أبــي هـل رأيـت الجنــة ,.’.".’
16-01-2008, 09:59 PM
الأديب العربي: عبد الله المشنوق
عدت من عملي متأخرا في تلك الليلة. المنزل نائم إلا تلك الصغيرة التي أحست بقدومي, فنهضت من فراشها تستقبلني بابتسامتها العذبة.
وقرأت في عينيها وميضا من الفرح والبهجة بلقائي, فكأني عائد من سفر طويل, وكأني لم أرها منذ ساعات قليلة على المائدة وقت الغذاء !
- أبي هل رأيت الجنة؟
- وكيف لم أرها يا حبيبتي.. ألست جنتي الصغيرة؟
وضممت بين ذراعي هذه الصغيرة الغالية, التي يرجع عهدي بصداقتها إلى خمس سنوات, لم أكن أقدر قبلها ما يشعر به الأب من لذة في صداقة أطفاله.
- هل رأيت أشجار الجنة وعليها التفاح والإجاص والبرتقال والأفندي, دانية القطوف تجني منها, وأنت في فراشك؟..
" لقد قصت علينا المعلمة اليوم حكاية الجنة والنار, وهي حكاية جميلة يا أبي! . مساكين أهل النار. إنهم يتعذبون. اللهب يخرج من أفواههم وعيونهم, وكل واحد منهم مشكوك بسفود كبير, يقلبه " الزبانية " على النار! الزبانية بشعون!.. أما ملائكة الجنة فلطفاء مهذبون.
" أبي! لا تكذب بعد اليوم, فقد قالت المعلمة: إن الذي يكذب لا يدخل الجنة. وأنا أريد أن نذهب جميعنا, أنت وأمي وإخوتي, إلى الجنة, هل فهمت يا أبي ؟ ولقد قالت المعلمة لنا إن الجنة في السماء ! فكيف نذهب إليها؟ بالطائرة, أليس كذلك ؟ والجنة ليس فيها مرضى ولا أطباء, ولا دواء مر, وأهلها لا يموتون. هذا صحيح يا أبي, أليس كذلك؟ ما لك لا تجيب؟ "
ودنت الصغيرة مني وقالت:
-لا تكذب يا أبي ! وإذا كنت قد كذبت فتب حالا, فإن الله كما أخبرتني المعلمة ـــ يعفو عن الكاذب إذا تاب.
ثم همست في أذني بخبث ودهاء:
- أما أنا يا أبي, فسوف أكذب كل يوم مرة واحدة, ثم...ثم أتوب, ألا يدخلني ربي الجنة؟
دهشت لهذا المكر قبل أوانه يبدو من طفلتي, وتظاهرت بالغضب وقلت لها:
- بل تدخلين النار ! .. أنت ومعلمتك إذا كانت هي التي لقنتك هذه المبادئ الفاسدة.. هيا إلى فراشك!
فلم تعجبها فتواي وانصرفت عني كئيبة, وأوت إلى فراشها.
أما أنا فقد آلمني أن أكسر خاطر هذه الصغيرة. لقد قسوت عليها وكنت ضيقا. ضننت عليها بالعفو والرحمة..أليس الله يغفر الذنوب جميعا. ألا يتسع عفو الله جل جلاله, لقطعة من الحلوى تأكلها هذه الطفلة سرا في الصباح, وتخفي الأمر عن أمها, لتتوب إلى ربها في المساء؟
وإني لمستغرق في هذه التأملات, وإذا بيد صغيرة ناعمة تربت على خدي, وإذا بالصغيرة ماثلة أمامي تقول بلهجة المعتذر التائب:
- عفوا يا أبي, لقد أغضبتك. لن أكذب أبدا .. ألا أدخل الجنة؟
تناولتها بين ذراعي, مغتبطا بنجاح المثل العليا, وأشرت برأسي إشارة موافقتي على دخولها الجنة .. وحملتها إلى فراشها وأضجعتها برفق وحنو, ثم قبلتها قبلة الليل, وشعرت وأنا أضمها إلى صدري أنني أدخل الجنة!
اللهمَّ لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد عدد الكائنات، وملء الأرض والسموات.