احتلال إيطاليا لليبيا (1911م)
02-03-2021, 11:34 AM


منذ الوحدة بين الإمارات الإيطاليَّة المختلفة، وتأسيس مملكة إيطاليا الموحدة في 1861م[1]، وهذه المملكة الجديدة تسعى لتكوين المستعمرات للِّحاق بركب الدول الأوروبية الكبرى كبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا. كانت إيطاليا تسعى لاستعادة سلطانها القديم على البحر الأبيض المتوسط، وكانت لديها مخططات لاحتلال ليبيا، وجزر إيجة، واليونان[2]. كان التخطيط لاحتلال ليبيا بموافقةٍ قديمةٍ من بريطانيا وفرنسا، وذلك في مقابل سكوت إيطاليا عن احتلال بريطانيا لمصر، وفرنسا لتونس[3].

كانت ليبيا قد عادت إلى الحكم العثماني المباشر في عام 1835م، ولكن لبُعدها عن إسطنبول فإنها لم تنل الرعاية الكاملة، سواءٌ من الناحية الإداريَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، أم من الناحية العسكريَّة والأمنيَّة[4]. زاد الأمر سوءًا بعد احتلال الإنجليز لمصر؛ حيث صارت الطرق البرِّيَّة لها مقطوعة، ولم يكن لدى الدولة العثمانية أسطولٌ قويٌّ يمكن أن يصل إليها في ظلِّ هيمنة الأساطيل الحربيَّة الأوروبِّيَّة على البحر المتوسط.

في 28 سبتمبر 1911م أرسلت إيطاليا إنذارًا مفاجئًا إلى الدولة العثمانية تُهدِّد فيه باحتلال ليبيا[5]. عادةً ما تبحث الدول المحتلَّة عن حجَّةٍ للاحتلال! كانت حجَّة إيطاليا -كما وصفها المؤرِّخ الروسي الكبير ڤلاديمير لوتسكي Vladimir Lutsky- حُجَّةً «سخيفة»! جاء في الإنذار الإيطالي أن إيطاليا قد أُلْهِمت بتشميل «نعم التقدم» على طرابلس الغرب، وأن عمل إيطاليا «المشروع» هذا اصطدم بمقاومة الباب العالي، ولما كانت إيطاليا لا تريد إضاعة الوقت بإجراء مفاوضاتٍ لا جدوى فيها؛ لذا قرَّرت احتلال طرابلس الغرب وبرقة عسكريًّا، صيانةً لكرامتها وحفاظًا على مصالحها»[6]! إن إيطاليا تزعم في هذا الإنذار أن مشاريعها من أجل تقدُّم ليبيا معاقةٌ بالموظَّفين العثمانيِّين، ولهذا فهي ستحتلُّ ليبيا من أجل تنفيذ مشاريعها الحضاريَّة! أيُّ سخفٍ واستخفافٍ هذا؟! -أيضًا- ذكرت إيطاليا أن الدولة العثمانية تُعِيق المشاريع «الإنسانيَّة» لها في ليبيا[7]! حذَّرت إيطاليا -أيضًا- الدولةَ العثمانية من إرسال أساطيل عسكريَّة إلى ليبيا حيث إن هذا سيُؤدِّي إلى تعصُّب الأهالي الليبيين ضدَّ إيطاليا[8]!

أمهل الإيطاليون الدولة العثمانية يومًا واحدًا لتنفيذ هذا المطلب، وهو الاستسلام الكامل! كان ردُّ فعل الدولة العثمانية رخوًا للغاية؛ فقد سعت إلى وساطة الدول الأوروبِّيَّة، لكنَّها لم تتلقَّ ردًّا في تواطؤٍ ظاهرٍ مع إيطاليا. هنا أرسلت الدولة العثمانية رسالةً مسالمةً للغاية؛ ذكرت فيها أن الحكومة العثمانية لا تضمر أيَّ عداءٍ للمشاريع الإيطاليَّة في طرابلس الغرب وبرقة، وأنها مستعدَّةٌ لتطمين جميع المطالب الإيطاليَّة، غير أنها تُمانع بصورةٍ قاطعة الاحتلال الإيطالي[9]! إنه ردٌّ لا يصدر إلا من دولةٍ منهارة!

على الرغم من أن الردَّ العثماني أعلن «بوداعة» أن الدولة لا تمانع في قيام إيطاليا بمشاريعها الحضاريَّة والإنسانيَّة في ليبيا، فإن إيطاليا تجاهلت الردَّ، ولم تعتبره-كما يقول المؤرِّخ الأميركي تيموثي تشيلدس Timothy Childs– «استسلامًا كاملًا» total capitulation، وقامت بإعلان الحرب على ليبيا في 29 سبتمبر 1911م[10]!

في 5 أكتوبر 1911م وصلت الأساطيل الإيطاليَّة إلى السواحل الليبيَّة، وتمَّ الإنزال في ظلِّ ضعف الحاميات الموجودة[11]. وقعت الحكومة العثمانية في مأزقٍ حيث لا تمتلك أسطولًا يمكن أن ينقل الجنود بشكلٍ كثيفٍ لحرب الإيطاليين، خاصَّةً أن إيطاليا كانت قد احتلَّت -أيضًا- في هذه الحملة جزر رودس، والدوديكانيز Dodecanese Islands العثمانية في بحر إيجة، وصارت حركة السفن العثمانية مستحيلة[12]. حاولت الدولة العثمانية التفاوض مع الإنجليز المحتلِّين لمصر للسماح بعبور جيش بري عثماني، ولكن الإنجليز رفضوا، لذا يُعتبر لوتسكي أن بريطانيا صارت محاصرةً لليبيا من الشرق دعمًا لإيطاليا[13]. هكذا لا تختفي بريطانيا أبدًا من الظهور في أيِّ مصيبةٍ للدولة العثمانية!

