(6) والأخير
أما الشعبة الثالثة من هذه الدعوة الهدامة فقد كانت تحاول صرف الناس عن الاهتمام بالأدب العربي القديم. فهي تارة تدعو إلى أن تُخَـصّ الآداب القومية بمزيد من عناية الدارسين، فتـُعنـَى مصر بالأدب المصري، ويعنى العراق بالأدب العراقي، ويعني الشام بالأدب الشامي. وتارة تدعو إلى توجيه عناية خاصة للآداب الحديثة. وتارة أخرى تدعو إلى العناية بما يحلو لبعض الناس أن يسميه الآن "الآدب الشعبي". والهدف الأول والأخير من كل هذه المحاولات هو صرف الناس عن الثقافة العربية القديمة، وتقليل العناية بالماضي العربي الإسلامي، شعرِه ونثرِه وتاريخِه وعلومِه. بِزَعْم أنها قد أصبحت شيئاً قديماً لا يلائم حياتنا ولا يتصل بها. والجانب الهدام من هذه الدعوة هو أنها تؤدي –من حيث يعرف أصحابها ومن حيث لا يعرفون- وأكبر ظني أن أكثرهم يعرفون- إلى تفريق المجتمع العربي، بل الإسلامي، الذي يلتقي عند الاشتراك في مناهج دراسة العربية وتذوق أساليبها. فليس في العرب كلهم واحد لا يعرف الأعلام الشامخة في الأدب العربي القديم مثل زهير والنابغة والأعشى وحسان وجرير والفرزدق والأخطل وأبي تمام والمتنبي والمعري. وليس فيهم واحد لا يقع هؤلاء من نفسه موضع الإكبار والإجلال والتوقير. وكل العرب يُسمّون فاعلاً ويسمون المفعول به مفعولاً، ويسمون كل باب من أبواب النحو باسم واحد، ويسمون التشبيه تشبيهاً، والاستعارة استعارةً، ويسمون كل باب من أبواب البلاغة باسمه.
فإذا انصرف الناس عن دراسة الأدب القديم، وذهب كل واحد منهم مذهبه في دراسة آداب بلده أو في دراسة الآداب الحديثة أو ما يسمى بالآداب الشعبية، لم يبق هناك قدر مشترك بين ثقافات الجيل القادم من العرب بل المسلمين. وهذا القدر المشترك من الثقافة هو الذي يكوِّن القدر المشترك من الذوق ومن التفكير، الذي لا تفاهُمَ ولا تواصُلَ بغيره. وإذا انصرف الناس عن دراسة علوم الآداب العربية القديمة كالنحو والبلاغة، وجَرَوْا وراء كل ناعق يزعم أن القواعد القديمة معقدة، وذهب كل منهم مذهبه في استنباط قواعد جديدة، وتسميةِ المسمَّيات بأسماء مبتكرة، لم يفهم أحدُهم عن الآخر. فإذا اختلف مصري وحجازي مثلاً في ضبط كلمة من الكلمات فتحاكما إلى قواعد اللغة، وقال الحجازي هذا فاعل، لم يفهم عنه الذي لا يسمي الفاعل فاعلاً، ولكنه يسميه (موضوعاً) أو (أساسا) أو (مسنداً إليه)، بحسب اقتراح إحدى لجان وزارة المعارف المصرية [حاشية: راجع مجلة مجمع اللغة العربية العدد 6 ص 188]. وإذا قال أحدهما هذا منصوب لأنه حال أو تمييز أو ظرف أو مفعول مطلق أو مفعول معه أو مفعول لأجله، لم يفهم الآخر الذي لا يميّز بين حالة من هذه الحالات، لأنه يسميها جميعاً (تكملة). وقس على ذلك سائر قواعد النحو والبلاغة [حاشية: الواقع أن السنوات الألف التي عاشتها هذه القواعد ونجحت خلالها في إقامة ألسنة الناس وفي صيانة اللغة أصدق شهادة من كل ما يزعمون. وهذه المشاريع المزعومة –زيادة على أنها تفرّق الناس- تحتاج إلى ألف سنة أخرى تثبت فيها نجاحها، لكي يقال إنها تساوي القواعد القديمة، فضلاً عن أن يقال إنها تَفْضُلها. فلماذا نترك ما أثبتت صلاحيته عشرة قرون أو أكثر، إلى ما تثبت صلاحيته إلا بعد عشرة قرون؟ إن العلة الحقيقية ليست في صعوبة القواعد، ولكنها في إهمال تعليمها والتفريط في تدريسها والإسراف في الكلام عن إصلاح قواعد اللغة العربية. لأن الحكومة حين تنادي بذلك تسلّم بأنها معقدة حقاً. وهي بهذا تُعِين على صرف الطلاب عنها وتنفيرهم منها، كما تُعِين على تنمية الوهم الذي يملأ نفوسهم، والذي يصوّر لهم استحالة الإلمام بقواعد النحو.]
