وقفة مع حديث *فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ
11-04-2020, 02:59 PM
وقفة مع حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم «*فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ*» :

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله سيدنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، و أشهد ان لا إله الا الله وحده لا شريك له و أن محمد رسول الله، أما بعد:

أولا، قبل بدء موضوعنا نود أن ننوه أن الله عز و جل قد آتى الرسول ﷺ القرآن و مثله، كما جاء في الحديث الشريف، لذا وجب الحرص على قراءة أحاديث المصطفى ﷺ و تدبرها و العناية بها. فقليل من المسلمين اليوم -و للأسف- يعتنون بالقران، و قلة منهم بالحديث.

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : « فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً وَمِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ ، وَمِنْ فَوْقِهَا يَكُونُ الْعَرْشُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ»1

فالرسول ﷺ يصف لنا الجنة وعظمها و تفاوت درجاتها و يأمرنا ويحفزنا و يحَثُّنا على سُؤالِ اللهِ الفِردوسَ الأعْلَى مِنَ الجَنَّةِ وطلب العلا من الله عز وجل.وعدم الرضا بفضيل ان وجد افضل و هذا في الجنة التي ادنى درجاتها هي الفوز العظيم و النعيم الأزلي السرمدي الذي ما عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

وإذا تدبرنا الحديث غاية التدبر، نستخلص منه عدة نقاط:

إن عُلُوَّ الهِمَّة يكون بعُلُوِّ القِمَّة، فها هو الرسول ﷺ يُسَطِّر لنا قِمَةً ما فَوقَهَا قِمَة. وما هذا الا تحفيزا للمؤمنين على العمل لها بغية الوصول إليها، فبِعُلُوِّ القِمَمِ تَعْلُو الهِمَمُ. وماهذا إلا قانون حَقَّ على المؤمن اتباعه في دينه ودنياه. فمثلا وجب على الوالدين اتباعه في تربية الابناء، ووجب على المعلم اتباعه في تلقين تلامذته، ووجب على ولي الامر اتباعه في شحذ همم أتباعه ومواليه. فقد روي أن أبا سفيان نظر إلى ابنه معاوية وهو طفل فقال: «إن إبني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه»، فأجابته أمه: «ثكلته أمه إن لم يسد العرب قاطبة». فهاته هند وهي في الجاهلية تزرع في ابنها علو الهمة وأين هي امهات عصرنا من هند. ومما وصل الينا من فطنة بعض الأباء الصالحين أنه ما بلغ ابنه من قمة إلا وسَطَّرَ له قِمَةً هي أكبر من أختها، زرعا فيه لروح العمل والرقي.
وهذا للأسف ما غفل عنه الكثيرون فما إن يحقق المرء شيئا في حياته إلا كَسَدَ ورَكَنَ للراحة وبدأ في التقهقر. وما يتغاضى عنه أو ربما يَجهَلُهُ جُلُّ الناس، أن العبد في وضعين لا ثالث لهما إما الرقي والتمكين و إما التقهقر والانحطاط. ولنأخذ العبرة فيما يحدث لأمتنا، تمكنت فركنت فتقهقرت فأصبحت آخر الأمم. فمن يَهُن يَسْهُلُ الهوان عليه.

ومن الأمراض الخطيرة التي ابتليت بها الأمة هو هَوَانُ الهِمَم، بل وَضَاعَتُهَا، بل مدى حُقْرِهَا. فعلى عكس الانسان الغربي الذي نجد فيه البسيط من الناس يستشفي لنفسه عظيم الأمور، وإن لم يكن أهلا لها، نجد في العالم الاسلامي -وللأسف- عَظيمَ الرَّأْسِ مُتَأَخِّراً بالفَضْلِ، راضِياً بالهَوَانِ، باخِساً حتى حَقَّ نَفْسِهِ. فالطُموحُ صار قُنُوعاً و العِزَّةُ ذِلَّةً و الإجتهاد كَسَلا والعَمَل فُتُورًا والواجبات حُقُوقًا. وما هذا الا نتيجةٌ حتميةٌ لفقدان العِزَّةِ التي بدورها حَتْمِيَّةُ انسلاخها عن قِيَّمِهَا الاسلامية، وصَدَق الشابي حين قال:
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ***** يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر

ان المؤمن عزيز عال رفيع المقام وجب ان يتحرى الافضل فالافضل كما قال عز وجل «*وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ»2 فإن كانت الناس تطلب جَنْبَ أمير أوعظيم لتعتز، فطوبى لمن طلب جَنْبَ العزيز الجبار «*مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًاۚ*»3 ووجب تحري العِزَّة في الدين قبل الدنيا، فمن تحرى العِزَّة في الاخرة كان لزاما عليه تحصيلها في الدنيا لخدمة دينه، بل وأتَتْهُ راغمة، فإن الإيمان بالله عز وجل يَنْفُضُ عن العبد أَسْبَالَ المَذَلَّة و يُورِثُهُ عِزَّةً و كَرَامَة، تَدْفَعُهُ وتَؤُزُّهُ أَزَّا للسعي والتمكين. ومن تأمَّل في حياة الصحابة الكرام وجد فيها خَيْرَ مَوْعِظَةٍ في اعتزازٍ بعْدَ ذِلَّة، و مُلْكٍ بعْد خُضُوعٍ، و غِنًى بعد فقْرٍ، وشَبَعٍ بعد جوع. و صدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال : لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام ، فإذا ابتغينا العزة بغيرهِ أذلَّنا الله.

والعزَّة لا تُنَالُ إلا بكدٍّ ومُثابرة وجدٍّ ومُصابرة. فقد قاسى المصطفى ﷺ و صبر في بدء الدعوة لما ينيف عن ثلاث عشرة سنة، و لم يأت اليُسرُ إلا بعد العُسرِ. ولهذا وجب على المؤمن ان يَكِدَّ ويَجِدَّ في كل ميدان، رَامٍ في كل مجال بسَهْم، فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، والقوة تكمن في الدين والعلم والجسم والخلق والمال. وبما أنه وجب تحري العزة في الدين قبل الدنيا، فوجب على المؤمن أن يرميَ في كل عبادةٍ بسَهْم عساه أن يدخله الله في زمرة أبي بكر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:*«*من أنفق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنّة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصّدقة دعي من باب الصّدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان. فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة. وقال: هل يدعى منها كلها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر»4.

ولهذا ما إن تحرى المؤمن العِزَّة في دينه، ما وجد بُدًّا الا في تحصيلها في دنياه، تسخيرا لها لخدمة دينه. فان ابتغى المؤمن الجهاد، وجب عليه تَحصيل العلم و تطوير العَتَاد، وان ابتغى الصَدَقَة وجب عليه اسْتِكْثَار المال بفلاحة و تجارة و صناعة. ولهذا وجب عليه أن يرمي في مجالات الدنيا بأسهم أيضا. فالدنيا وجب تحصيلها لتمكين الدين، و من رَامَ الزُهْدَ فالزهدُ زهدُ القلب، فعن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ« إنْ قامتْ على أحدِكُم القِيامةُ، وفي يَدِه فَسيلةٌ فَليَغْرِسْها»5. وماهذا الا حث من النبي ﷺ لطلب الدنيا لا حبا لها ولكن لتمكين الدين، فلا تمكين للدين بلا دنيا. اذا، فالذِّلَة التي تتخبط فيها الأمة اليوم، ما تدل الا على فقدانها عِزَّتَها و كرامتها، و بما أن المؤمن لا يَنْأَى إلا أن يكون عزيزاً فالأمة اذن بعيدة أيَّمَا بُعْدٍ عن خالقها، و إيمانها فيه دُخْنٌ إن وُجِد. فسُنَنُ الله أبديةٌ لا تتبدل وقوانينه سَرْمَدِيَّةٌ لا تتغير، فمن جَدَّ وَجَد ومن اتقى الله اعتز، ومن بَعُدَ عن الله هَان٫ فلن يصلُحَ حال الأمة إلا بما صلح أولها، ومن يتق الله يجعل له مخرجا.

إن الله عزيز كريم خزائنه لا تفنى وكَرَمُهُ ليس بمحدود، فلو أسكن كل الناس في الفردوس، ما نقص من ملكه شيئا. فعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ « إن في الجنةِ مِائةَ درجةٍ لو أن العالَمينَ اجتمَعوا في إحداهن لَوَسِعَتْهم»6. فان طَمِعَ الكفارُ في رحمةِ الله وتطَاوَل إِبْلِيسُ لمَغْفِرتِهِ رَجَاءَ أن تُصِيبَه، كان المؤمنون أولى برحمته ومغفرته وفضله. فلا يَقْنُط المُؤمن ولا يَيْأَس، وليستبشر خيراً وليُحْسِن الظَّن بربه. فعن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عن رسول الله ﷺ: «فلا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله»7. فمن ابتغى الفردوس وعمل على قدر استِطَاعَتِهِ وهو ظَّانٌ راجٍ اللهَ أن يُسْكِنَهُ الفردوس كان حقاً على الله ذلك. فعن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ: «*يَقُولُ اللهُ*عز و جل:*أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»8. فليعمل قدر استطاعته و ليَرْجُ ولا يَغْتَر، وليعلم أنه لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله. فعن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال«*لا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنكم الجنةَ بِعَمَلِه، قالوا: ولا أَنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتغمَّدَني اللهُ منه بِرَحْـمةٍ وفَضْلٍ، ووَضَعَ يَدَه على رَأْسِه»9. وان توكل العبد على رحمة الله ليدخله جنته ابتداءً، وجب أن يتوكل عليها ليعلي منزلته فيها استكمالاً، لأن ذلك أهون من الإدخال، وان كان كل شيء هين على العزيز الجبار. وليعلم أن الله أرْحَمُ من الأم على رضيعها، فبشرى لمن نوى وسعى وأوفى، وليعمل بحديث رسول الله ﷺ «*مَن أحسن فيما بقي، غُفِر له ما مضى، ومَن أَسَاء فيما بقي، أُخِذ بما مضى وما بقي»10.