على الرغم من هذا أراد الاتحاديون النجاح في أول تجربةٍ عسكريَّةٍ للدولة تحت ظلِّ حكمهم، ففتحوا باب «التطوُّع» في الجيش لمن يريد الذهاب بصورةٍ «فرديَّةٍ» للقتال في ليبيا[14]! بمعنى أن الدولة لن تتولى إيصال الجنود إلى ليبيا، ولكن على كلِّ جنديٍّ أن يُسافر من تركيا أو الشام بطريقته الخاصَّة! كان الأمر عجيبًا بهذه الصورة، وكان من الواضح أن ليبيا ولايةٌ عثمانيَّةٌ على الورق فقط، أمَّا واقع الأمر فهي منفصلةٌ لحالها منذ زمن.

تطوَّع عددٌ من الضبَّاط الأتراك؛ أشهرهم إسماعيل أنور بك (سيُصبح لاحقًا وزير الحربيَّة الشهير أنور باشا)، ومصطفى كمال (لاحقًا أتاتورك)، وغيرهم. تولَّى هؤلاء مسئوليَّة سفرهم إلى ليبيا بطرقٍ فرديَّةٍ عبر البحر، أو من خلال الطريق البرِّيِّ من مصر، بعد التخفِّي لتجاوز السلطات الإنجليزيَّة (تخفَّى مصطفى كمال أتاتورك في شكل صحفي، وساعده المصريون في الإسكندرية، وكذلك بدو الصحراء الغربيَّة في الوصول إلى ليبيا)[15]. عند وصول الضبَّاط الأتراك إلى ليبيا قاموا بتجميع أفراد الحامية العثمانيَّة، وعقدوا لقاءات مع رؤساء القبائل الليبيَّة، وكوَّنوا فرق مقاومة[16]، ودارت بينهم وبين الإيطاليِّين عدَّة معارك، وكبَّدوهم خسائر فادحة، وممَّا يُثبت ضراوة المقاومة أن الحرب استمرَّت أحد عشر شهرًا كاملة، إلى أكتوبر 1912م، ولم يُحقِّق الإيطاليون تقدُّمًا كبيرًا على الأرض الليبيَّة، على الرغم من فارق التسليح والعدد لصالح الإيطاليين[17]. شهدت هذه المعارك الطيران الحربي للمرَّة الأولى في تاريخ العالم. كان الطيَّار الإيطالي كارلو بياتزا Carlo Piazza هو أول من قام بطلعة جوية حربية في 23 أكتوبر 1911م، وفي أول نوفمبر 1911م أُلْقِيت أول قنبلة في التاريخ بواسطة الطيار الإيطالي چيليو جاڤوتي Giulio Gavotti[18].

في شهر أكتوبر 1912م قامت حروب البلقان، حيث أعلنت دول الجبل الأسود، وصربيا، وبلغاريا، واليونان، الحرب على الدولة العثمانية[19]، فاضطرَّت الدولة إلى عقد معاهدة أوشي Treaty of Ouchy (تُعْرَف -أيضًا- بمعاهدة لوزان الأولى The First Treaty of Lausanne) في 18 أكتوبر[20] مع إيطاليا لإنهاء الحرب في ليبيا، وهكذا فقدت الدولة العثمانية هذا الإقليم المهم، وسقطت ليبيا تحت الاحتلال الإيطالي الذي سيستمر إلى عام 1947م[21][22].




[1] كنج، بولتن: الوحدة الإيطالية، ترجمة: طه الهاشمي، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2018م.311.
[2] Betts, Raymond F.: The False Dawn: European Imperialism in the Nineteenth Century, University of Minnesota press, Minneapolis, Minnesota, USA, 1975, p. 12.
[3] 132. لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م. الصفحات 366، 367.
[4] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م. صفحة 530.
[5] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 650.
[6] لوتسكي، 1985 صفحة 368.
[7] البوري، عبد المنصف حافظ: الغزو الإيطالي لليبيا.. دراسة في العلاقات الدولية، الدار العربية للكتاب، 1983م. الصفحات 282-284.
[8] منسي، محمود حسن صالح: الحملة الإيطالية على ليبيا: دراسة وثائقية في استراتيجية الاستعمار والعلاقات الدولية، دار الطباعة الحديثة، القاهرة، 1980م. صفحة 45.
[9] لوتسكي، 1985 صفحة 369.
[10] Childs, Timothy Winston: Italo-Turkish Diplomacy and the War Over Libya: 1911-1912, Brill, Leiden, The Netherlands, 1990, p. 69.
[11] البوري، 1983 صفحة 291.
[12] بكديللي، كمال: الدولة العثمانية من معاهدة قينارجه الصغرى حتى الانهيار، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 1/131.
[13] لوتسكي، 1985 صفحة 369.
[14] Gawrych, George W.: The Young Atatürk: From Ottoman Soldier to Statesman of Turkey, I.B.Tauris, London, UK, 2013., p. 25.
[15] Simons, Geoff: Libya: The Struggle for Survival, Macmikkan press LTD, London, UK, Second Edition, 1996., p. 114.
[16] كينروس، 2002 صفحة 650.
[17] Wright, John: Libya: a modern history, Croom Helm, London, UK, 1981., p. 28.
[18] Hallion, Richard P.: Strike From the Sky: The History of Battlefield Air Attack, 1910–1945, University of Alabama Press, 2010., p. 11.
[19] 54. آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 464.
[20] كينروس، 2002 صفحة 650.
[21] Paoletti, Emanuela: The Migration of Power and North-South Inequalities: The Case of Italy and Libya, Palgrave Macmillan New York, USA, 2010., p. 111.
[22] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 1183- 1186.