في الدين و الكهانة
12-11-2018, 09:40 AM
يقوم الدين بتفسير العالم من خلال قوة سامية تقع وراءه، تؤثر فيه و تنظمه، و إيجاد علاقة شعائرية حميمة بين الإنسان وهذه القوة يسعى الإنسان من خلالها لحل لغز وجوده في هذا العالم من جهة، و يركن إليها في تحقيق العدل الذي يسعى إليه و لا يجده عادة بالإضافة إلى تحقيق حاجته الغريزية للخلود خوفا من الفناء و العدم الذي يرصده في كل لحظة.
لا يمكن للدين أن يُنسب إلى الكهنة و القساوسة و المشيخات و إنما تنسب إلى هؤلاء النظريات التي ابتدعوها في اللاهوت، هذه النظريات التي سببت النزاع المرير و الحروب الدينية الطاحنة، إنهم الكهنة الذين يعيشون و يثرون على حساب كدح و بؤس الفقراء و يتنافسون على شراء الذمم و الترويج للمذاهب السياسية التي تحقق مصالحهم، و يوحون للناس بالتعصب المذموم ليتمكنوا من سيادتهم و السيطرة عليهم، إنهم ينشرون الخرافات و الأساطير لا ليخوفوا الناس من الله، بل ليخافهم الناس هم و يرهبوهم فالدين الحق يقرب بين مملكة السماء و مملكة الأرض، و من الخطأ الجسيم أن تستبدل مملكة الله بمملكة الكهّان.
العلاقة بين الإنسان و الله تتميز بالجد والواقعية و تبتعد عن الخرافات والأساطير التي ألصقت بالدين على مرِّ العصور بفعل و ابتكار الكهنة و كثير مما يسمى برجال الدين، و كما يقول (فولتيير): "لقد كان أول كاهن هو أول محتال يقابل أول أحمق".
إن الجد و الواقعية لا بد أن يقودانا إلى أمر آخر بغاية الأهمية في إطار تعريف الدين، ذلك أن الدين لكي يتخذ شكله الجاد و الواقعي؛ لا بد أن ينعكس على مجمل العلاقات الاجتماعية من معاملات و علاقات بين أفراد المجتمع الواحد و المجتمعات الأخرى و إلا تحول إلى اعتقاد شخصي لا يقدم و لا يؤخر على مستوى المجتمع و الحضارة الإنسانية و التاريخ، و بالتالي يصبح من العبث تخصيصه بالدراسة و البحث. هذا لا يعني بحال من الأحوال تسييس الدين، أي اتخاذه سبيلا لنصرة و ترويج مذهب أو طائفة أو دين معين على حساب الأديان و المذاهب و الطوائف الأخرى أو استغلال العاطفة الدينية العميقة لدى الجماهير للقيام بالحروب القذرة أو تكريس حكم السلاطين الفاسدين فمثل هذه الدعوة تقوم أساسا على إلغاء الآخر تماما و ادعاء الأحقية المطلقة لجهة دون أخرى، كما تؤدي إلى الجمود و التقوقع و الفساد في الأرض و تقف حجرة عثرة في وجه التطور الفكري و الثقافي و الاجتماعي الذي هو من الطبيعة الخالدة للإنسان، إن الدين مشروع أخلاقي و دعوة مفتوحة لتحرير علاقة متناغمة بين الله و الإنسان تقوم على العدل و المنطق دون إكراه أو تسييس. هذه العلاقة تتلخص بأن يكون الإنسان هو خليفة الله على الأرض و أن يكون بالتالي مسؤولاً عن الطبيعة و توازنها، من جهة و عن العدل و السلام بين أفراد المجتمع الواحد و بينه وبين بقية المجتمعات بما يضمن رقي و ازدهار الجنس البشري كافة و أن تكون أخلاقيته هي مبدأ عمله و قوانين مجتمعه في إطار العقيدة التي تعين لها غاياتها الإلهية و الإنسانية، إن الحياة بجميع أبعادها تجد في الله وحدتها و غايتها المنشودة.
يخطئ البعض عندما يظنون أن الأخلاقية الدينية تعني تحجيم الاقتصاد والسياسة و العلم و الفنون في إطار ممارسات السلف في العصور الغابرة، هؤلاء يقرؤون الحاضر بعيون الموتى، و يستعيرون رماد الأجداد ليقيموا موائد العصر.