وللأسف أغفلت الأمة هذا الجانب العظيم ألا وهو التوكل على الله وحسن الظن به٫ فأغلب المسلمين اليوم على الله لا يتوكلون، ولحسن الظن به هم ساهون، يبتغون رزق الله بمعصيته وفضله بسخطه. بل من سفههم و قلة عقلهم تقديمهم للدنيا على الدين، فهم على الدنيا منهمكون، وعن الاخرة متغاضون، أما رضا الله فهم له ناسون، فأورثهم الله فقرا وذِلَّةً و خُسراناً، مصداقا للحديث الشريف عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ « من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ»11. فكم من مسلم متهاون في صلاته، بل تاركها من أجل عمل أو ولد أو أيٍّ كان٫ ألم يسمع قول الله عز وجل:*«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون*»12. وكم من مسلم يرجو بركة الله وهو عاق لوالديه وكم من مسلم يبتغي رزق الله بعمل مُقَدِّمَتُهُ رِشوَة، وكم من مسلم يحرص حرص الكافر على تأمين دنياه -وما هذا بخلق المؤمنين-بربا أو سرقة أو منع زكاة …

و الحديث يبين عظم مكانة الدعاء. فهو من أعظم العبادات فعن النُّعْمانِ بْنِ بشيرٍ رضِي اللَّه عنْهُما، عَنِ النَّبيِّ ﷺ قَالَ: «*الدُّعاءُ هوَ العِبَادةُ»13. فهو مفتاح لكل خير يُجَسِّدُ مبدأ الخضوع لله عز وجل فكم مدحهم الله كما قال عز وجل « وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»14. وعن أبي هريرة عن*النبي ﷺ «*ينزلُ ربُّنا تبارك و تعالَى في كلِّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا ، حين يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ ، فيقول : من يدعوني فأستجيبُ له ؟ من سألني فأُعطيهِ ؟ من يستغفِرُني فأغفرُ له ؟»15 وعنه أيضا عن*النبي ﷺ « من لم يسأل*الله يغضب عليه*»16. فمن صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ اللهُ، فهو أكرم الكرماء. ومن كَرَمِهِ وعَظيمِ فَضلِه أنه عَدَّدَ مَواضِعَ الفَضلِ في الدعاء، فوضع أوقاتا كالثلث الاخير من الليل، وأياما كيوم الجمعة، وسَاعَاتاً كساعة الجمعة، وأوضاعا كالسجود، و أوطانا كعرفة و المشعر الحرام، وأحوالا كالسفر والطواف بالكعبة، و أسبابا كابتداء واختتام الدعاء بالصلاة على النبي ﷺ. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه سمع رجلاً يدعو في صلاته ولم يُمَجِّدِ الله تعالى ولم يصلِّ على النبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ: « عجل هذا*» ثم دعاه فقال له أو لغيره : «*إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه جل وعز والثناء عليه ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يدعو بعد بما شاء*»17. وليعلم المؤمن أن الله لا يريد به إلا خيرا، فما عَدَّدَ الأزمان والأيام والأوقات والأوطان والأحوال والأوضاع إلا تيسيرا و تمكينا وتوفيقا للإستجابة، فصِدْقُ الدُّعَاءِ وحده كفيلٌ للاستجابة، فما بالك إن قُرِنَ بعِظَمِ المكان أوالزمان أوالحال، فعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»18 و صدق من قال:

لا تسألن بُنيَّ آدم حاجةً. وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ
الله يغضبُ إن تركت سؤاله وبُنَيَّ آدم حينَ يُسألُ يغضبُ

