِثْلَ فَضْلِ عَقْلٍ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَىٰ الهُدَىٰ وَيَرُدُّهُ عَنْ رَدًى وَما تَمَّ إِيمَانُ عَبْدٍ وَلا اسْتَقَامَ دِينُهُ حَتَّىٰ يَكْمُلَ عَقْلُهُ» . وقال : «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْركُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ وَلا يَتِمُّ لِرَجُلٍ حُسْنُ خُلُقِهِ حَتَّىٰ يَتِمَّ عَقْلُهُ فَعِنْدَ ذٰلِكَ تَمَّ إِيمَانُهُ وَأَطَاعَ رَبَّهُ وَعَصَىٰ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ» . وعن أبـي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «لِكُلِّ شَيْءٍ دَعَامَةٌ وَدَعَامَةُ الْمُؤْمِنِ عَقْلُهُ فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عِبَادَتُهُ أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الفُجَّارِ فِي النَّارِ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أصْحَابِ السَّعيرِ} ». وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لتميم الداري: «ما السؤدد فيكم؟ قال: العقل: قال: صدقت سألت رسول الله كما سألتك فقال كما قلت، ثم قال: سَأَلْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما السُّؤْدَدُ؟فَقَالَ: العَقْلُ» وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كثرت المسائل يوماً على رسول الله فقال: «يَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مَطِيَّةً وَمَطَيَّةُ المَرْءِ العَقْلُ وَأَحْسَنُكُمْ دَلالةً وَمَعْرِفَةً بِالحُجَّةِ أَفْضَلُكُمْ عَقْلاً» . وعن أبـي هريرة رضي الله عنه قال: «لما رجع رسول الله من غزوة أُحُد سمع الناس يقولون: فلان أشجع من فلان وفلان أبلى ما لم يبل فلان ونحو هذا فقال رسول الله: «أَمَّا هٰذا فَلا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ» ، قالوا: وكيف يا رسول الله؟ فقال : «إِنَّهُمْ قَاتَلُوا عَلَىٰ قَدْرِ ما قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ العَقْلِ وَكَانَتْ نُصْرَتُهُمْ وَنِيَّتُهُمْ عَلَىٰ قَدْرِ عُقُولِهِمْ فَأُصِيبَ مِنْهُمْ مَنْ أُصِيبَ عَلَىٰ مَنَازِلَ شَتَّىٰ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ اقْتَسَمُوا المَنَازِلَ عَلَىٰ قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ وَقَدْرِ عُقُولِهِمْ» . وعن البراء بن عازب أنه قال: «جَدَّ المَلائِكَةُ وَاجْتَهَدُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ بِالعَقْلِ وَجَدَّ المُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَىٰ قَدْرِ عُقُولِهِمْ فَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْفَرُهُمْ عَقْلاً» ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله بم يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: بِالعَقْلِ ، قلت: وفي الآخرة؟ قال: بِالعَقْلِ ، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟ فقال : يَا عَائِشَةُ وَهَلْ عَمِلُوا إِلاَّ بِقَدْرِ ما أَعْطَاهُمْ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ العَقْلِ؟ فَبِقَدْرِ ما أُعْطُوا مِنَ العَقْلِ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ وَبِقَدْرِ ما عَمِلُوا يُجْزَوْنَ» وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «لِكُلِّ شَيْءٍ آلَةٌ وَعُدَّةٌ وَإِنَّ آلَةَ المُؤْمِنِ العَقْلُ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَطِيَّةٌ وَمَطِيَّةُ المَرْءِ العَقْلُ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ دِعَامَةٌ وَدِعَامَةُ الدِّينِ العَقْلُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ غَايَةٌ وَغَايَةُ العُبَّادِ العَقْلُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ دَاعٍ وَدَاعِي العَابِدِينَ العَقْلُ، وَلِكُلِّ تَاجِرٍ بِضَاعَةٌ وَبِضَاعَةُ المُجْتَهِدِينَ العَقْلُ، وَلِكُلِّ أَهْلِ بَـيْتٍ قَيِّمٌ وَقَيِّمُ بُـيُوتِ الصِّدِّيقِينَ العَقْلُ،وَلِكُلِّ خَرَابٍ عِمَارَةٌ وَعِمَارَةُ الآخِرَةِ العَقْلُ، وَلِكُلِّ امْرِىءٍ عَقِبٌ يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَيُذْكَرُ بِهِ وَعَقِبُ الصِّدِّيقِينَ الَّذِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ وَيُذْكَرُونَ بِهِ العَقْلُ، وَلِكُلِّ سَفَرٍ فُسْطَاطٌ وَفُسْطَاطُ المُؤْمِنِينَ العَقْلُ» ، وقال : «إِنَّ أَحَبَّ المُؤْمِنِينَ إِلَىٰ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ نَصَبَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَصَحَ لِعِبَادِهِ وَكَمُلَ عَقْلُهُ وَنَصَحَ نَفْسَهُ فَأَبْصَرَ وَعَمِلَ بِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ فَأَفْلَحَ وَأَنْجَحَ» ، وقال : «أَتَمُّكُمْ عَقْلاً أَشَدُّكُمْ لِلَّهِ تَعَالَىٰ خَوْفاً وَأَحْسَنُكُمْ فِيما أَمَرَكُمُ بِهِ وَنَهَىٰ عَنْهُ نَظَراً وَإِنْ كَانَ أَقَلَّكُمْ تَطَوُّعاً» .
بـيان حقيقة العقل وأقسامه:
اعلم أن الناس اختلفوا في حدّ العقل وحقيقته وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقاً على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم. والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان- كما يطلق اسم العين مثلاً على معان عدّة - وما يجري هذا المجرى فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حدّ واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه. فالأوّل: الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم وهو الذي استعدّ به لقبول العلوم النظرية وتدبـير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبـي حيث قال في حدّ العقل: إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء ولم ينصف من أنكر هذا، ورد العقل إلى مجرّد العلوم الضرورية فإن الغافل عن العلوم والنائم يسميان عاقلين باعتبار وجود هذه الغريزة فيهما مع فقد العلوم. وكما أن الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسية، فكذلك العقل غريزة بها تتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية ولو جاز أن يسوّى بـين الإنسان والحمار في الغريزة والإدراكات الحسية. فيقال لا فرق بـينهما إلا أن الله تعالى بحكم إجراء العادة يخلق في الإنسان علوماً وليس يخلقها في الحمار والبهائم لجاز أن يسوي بـين الحمار والجماد في الحياة، ويقال لا فرق إلا أن الله عز وجل يخلق في الحمار حركات مخصوصة بحكم إجراء العادة. فإنه لو قدر الحمار جماداً ميتاً لوجب القول بأن كل حركة تشاهد منه،فالله سبحانه وتعالى قادر على خلقها فيه على الترتيب المشاهد. وكما وجب أن يقال لم يكن مفارقته للجماد في الحركات إلا بغريزة اختصت به عبر عنها بالحياة، فكذا مفارقة الإنسان البهيمة في إدراك العلوم النظرية بغريزة يعبر عنها بالعقل وهو كالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور والألوان بصفة اختصت بها وهي الصقالة. وكذلك العين تفارق الجبهة في صفات وهيئات بها استعدت للرؤية، فنسبة هذه الغريزة إلى العلوم كنسبة العين إلى الرؤية، ونسبة القرآن والشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها كنسبة نور الشمس إلى البصر، فهكذا ينبغي أن تفهم هذه الغريزة.
الثاني: هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد، وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل: إنه بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو أيضاً صحيح في نفسه لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلاً ظاهر وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة ويقال لا موجود إلا هذه العلوم.
الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فإن من حنكته التجارب وهذبته المذاهب يقال إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال إنه غبـي غمر جاهل، فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلاً.
الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوة سمي صاحبها عاقلاً من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة، وهذه أيضاً من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان، فالأول: هو الأس والسنخ والمنبع. والثاني: هو الفرع الأقرب إليه. والثالث: فرع الأول والثاني؛ إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب، والرابع: هو الثمرة الأخيرة وهي الغاية القصوى، فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب. ولذلك قال علي كرّم الله وجهه:
رأيتُ العقلَ عقلين فمطبوعٌ ومسموعُ
ولا ينفع مسموعٌ إذا لم يك مطبوعُ
كما لا تنفعُ الشمس وضَوْءُ العين ممنوعُ
والأول: هو المراد بقوله : «مَا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ خَلْقاً أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْ العَقْلِ» ،والأخير هو المراد بقوله : «إِذَا تَقَرَّبَ النَّاسُ بِأَبْوَابِ البَرِّ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَتَقَرَّبْ أَنْتَ بِعَقْلِكَ» ، وهو المراد بقول رسول الله لأبـي الدرداء رضي الله عنه: «ازْدَدْ عَقْلاً تَزْدَدْ مِنْ رَبِّكَ قُرْباً ، فقال: بأبـي أنت وأمي وكيف لي بذلك؟ فقال: اجْتَنِبْ مَحَارِمَ الله تَعَالَى وَأَدِّ فَرَائِضَ ااِ سُبْحَانَهُ تَكُنْ عَاقِلاً وَاعْمَلْ بِالصَّالِحَاتِ مِنَ الأَعْمَالِ تَزْدَدْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا رِفْعَةً وَكَرَامَةً وَتَنَلْ فِي آجِلِ الْعُقْبَىٰ بِهَا مِنْ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْبَ وَالعِزَّ وعن سعيد بن المسيب «أن عمر وأُبـيّ بن كعب وأبا هريرة رضي الله عنهم دخلوا على رسول الله فقالوا: يا رسول الله من أعلم الناس؟ فقال : «العَاقِلُ» قالوا: فمن أعبد الناس؟ قال: «العاقل» . قالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: «العَاقِلُ» . قالوا: أليس من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته؟ فقال : «{وإن كُلُّ ذٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا والآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} إِنَّ العَاقِلَ هُوَ المُتَّقِي وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيا خَسِيساً ذَلِيلاً» . قال في حديث آخر: «إِنَّما العَاقِلُ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رُسُلَهُ وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ» ، ويشبه أن يكون أصل الاسم في أصل اللغة الغريزة وكذلك في الاستعمال وإنما أطلق على العلوم من حيث إنها ثمرتها كما يعرف الشيء بثمرته فيقال: العلم هو الخشية والعالم من يخشى الله تعالى. فإن الخشية ثمرة العلم فتكون كالمجاز لغير تلك الغريزة ولكن ليس الغرض البحث عن اللغة.
والمقصود أن هذه الأقسام الأربعة موجودة والاسم يطلق على جميعها ولا خلاف في وجود جميعها إلا في القسم الأوّل. والصحيح وجودها بل هي الأصل. وهذه العلوم كأنها مضمنة في تلك الغريزة بالفطرة ولكن تظهر في الوجود إذا جرى سبب يخرجها إلى الوجود حتى كأن هذه العلوم ليست بشيء وارد عليها من خارج وكأنها كانت مستكنة فيها فظهرت، ومثاله الماء في الأرض فإنه يظهر بحفر البئر ويجتمع ويتميز بالحس لا بأن يساق إليها شيء جديد،وكذلك الدهن في اللوز، وماء الورد في الورد، ولذلك قال تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فالمراد به إقرار نفوسهم لا إقرار الألسنة، فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث وجدت الألسنة والأشخاص إلى مقر وإلى جاحد، ولذلك قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولنَّ اللَّهُ} معناه إن اعتبرت أحوالهم شهدت بذلك نفوسهم وبواطنهم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله عز وجل، بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه أعني أنها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك. ثم لما كان الإيمان مركوزاً في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى قسمين: إلى من أعرض فنسي وهم الكفار، وإلى من أجال خاطره فتذكر فكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها. ولذلك قال عز وجل: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {وَلِيَتَذَكَّر أُولُو الألباب} - {واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَميثَاقَهُ الَّذي وَاثَقَكُمْ به} - {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ للذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد فكأنّ التذكر ضربان؛ أحدهما: أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه لكن غابت بعد الوجود. والآخر: أن يذكر صورة كانت مضمنة فيه بالفطرة. وهذه حقائق ظاهرة للناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستروجه السماع والتقليد دون الكشف والعيان. ولذلك تراه يتخبط في مثل هذه الآيات ويتعسف، في تأويل التذكر بإقرار النفوس أنواعاً من التعسفات ويتخايل إليه في الأخبار والآيات ضروب من المناقضات وربما يغلب ذلك عليه حتى ينظر إليها بعين الاستحقار ويعتقد فيها التهافت. ومثاله مثال الأعمى الذي يدخل داراً فيعثر فيها بالأواني المصفوفة في الدار فيقول: ما لهذه الأواني لا ترفع من الطريق وترد إلى مواضعها؟ فيقال له: إنها في مواضعها وإنما الخلل في بصرك. فكذلك خلل البصيرة يجري مجراه وأطم منه وأعظم إذ النفس كالفارس والبدن كالفرس وعمى الفارس أضر من عمى الفرس ولمشابهة بصيرة الباطن لبصيرة الظاهر. قال الله تعالى: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} وقال تعالى: {وَكَذٰلِكَ نري إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمٰواتِ والأرْضِ} الآية، وسمى ضده عمى فقال تعالى: {فإنَّهَا لاَ تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ ولٰكِن تَعْمَىٰ القُلُوبُ الَّتي في الصُّدُورِ} وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هٰذِهِ أعْمَى فَهُو في الآخِرَةِ أعْمَى وأضَلُّ سَبـيلاً} وهذه الأمور التي كشفت للأنبـياء بعضها كان بالبصر وبعضها كان بالبصيرة وسمى الكل رؤية. وبالجملة من لم تكن بصيرته الباطنة ثاقبة لم يعلق به من الدين إلا قشوره وأمثلته دون لبابه وحقائقه. فهذه أقسام ما ينطلق اسم العقل عليها.
بـيان تفاوت النفوس في العقل:
قد اختلف الناس في تفاوت العقل ولا معنى للاشتغال بنقل كلام من قلَّ تحصيله، بل الأولى والأهم المبادرة إلى التصريح بالحق. والحق الصريح فيه أن يقال إن التفاوت يتطرق إلى الأقسام الأربعة سوى القسم الثاني: وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. فإن من عرف أن الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضاً استحالة كون الجسم في مكانين وكون الشيء الواحد قديماً حادثاً وكذا سائر النظائر وكل ما يدركه إدراكاً محققاً من غير شك، وأما الأقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرق إليها، أما القسم الرابع وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات فلا يخفى تفاوت الناس فيه بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد فيه، وهذا التفاوت يكون تارة لتفاوت الشهوة إذ قد يقدر العاقل ترك بعض الشهوات دون بعض ولكن غير مقصور عليه. فإن الشاب قد يعجز عن ترك الزنا وإذ كبر وتم عقله قدر عليه، وشهوة الرياء والرياسة تزداد قوّة بالكبر لا ضعفاً، وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوة، ولهذا يقدر الطبـيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرة وقد لا يقدر من يساويه في العقل على ذلك إذا لم يكن طبـيباً وإن كان يعتقد على الجملة فيه مضرة، لكن إذا كان علم الطبـيب أتم كان خوفه أشد فيكون الخوف جنداً للعقل وعدة له في قمع الشهوات وكسرها. وكذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من الجاهل لقوّة علمه بضرر المعاصي وأعني به العالم الحقيقي دون أرباب الطيالسة وأصحاب الهذيان. فإن كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع إلى تفاوت العقل وإن كان من جهة العلم فقد سمينا هذا الضرب من العلم عقلاً أيضاً،فإنه يقوي غريزة العقل فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه، وقد يكون بمجرد التفاوت في غريزة العقل فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشدّ.
وأما القسم الثالث وهو علوم التجارب فتفاوت الناس فيها لا ينكر، فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وسرعة الإدراك ويكون سببه إما تفاوتاً في الغريزة وإما تفاوتاً في الممارسة، فأما الأوّل وهو الأصل أعني الغريزة فالتفاوت فيه لا سبـيل إلى جحده فإنه مثل نور يشرق عل النفس ويطلع صبحه ومبادي إشراقه عند سن التميـيز، ثم لا يزال ينمو ويزداد نمواً خفي التدريج إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة؛ ومثاله نور الصبح فإن أوائله تخفي خفاء يشق إدراكه ثم يتدرج إلى الزيادة إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس. وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور البصر والفرق مدرك بـين الأعمش وبـين حاد البصر، بل سنّة الله عز وجل جارية في جميع خلقه بالتدريج في الإيجاد حتى إن غريزة الشهوة لا تظهر في الصبـي عند البلوغ دفعة وبغتة بل تظهر شيئاً فشيئاً على التدريج، وكذلك جميع القوى والصفات، ومن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه منخلع عن ربقة العقل، ومن ظن أن عقل النبـي مثل عقل آحاد السوادية وأجلاف البوادي فهو أخس في نفسه من آحاد السوادية وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفيهم إلا بعد تعب طويل من المعلم، وإلى ذكي يفهم بأدنى رمز وإشارة، وإلى كامل تنبعث من نفسه حقائق الأمور بدون التعليم كما قال تعالى: {يَكَادُ زَيْتُها يُضيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} وذلك مثل الأنبـياء عليهم السلام إذ يتضح لهم في بواطنهم أمور غامضة من غير تعلم وسماع ويعبر عن ذلك بالإلهام، وعن مثله عبر النبـي حيث قال: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي: أَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقَةُ وَعِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيْتٌ وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُجْزًى بِهِ» . وهذا النمط من تعريف الملائكة للأنبـياء يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع الصوت بحاسة الأذن ومشاهدة الملك بحاسة البصر ولذلك أخبر عن هذا بالنفث في الروع، ودرجات الوحي كثيرة والخوض فيها لا يليق بعلم المعاملة بل هو من علم المكاشفة. ولا تظنن أن معرفة درجات الوحي تستدعي منصب الوحي إذ لا يبعد أن يعرف الطبـيب المريض درجات الصحة ويعلم العالم الفاسق درجات العدالة وإن كان خالياً عنها، فالعلم شيء ووجود المعلوم شيء آخر، فلا كل من عرف النبوة والولاية كان نبـياً ولا ولياً، ولا كل من عرف التقوى والورع ودقائقه كان تقياً. وانقسام الناس إلى من يتنبه من نفسه ويفهم وإلى من لا يفهم إلا بتنبـيه وتعليم وإلى من لا ينفعه التعليم أيضاً ولا التنبـيه كانقسام الأرض إلى ما يجتمع فيه الماء فيقوى فيتفجر بنفسه عيوناً وإلى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج إلى القنوات وإلى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس، وذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها، فكذلك اختلاف النفوس في غريزة العقل. ويدل على تفاوت العقل من جهة النقل؛ ما روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه سأل النبـي في حديث طويل في آخره وصف عظم العرش وأن الملائكة قالت: «يَا رَبَّنَا هَلْ خَلَقْتَ شَيْئاً أَعْظَمَ مِنَ العَرْشِ؟ قَالَ: نَعَمْ، العَقْلَ، قَالُوا: وَمَا بَلَغَ مِنْ قَدْرِهِ؟ قَالَ: هَيْهَات لا يُحَاطُ بِعِلْمِهِ هَلْ لَكُمْ عِلْمٌ بِعَدَدِ الرَّمْلِ؟ قَالُوا: لا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَإِنِّي خَلَقْتُ العَقْلَ أَصْنَافاً شَتَّىٰ كَعَدَدِ الرَّمْلِ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ أُعْطِيَ حَبَّةً وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ حَبَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ الثلاثَ وَالأَرْبَعَ وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ فَرْقاً وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ وَسْقاً وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ أَكْثَرَ مِنْ ذٰلِكَ» .
فإن قلت: فما بال أقوام من المتصوفة يذمون العقل والمعقول؟ فاعلم أن السبب فيه أن الناس نقلوا اسم العقل والمعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات وهو صنعة الكلام فلم يقدروا على أن يقرّروا عندهم أنكم أخطأتم في التسمية إذ كان ذلك لا ينمحي عن قلوبهم بعد تداول الألسنة به ورسوخه في القلوب فذموا العقل والمعقول وهو المسمى به عندهم. فأما نور البصيرة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله. فكيف يتصور ذمه وقد أثنى الله تعالى عليه وإن ذم فما الذي بعده يحمد؟ فإن كان المحمود هو الشرع فبم علم صحة الشرع؟ فإن علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع أيضاً مذموماً ولا يلتفت إلى من يقول: إنه يدرك بعين اليقين ونور الإيمان لا بالعقل. فإنا نريد بالعقل ما يريده بعين اليقين ونور الإيمان، وهي الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور؛ وأكثر هذه التخبـيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ؛ فهذا القدر كاف في بـيان العقل والله أعلم.
تم كتاب العلم بحمد الله تعالى ومنِّه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب قواعد العقائد والحمد لله وحده أوّلاً وآخراً.
  • ملف العضو
  • معلومات
حسن الصباح
مستشار
  • تاريخ التسجيل : 23-12-2006
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 2,967
  • معدل تقييم المستوى :

