نبـــــــــــــــــــــــــض المــــــــــــــاضي
08-09-2018, 10:46 AM
نبض الماضي

صدح الأذان من قمة المنارة و ملأ الآفاق هيبة و جلالا و محبة...
دخل موعد صلاة الفجر.. وحده فقط صوت الشيخ مسعود الذي يستطيع أن ينتشل قلوب الناس من لذة النوم...
صوته يسلخ الصمت من أحشاء هذا الحي الشعبي العريق.
آلاف البشر يقطنون هنا في ألفة وجوار جميلين. فرحهم واحد و وجعهم واحد و أملهم واحد أيضا...
المنازل و الدور متراصة كما الحشائش البرية.
لا يمضي يوم إلا و تنبت دار هنا و يرتفع جدار هناك.
فرغ الشيخ من الأذان الوادع الشجي. دائما يطرب الأسماع و تأنس له الأنفس و تنشرح له الصدور.
هذه المنارة الفخمة ارتفعت تحت أنظار الشيخ. شهد ساعة ولادتها و حضر حفر قواعدها الراسخة. لقد وضع بيديه لبنتها الأولى...
كان قبل ذلك يؤذن من على سطح المسجد.. لا يحفل بقر الشتاء و لا بحر الصيف.
وهب حنجرته الذهبية لذلك المسعى النبيل...في عقده الخامس و لا يزال صوته يلامس شغاف القلوب كلما حان موعد الأذان.. حنجرته بمثابة المزامير الصادحة في رحاب المدينة.
ملامح الشباب لا تزال تتلألأ فوق سحنته رغم أن صبية الحي ينادونه – شيخنا مسعود –
في هذه اللحظة بدأت خيوط الشمس تعانق الأمكنة و الأشياء و التضاريس المعتادة ...
معها استيقظت رائحة الرغيف الطازج و عبق القهوة يملآن الأزقة و الدروب لتتيح المجال لولادة يوم جديد من عمر هذا الحي العتيق...
مد مسعود أصابعه الناحلة ليلتقط حبة من الزيتون من الطبق الذي وضعته أمامه أخته أمينة.
التهم لقيمات في نهم بالغ ثم استأذن في الصعود إلى السطح...كان ذلك دأبه إذا أراد أن يخلو إلى كأس من الشاي.
فوق السطح الهواء صافي و رائق و حالم. من هنا تتضح أمامه ملامح المدينة الهائمة في الأفق.
هدوء الصباح لا زال مخيما .. افترش صاحبنا السطح و التفت حوله في حذر.
أخرج علبة – المارلبورو- من عباءته واقتلع سيجارة و راح يدخن في شرود...لا أحد في العالم يعلم أن الرجل من زمرة المدخنين.
الحق أن مسعود كان يحتاط لكي لا يطلع أحد على صنيعه. و الحق أيضا أن الرجل لم يكن ليزيد عن سيجارة واحدة في اليوم...
انه يستاء بشدة حين يشعل تلك السيجارة البغيضة. لم يكن قط راضيا عن نفسه و هو يقارف هذه الخطيئة .
– السبب كله يعود إلى هناء سامحها الله – تمتم في هدوء و قد انقبضت عضلات وجهه من التأثر.
منذ سنوات موغلة في الطول و قع صاحبنا في غرام تلك المرأة. تواعدا سرا على الزواج ...
لكن صاحبته خذلته و استسلمت لسطوة المال و آثرت عليه شيخا من التجار و رحلا إلى بلاد بعيدة.
حينها صعق مسعود لتلك الطعنة التي أصابته في الظهر...لم يجد ملاذا إلا السجائر يطفئ بها لوعة فراق الأحبة.
لقد حذف من قاموسه كلمة –أنثى- أصبحت في نظره رمزا للكيد و الخذلان و الأذى و الانكسار . ...
الأنثى الوحيدة التي كان يبرها و يؤثرها على نفسه هي شقيقته أمينة...
و سرعان ما انقطع للمسجد و الأذان يهبهما كل جهده و تفكيره وعشقه.
لكنه فشل الفشل الذريع في طلاق تلك السجائر المقرفة..
فرغ الرجل من سيجارته بعد لأي.
قام من جلسته القصيرة تلك ..لكن؟؟؟
-أووووووووووووووووووووووووه- شده هناك منظر من السطح المجاور.
هتف دون شعور منه :– يا للروعة-
لكنه زجر نفسه و غض الطرف في حزم...
ولكن النفس تنازعه ليعاود اختلاس المشهد تلو المشهد...
ساق أنثى غاية في الرشاقة و الجمال ممدة على السطح المجاور تلتهمها أشعة الشمس في شوق كبير.
كانت تلك الأنثى في غفلة من أمرها و هي تغسل كومة من الثياب.
لم تكن تدري أن عينا ترمقها من بعيد...
و انبعث صوت من جوف مسعود يزجره و يوبخه قائلا:
– ما كان ينبغي لك أن تسترق النظر إلى تلك الساق أيها الشيخ الوقور. هذا صنيع المراهقين و الهمل و الغوغاء-
لكن نداء الغريزة و الطبيعة يهمس له بإصرار : – لست إلا بشرا و يحق لي أن أنشد سعادتي مع امرأة أسكن إليها و تسكن إلي- ...
لم يشعر مسعود كيف التهمت قدماه أدراج السلم نزولا ليلقي على شقيقته هذا الخطاب المقتضب:
– أختاه أريد أن أتزوج –
صاحت المرأة فرحا إذ لم تصدق أن شقيقها عاد ليفكر في النساء من جديد:
– خبر سعيد يا أخي و من هي صاحبة الحظ؟؟؟- قص صاحبنا الرواية كاملة... وقالت أمينة :
– هم جيراننا الجدد في الشارع الآخر و ليس هناك بد من التقصي عن سيرة الفتاة -
مضى يوم و يوم كأنهما الدهر...
و عند المساء و في جلسة الشاي كانت أمينة تقرأ هذا التقرير الشفهي على مسعود و عيناها النجلاوان تستطلعان انفعالات شقيقها:
- اسمها أمل. العمر عشرون عاما...معلمة في المدرسة الابتدائية .
والدتها تدعى السيدة هناء زوج حسان التاجر المرموق. سكنوا بجوارنا فقط منذ شهر-
لم يكد حديث أمينة يكتمل حتى أطرق مسعود إلى الأرض و تفصد جبينه عرقا و اعتلت محياه صفرة الأموات..
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 09-09-2018 الساعة 11:59 AM