يجب التمييز بوضوح بين الثابت و المتحول في العقيدة: الثابت هو المبدأ العام الذي لا يتقادم بفعل الزمن إنه قانون الله في الطبيعة و المجتمع: القانون العام في الاقتصاد مثلا هو تحريم الكسب غير المشروع أو الكسب الذي يقوم على علاقة غير متوازنة بين ما يقدمه الفرد و ما يحصل عليه بالمقابل.
إن الإنسان إذ تتقاذفه الشهوات و الإغراءات الخارجية مهدد دائما بأن ينزلق إلى درك أدنى من قوة الحياة في حين أن الدين يوجه خطاه دائما نحو الهدف الأسمى، إنها ليست دعوة إلى الانسحاب من العالم و التنسك بل دعوة إلى التجرد الداخلي الذي يتيح وحدة العمل الحقيقي: العمل الذي ننجزه ليس وفقا لمقاصدنا الأنانية و متعنا أو طموحاتنا الفردية و إنما وفقا للكل المطلق.
فالدين هو إعادة اندماج كائننا المتجزئ بصورة لا تنفصم بالوحدة والحرية الإلهيتين و المشاركة في إقامة مشروع أخلاقي متكامل هدفه الأخير هو المجتمع العالمي المنسجم.
إن إدراك الحياة في شموليتها هو بالدرجة الأولى الإيمان بأن العالم الخارجي ليس لعبة للقوى اللاواعية التي لا هدف لها، أو كما يقول آينشتاين "إن الله لا يلعب النرد"، و أن العالم ليس تجربة خارجية للوقائع فحسب و لكنه اكتشاف داخلي للمعنى.
إن الإنسان الكامل في الدين الحق صورة مصغرة عن العالم بمختلف مستويات الوجود، من الشهوات الدنيا إلى نفخة الروح المقدسة.
في المقابل ينصّب الكهان أنفسهم وسطاء بين السماء والأرض، و تُعنى الكهانة بإضفاء صفات القداسة على ما هو غير مقدس، والتعقيد على ما هو غير معقد، بغرض خلق مساحة ظل بين الإنسان والحقيقة، يسكنها أوصياء على الحقيقة وعلى الإنسان، تنبت فيها مطامحهم المادية في الثراء، والمعنوية إلى السيطرة بالتحالف مع الأنظمة السلطوية المستبدة، تحت غطاء إلهي يستمدون منه شرعيتهم الزائفة، ويبررون به وجودهم الطفيلي.
لو أخذنا الإسلام كآخر دين سماوي ابراهيمي لوجدنا أن أعظم مآثره هي خلوه من سلطة كهنوتية تحتكر فهمه، وتصوغ عقيدتها فيه، ثم تضطلع برعايتها، باعتبارها وكيلة لله على الأرض. ولم يكن رجل الدين في الإسلام سوى فقيه، له فقط حق التعليم أو التفسير وليس الرقابة على الإيمان، لذا ظل الضمير الشخصي هو المعيار النهائي للأعمال "بل الإنسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره"، واستمر القرآن الكريم كتاباً يقرأه الجميع ولا احتكار لقراءته أو تأويله بشرط وحيد هو أن تكون هذه القراءة أو التأويل موضوعيا، أي أن يكون صاحب التأويل أو التفسير على علم بأحكام الفقه و أساليب البيان، و ذو خلفية علمية تؤهله لذلك، وليس بشرط انتقائي - تفضيلي أو تحكمي هو الانتماء إلى السلك الكهنوتي.