ذلك هو ما يعلّل لنا عناية الأوروبيين بتوجيه العرب في دراساتهم الأدبية هذه الوجهة، وصرفِهم عن العناية بالأدب القديم، ودعوتهم علماءهم ومفكريهم لإلقاء المحاضرات، وتأليف الكتب، وشهود المؤتمرات، التي تـُعين على تقوية هذا الاتجاه، بعد أن يقترحوا عليهم موضوعاً ما يدعونهم لإلقائه وتأليفه من بحوث أو محاضرات أو كتب.
كانت هذه الدعوات الهدامة كلها تستهدف غايتين:
1- تفريق المسلمين عامة، والعرب خاصة، بتفريقهم في الدين، وتفريقهم في اللغة، وتفريقهم في الثقافة، وقطع الطريق على توسع اللغة العربية المحتمل بين مسلمي العالم، حتى لا تتم وحدتهم كاملة [من الواضح أن المسلمين لا يصيرون أمة واحدة حتى تكون لغتهم واحدة. وإذا كان الذين يتكلمون العربية الآن ينادون بالتخلي عنها، فلأي شيء يتعلمها الذين لا يتكلمونها؟ وهم إنما يريدون أن يتعلموها ليتيسر لهم التفاهم مع الذين يتكلمونها؟ والعجب أننا نطالب بالاعتراف باللغة العربية في المجامع الدولية. فأي هذه اللهجات –في زعم دُعاة السوقية- يريدون أن تكون هي اللغة المعترف بها؟].
2- قطع ما بينهم وبين قديمهم، والحكم على كتابهم (القرآن) وكل تراثهم بالموت. لأن هذا القديم المشترك هو الذي يربطهم ويضم بعضهم إلى بعض.
وليس الخطر الكبير في الدعوة إلى العامية. ولا هو في الدعوة إلى الحروف اللاتينية. فمثل هذه الدعوات ظاهر الخطر. وأصحابها من مغفـَّلي الهَدّامين. ولكن الخطر الحقيقي هو في أنصاف الحلول. الخطر الحقيقي في الدعوات التي يتولاها خبثاء الهدامين، ممن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس، ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً. ولكنهم يـَقنـَعون بالتحول الهادئ الذي أشار إليه Gibb حين وصف تطور المجتمع الإسلامي المصري بأنه يسير سيراً هادئاً تدريجياً لا يكاد يسترعي الانتباه [حاشية: راجع الفقرة 2 من الفصل السادس في رقمي 5، 6.]. الخَطِرون من خبثاء الهدامين هم الذين يزعمون أنهم مشفقون على العربية، وأنهم يحمونها من خطر الداعين إلى العامية وإلى كتابتها باللاتينية. ولذلك فهم لا يطالبون إلا بتطعيمها بالعامية، ولا يطالبون بأكثر من تعديل بعض قواعدها، ولا يذهبون إلا استبدال الحروف اللاتينية بحروفها، ولكنهم يقترحون تغيير قواعد الإملاء. هؤلاء هم أصحاب الحل الوسط الذين يمثـّلون في هذه المؤامرة عُضْوَ العصابة الذي تنحصر مهمتـُه في التظاهر أمام الضحية بالشفقة عليه والحرص على مصلحته، لتـَسْكـُنَ نفسُه إليه فراراً من حَمَلَة السكاكين الذين يتهددونه. والواقع أنهم جميعاً على سواء. فالمسألة لا تحتمل حلاً وسطاً. إما أن نتمسك بديننا وبوحدتنا، فنتمسك بالعربية –كتابة ولغةً ونحواً وأدباً وثقافةً. وإما أن نـُسقِطَ هذه الاعتبارات من حساباتنا، وعند ذلك يستوي أن يكون الذي نعدل إليه هو هذا أو ذاك مما يقترحون.