    20

  • حسن الصباح is on a distinguished road
حسن الصباح
مستشار
رد: الإمام أبو حامد الغزالي
17-06-2007, 12:44 PM
تقع دائما على الشخصيات العظيمة
نور الله بصيرتك كما أنت تنور بصيرتنا و تكحل أعيننا بقراء سير الصالحين
حجة الاسلام مدرس النظامية "مدرسة الوزير نظام الملك"
و صاحب نظرية العزلة و الخلطة
و شيخ الامام ابن العربي المالكي رحمه الله
و تحياتي الخالصة لك و لأعمالك الصافية
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
إضافة: الإمام أبو حامد الغزالي
17-06-2007, 01:58 PM
Abu Hamid al-Ghazali (450-505 AH/1058-1111 AD) [aka: al-Ghazzali , Algazel ] is one of the great jurists, theologians and mystics of the 12th Century. He wrote on a wide range of topics including jurisprudence, theology, mysticism and philosophy.

Ghazali.org (a virtual online library) provides the complete works of al-ghazali in the original language that have been published in print and translations in addition to primary research material -hundreds of full length books and articles. in communem delectationem
الموقع:
http://www.ghazali.org/index.html
الرابط العربي لا يشتغل
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
  • ملف العضو
  • معلومات
أرسطو طاليس
زائر
  • المشاركات : n/a
أرسطو طاليس
زائر
رد: الإمام أبو حامد الغزالي
23-06-2007, 09:44 PM
( 450 – 505 )



اعتنى بـه
محمد أسماعيل حُزيِّن - و- شذا رائق عبدالله

نشر موقع الفلسفة الإسلامية


الفهرست



توطئة

مَدَاخِلُ السَفْسَطة وجَحْد العُلوم

القَولُ في أصْنَافِ الطَّالبْين

1 - عِلْمُ الكَلاَم: مَقْصُوده وحَاصِله

2 – الفَلسْفَة

أَصْناَف الفَلاَسِفةَ وشُمول وَصْمَة الكُفِر َكافَّتهمُ

أَقْسَامِ عُلومِهم

3 - القَولُ ِفي مَذْهَبِ التَّعلِيم وغَائِلَته

4 - طُرُق الصُّوفِيَّة

حَقيقَة النُبُوَّة: واضطِرار كَافةِ الخَلق إليهَا

سَبَب نشر العِلْم بعَدْ الإعرَاضِ عَنـه

ملاحظه عن النص والتحقيق









توطئة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة ، والصلاة على محمد المصطفى صاحب النبوة والرسالة ، وعلى آله وأصحابـه الهادين من الضلالة.

أما بعد:

فقد سألتني أيها الأخ في الدين ، أن أبثّ إليك غاية العلوم وأسرارها ، وغائلة المذاهب وأغوارها ، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق ، مع تباين المسالك والطرق ، وما استجرأت عليه من الارتفاع عنحضيض التقليد ، إلى يفَاعٍ[1] الاستفسار[2] ، وما استفدته أولاً من علم الكلام ، وما اجَتَوْيـُته[3] ثانياً من طرق أهل التعليم القاصرين لَدرك الحق على تقليد الإمام ، وما ازدريته ثالثاً من طرق التفلسف ، وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف ، وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق ، من لباب الحق ، وما صرفني عن نشر العلم ببغداد ، مع كثرة الطلبة ، وما دعاني[4] إلى معاودته بنيْسابورَ[5] بعد طول المدة ، فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك ، بعد الوقوف على صدق رغبتك ، وقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ، ومستوثقاً[6] منه ، وملتجئاً إليه:

اعلموا - أحسن الله (تعالى) إرشادكم ، وألاَنَ للحق قيادكم - أن اختلاف الخلق في الأديان والملل ، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب ، على كثرة الفرق وتباين الطرق ، بحر عميق غرق فيه الأكثرون ، وما نجا منه إلا الأقلون ، وكل فريق يزعم أنه الناجي ، و (( كلُ حزبٍ بما لدَيهْم فرحون )) (الروم: 32) هو الذي وعدنا بـه سيد المرسلين ، صلوات الله عليه ، وهو الصادق الصدوق[7] حيث قال:

(( ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة الناجية منـها واحدة ))[8]

فقد كان ما وعد أن يكون.

ولم أزل في عنفوان شبابي ( وريعان عمري ) ، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن ، وقد أناف السن على الخمسين ، أقتحم لجّة هذا البحر العميق ، وأخوض غَمرَتهُ خَوْضَ الجَسُور ، لا خَوْضَ الجبان الحذور ، وأتوغل في كل مظلمة ، وأتـهجّم على كل مشكلة ، وأتقحم كل ورطة ، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة ، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ؛ لأميز بين مُحق ومبطل ، ومتسنن ومبتدع[9] ، لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته[10] ، ولا ظاهريّاً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته ، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنـه فلسفته ، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته ، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته[11] ، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ، ولا زنديقاً[12] معطلاً[13] إلا وأتجسس[14] وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.

وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ، غريزة وفطرة من الله وضُعتا في جِبِلَّتي ، لا باختياري وحيلت ي ، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن[15] الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوءٌ إلا على التنصُر ، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود ، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال [16]:

(( كل مولودٍ يولدُ على الفطرةِ فأبواهُ يُهودأنه وينُصرأنه ويُمجِّسَأنه ))[17]

فتحرك باطني إلى ( طلب ) حقيقة الفطرة الأصلية ، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين[18] ، والتمييز بين هذه التقليدات ، وأوائلها تلقينات ، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات ، فقلت في نفسي:أولاً[19] إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور ، فلا بُد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف[20] فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ، ولا يقارنه[21] إمكان الغلط والوهم ، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي أنا يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلأنه مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً ، لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً ؛ فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ، فلو قال لي قائل: لا ، بل الثلاثة أكثر [ من العشرة ] بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً ، وقلبها ، وشاهدت ذلك منه ، لم أشك بسببه في معرفتي ، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك[22] فيما علمته ، فلا.

ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين ، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه ، وكل علم لا أمان معه ، فليس بعلم يقيني.





1 - مَدَاخِلُ السَفْسَطة وجَحْد العُلوم
ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بـهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس ، لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليَّات ، وهي الحسيات والضروريات ، فلا بد من إحكامها أولاً لأتيقن أن ثقتي[23] بالمحسوسات ، وأماني من الغلط في الضروريات ، من جنس أماني الذي كان من قَبلُ في التقليديات ، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات ، أم هو أمان محققٌ لا غدر فيه ولا غائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات ، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ، فانتهي بي طول التشكك[24] إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً ، وأخذت تتسع للشك فيها وتقول[25] : من أين الثقة بالمحسوسات[26] ، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم ، بالتجربة والمشاهدة ، بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم يكن[27] له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار[28] ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبـه حاكم العقل ويخونـه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.

فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً ، موجوداً معدوماً ، واجباً محالاً. فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك ، لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً ، وأيدت إشكالها بالمنام ، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً ، وتتخيل أحوالاً ، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ، ولا تشك في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك [ التي أنت فيها ] ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ، كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها ، ولعل تلك الحالة ما تدعيه[29] الصوفية أنـها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنـهم يشاهدون في أحوالهم التي ( لهم ) ، إذا غاصوا في أنفسهم ، وغابوا عن حواسهم ، أحوالاً لا توافق هذه المعقولات. ولعل تلك الحالة هي الموت ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:

(( الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبـهوا ))[30]

فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة. فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ، ويقال له عند ذلك:

(( فكشفنا عنكَ غطاءكَ فبصرُكَ اليومَ حديدٌ )) (ق: 22)

فلما خطرت[31] لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر ، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل ، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية ، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل هذا الداء[32] ، ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال ، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بـها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله [ تعالى ] الواسعة ؛ ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ( الشرح ) ومعناه في قوله تعالى:

(( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)) (الأنعام: 125)

قال: (( هو نور يقذفه الله تعالى في القلب )) فقيل: (وما علامته ؟) قال: (( التجافي عن دار الغُرُورِ والإنابة إلى دارِ الخُلُود ))[33]. وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه:

(( إن الله تعالى خلق الخلقَ في ظُلْمةٍ ثم رشَّ عليهمْ من نُورهِ ))[34]

فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف ، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين ، ويجب الترصد له كما قال صلى الله عليه وسلّم:

(( إن لربكم في أيامِ دهركم نفحاتٌ ألا فتعرضُوا لها ))[35]

والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب ، حتى ينتهي إلى طلب ما لا يطلب. فإن الأوليات ليست مطلوبة ، فأنـها حاضرة. والحاضر إذا طلب فقد[36] واختفى. ومن طلب ما لا يطلب ، فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب.





القَولُ في أصْنَافِ الطَّالبْين
ولما شفاني الله من هذا المرض بفضله وسعة جوده ، أنحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق:

1. المتكلمون: وهم يدَّعون أنـهم أهل الرأي والنظر.

2. الباطنية: وهم يزعمون أنـهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.

3. الفلاسفة: وهم يزعمون أنـهم أهل المنطق والبرهان.

4. الصوفية: وهم يدعون أنـهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة.

فقلت في نفسي : الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة ، فهؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق ، فإن شذَّ الحق عنهم ، فلا يبقى في درك الحق مطمع ، إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته ؛ و( من ) شرط المقلد[37] أن لا يعلم أنه مقلد ، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ، وهو شعب[38] لا يرأب[39] ، وشعث[40] لا يلم بالتلفيق والتأليف ، إلا أن يذاب بالنار ، ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة.

فابتدرت لسلوك هذه الطرق ، واستقصاء ما عند هذه الفرق. مبتدئاً بعلم الكلام. ومثنياً بطريق الفلسفة ، ومثلثاً بتعلم الباطنية ، ومربعاً بطريق الصوفية.

* * *



1- عِلْمُ الكَلاَم: مَقْصُوده وحَاصِله

ثم إني ابتدأت بعلم الكلام ، فحصَّلته وعقلته ، وطالعت كتب المحققين منهم ، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف ، فصادفته علماً وافياً بمقصوده ، غير وافٍ بمقصودي ؛ وإنما المقصود منه[41] حفظ عقيدة أهل السنة [ على أهل السنة ] وحراستها عن تشويش أهل البدعة. فقد ألقى الله ( تعالى ) إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق ، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار ، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة ، فلهجوا[42] بـها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها. فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين ، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب ، يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة ، على خلاف السنة المأثورة ؛ فمنه نشأ علم الكلام وأهله. ولقد قام طائفة منهم بما ندبـهم الله ( تعالى ) إليه ، فأحسنوا الذب عن السنة ، والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة ، والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة ؛ ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم ، واضطرهم إلى تسليمها: إما التقليد ، أو إجماع الأمة ، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم. وهذا قليل النفع في حق[43] من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً ( أصلاً ) ، فلم يكن الكلام في حقي كافياً ، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً. نعم ، لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة ، تشوق المتكلمون إلى محاولة الذبّ ( عن السنة ) بالبحث عن حقائق الأمور ، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض[44] وأحكامها. ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم ، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى ، فلم يحصل منه ما يمحق[45] بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق ؛ ولا أبعدُ أن يكون قد حصل ذلك لغيري! بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولاً مشوباً بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات!

والغرض الآن حكاية حالي ، لا الإنكار على من استشفى به ، فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء. وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر بـه آخر!

* * *



2 - الفَلسْفَة

· محصولها.

· المذموم منها وما لا يذم.

· وما يكفر به قائلة وما لا يكفر به.

· وما يبتدع فيه وما لا يبتدع.

· وبيان ما سرقه الفلاسفة من كلام أهل الحق.

· وبيان ما مزجوه بكلام أهل الحق لترويج باطلهم في درج ذلك.

· وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك الحق الممزوج بالباطل.

· وكيفية استخلاص الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كلامهم.[46]

ثم إني ابتدأت ، بعد الفراغ من علم الكلام ، بعلم الفلسفة وعلمت يقيناً ، أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم ، من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في أصل [ ذلك ] العلم ، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور[47] وغائله ، وإذا ذاك[48] يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقّاً. ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك.

ولم يكن في كتب (( المتكلمين )) من كلامهم ، حيث اشتغلوا بالرد عليهم ، إلا كلمات معقدة مبددة ، ظاهرة التناقض والفساد ، لا يظن الاغترار بـها بعاقل[49] عامي ، فضلاً عمن يدعي دقائق العلوم. فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنهه[50] رمى في عماية ، فشمرت عن ساق الجد ، في تحصيل ذلك العلم من الكتب ، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية ، وأنا ممنو[51] بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفر من الطلبة ببغداد.

فأطلعني الله سبحأنه [ وتعالى ] بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة ، على منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة ، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره ، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ، وتحقيق وتخييل ، اطلاعاً لم أشك فيه.

فاسمع الآن حكايتهم[52] وحكاية حاصل علومهم ؛ فإني رأيتهم أصنافاً ، ورأيت علومهم أقساماً ؛ وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة[53] الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل ، تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه.

* * *







أَصْناَف الفَلاَسِفةَ وشُمول وَصْمَة الكُفِر َكافَّتهمُ [54]
اعلم: أنـهم ، على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبـهم ، ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الدهريون ، والطبيعيون ، والإلهيون.

الصنف الأول: الدهريون:- وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر ، العالم القادر ، وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه بلا صانع ، ولم يزل الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان ، كذلك كان ، وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة.

والصنف الثاني: الطبيعيون:- وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة ، وعن عجائب الحيوان والنبات ، وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات ، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع حكمته ، مما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر[55] حكيم ، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها. ولا يطالع التشريح وعجائب منافع الأعضاء مطالع ، إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان ؛ لا سيما بنية الإنسان. إلا أن هؤلاء ، لكثرة بحثهم عن الطبيعة ، ظهر عندهم - لاعتدال المزاج - تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان بـه. فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً ، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فتنعدم[56]. ثم إذا انعدمت[57] ، فلا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا. فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود ، فجحدوا الآخرة ، وأنكروا الجنة والنار ، [ والحشر والنشر ] ، والقيامة والحساب ، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ، ولا للمعصية عقاب ، فانحل عنهم اللجام وأنـهمكوا في الشهوات أنـهماك الأنعام.

وهؤلاء أيضاً زنادقة لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر ، وإن آمنوا بالله وصفاته.

والصنف الثالث: الإلهيون :- وهم المتأخرون منهم ، [ مثل ]: سقراط ، وهو أستاذ أفلاطون ، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس ، وأرسطاطاليس هو الذي رتب [ لهم ] المنطق ، وهذَّب لهم العلوم ، وحرّر لهم ما لم يكن محرراً من قبلُ ، وأنضَجَ لهم ما كان فِجّاً من علومهم ، وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية ، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا بـه غيرهم. (( وكفى الله المؤمنين القتال )) بتقاتلهم. ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ، ومن كان قبلهم من الإلهيين ، ردّاً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم ؛ إلا أنه استبقى أيضاً من رذائل[58] كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنـزوع عنها[59] ، فوجب تكفيرهم ، وتكفير شيعتهم[60] من المتفلسفة الإسلاميين ، كابن سينا والفارابي و غيرهم[61]. على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين. وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم. وما لا يُفهم كيف يُرد أو يقبل؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس ، بحسب نقل هذين الرجلين ، ينحصر في ثلاثة أقسام: -

1. قسم يجب التفكير به.

2. وقسم يجب التبديع به.

3. وقسم لا يجب إنكاره أصلاً فلنفصله[62].



* * *



أَقْسَامِ عُلومِهم
أعلم: أن علومهم - بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه - ستة أقسام: رياضية ، ومنطقية ، وطبيعية ، وإلهية ، وسياسية ، وخلقية.

1 - أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم[63] ، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً ، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدته بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان:

احداهما[64] الأولى: ان من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة ، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح [ وفي ] وثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم بالشرع ما تناولته الألسن فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم[65] استدل[66] على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين. وكم رأيت ممن يضل[67] عن الحق بـهذا العذر[68] ولا مستند له سواه! وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة ، فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقاً في الطب ، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو ، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها [ رتبة ] البراعة والسبق. وإن كان الحمق والجهل ( قد ) يلزمهم في غيرها. فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني ، وفي الإلهيات تخميني ؛ لا يعرف ذلك إلا من جرّبه وخاض فيه. فهذا إذا قرر على هذا الذي ألحَدَ [69] بالتقليد ، لم يقع منه موقع القبول ، بل تحمله غلبة الهوى ، والشهوة الباطلة ، وحب التكايس ، على أن يصر على تحسين الظن بـهم في العلوم كلها.

فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ، فأنها وإن لم تتعلق بأمر الدين ، ولكن لما كانت من مبادئ علومهم ، سرى[70] إليه شرهم وشؤمهم ، فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى.

الآفة الثانية: نشأت من صديق للإسلام جاهل ، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم: فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها ، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف ، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع. فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع ، لم يشك في برهأنه ، ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع ، فيزداد للفلسفة حبّاً وللإسلام بغضاً. ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم ، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله صلى الله عليه وسلّم:

(( إن الشمس والقمر آيتان من آياتِ الله تعالى لا ينخسفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك

فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة ))[71].

وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلهما على وجه مخصوص. أما قوله ( عليه السلام ): (( لكن الله إذا تجلى لشيءْ خضع لهُ )) فليس توجد هذه الزيادة في الصحاح أصلاً. فهذا حكم الرياضيات وآفتها.

2 – وأما المنطقيات: فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً ، بل هي[72] النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها ، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه. وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد ، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان ؛ وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر ، بل هو ( من ) جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة ، وإنما يفارقونـهم بالعبارات والاصطلاحات ، بزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات ، ومثال كلامهم فيها قولهم: إذا ثبت أن كل (( أ )) (( ب )) لزم أن بعض (( ب )) (( أ )) أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان ، لزم أن بعض الحيوان إنسان. ويعبرون عن هذا بأنه الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية. وأي تعلق لهذا بمهمات الدين حتى يجحد وينكر؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الاعتقاد في عقل المنكر ، بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار. نعم ، لهم نوع من الظلم في هذا العلم ، وهو أنـهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة ، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط ، بل تساهلوا غاية التساهل ، وربما ينظر في المنطق أيضاً من يستحسنه ويراه واضحاً ، فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين ، فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية.

فهذه الآفة أيضاً متطرقة إليه.

3 - وأما (علم) الطبيعيات: فهو بحث[73] عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة: كالماء والهواء والتراب والنار ، وعن الأجسام المركبة: كالحيوان والنبات والمعادن ، وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها. وذلك يضاهي بحث الطب[74] عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسة[75] والخادمة ، وأسباب استحالة مزاجه. وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب ، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم ، إلا في مسائل معينة ، ذكرناها في كتاب (( تهافت الفلاسفة )). وما عداها مما يجب المخالفة فيها ؛ فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها ، وأصل جملتها: أن تعلم[76] أن الطبيعة مسخرة لله تعالى ، لا تعمل بنفسها ، بل هي مستعملة من جهة فاطرها. والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيءٍ منها بذاته عن ذاته[77].