و لكن وللأسف في عصر الهُون، تكالبت المِحَن، فالأمة وان كانت مقصرة ما أغفلت هذا الجانب العظيم، فالأيادي مُرْتَفِعَة والأَلْسُنُ مُبْتَهِلَة والعُيُونُ بَاكِيَة والقُلُوبُ رَاجِيَّة، ولكن أنَّى يُستجاب لها، فعن*أبي هريرة*رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :*«*إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى :*{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا }*( المؤمنون : 51 ) ، وقال تعالى :*{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم }*( البقرة : 172 ) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذّي بالحرام ، فأنّى يُستجاب له ؟»19 . فكم من مسلمٍ باغٍ على مال أخيه بغير وجه حق، وكم من مسلم غاشٍ خائنٍ للأمانة، سواءاً في بيته أوأهله أوعمله، وكم من مسلم آكل ربا أو زكاة أو مال حرامٍ، وكم وكم وكم. فمثل هذا أنى يستجاب له. بل ولَعَلَّ الأمر أَعْظَم وأَقْصَم فعن عمر بن الخطاب : قال رسول الله ﷺ «*لتأمرُنَّ بالمعروفِ ولتنهونَّ عن المنكرِ ، أو ليُسلِّطَنَّ اللهُ عليكم شِرارَكم ، فيدعو خيارُكم فلا يُستجابُ لهم»20.


إن سُنَنُ الله أبديةٌ وقوانينه سَرْمَدِيَّةٌ، فما إن ابْتَعَدَ العبد عن مولاه عزوجل، إلاَّ وأَوْرَثَهُ اللهُ ذِلَّةً تَهُونُ بِهَا هِمَمُه وتَخُورُ بها عَزَائِمُه، فمن لا عِزَّةَ له فلا هِمَّةَ له، ومن لا هِمَّةَ له فلا يُرْتَجَى مِنْهُ خَيْرٌ دينِيٌ ولا دُنْيَوي، فهذه علاقةٌ سَبَبِيَّةٌ حَتْمِيَّةٌ لا يجادلها لبيب، ومن ابتلي بالهون فليَلُذ برب الكون، فلا ملجأ منه الا اليه. فإنه من لَجَأَ إلى اللهِ طَلَبَ رِضَاه، ومن طَلَبَ رِضَا اللهِ رَجَاهُ، ومن رَجَاه طَمِعَ في جَنَّتِه وجَعَلَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى غَايَتَه، ومن صَدَقَت غَايَتُهُ فقد صَدَقَ الطَّلَب، وما ان يَصْدُقُ الطلب الا ويُصَدِّقُه السَّعْيُ وتُشْحَذُ الهِمَم وتُسْتَجْمَع القِوَى ويَنْدَفِعُ المُؤمِن للعملِ و المُثابَرَة بكل كِدِّ وجِدِّ و مُصَابَرَة، لا تُدْرِكُهُ سِنَةٌ ولا فُتُور ولا تُوهِنُهُ مَشَقَّةٌ ولا وُعُورٌ، لا يرضى بتحصيل ولا فضيل بل الأفضل فالأفضل فالأفضل حتى يأتيه اليقين. فهكذا قامت الامة و هكذا ستعود ان شاء الله.

و ما هذا إلا وقفة و محاولة استيعاب هذا الحديث العظيم إن أصبنا فمن الله وإن أخطانا فمن أنفسنا اللهم انفعنا بما علمتنا وزدنا علما و صلِّ الله و سلم على سيدنا محمد و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين





———————————————————————————-
-1- جامع الترمذي (رقم الحديث:2470)
-2- المنافقون من الآية:8
-3- سورة فاطر من الآية:10
-4- أخرجه البخاري (3666)، ومسلم (1027)
-5- شعيب الأرناؤوط : تخريج المسند: 12902
-6- سنن الترمذي(2532)
-7- صحيح مسلم (5256)
-8- أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) باختلاف يسير.
-9- أخرجه البخاري (6463)، ومسلم (2816)، وابن ماجه (4201) باختلاف يسير، وأحمد (7479) واللفظ له
-10- رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (7/46) (6806). وحسَّن إسناده المنذري في ((التَّرغيب والتَّرهيب)) (4/126)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/205)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح التَّرغيب)) (3156).
-11- صحيح الترمذي (2465)
-12- المنافقون الآية 9
-13- رواه أَبُو داود والترمذي
-14- الأحزاب من الآية (35)*
-15- أخرجه البخاري (1145)، وفي ((الأدب المفرد)) (753) واللفظ له، ومسلم (758)
-16- أخرجه الترمذي (3373) واللفظ له، وابن ماجه (3827)، وأحمد (9719)
-17- أبو داود (1481 ) والترمذي (3477)
-18- صحّحه الشيخ الألباني في (صحيح أبي داود: [1320])
-19- رواه*مسلم
-20- أخرجه البخاري (581)، ومسلم (826)، والترمذي (183)، والنسائي (562)، وابن ماجه (1250)، وأحمد (130) مختصراً، والبزار (188) واللفظ له.