ولعل أسلوب فكري أباظة من أصلح الأمثلة على ما أقول، خذ مثلاً مقاله "التقليدِزْم" [حاشية: السياسة الأسبوعية، العدد الثالث 13 رمضان 1344، مارس 1926 ص9] الذي يسخر فيه من المتفرنجين، فيقول فيما يقول:
"دعنا من هذا وانتقل بنا إلى الاجتماعيات. وتعال معي نحدق ونحملق في ذلك الطالب الصعيدي (القـَحـْف) الذي أبى إلا أن يقلد (الخواجات)، فطرح الطربوش، و(زِرَّ) الطربوش، ووضع على شعره (الأكرت) ورأسه التي أخذت في عالم الهندسة شكل (الشبه منحرف) البرنيطة أو (الكـَسْكِتة). هل تفرّق بينه وبين بائعي الإسفنج ومسّاحي الأحذية من الأرمن (وجرسونات) القهاوي بعد (التشطيب)، وبائعي اليانصيب، والفارّين من الخدمة العسكرية؟!!"
"ثم انظر إليه وقد أبت سليقته وطبيعته وخلقته إلا أن (يزحلقها) كما (يزحلق) الطربوش، فظهرت من تحت حوافيها [هكذا] (القـُصـّة) البَلَدي (البولاقي)، وظهر من تحتها وجه (كالفـُرْمة) أو (كالطـُّرَّة) لا تستطيع فك رموزه أو حل طلاسمه؟!!"
"فإن لم تعجبك هذه (التقليعة) فتعال معي أفرِّجْكَ على أستاذ من طلبة دار العلوم، هجر الجبة والقفطان والمركوب والعمة، ودخل في (البنطلون) واحتل الطربوش رأسه (الزَلطة) ... نمرة 1 ... واختفت رَبـْطة (البُمباغ) داخل الياقة الواسعة... فإذا سار هرول، وإذا أكل (شَمـَّر)، وإذا شرب (مَصـْمَص)، وإذا جلس جلس القرفصاء، وإذا هبّ (زَيّ الناس) احتاس. كل هذا العناء لأنه يريد أن يقلد (الأفندية) رغمَ أنفِ حالته الطبيعية والمعنوية."
"فإن لم يكفك ما قدمتُ من سخافات التقليد، فتعال اجلس مع أصدقائك المصريين الحاضرين حديثاً من إنكلترا، وانظر كيف يتكلفون الجِلسة، والنـَغـَمة. وكيف يطلبون (الشاي) في الميعاد، وكيف يكتفون بوضع قطعة سُكر واحدة في الفنجان. وأقسم لك بكل عزيز لديك أنهم يكرهون الشاي، ويودون لو شحنوا الفنجان بقطع السكر التي أمامهم لولا (الملامة)."
"وتعال انظر أحدهم وقد تزوج من (لندن) ثم حضر إلى القاهرة مع زوجته، مقلداً الزوج الأجنبي في المعاملة، والمجاملة، والقيام، والجلوس... كل هذا في خارج المنزل. فإذا استطعت أن تدخل معهما داخل المنزل سمعت بأذنيك كل أصناف وأنواع (الرَّدْح) الأصلي. ورأيت بعينيك كيف يهوي (بالكفوف) و(اللكاكيم) على الوجه والصدر. ثم إذا أردت إلقاء نظرة سطحية على مسكن الزوج المقلد المتفرنج وجدت (الشِلَت) أو (الكتاكيت) في الصالة... ووجدت (الوالدة هانم) الحاجة (سِتّ أبوها) تخرّط الملوخية أو (تُقمِّع البامية... والعاقبة عندكم في المسرات."
فالخطر في مثل هذا الأسلوب خفيٌّ غير واضح. والأسلوب بعد ذلك خفيف مستملح يستهوي القارئ، ولكن المقال مع ذلك لا يكاد يفهمه أو يتذوقه من العرب غير المصري.