4 – وأما الإلهيات: ففيها أكثر أغاليطهم ، فما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوه في المنطق ، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها. ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب الإسلاميين ، على ما نقله الفارابي وابن سينا. ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً ، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها ، وتبديعهم في سبعة عشر. ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين ، صنفنا كتاب ( التهافت ).

أما المسائل الثلاث ، فقد خالفوا فيها كافة الإسلاميين[78] وذلك في قولهم:

1 - إن الأجساد لا تحشر ، وإنما المثاب والمعاقَب هي الأرواح المجردة ، ( والمثوبات ) والعقوبات روحانية لا جسمانية ؛

ولقد صدقوا في إثبات الروحانية ، فأنها ثابتة[79] أيضاً ، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية ، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به.

2 - ومن ذلك قولهم: (( إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات )) ؛

وهذا أيضاً كفر صريح ، بل الحق أنه: (( لا يعزب عنـه مثقال ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ )).(سبأ: 3)

3 - ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل.

وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات ، وقولهم إنه عالم بالذات ، لا بعلم زائد (على الذات) وما يجري مجراه ، فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك. وقد ذكرنا في كتاب ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) ما يتبين به فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كل ما يخالف مذهبه.

4 - وأما السياسيات: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية ( والإيالة ) السلطانية ، وإنما أخذوها من كتب الله المنـزلة على الأنبياء ، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء [ عليهم السلام ].

5 - وأما الخلقية: فجميع كلامهم ( فيها ) يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها ، وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها ، وإنما أخذوها من كلام الصوفية ، وهم المتألهون المواظبون على ذكر الله تعالى ، وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذِّ الدنيا. وقد انكشف لهم في مجاهدتهم من أخلاق النفس وعيوبـها ، وآفات أعمالها ما صرحوا بـها ، فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم ، توسلاً بالتجمل بـها إلى ترويج باطلهم. ولقد كان في عصرهم ، بل في كل عصر ، جماعة من المتأهلين ، لا يُخلي الله [ سبحانه ] العالم عنهم ، فأنـهم أوتاد الأرض ، ببركاتـهم تنـزل الرحمة على أهل الأرض كما ورد في الخبر حيث قال صلى الله عليه وسلّم:

(( بـهم تمطرون وبـهم ترزقون ومنـهم كان أصحاب الكهف ))[80].

وكانوا في سالف الأزمنة ، على ما نطق بـه القرآن ، فتولد من مزجهم كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم آفتان: آفة في حق القابل وآفة في حق الراد:

1 - أما الآفة التي في حق الراد فعظيمة: إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكلام إذا كان مُدوَّناً في كتبهم ، وممزوجاً بباطلهم ، ينبغي أن يُهجر ولا يُذكر بل يُنكر على [ كل ] من يذكره ، إذ لم يسمعوه أولاً إلا منهم ، فسبق إلى عقولهم الضعيفة أنه باطل ، لأن قائله مُبطل ؛ كالذي يسمع من النصراني قوله: (( لا إله إلا الله عيسى رسول الله )) فينكره ويقول: (( هذا كلام النصارى )) ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول ، أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه الصلاة والسلام!؟ فإن لم يكن كافراً إلا باعتبار إنكاره ، فلا ينبغي أن يخالف في غير ما هو به كافر مما هو حق في نفسه ، وإن كان أيضاً حقاً عنده. وهذه عادة ضعفاء العقول ، يعرفون الحق بالرجال ، لا الرجال بالحق. والعاقل يقتدي بسيد العقلاء[81] علي[82] ، رضي الله عنه[83] حيث قال: (( لا تعرف الحق بالرجال ( بل ) اعرف الحق تعرف أهله )) و ( العارف ) العاقل يعرف الحق ، ثم ينظر في نفس القول: فإن كان حقاً ، قبله سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً ؛ بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل[84] أهل الضلال ، عالماً بأن معدن الذهب الرغام. ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب ، وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج ، مهما كان واثقاً ببصيرته ؛ وانما يزجر عن معاملة القلاب القرويُّ ، دون الصيرفي ( البصير ) ؛ ويمنع من ساحل البحر الأخرقُ ، دون السباح الحاذق ؛ ويُصد عن مس الحية الصبي دون المعزِّم البارع.

ولعمري! لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة ، وكمال العقل ( وتمام الآلة ) في تمييز الحق عن ( الباطل ، والهدى عن ) الضلالة ، وجب حسم الباب في زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضلال ما أمكن ، إذ لا يسلمون عن الآفة الثانية التي سنذكرها ( أصلاً ) وإن سلموا عن ( هذه ) الآفة التي ذكرناها.

ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين ، طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم ، ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم ، وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل ، مع أن بعضها من مولدات الخواطر - ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر - وبعضها يوجد في الكتب الشرعية ، وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفية.

وهب أنها لم توجد إلا في كتبهم ، فإذا كان ذلك الكلام معقولاً في نفسه ، مؤيداً بالبرهان ، ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة ، فلمَ ينبغي أن يهجر ويترك؟ فلو فتحنا هذا الباب ، وتطرقنا إلى أن يهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل ، للزمنا أن نـهجر كثيراً من الحق ، ولزمنا أن نـهجر جملة آيات من آيات القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلّم وحكايات السلف وكلمات الحكماء والصوفية ، لأن صاحب كتاب (( إخوان الصفا )) أوردها في كتابـه مستشهداً بـها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله ؛ ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه كتبهم. وأقل درجات العالم: أن يتميز عن العامي الغُمر ، فلا يعاف العسل ، وإن وجده في محجمة الحجَّام ، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل ، فإن نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة ، إنما صنعت للدم المستقذَر ، فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة ، ولا يدري أنه مستقذر لصفة في ذاته ؛ فإذا عدمت ( هذه ) الصفة في العسل فكونـه في ظرفه لا يكسبه تلك الصفة ، فلا ينبغي أن يوجب له الاستقذار ، وهذا وهم باطل ، وهو غالب على أكثر الخلق. فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم ، قبلوه وإن كان باطلاً ؛ وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً. فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق ، وهو غاية الضلال! هذه آفة الرد.

2 - والآفة الثانية آفة القبول: فإن من نظر في كتبهم (( كإخوان الصفا )) وغيره ، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحكم النبوية ، والكلمات الصوفية ، ربما استحسنها وقبلها ، وحسن اعتقاده فيها ، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج بـه ، لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه ، وذلك نوع استدراج إلى الباطل.

ولأجل هذه الآفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر. وكما يجب صون من لا يحسن السباحة على مزالق الشطوط ، يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب. وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيَّات ، يجب صون الأسماع عن مختلط الكلمات وكما يجب على المعزِّم أن لا يمس الحية بين يدي ولده الطفل ، إذا علم أن سيقتدي به ويظن أنه مثله ، بل يجب عليه أن يحذّره [ منه ] ، بأن يحذر هو [ في ] نفسه [ ولا يمسها ] بين يديه ، فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله. وكما أن المعزِّم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بين الترياق والسم ، واستخرج منها الترياق وأبطل السم فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه. وكذا الصراف الناقد البصير إذا أدخل يده في كيس القَلاّب ، وأخرج منه الإبريز الخالص ، واطّرح الزيف والبهرج ، فليس له أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج إليه ؛ فكذلك العالم. وكما أن المحتاج إلى الترياق ، إذا اشمأزت نفسه منه ، حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم [ وجب تعريفه ] ، والفقير المضطر إلى المال ، إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاّب ، وجب تنبيهه على أن نفرته جهل محض ، هو سبب حرمأنه الفائدة التي هي مطلبه ، وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفاً ، كما لا يجعل الزيف جيداً ، فكذلك قرب الجوار بين الحق الباطل ، لا يجعل الحق باطلاً ، كما لا يجعل الباطل حقاً.

فهذا ( مقدار ) ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها.

* * *



3 - القَولُ ِفي مَذْهَبِ التَّعلِيم وغَائِلَته
ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه ، علمت أن ذلك أيضاً غير وافٍ بكمال الغرض ، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب ، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات. وكان قد نبغت نابغة التعليمية ، وشاع بني الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق ، فعنّ لي أن أبحث في مقالاتهم ، لأطّلع على ما في كنانتهم. ثم اتفق أن ورد عليّ أمر جازم من حضرة الخلافة ، بتصنيف كتاب يكشف [ عن ] حقيقة مذهبهم. فلم يسعني مدافعته وصار ذلك مستحثاً من خارج ، ضميمة للباعث من الباطن ، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتـهم. وكذلك قد بلغني بعض كلماتـهم المستحدثة التي ولدتها خواطر أهل العصر ، لا على المنهاج المعهود من سلفهم. فجمعت تلك الكلمات ، ( ورتبتها ) ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق ، واستوفيت الجواب عنها ، حتى أنكر بعض أهل الحق ( مني ) مبالغتي في تقرير حجتهم ، فقال: (( هذا سعي لهم ، فأنـهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بـمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها ، وترتيبك إياها )). وهذا الإنكار من وجه حق ، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي ( رحمهما الله ) ، تصنيفه في الرد على المعتزلة ؛ فقال الحارث: (( الرد على البدعة فرض)) فقال أحمد: (( نعم ، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها ؛ فبمَ تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ، ولا يلتفت إلى الجواب ، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه؟ )).

وما ذكره أحمد بن حنبل حق ، ولكن في شبهة ( لم تنتشر ) ولم تشتهر. فأما إذا انتشرت ، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب [ عنها ] إلا بعد الحكاية. نعم ، ينبغي أن لا يتكلف لهم شبهة لم [ يتكلفوها ] ؛ ولم أتكلف أنا ذلك ، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي المختلفين إلي ، بعد أن كان قد التحق بـهم ؛ وانتحل مذهبـهم ، وحكى أنـهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم ، بأنـهم لم يفهموا بعد حجتهم. ثم ذكر تلك الحجة وحكاها عنهم ، فلم أرض لنفسي أن يظن في الغفلة عن اصل حجتهم ، فلذلك أوردتها ، ولا أن يظن بي أني - وإن سمعتها – لم أفهمها فلذلك قررتها.

والمقصود ، أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ، ثم أظهرت فسادها [ بغاية البرهان ].

والحاصل: أنه لا حاصل عند هؤلاء ، ولا طائل لكلامهم. ولولا سوء نصرة الصديق الجاهل ، لما انتهت تلك البدعة - مع ضعفها - إلى هذه الدرجة ؛ ولكن شدة التعصب ، دعت الذابين عن الحق إلى تطويل النـزاع معهم في مقدمات كلامهم ، وإلى مجاحدتـهم في كل ما نطقوا به ، فجاحدوهم في دعواهم: (( الحاجة إلى التعليم والمعلم. )) وفي دعواهم أنه: (( لا يصلح كل معلم ، بل لا بد من معلم معصوم. )) وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم والمعلم ، وضعف قول المنكرين في مقابلته ، فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب المخالفين لهم ، ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجعله بطريقه ؛ بل الصواب الاعتراف بالحاجة إلى المعلم ، وأنه لا بد وأن يكون ( المعلم ) معصوماً ، ولكن معلمنا المعصوم ( هو ) محمد صلى الله عليه وسلّم فإذا قالوا: (( هو ميت )) ، فنقول: (( ومعلمكم غائب )) ، فإذا قالوا: (( معلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد ، وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل )). فنقول: (( ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وأكمل التعليم إذ قال الله تعالى:

(( اليوم أكملتُ لكم دينكم [ وأتممتُ عليكمْ نعمتي ] )) (المائدة: 3)

وبعد كمال التعليم لا يضر موت المعلم كما لا يضر غيبته.