و بالرغم من لجوء أنصار التطرف إلى صوغ خطاب غريب عن روح الإسلام، و محاولتهم النشوز للأخذ برقاب الناس طوعا أو كرها وحشدهم إلى حد تكوين ميليشيات تفرض رؤاها السياسية بالقوة و القتل و الإرهاب، فإن الدين الإسلامي يبقى دينا لا يعرف الكهانة ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قربانا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاع زورا و بهتانا ،فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، ولن يتجه الخطاب الديني إذاً إلا إلى عقل الإنسان حرا طليقا من سلطان الهياكل والمحاريب أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله المعبود ... " فأينما تُولوا فثمّ وجه الله" ، لا هيكل في الإسلام ولا كهانة ... كذلك يكون الخطاب في الدين الذي يلزم كل إنسان طائره في عنقه ويحاسبه بعمله فلا يؤخذ أحد بعمل غيره... "ولا تزر وازرة وزر أخرى" ،"كل امرئ بما كسب رهين" و"أن ليس للإنسان إلا ما سعى أن سعيه سوف يرى"... فليس في الإسلام إنسان ينجو بميزة الميلاد أو الجنس أو الحسب و النسب،ولكنه الدين الذي توكل فيه النجاة والهلاك بسعي الإنسان وعمله ، ويتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه وعقله، ولا يبطل فيه عمل العقل فإن الله الذي خلق العقل للإنسان لا يسلبه القدرة على التفكير ولا يعفيه من تبعة الضلال والتقصير ...
وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه. وتأتي فيه الوصايا المتكررة بالتعقل والتمييز منتظرة مقدرة لا موضع فيها للمصادفة ولا هي مما يطرد القول فيه متفرقا غير متصل على نسق مرسوم، فإنها وصايا منطقية في دين يفرض المنطق السليم على كل مستمع للخطاب قابل للتعليم ، وهكذا يكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير واسطة ولا محاباة ويحاسب فيه الإنسان بعمله كما يهديه إليه عقله، ويطلب فيه من العقل أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد.
هناك فرق كبير بين الكهانة والدين، فالكهانة متحالفة مع السلطة مُدافعة عن مصالحها، تدعو الناس للفقر والزهد وهي و سلاطينها أبعد ما تكون عن ذلك، فالكهانة تعمل على إذابة شخصية الأمة، وتهوى بها إلى درك سحيق من التبعية والخضوع كي تسهل قيادتها... وهي في كل عصر وجيل تشعر نفسها بأنها حارسة هذا التراث الخالد، والمسؤولة عن إبقاء السادة سادة والعبيد عبيدا". إن الكهانة تحتكر عقول الناس، وتضرب حولها حصاراً قاسياً، ونطاقاً من الحديد، و لا تأذن لأحد أن يُفكر بغير عقلها، أو أن يلتقط المعرفة من غير أفواه سدنتها.
يخشى الكهنة والسدنة من حرية العقل، لأنهم يرون فيها ما يُهدد وجودهم ويقض مضاجعهم، ويُنبئ بسقوط سلطتهم، لذلك تجدهم يدفعون الناس للتجهيل، والعيش في وسط الظلام تابعين مُقلدين لا مقدرة لهم على التفكير إلَا عبر وسيط هم الكهنة أو السدنة.
فيما تجد الدين بحقيقته النورانية يُضيء دروب المُتعقلين، ويجعل للعقل سلطانه وحريته في اقتحام حُجب المسكوت عنه والضامر من المعرفة، تجده محجوباً عن الناس، بفعل هؤلاء الكهنة الذين صوروا للناس أن الدين عدو للعلم ولكل ما هو جديد، فالكهانة تُحارب العقل لأنه يُري الناس عوراتها، ويُبدي لهم سوءاتها، ويعمل جاداً لفض سوقها...هي تخشاه لأنها لا تصبر على بحث ولا تصمد أمام نقد. أما الدين الصحيح فيعلم أن العقل صديقه الوحيد الذي يُهيء له النفوس ويُمكن له القلوب.
إن أخطر ما في التداخل بين الدين والكهانة، هو زحف الكهانة على الدين، كي تمتزج بتعاليمه، فتوهم الناس أنها الدين الذي يجب أن يذعنوا له ولا يُناقشوه، أما وظيفة الدين، فهي الهداية والإرشاد إلى أنبل ما في الحياة من معنويات وفضائل، وتبليغ كلمات الله التي تهدي إلى الحق والفضيلة والصلاح، والعمل على تنقية النفس الإنسانية وتجديدها باستمرار حتى تظل مرآة صافية تنعكس عليها الفضيلة في كل عصر ...

مراجع:
- عباس محمود العقاد, التفكير فريضة إسلامية
- خالد محمد خالد، من هنا نبدأ