إن الخطر في هذه الدعوات ليس في العامية نفسها ولا هو في الحروف اللاتينية بعينها، ولكنه في قبول مبدأ التطوير. فالذين يجتمعون اليوم على تكلم عربية واحدة فصيحة، ويلتزمون فيها قواعد موحدة، لغةً وكتابةً، إذا سلّموا بمبدأ التطوير وأخذوا فيه، فسوف لا يتفقون على سبيل واحد يسلكونه في ذلك. وسيذهب كل واحد منهم مذهباً يغاير مذهب الآخر. ثم إنهم سوف لا ينتهون في ذلك عند حد معين تنتهي عنده سَعَةُ الخُلْفِ بين اللغات الجديدة الناشئة عن قبول مبدأ التحرر من القواعد، لأن التمسك بها والتزام طريقها هو العامل الوحيد الذي ضبط تطوّر العربية وصان وحدتها خلال أربعة عشر قرناً. فأصبح القرآن بفضل ذلك كله وكأنه أنزل فينا اليوم، وأصبح شعراء العربية وفقهاؤها وفلاسفتها وكُتابها وأطباؤها ورياضيوها وطبيعيوها وكيميائيوها وكأنهم كتبوا ما كتبوا وألّفوا ما ألّفوا بالأمس القريب. وتلك ميزة مَنَّ الله بها علينا ولم تحظ بها أمة من الأمم. وليس ذلك كلّه إلا بفضل اجتماع المسلمين على قداسة اللغة التي نزل بها القرآن، والتزامهم أن لا يخرجوا على أساليبها وقواعدها. على أن ذلك لم يكن في يوم من الأيام داعية إلى تحجّر اللغة وجمود مذاهب الفن فيها، ووقوفها عند حدّ تعجز معه عن مسايرة الحياة. فليس التطور نفسُه هو المحظور، ولكن المحظور هو أن يخرج هذا التطور عن الحدود المقررة المرسومة. وذلك يُشبه تقيّد الناس في حياتهم الاجتماعية بقوانين الدين والأخلاق. فليس يعني ذلك أنهم قد استـُعبدوا لهذه القوانين، وأنها قد أصبحت تَحُول بينهم وبين مسايرة الحياة. ولكنه يعني أنهم يستطيعون أن يغدوا وأن يروحوا كيف شاءوا، وأن يستمتعوا بخيرات الدنيا وطيباتها ويتصرفوا في مسالكها ويمشوا في مناكبها، كل ذلك في حدود ما أحلّ الله، وكل ذلك مع الالتزام بالوقوف عند حدود الله. كذلك اللغة، وضع اللغويون والنحاة لها حدوداً طابقوا بها مذهب القرآن وشِعْر العرب، وتركوا للناس من بعدُ أن يستحدثوا ما شاءوا من أساليب. وأن يتصرفوا فيما أرادوا من أغراض، وأن يجدّدوا ما أحبوا ما يشتهون. ولكن كل ذلك ينبغي أن لا يخرج بهم عن الحدود المرسومة. فماذا في ذلك غيرُ ضمان الاستقرار، والحرص على جمع الشمل؟ ولماذا نـَحِنُّ إلى مثل ما ابتـُليَ به غيرُنا ممن لم يكرمهم الله بمثل ما أكرمنا به؟ ولماذا نشتهي أن تتبلبل ألسنتنا حتى لا يفهم بعضُنا عن بعض، كما تبلبلت ألسنةُ الذين كانوا مجتمعين على اللاتينية فتفرقوا فيها؟ وأيُّ ربح قد جنوه من بعد؟ وأي مزايا حققوها مما لم تكن تحققه لهم وحدتهم اللغوية؟ وهل وقع بعضُهم في بعض، وولغ بعضُهم في دماء بعض، إلا من آثار هذه الفرقة اللغوية، التي جعلت منهم أمماً بعد أن كانوا أمة واحدة، والتي ترتب عليها أن فقدوا وحدتهم المسيحية، ثم لم يستطيعوا أن يعودوا إليها بحال؟
انتهى بحمد الله
http://www.alokab.com/forums/index.php?showtopic=2168