فبقي قولهم: (( كيف تحكمون فيما لم تسمعوه؟ أبالنص ولم تسمعوه ، أم بالإجتهاد والرأي وهو مظنة الخلاف؟ )) فنقول: (( نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول الله عليه [ الصلاة ] والسلام إلى اليمن: أن نحكم بالنص ، عند وجود النص وبالإجتهاد عند عدمه[85]. ( بل ) كما يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن الإمام إلى أقاصي البلاد ، إذ لا يمكنـه أن يحكم بالنص فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع الغير المتناهية ، ولا يمكنـه الرجوع في كل واقعة إلى بلدة الإمام ، وأن يقطع المسافة ويرجع فيكون المستفتي قد مات ، وفات الانتفاع بالرجوع. فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إلا أن يصلي بالاجتهاد ، إذ لو سافر إلى بلدة الإمام لمعرفة القبلة ، فيفوت وقت الصلاة. فإذن جازت الصلاة إلى غير القبلة بناء على الظن. ويقال: (( إن المخطيء في الاجتهاد له أجرٌ واحدٌ وللمُصيبِ أجران ))[86]. فكذلك في جميع المجتهدات ، وكذلك أمر صرف الزكاة إلى الفقير ، فربما يظنـه فقيراً باجتهاده وهو غني باطناً بإخفائه ماله ، فلا يكون مؤاخذاً بـه وإن أخطأ ، لأنه لم يؤاخذ إلا بموجب ظنه. فإن قال: (( ظن مخالفهِ كظنه )) فأقول: (( هو مأمور باتباع ظن نفسه ، كالمجتهد في القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غيره. )) فإن قال: (( فالمقلد يتبع أبا حنيفة والشافعي ( رحمهما الله ) أم غيرهما. )) فأقول: (( فالمقلد في القبلة عند الاشتباه ، في معرفة الأفضل الأعلم بدلائل القبلة ، فيتبع ذلك الاجتهاد ؛ فكذلك في المذاهب. ))

فردّ الخلق إلى الاجتهاد - ضرورة - الأنبياءُ والأئمة مع العلم بأنـهم ( قد ) يخطئون ، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (( أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ))[87]. أي أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود ، وربما أخطأوا فيه. ولا سبيل إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات ، فيكف يطمع في ذلك؟

ولهم ها هنا سؤالان: أحدهما قولهم: (( هذا وإن صح في المجتهدات فلا يصح في قواعد العقائد ، إذ المخطئ فيه غير معذور ، فكيف السبيل إليه؟ )) فأقول: (( قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة ؛ وما وراء ذلك من التفصيل ، والمتنازع فيه ، يعرف الحق فيه بالوزن بالقسطاس المستقيم. وهي الموازين التي ذكرها الله ( تعالى ) في كتابه ، وهي خمسة ذكرتها في كتاب (( القسطاس المستقيم )). فإن قال: (( خصومك يخالفونك في ذلك الميزان. )) فأقول: (( لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه [ إذ لا يخالف فيه ] أهل التعليم ، لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه ، ولا يخالف فيه أهل المنطق ، لأنه موافق لما شرطوه في المنطق ، وغير مخالف له ؛ ولا يخالف فيه المتكلم لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات ، وبه يعرف الحق في الكلاميات. )) فإن قال: (( فإن كان في يدك مثل هذا الميزان فلمَ لا ترفع الخلاف بين الخلق؟ )) فأقول: (( لو أصغوا إلي لرفعت الخلاف بينهم ؛ وذكرت طريق رفع الخلاف في كتاب القسطاس المستقيم ، فتأمله لتعلم أنه حق وأنه يرفع الخلاف قطعاً لو أصغوا ولا يصغون [ إليه ] بأجمعهم! بل قد أصغى إلي طائفة ، فرفعت الخلاف بينهم. وإمامك يريد رفع الخلاف بينهم مع عدم إصغائهم ، فلمَ لم يرفع إلى الآن؟ ولمَ لم يرفع علي رضي الله عنـه ، وهو رأس الأئمة؟ أو يدعي أنه يقدر على حمل كافتهم على الإصغاء قهراً ، فلمَ لم يحملهم إلى الآن؟ ولأي يوم أجله؟ وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته إلا زيادة خلاف وزيادة مخالف؟ نعم! كان يخشى من الخلاف نوع الضرر لا ينتهي إلى سفك الدماء ، وتخريب البلاد وأيتام الأولاد ، وقطع الطرق ، والإغارة على الأموال. وقد حدث في العالم من بركات رفعكم الخلاف [ من الخلاف ] ما لم يكن بمثله عهد. )) فإن قال: (( ادعيت أنك ترفع الخلاف بين الخلق ولكن المتحير بين المذاهب المتعارضة ، والاختلافات المتقابلة ، لم يلزمه الإصغاء إليك دون خصمك ، وأكثر الخصوم يخالفونك ، ولا فرق بينك وبينهم. ))

وهذا هو سؤالهم الثاني فأقول: (( هذا أولاً ينقلب عليك ، فإنك إذا دعوت هذا المتحير إلى نفسك فيقول المتحير ، بما صرت أولى من مخالفيك ، وأكثر أهل العلم يخالفونك؟ فليت شعري! بماذا تجيب ، أتجيب بأن تقول: إمامي منصوص عليه؟ فمن يصدقك في دعوى النص ، وهو لم يسمع النص من الرسول؟ وإنما يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اختراعك وتكذيبك. ثم هب أنه سلم لك النص ، فإن كان متحيراً في أصل النبوة ، فقال: هب أن إمامك يدلي بمعجزة عيسى عليه السلام فيقول: الدليل على صدقي أني أحيي أباك ، فأحياه ، فناطقني بأنه محق ، فبماذا أعلم صدقه؟ ولم يعلم كافة الخلق صدق عيسى عليه السلام بـهذه المعجزة ، بل عليه من الأسئلة المشكلة ما لا يدفع إلا بدقيق النظر العقلي ؛ والنظر العقلي لا يوثق به عندك ، ولا يعرف دلالة المعجزة على الصدق ما لم يعرف السحر والتمييز بينه وبين المعجزة ، وما لم يعرف أن الله لا يضل عباده. - وسؤال الإضلال وعسر [ تحرير ] الجواب عنه مشهور- فبماذا تدفع جميع ذلك؟ ولم يكن إمامك أولى بالمتابعة من مخالفه! )) فيرجع إلى الأدلة النظرية التي ينكرها ، وخصمه يدلي بمثل تلك الأدلة وأوضح منها. وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقلاباً عظيما ، لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يجيبوا عنه جواباً لم يقدروا عليه.

وإنما نشأ الفساد من جماعة من الضعفة ناظروهم ، فلم يشتغلوا بالقلب ، بل بالجواب. وذلك مما يطول فيه الكلام ، وما لا يسبق سريعاً إلى الإفهام ، فلا يصلح للإفحام. فإن قال قائل: (( فهذا هو القلب ، فهل عنه جواب؟ )) فأقول: (( نعم! جوابه أن المتحير لو قال: أنا متحير ، ولم يعين المسألة التي هو متحير فيها ، يقال له: أنت كمريض يقول: أنا مريض ولا يعين مرضه ، ويطلب علاجه. فيقال له: ليس في الوجود علاج للمرض المطلق ، بل لمرض معين: من صداع أو إسهال أو غيرهما. فكذلك المتحير ينبغي أن يعين ما هو متحير فيه ؛ فإن عين المسألة عرّفته الحق فيها بالوزن بالموازين الخمسة ، التي لا يفهمها أحد إلا ويعترف بأنه الميزان الحق ، الذي يوثق بكل ما يوزن به ، فيفهم الميزان ، ويفهم منه أيضاً صحة الوزن ، كما يفهم متعلم علم الحساب نفس الحساب ، وكون المحاسب المعلم عالماً بالحساب وصادقاً فيه )). وقد أوضحت ذلك في كتاب (( القسطاس المستقيم )) في مقدار عشرين ورقة ؛ فليتأمل.

وليس المقصود الآن بيان فساد مذهبهم ، فقد ذكرت ذلك في كتاب (( المستظهري )) أولاً ؛ وفي كتاب (( حجة الحق )) ثانياً ، وهو جواب كلام لهم عُرض علي ببغداد ؛ وفي كتاب (( مفصل الخلاف )) الذي هو اثنا عشر فصلاً ثالثاً ؛ وهو جواب كلام عُرض علي بـهمدان ؛ وفي كتاب (( الدرج )) المرقوم (( بالجداول )) رابعاً ، وهو من ركيك كلامهم الذي عُرض علي بطوس ؛ وفي كتاب (( القسطاس المستقيم )) خامساً ، وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار الاستغناء عن الامام [ المعصوم ] لمن أحاط به.

بل المقصود أن هؤلاء ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء ، بل هم ، مع عجزهم عن إقامة البرهان على تعيين الإمام ، طال ما جاريناهم[88] فصدقناهم في الحاجة إلى التعليم وإلى المعلم المعصوم وأنه الذي عينوه ، ثم سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا المعصوم وعرضنا عليهم إشكالات فلم يفهموها ، فضلاً عن القيام بحلّها! فلما عجزوا أحالوا [ على ] الإمام الغائب ، وقالوا: (( ( أنه ) لا بد من السفر إليه. )) والعجب أنـهم ضيعوا عمرهم في طلب المعلم وفي التبجح بالظفر به ، ولم يتعلموا منه شيئاً أصلاً ، كالمتضمّخ[89] بالنجاسة ، يتعب في طلب الماء حتى إذا وجده لم يستعمله ، وبقي متضمخاً بالخبائث.

ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم ، فكان حاصل ما ذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس: وهو رجل من قدماء الأوائل ، ومذهبـه أرك مذاهب الفلسفة ، وقد رد عليه أرسطاطاليس ، بل استركَّ كلامه واسترذله ، وهو المحكي في كتاب (( إخوان الصفا )) ، وهو على التحقيق حشو الفلسفة.

فالعجب ممن يتعب طول العمر في تحصيل العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغث ، ويظن بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم! فهؤلاء أيضاً جربناهم وسبرنا ظاهرهم وباطنهم ؛ فرجع حاصلهم إلى استدراج العوام ، وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم ، ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوي مفحم ، حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد ، وقال: (( هات علمه وأفدنا من تعليمه! )) وقف وقال: (( الآن إذا سلمت لي هذا فاطلبه ، فإنما غرضَي هذا القدر فقط. )) إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى الإشكالات ، بل عجز عن فهمه ، فضلاً عن جوابـه.

فهذه حقيقة حالهم فأخبرهم تَقْلُهم[90] فلما خبرناهم[91] نفضنا اليد عنهم ( أيضاً ).

* * *



4 - طُرُق الصُّوفِيَّة

ثم إني ، لما فرغت من هذه العلوم ، أقبلت بـهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس. والتنـزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل ( بـها ) إلى تخلية القلب عن غير الله ( تعالى ) وتحليته بذكر الله.

وكان العلم أيسر عليّ من العمل. فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل: (( قوت القلوب )) لأبي طالب المكي ( رحمه الله ) وكتب (( الحارث المحاسبي )) ، والمتفرقات المأثورة عن ((الجنيد)) و (( الشبلي )) و (( أبي يزيد البسطامي )) [ قدس الله أرواحهم ] ، وغيرهم من المشايخ ؛ حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصهم ، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق بين أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابـهما وشروطهما ، وبين أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبين أن تعرف حد السكر ، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ، وبين أن تكون سكران! بل السكران لا يعرف حدّ السكر وعِلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء! والصَّاحي يعرف حدّ السُكر واركأنه ومَا معه من السكر شيء. والطبيب في حالة المرض يعرف حدّ الصحة وأسبابـها وأدويتها ، وهو فاقد الصحة. فكذلك فرقٌ بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه ، وبين أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا!

فعلمت يقيناً أنـهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال. وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ولم يبقَ إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم ، بل بالذوق والسلوك. وكان ( قد ) حصل معي - من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها ، في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية- إيمانٌ يقينيٌ بالله تعالى ، وبالنبُوّة وباليوم الآخر.

فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي ، لا بدليل معين محرر[92] بل بأسبابٍ وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلُها.

وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع ( لي ) في سعادة الآخرة إلا بالتقوى ، وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله ، قطعُ علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكُنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال ، والهرب من الشواغل والعلائق.

ثم لاحظت أحوالي ؛ فإذا أنا منغمس في العلائق ، وقد أحدقت بي من الجوانب ؛ ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة.

ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى ، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت ؛ فتيقنت أني على شفا جُرُف هار ، وأني قد أشفيت على النار ، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال.

فلم أزل أتفكر فيه مدة ، وأنا بعدُ على مقام الاختيار ، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً ، وأحل العزم يوماً ، وأقدم فيه رجلاً وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة ، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل ، وبين يديك السفر الطويل ، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن [ هذه العلائق ] فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على الهرب والفرار.

ثم يعود الشيطان ويقول: (( هذه حال عارضة ، إياك أن تطاوعها ، فأنها سريعة الزوال ؛ فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض ، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص ، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ، ربما التفتت إليه نفسك ، ولا يتيسر لك المعاودة. ))

فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ، ودواعي الآخرة ، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان[93] وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر[94] جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار ، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس ، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة [ إلي ] ، فكان لا ينطق لساني بكلمة [ واحدة ] ولا أستطيعها البتة ، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب ، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد ، ولا تنهضم ( لي ) لقمة ؛ وتعدى إلى ضعف القوى ، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: (( هذا أمر نـزل بالقلب ، ومنه سرى إلى المزاج ، فلا سبيل إليه بالعلاج ، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم )).

ثم لما أحسست بعجزي ، وسقط بالكلية اختياري ، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له ، فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه )) ، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال (والأهل والولد والأصحاب) ، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبّر في نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً. واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة ، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون للإعراض عما كنت فيه سبب دينيّ ، إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين ، وكان ذلك مبلغهم من العلم.

ثم ارتبك الناس في الاستنباطات ، وظن من بعُد عن العراق ، أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة ؛ ( وأما من قرب من الولاة ) : كان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب عليَّ ، وإعراضي عنهم ، وعن الالتفات إلى قولهم ، فيقولون: (( هذا أمر سماوي ، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة أهل العلم )).

ففارقت بغداد ، وفرقت ما كان معي من المال ، ولم أدخر إلا قدر الكفاف ، وقوت الأطفال ، ترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح ، ولكونه وقفاً على المسلمين. فلم أر في العالم مالاً يأخذه العالم لعياله أصلح منه.

ثم دخلت الشام ، وأقمت به قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة ؛ والرياضة والمجاهدة ، اشتغالاً بتزكية النفس ، وتهذيب الأخلاق ، وتصفية القلب لذكر الله ( تعالى ) ، كما كنت حصلته من كتب[95] الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ، أصعد منارة المسجد طول النهار ، وأغلق بابـها على نفسي.

ثم رحلت منها إلى بيت المقدس ، أدخل كل يوم الصخرة ، وأغلق بابـها على نفسي.

ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج ، والاستمداد من بركات مكة والمدينة. وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه ؛ فسرت إلى الحجاز.

ثم جذبتني الهمم ، ودعوات الأطفال إلى الوطن ، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه. فآثرت العزلة [ به ] أيضاً حرصاً على الخلوة ، وتصفية القلب للذكر.

وكانت حوادث الزمان ، ومهمات العيال ، وضرورات المعاش[96] ، تغير فيَّ وجه المراد ، وتشوش صفوة الخلوة. وكان لا يصفو [ لي ] الحال إلا في أقوات متفرقة. لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها ، فتدفعني عنها العوائق ، وأعود إليها.

ودمت على ذلك مقدار عشر سنين ؛ وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها ، والقدر الذي أذكره لينتفع به: إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله ( تعالى ) خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جُمع عقل العقلاء ، وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإن جميع حركاتـهم وسكناتـهم ، في ظاهرهم وباطنهم ، مقتبسة من ( نور ) مشكاة النبوة ؛ وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.

وبالجملة ، فماذا يقول القائلون في طريقة ، طهارتـها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله ( تعالى ) ، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة ، استغراق القلب بالكلية بذكر الله ، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟ وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها. وهي على التحقيق أول الطريقة ، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه.

ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات ( والمشاهدات ) ، حتى أنـهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة ، وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال ، إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.

وعلى الجملة. ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول ، وطائفة الاتحاد ، وطائفة الوصول ، وكل ذلك خطأ. وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب (( المقصد الأسنى )) ؛ بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول :

وكان ما كان مما لستُ أذكره فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ![97]

وبالجملة ، فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق ، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم ، وكرامات الأولياء ، [ هي ] على التحقيق ، بدايات الأنبياء ، وكان ذلك أول حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أقبل إلى جبل (( حراء )) ، حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد ، حتى قالت العرب : (( إن محمداً عشق ربه!)).

وهذه حالة ، يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها. فمن لم يرزق الذوق ، فيتيقنها بالتجربة والتسامع ، إن أكثر معهم الصحبة ، حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقيناً. ومن جالسهم ، استفاد منهم هذا الإيمان. فهم القوم لا يشقى جليسهم. ومن لم يرزق صحبتهم ، فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد البرهان ، على ما ذكرناه في كتاب (( عجائب القلب )) من كتب (( إحياء علوم الدين )).

والتحقيق بالبرهان علم ، وملابسة عين تلك الحالة ذوق ، والقبول من التسامع والتجربة بحسن الظن إيمان. فهذه ثلاث درجات :

(( يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ )) (المجادلة: 58: 11)

ووراء هؤلاء قوم جهال ، هم المنكرون لأصل ذلك ، المتعجبون من هذا الكلام ، يستمعون ويسخرون ، ويقولون : العجب ! أنـهم كيف يهذون ! وفهيم قال الله تعالى :

(( ومنـهم من يستمع إليكَ حتى إذا خرجوا من عِندك قالوا للذين أُوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبـهم واتبعوا أهواءهم )) ( فأصمهُم وأعمى أبصارهم ) (محمد : 47: 16)

ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم ، (( حقيقة النبوة وخاصيتها )). ولا بد من التنبيه[98] على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها.



حَقيقَة النُبُوَّة: واضطِرار كَافةِ الخَلق إليهَا

اعلم: أن جوهر الإنسان في أصل الفطرة ، خلق خالياً ساذجاً لا خبر معه من عوالم الله ( تعالى )! والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى كما قال:

(( وما يعلم جنودُ ربك إلا هو )) (المدثر : 74: 31)

وإنما خبره من العوالم بواسطة الإدراك ، وكل إدراك من الإدراكات خلق ليطلع الإنسان به على عالم من الموجودات ، ونعني بالعوالم ، أجناس الموجودات.

فأول ما يخلق في الإنسان حاسة اللمس ، فيدرك بـها أجناساً من الموجودات: كالحرارة ، والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، واللين والخشونة ، وغيرها. واللمس قاصر عن الألوان والأصوات قطعاً ، بل هي كالمعدوم في حق اللمس.

ثم تخلق له [ حاسة ] البصر ، فيدرك بـها الألوان والأشكال ، وهو أوسع عوالم المحسوسات.

ثم ينفخ فيه السمع ، فيسمع الأصوات والنغمات.

ثم يخلق له الذوق. وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات ، فيخلق فيه التمييز ، وهو قريب من سبع سنين ، وهو طور آخر من أطوار وجوده : فيدرك فيه أموراً زائدة على ( عالم ) المحسوسات ، لا يوجد منها شيء في عالم الحس.

ثم يترقى إلى طور آخر ، فيخلق له العقل ، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات ، وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله.

ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بـها الغيب وما سيكون في المستقبل ، وأموراً أُخر ، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز. وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها ، فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها ، وذلك عين الجهل : إذ لا مستند لهم إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه ، فيظن أنه غير موجود في نفسه. والأكمه ، لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال وحكي له ذلك ابتداءً ، لم يفهمها ولم يقرّ بـها. وقد قرب الله تعالى على خلقه بأن أعطاهم نموذجاً[99] من خاصية النبوة ، وهو النوم : إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ، إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنـه التعبير. وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - وقيل له: (( إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كالميت ، ويزول ( عنه ) إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب. )) – لأنكره ، وأقام البرهان على استحالته ، وقال: (( القوى الحساسة أسباب الإدراك ، فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها ، فبأن لا يدرك مع ركودها أولى وأحق.)) وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة. فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي ، يحصل فيه عين يبصر بـها أنواعاً من المعقولات ، والحواس معزولة عنها ، فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب ، وأمور لا يدركها العقل.

والشك في النبوة ، إما أن يقع: في إمكأنـها ، أو في وجودها ووقوعها ، أو في حصولها لشخص معين.

ودليل إمكأنـها وجودها. ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل ، كعلم الطب والنجوم ؛ فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي وتوفيق من جهة الله ( تعالى ) ، ولا سبيل إليها بالتجربة. فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة ، فكيف ينال ذلك بالتجربة ؟ وكذلك خواص الأدوية. فتبين بـهذا البرهان أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل - وهو المراد بالنبوة - لا أن النبوة عبارة عنها فقط ، بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ، ولها خواص كثيرة سواها. وما ذكرنا ، فقطرة من بحرها ؛ إنما ذكرناها لأن معك أُنموذجاً منها ، وهو مدركاتك في النوم ؛ ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم ، وهي معجزات الأنبياء ( عليهم الصلاة والسلام ) ، ولا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلاً.

وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ، فإنما يدرك بالذوق ، من سلوك طريق التصوف ؛ لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم ، ولولاه لما صدقت به. فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج ، ولا تفهمها أصلاً ، فكيف تصدق بـها ؟ وإنما التصديق بعد الفهم: وذلك الأنموذج يحصل في أوائل طريق التصوف فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصديق بما لم يحصل بالقياس ( إليه ). فهذه الخاصية الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة.

فإن وقع لك الشك في شخص معين ، أنه نبي أم لا ، فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله ، إما بالمشاهدة ، أو بالتواتر والتسامع ؛ فإنك إذا عرفت الطب والفقه ، يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم ، وسماع أقوالهم ، وإن لم تشاهدهم ؛ ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي ( رحمه الله ) فقيهاً ، وكون جالينوس طبيباً ، معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير ، [ بل ] بأن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ، فيحصل لك علم ضروري بحالهما. فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار ، يحصل لك العلم الضروري بكونه صلى الله عليه وسلم على أعلى درجات النبوة ، وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب ، وكيف صدق صلى الله عليه وسلم في قوله:

(( من عمل بما علم ورثهُ الله علم ما لم يعلم ))[100]

وكيف صدق في قوله:

(( من أعان ظالماً سلطهُ الله عليهِ ))[101]

وكيف صدق في قوله:

(( من اصبح وهُمُومُهُ همٌّ واحدٌ كفاه الله ( تعالى ) هُمُومَ الدنيا والآخرةِ ))[102].

فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف ، حصل لك علم ضروري لا تتمارى فيه.

فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة ، لا من قلب العصا ثعباناً ، وشق القمر ، فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ، ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ، وربما ظننت أنه سحر وتخييل ، وأنه من الله تعالى إضلال فأنه

(( يُضِلُّ من يَشَاءُ ويَهدي من يشاءُ )) (فاطر:8).

وترد عليك أسئلة المعجزات ، فإذا كان مستند إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة ، فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الإشكال والشبهة عليها ، فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في جملة نظرك ، حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين ، بل من حيث لا يدري ، ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد. فهذا هو الإيمان القوي العلمي.

وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ، ولا يوجد إلا في طريق الصوفية.

فهذا القدر من حقيقة النبوة ، كاف في الغرض الذي أقصده الآن ، وسأذكر وجه الحاجة إليه.



سَبَب نشر العِلْم بعَدْ الإعرَاضِ عَنـه
ثم إني ، لما واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين ، بان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها ، مرة بالذوق ، ومرة بالعلم البرهاني ، ومرة بالقبول الإيماني : أن الإنسان خلق من بدن وقلب[103] - وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله ، دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة - ، وأن البدن له صحة بـها سعادته ومرض فيه هلاكه ؛ وأن القلب كذلك له صحة وسلامة ، ولا ينجو (( إلا من أتى الله بقلب سليم )) (الشعراء:89) ؛ وله مرض فيه هلاكه الأبدي الأخروي ، كما قال تعالى : (( في قلوبـهم مرضٌ ))[104] (البقرة:10) وأن الجهل بالله سم مهلك ؛ وأن معصية الله ، بمتابعة الهوى ، داؤه الممرض ، وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي ، وطاعته بمخالفة الهوى ، دواؤه الشافي ؛ وأنه لا سبيل إلى معالجتة بازالة مرضه وكسب صحته ، الا بأدوية ؛ كما لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك. وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها ، لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل ، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء ، الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء ، فكذلك بان لي ، على الضرورة ، بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء ، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء ، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة ، لا ببضاعة العقل. وكما أن الأدوية تركب من ( أخلاط مختلفة ) النوع والمقدار وبعضها ضعف البعض في الوزن والمقدار ، فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر هو من قبيل الخواص ، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب ، مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار ، حتى أن السجود ضعف الركوع ، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ؛ ولا يخلو عن سر من الاسرار ، هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها الا بنور النبوة. ولقد تحامق وتجاهل جداً من أراد أن يستنبط ، بطريق العقل ، لها حكمة ، أو ظن أنها ذكرت على الاتفاق ، لا عن سر إلهي فيها ، يقتضيها بطريق الخاصية. وكما أن في الأدوية أصولاً هي أركأنـها ، وزوائد هي متمماتها ، لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها ، كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات.

وعلى الجملة : فالأنبياء عليهم السلام أطباء أمراض القلوب ، وإنما فائدة العقل وتصرفه أن عرّفنا ذلك وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز[105] عن درك ما يدرك بعين النبوة ، وأخذ بأيدينا وسلمنا ( إليها ) تسليم العميان إلى القائدين ، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين. فإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك ، إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه.

فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة ، في مدة الخلوة والعزلة.

ثم رأينا فتور الاعتقادات في أصل النبوة ، ثم في حقيقة النبوة ، ثم في العمل بما شرحته النبوة ، وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ؛ فنظرت إلى أسباب فتور الخلق ، وضعف إيمأنـهم ، فإذا هي أربعة :

1 - سبب من الخائضين في علم الفلسفة ؛

2 - وسبب من الخائضين في طريق التصوف ؛

3 - وسبب من المنتسبين الى دعوى التعليم ؛

4- وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بين الناس.

فإني تتبعت مدةً آحاد الخلق ، أسألُ من أن يقصر منهم في متابعة الشرع ( واسأله ) عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وقلت له: (( ما لك تقصر فيها فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا ، فهذه حماقة! فإنك لا تبيع الاثنين بواحد ، فكيف تبيع ما لا نـهاية له بأيام معدودة؟ وإن كنت لا تؤمن ، فأنت كافر! فدبر نفسك في طلب الإيمان ، وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطناً ، وهو سبب جرأتك ظاهراً ، وإن كنت لا تصرح به تجملاً بالإيمان وتشرفاً بذكر الشرع ! )).

فقائل يقول: (( إن هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه ، لكان العلماء أجدر بذلك ؛ وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي ، وفلان يشرب الخمر ، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى ، وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام ، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة ! وهلم جراً إلى أمثاله. ))

وقائل ثان: يدعي ( علم ) التصوف ، ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقّى عن الحاجة إلى العبادة!.

وقائل ثالث: يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة!

وهؤلاء هم الذين ضلوا عن التصوف.

وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول: (( الحق مشكل ، والطريق إليه متعسر[106] ، والاختلاف فيه كثير ، وليس بعض المذاهب أولى من بعض ، وأدلة العقول متعارضة ، فلا ثقة برأي أهل الرأي ، والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له ، فكيف أدع اليقين بالشك ؟ )).

وقائل خامس يقول: (( لست أفعل هذا تقليداً ، ولكني قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة ، وإن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة ، وأن المقصود من تعبداتـها: ضبط عوام الخلق وتقييدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات ، فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف ، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير بـها ، مستغن فيها عن التقليد ! )).

هذا منتهى إيمان من قرأ ( مذهب ) فلسفة الإلهيين منهم ؛ وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر الفارابي. وهؤلاء هم المتجملون بالإسلام.

وربما ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ، ويحضر الجماعات والصلوات ، ويعظم الشريعة بلسأنه ، ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر ، وأنواعاً من الفسق والفجور! وإذا قيل له: ((إن كانت النبوة غير صحيحة ، فلم تصلي ؟ )) فربما يقول: (( لرياضة الجسد ، ولعادة أهل البلد ، وحفظ المال والولد! )). وربما قال: ((الشريعة صحيحة ، والنبوة حق! )) فيقال: (( فلمَ تشرب الخمر؟ )) فيقول: (( إنما نـهي عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء ، وأنا بحكمتي محترز عن ذلك ، وإني أقصد به تشحيذ خاطري.)) حتى أن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها: أنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا ، وأن يعظم الأوضاع الشرعية ، ولا يقصر في العبادات الدينية ، ولا يشرب تلهياً بل تداوياً وتشافياً ؛ فكان منتهى حالته في صفاء الإيمان ، والتزام العبادات ، أن استثنى شرب الخمر لغرض التشافي.

فهذا إيمان من يدعي الإيمان منهم. وقد انخدع بـهم جماعة ، وزادهم انخداعاً ضعف اعتراض المعترضين عليهم ، إذ اعترضوا بمجاهدة علم الهندسة والمنطق ، وغير ذلك مما هو ضروري لهم ، على ما بينا علته من قبل.

فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيـمأنـهم إلى هذا الحد بـهذه الأسباب ، ورأيت نفسي ملبة بكشف هذه الشبهة ، حتى كان إفضاح هؤلاء أيسر عندي من شربة ماء ، لكثرة خوضي في علومهم [ وطرقهم ] - أعني [ طرق ] الصوفية والفلاسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء- ، انقدح في نفسي أن ذلك متعين في هذا الوقت ، محتوم. فماذا تغنيك الخلوة والعزلة ، وقد عم الداء ، ومرض الأطباء ، وأشرف الخلق على الهلاك؟ ثم قلت في نفسي: (( متى تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة ، والزمان زمان الفترة ، والدور دور الباطل ، ولو اشتغلت بدعوة الخلق ، عن طرقهم إلى الحق ، لعاداك أهل الزمان بأجمعهم ، وأنـَّى تقاومهم فكيف تعايشهم ، ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد ، وسلطان متدين قاهر؟ ))

فترخصت بيني وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة تعللاً بالعجز عن إظهار الحق بالحجة. فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ، لا بتحريك من خارج. فأمر أمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور ، لتدارك هذه الفترة. وبلغ الإلزام حداً كان ينتهي ، لو أصررت على الخلاف ، إلى حد الوحشة. فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف ، فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة ، وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق ، ولم ترخص لنفسك عُسْرَ معاناة الخلق ، والله سبحأنه وتعالى يقول:

(( بسم الله الرحمن الرحيم: الم. أحَسِبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمناً وهم لا يُفَتَنونَ ولقد فتنّا الذينَ من قبلهم )) الآية (العنكبوت: 1-3 )

ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه:

(( ولقدَ كُذّبَتْ رُسلٌ من قبلكَ فصَبروا على ما كُذّبوا وأُوذوا ، حتى أتاهم نصرُنا ؛ ولا مبَدّلَ لكلماتِ الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ( الأنعام:34 )

ويقول عز وجل: (( بسم الله الرحمن الرحيم : يس والقرآن الحكيم... )) إلى قوله (( إنما تنذرُ من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيبِ )). ( يس:1-11 )

فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات ، فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة ، والخروج من الزاوية ؛ وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة ، تشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير ورشد قدّرها الله سبحأنه على رأس هذه المائة[107] ؛ فاستحكم الرجاء ، وغلب حسن الظنّ بسبب هذه الشهادات وقد وعد الله سبحأنه بإحياء دينه على رأس كل مائة. ويسّر الله تعالى الحركة إلى نيسابور ، للقيام بـهذا المهم في ذي القعدة ، سن تسع وتسعين وأربع مائة. وكان الخروج من بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة. وهذه حركة قدّرها الله تعالى ، ( وهي ) من عجائب تقديراته التي لم يكن لها انقداح في القلب في هذه العزلة ، كما لم يكن الخروج من بغداد ، والنـزوع عن تلك الأحوال مما خطر إمكأنه أصلاً بالبال ؛ والله تعالى مقلب القلوب والأحوال و (( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابعِ الرحمن ))[108]. وأنا أعلم أني ، وإن رجعت إلى نشر العلم ، فما رجعت! فإن الرجوع عَودٌ إلى ما كان ، وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه ، وأدعو إليه بقولي وعملي ، وكان ذلك قصدي ونيتي. وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يُترك الجاه ، ويعرف بـه سقوط رتبة الجاه.

هذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي ؛ يعلم الله ذلك مني ؛ وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري ، ولست أدري أأصِل مرادي أم أُخترم[109] دون غرضي؟ ولكني اؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ( العلي العظيم ) ؛ وأني لم أتحرك ، لكنه حركني ؛ وإني لم أعمل ، لكنه استعملني ؛ فأسأله أن يصلحني أولاً ، ثم يُصلح بي ، ويهديني ، ثم يهدي بي ؛ وأن يريني الحق حقاً ، ويرزقني اتباعه ، ويريني الباطل باطلاً ، ويرزقني اجتنابه.

* * *

ونعود الآن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف الإيمان بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم:

أما الذين ادعوا الحيرة بما سمعوه من أهل التعليم ، فعلاجهم ما ذكرناه في كتاب (( القسطاس المستقيم )) ولا نطول بذكره ( في ) هذه الرسالة.

وأما ما توهمه أهل الإباحة ، فقد حصرنا شبههم في سبعة أنواع وكشفناها في كتاب (( كيمياء السعادة )).

وأما من فسد إيمأنه بطريق الفلسفة ، حتى أنكر أصل النبوة ، فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة ، بدليل وجود ( علم ) خواص الأدوية والنجوم وغيرهما. وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك. وأنـما أوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم ، لأنه من نفس علمهم. ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم ، كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات[110] ، مثلاً من نفس علمه ، برهان النبوة.

وأما من أثبت النبوة بلسأنه ، وسوى أوضاع الشرع على الحكمة ، فهو على التحقيق كافر بالنبوة ، وإنما هو مؤمن بحكم له طالع مخصوص ، يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً ؛ وليس هذا من النبوة في شيء. بل الإيمان بالنبوة: أن يقر بإثبات طور وراء العقل ، تنفتح فيه عين يدرك بـها مدركات خاصة ، والعقل معزول عنها ، كعزل السمع عن إدراك الألوان ، والبصر عن إدراك الأصوات ، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات. فإن لم يجوّز هذا ، فقد أقمنا البرهان على إمكأنه ، بل على وجوده. وإن جوز هذا ، فقد أثبت ، أن ههنا أموراً تسمى خواص ، لا يدور تصرف العقل حواليها أصلاً ، بل يكاد العقل يكذبـها ويقضي باستحالتها. فإن وزن دانق[111] من الأفيون ، سم قاتل لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته. والذي يدعي علم الطبيعة ، يزعم أنه ما يبرد من المركبات ، إنما يبرد بعنصري الماء والتراب ؛ فهما العنصران الباردان. ومعلوم أن أرطالاً من الماء والتراب لا يبلغ تبريدها في الباطن إلى هذا الحد. فلو أخبر طبيعي بـهذا ولم يجربـه ، لقال: (( هذا محال ، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية ، والهوائية والنارية لا تزيدها برودة ؛ فنقدر الكل ماء وتراباً ، فلا يوجب هذا الإفراط في التبريد. فإن انضم إليه حارّان فبأن لا يوجب ذلك أولى. )) ويقدر هذا برهاناً! وأكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات ، مبني على هذا الجنس! فأنـهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه ، وما لم يألفوه قدروا استحالته ، ولو لم تكن الرُؤْيا الصادقة مألوفة ، وادعى مدعٍ ، أنه عند ركود الحواس ، يعلم الغيب ، لأنكره المتصفون بمثل هذه العقول. ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء ، هو بمقدار حبة ، يوضع في بلدة فيأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه فلا يُبقي [ شيئاً ] من البلدة وما فيها ، ولا يبقى هو نفسه؟ )) لقال: (( هذا لمحال وهو من جملة الخرافات! )) وهذه حالة النار ، ينكرها من لم يرَ النار إذا سمعها. وأكثر [ إنكار ] عجائب الآخرة هو من هذا القبيل. فنقول للطبيعي: (( قد اضطررت إلى أن تقول : في الأفيون خاصية في التبريد ، ليست على قياس المعقول بالطبيعة. فلمَ لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص ، في مداواة القلوب وتصفيتها ، ما لا يدرك بالحكمة العقلية ، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة؟ )) بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم ، وهي من الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق ، بـهذا الشكل:

4
9
2

د
ط ب

3
5
7

ج
هـ
ز

8
1
6

ح
ا
و











يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء ، وتنظر إليهما الحامل بعينها ، وتضعهما تحت قدميها ، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج. وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في (( عجائب الخواص )) ؛ وهو شكل فيه تسعة بيوت ، يرقم فيها رقوم مخصوصة ، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر ، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب[112].

فيا ليت شعري! من يصدق بذلك ، ثم لا يتسع عقله للتصديق ، بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين ، والظهر بأربع ، والمغرب بثلاث ، هو لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟ وسببها اختلاف هذه الأوقات. وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة. والعجب أنَّا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين ، لعقلوا اختلاف هذه الأوقات ، فنقول: (( أليس يختلف الحكم في الطالع ، بأن تكون الشمس في وسط السماء ، أو في الطالع ، أو في الغارب ، حتى يبنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف العلاج ، وتفاوت الأعمار والآجال ، ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ، ولا بين المغرب وبين كون الشمس في الغارب ، فهل لتصديق ذلك سبب؟ )) إلا أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ، لعله جرب كذبه مائة مرة. ولا يزال يعاود تصديقه ، حتى لو قال المنجم [ له ]: (( إذا كانت الشمس في وسط السماء ، ونظر إليها الكوكب الفلاني ، والطالع هو البرج الفلاني ، فلبست ثوباً جديداً في ذلك الوقت قتلت في ذلك الثوب! )) فأنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت ، وربما يقاسي فيه البرد الشديد ، وربما سمعه من منجم وقد عرف[113] كذبـه مرات!.

فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى الاعتراف بأنها خواص -معرفتها معجزة لبعض الأنبياء- فيكف ينكر مثل ذلك ، فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات ، لم يعرف قط بالكذب! ( ولم لا يتسع لإمكأنه! ).

فإن أنكر فلسفي إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ، ورمي الجمار ، وعدد أركان الحج ، وسائر تعبدات الشرع ، لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقاً أصلاً. فإن قال: (( قد جربت شيئاً من النجوم وشيئاً من الطب ، فوجدت بعضه صادقاً ، فانقدح في نفسي تصديقه وسقط من قلبي استبعاده ونفرته ؛ وهذا لم أجربه ، فبم أعلم وجوده وتحقيقه؟ )) وإن أقررت بإمكأنه ، فأقول: (( إنك لا تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم ، فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا وشاهدوا الحق في جميع ما ورد بـه الشرع ، واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض ذلك.))

على أني أقول: (( وإن لم تجربه ، فيقضي عقلك بوجوب التصديق والإتباع قطعاً. فإنا لو فرضنا رجلاً بلغ وعقل ولم يجرب ( المرض ) ، فمرض ، وله والد مشفق حاذق بالطب ، يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل ، فعجن له والده دواء ، فقال: (( هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك. )) فماذا يقتضيه عقله ، إن كان الدواء مراً كريه المذاق ، أن يتناول؟ أوَ يَكذب ويقول: (( أنا [ لا ] أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ، ولم أجربه! )) فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك! فإن قلت: (( فبَم أعرف شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بـهذا الطب؟ )) فأقول: (( وبم عرفت [ شفقة أبيك ] وليس ذلك أمراً محسوساً؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في مصادره وموارده علماً ضرورياً لا تتمارى فيه. ))

ومن نظر في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق ، وتلطفه في جرّ الناس بأنواع الرفق[114] واللطف ، إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين ، وبالجملة إلى ما يصلح به دينهم ودنياهم ، حصل له علم ضروري ، بأن شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده.

وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال ، وإلى عجائب الغيب الذي أخبر عنه القرآن على لسأنه وفي الأخبار ، وإلى ما ذكره في آخر الزمان ، فظهر ذلك كما ذكره ، علم علماً ضرورياً أنه بلغ الطور الذي وراء العقل ، وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب الذي لا يدركه إلا الخواص ، والأمور التي لا يدركها العقل.

فهذا هو منهاج تحصيل العلم الضروري بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم . فجرب وتأمل القرآن وطالع الأخبار ، تعرف ذلك بالعيان.

وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة ، ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا الزمان.

وأما السبب الرابع - وهو ضعف الإيمان بسبب سيرة العلماء- فيداوي هذا المرض بثلاثة أمور:

أحدها: أن تقول: (( إن العالم الذي تزعم أنه يأكل الحرام ومعرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك بتحريم الخمر [ ولحم الخنـزير ] والربا ، بل بتحريم الغيبة والكذب والنميمة ، وأنت تعرف ذلك وتفعله ، لا لعدم إيمانك بأنه معصية ، بل لشهوتك الغالبة عليك ؛ فشهوته كشهوتك ، وقد غلبته كما غلبتك ، فعلمه بمسائل وراء هذا يتميز به عنك ، لا يناسب زيادة زجر عن هذا المحظور المعين.

(( وكم من مؤمن بالطب لا يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد ، وإن زجره الطبيب عنه! ولا يدل ذلك على أنه غير ضار ، أو على ان الإيمان بالطب غير صحيح ، فهذا محمل هفوات العلماء. ))

الثاني: أن يقال للعامي: (( ينبغي أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخراً لنفسه في الآخرة ، ويظن أن علمه ينجيه ، ويكون شفيعاً له حتى يتساهل معه في أعماله ، لفضيلة علمه. وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليه ، فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له ، وهو ممكن. فهو ، وإن ترك العمل ، يدلي بالعلم. وأما أنت أيها العامي! إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ، فتهلك بسوء عملك ولا شفيع لك! ))

الثالث: وهو الحقيقة ، أن العالم الحقيقي ، لا يقارف معصية إلا على سبيل الهفوة ، ولا يكون مصراً على المعاصي أصلاً. إذ العلم الحقيقي ما يعرّف أن المعصية سمٌ مهلك ، وأن الآخرة خير من الدنيا. ومن عرَف ذلك ، لا يبيع الخير بما هو أدنى [ منه ].

وهذا العلم لا يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بـها أكثر الناس. فلذلك لا يزيدهم ذلك العلم إلا جرأة على معصية الله تعالى. وأما العلم الحقيقي ، فيزيد صاحبه خشية وخوفاً [ ورجاءً ] ، وذلك يحول بينه وبين المعاصي إلا الهفوات التي لا ينفك عنها البشر في الفترات ، وذلك لا يدل على ضعف الإيمان. فالمؤمن مفتنٌ توّابٌ ، وهو بعيدٌ عن الإصرار والإكباب.



* * *





هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتهما وآفات من أنكر عليهما ، لا بطريقه.

نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه ، وأرشده إلى الحق وهداه ، وألهمه ذكره حتى لا ينساه ، وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه ، واستخلصه لنفسه حتى لا يعبد إلا إياه.



وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبـه وسلم.



* * *

وبـهذا تم كتاب المُنقِذُ مِنَ الضَّلال و الموُصِلُ اِلىَ ذِي العِزَّةِ وَالجَلاَل للأمام الغزالي رحمه الله تعالى واسكنـه فسيح جناته

* * *





ملاحظه عن النص والتحقيق:

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبـه نستعين ، والصلاة والسلام على رسول الله ؛ الحمد لله التي تمم بـه الصالحات وبفضله تنـزل البركات. نص هذا الكتاب نقل من موقع الوراق الامارتي - ولهم منا جزيل الشكر- وقد أُدخل عليه تعديلات و اكمال بعض النقص الذي كان في النص و تصحيحات هامة مع مقارنة النص بطبعة دار الكتب العلمية لعام 1988م بتحقيق أحمد شمس الدين ؛ والطبعة الخامسة التي حققها كل من الأستاذ كامل عيَّاد و الأستاذ جميل صليبا كما وردت في سلسة الروائع الانسانية مع الترجمة الفرنسية لفريد جبر.و قد ذكرنا الاختلاف بين النسختين في الهامش و حاولنا على قدر المستطاع اثبات ما هو صحيح في صدر الكتاب. ثم إن تحقيق الأحاديث النبوية الشريفة وشرح بعض الكلمات مأخوذ عن أحمد شمس الدين بتصرف واختصار. والله من وراء القصد.

والرموز التي اتخذت في الهواش كالتالي:

ق : - يعني الوراق وهي اصل النص.

ش: - نسخة أحمد شمس الدين.

د: - نسخة الأستاذين كامل عيَّاد وجميل صليبا.

تصحيح وتحقيق واختيار محمد اسماعيل حزيَّن و شذا رائق عبدالله لموقع الغزالي في منتصف عام 2002م.



* * *







--------------------------------------------------------------------------------

[1] اليفاع : المكان المرتفع.

[2] في ق: الاستبصار.

[3] يقال: اجتوى الطعام: كرهه.

[4] في ش: ردني.

[5] في ش: معاودتي نيسابور.

[6] في ق: مستوفقاً.

[7] في ق: المصدوق.

[8] رواه أحمد وأبو دواد وابن ماجة والترمذي بلفظ أخر.

[9] مبتدع : لغوياً مخترع واصبح اصطلاحاً على المحدث المكروه في الدين.

[10] في ش: بطانته: أي السريرة وهنا العقيدة الباطنة.

[11] في ق: صفوته.

[12] في لسان العرب: الزنديق القائل ببقاء الدهر.

[13] المعطل هو الذي ينكر صفات الخالق.

[14] في ش: واتحسس.

[15] في ش : شِرَّة ، والشرة بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المشددة: الحدة والنشاط.

[16] في ش : يقول.

[17] رواه أحمد والبخاري ومسلم بلفظ آخر.

[18] جمع أستاذ فارسي معرب ، ويجمع أيضاً على أساتذة وأساتيذ.

[19] في ش : بدون أولاً.

[20] في ش : يكشف.

[21] في ق: يفارقه.

[22] في ق زاد : بسببه.

[23] في ش: أثقتي.

[24] في ش: التشكيك.

[25] في ش : وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول.

[26] في ق: بالحواس.

[27] في ش: تكن.

[28] في ش : الدينار.

[29] في د: يدعيه و في ش : ندعية ؛ والصواب ما ثبتناه في النص.

[30] يقول في ش : أنه ليس بحديث ولكن من كلام على بن أبى طالب رضي الله عنه.

[31] في ش : خطر.

[32] هذه الحالة التي تسمى فترة الشك وهي غير الأزمة التي أدت بالغزالي إلى ترك بغداد ؛ وهي الأزمة الأولى وهي بطابعها غير روحانية وإنما هي معرفية. ويرى البعض أن هذا الشك مشابه لما حصل للعالم الفرنسي رينيه ديكارت راجع في ذلك ما كتبه أحمد شمس الدين في حاشية (المنقذ) من تحقيقه ص 29 وما كتبه عبد الرحمن بدوي في مقالة بعنوان : ( أوهام حول الغزالي ) في كتاب أبو حامد الغزالي: دراسات في فكره وعصره وتأثيره ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط لعام 1988م.

[33] ذكره ابن كثير في تفسيره بطرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً.

[34] رواه أحمد والترمذي والحاكم بلفظ آخر.

[35] رواه الطبراني والسيوطي في الفتح الكبير بلفظ أخر قريب ، والبيهقي وأبو هريرة بلفظ آخر ، وأبو نعيم عن أنس.

[36] في ش : نفر.

[37] في ش : إذ من شرط المقلد.

[38] الشعب بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة انفراج بين الجبلين ، والمراد هنا شق.

[39] لايرأب : لايصلح.

[40] شعث : ما تفرق من الأمور.

[41] في ش : مقصوده.

[42] لهج بالأمر: أولع به فثابر عليه واعتاده.

[43] في ش : جنب.

[44] الجوهر: الأصل وفي المصطلح الماهية. العرض هو الذي يحتاج إلى موضع يقوم به كاللون المحتاج الى جسم يحله.

[45] في ش : يمحو.

[46] جميع هذه النقط الثمانية زائدة في نسخة أحمد شمس الدين و الوراق.

[47] في ش : غوره.

[48] في ش: فإذذاك.

[49] في ش: بغافل.

[50] كنهه : قدر الشيء ونـهايته ؛ يقال : بلغت كنه هذا الأمر أي غايته. لسان اللسان.

[51] ممنو : مبتلِّى به.

[52] في ش : حكايته.

[53] في ش : سمة.

[54] في ش : أصناف الفلاسفة واتصاف كافتهم بالكفر.

[55] في ش : بقادر.

[56] في ش : فينعدم.

[57] في ش : انعدم.

[58] في ق: رذاذ.

[59] في ش : للنـزع منها.

[60] في ش : متبعيهم.

[61] في ق: أمثالهما ، وفي ش غيرهما.

[62] ناقص في ش : فلنفصله.

[63] في ش: العلم.

[64] ناقص في ش : احداهما.

[65] في ق: جورهم.

[66] في ش : فيستدل.

[67] في ش : ضل.

[68] في ش: القدر.

[69] في ش : اتخذ.

[70] في ش : يسرى.

[71] روي هذا الحديث بأسانيد وطرق مختلفة. يوجد في البخاري وأحمد والنسائي وأبن ماجة ومالك.

[72] في ش : هو.

[73] في ش : يبحث.

[74] في ش : الطبيب.

[75] في ش : الرئيسية.

[76] في ش : يعلم.

[77] نقص في ش : عن ذاته.

[78] في ق: المسلمين.

[79] في ق: كائنة.

[80] الحديث ليس له تخريج في ش.

[81] في ق زاد : بقول أمير المؤمنين.

[82] في ق زاد: بن أبي طالب.

[83] الإمام علي كرم الله وجهه ، هو رابع الخلفاء الراشدون وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته فاطمة الزهراء ووالد الحسن والحسين وهو إمامٌ في الفقه والحكمة والعدل ؛ اتفقت جميع الملل عل فضله و له مكارم ومحاسن كثيرة ليس هذا مقام ذكرها رضي الله عنه.

[84] في ق : تضاعيف كلام.

[85] رواه أبو دواد والترمذي وأحمد.

[86] رواه مسلم والبخاري وأبو دواد وابن ماجة والترمذي والنسائي (اي الستة) وأحمد.

[87] قال الحافظ العراقي والحافظ المزي : لا أصل له.

[88] في ق : جربناهم.

[89] التضمخ: التلطخ ، يقال في الطيب.

[90] اخبرهم: امتحنهم ؛ وتقلهم: تبغضهم.

[91] في ق : جربناهم.

[92] في ق: مجرد.

[93] في بعض النسخ (( سنة ست )).

[94] هذا هو بداية قمة الأزمة الروحية عندة وسببها هو الخوف من الهلاك الآخروي كما قال عبدالغافر الفارسي: (( فتح عليه باب من أبواب الخوف )). ولعل من الاسباب التي أدت إلى هذه الأزمة هو دراسة كتب الصوفيين وسيرتـهم. وفي هذه الفترة الزمنية يذكر أبن كثير أن عالماً دخل بغداد ودرس في الناظمية وعلى يديه تاب كثيرً من العباد ورجعوا إلى الله وكثير منهم من زهد في الدنيا وتنسك. انظر فيما كتبـه د. مصطفى محمود أبو صوى عن هذه الأزمة وما كتبتة أنا في هذا الموضوع ، والجدير بالذكر أن هذه الأزمة هي غير (فترة الشك) التي عانى منها وذكرها في فصل مداخل السفسطة وجحد العلوم .

[95] في ق: علم.

[96] في ق: المعيشة.

[97] هذا البيت لابن المعتز.

[98] في ق: التنويه.

[99] في ش : أنموذجاً.

[100] غير موجود في كتب الحديث المشهورة.

[101] رواه أبن عساكر عن أبن مسعود وهو حديث ضعيف.

[102] رواه أبن ماجة عن أبن مسعود واسناده ضعيف ، فيه نـهشل بن سعيد. قيل فيه أنه يروى المناكير ، وقيل بل الموضوعات.

[103] في ق: أن للإنسان بدناً وقلباً.

[104] ذكرت في القرآن عشر مرات بـهذا اللفظ.

[105] في ق: بالعمى.

[106] في ق: والطريق متعسرة.

[107] أبو دواد والحاكم عن أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )).

[108] مسلم وأحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص ويوجد في الترمذي وأبن ماجه روايات مشابـهه عن أخرون.

[109] يقال: اخترمة المنية ، أى أخذته.

[110] هذا اللفظ من أصل يوناني وهو من مصطلحات السحر: خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بـها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية. راجع المعجم الوسيط.

[111] الدانق (بفتح النون وكسرها): سدس الدرهم.

[112] في ش : (أو جوانبه) بدلاً من (أو على التأريب).

[113] في ق: جرب.

[114] في ق زاد : واللين.
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية bassem1231
bassem1231
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 21-03-2007
  • الدولة : الجزائر الحبيبة
  • المشاركات : 1,124
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • bassem1231 is on a distinguished road
الصورة الرمزية bassem1231
bassem1231
عضو متميز
  • ملف العضو
  • معلومات
حسن الصباح
مستشار
  • تاريخ التسجيل : 23-12-2006
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 2,967
  • معدل تقييم المستوى :

    20

  • حسن الصباح is on a distinguished road
حسن الصباح
مستشار
رد: الإمام أبو حامد الغزالي
12-07-2007, 11:11 AM
السلام عليكم
أشكرك أخي على تذكر الموضوع
فقط لأجل التوضيح "و قد كنت على عزم الافاضة في هذا الموضوع الجميل"
ترتيب الجدول المبين في الاقتباس يكون بهذه الكيفية

4 9 2

3 5 7

8 1 6

بحيث يكون المجموع في كل الاتجاهات خمسة عشر "حتى من جهة القطرين"

و الارقام يقابلها في حساب الجمل :

د ط ب
ج هـ ز
ح ا و

و هناك طرق لصنع جداول يقال أنها تنفع لأمور أخرى و لها خصائصها و مجالاتها يصل بعض الجداول الى 100 خانة

اقتباس:
بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم ، وهي من الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق ، بـهذا الشكل:

4
9
2

د
ط ب

3
5
7

ج
هـ
ز

8
1
6

ح
ا
و
موضوع مغلق
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع
أهل البدع وشمس الدين..ومصطلح الحشوية
الساعة الآن 08:32 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى