القـــرار الصعب
23-01-2018, 10:53 AM
القـــرار الصعب
قلب الفأس بين يديه ...
شعر بوخز الألم في يديه. فحص موضع الألم و راعه مشهد تلك الفقاعات المقززة التي اجتاحت كفيه.
تمتم قائلا : سامحك الله يا فأسي العزيز.
أرسل بصره نحو الحقل المنبسط أمامه...عليه أن ينهي العمل اليوم و يبذر بذور الطماطم.
فربما ستمطر غدا أو بعد غد. لا أحد يدري...

بصق بين يديه و فركهما مرة و مرة عسى أن يتلاشى الألم الى الأبد..
مسح جبينه الأسمر و انقض بفأسه مرة اخرى على هذا التراب الخصيب.
يكاد يستنشق رائحة رفاة الأجداد المنبعثة من هذه التربة القرمزية....رائحة تحاكي رائحة أجود العطور.
هبت رياح قادمة من الشرق على هذا الحقل الخصيب...و سرعان ما توسطت الشمس كبد السماء و شعر الفلاح العجوز بالجوع ينهش أمعاءه.
و تذكر فجأة انه أفطر بعد الفجر على قطعة جبن و شريحة من الرغيف. لقد كان طعاما زهيدا كما العادة...
ألقى الشيخ الفأس من يديه و تسلل مرهقا الى ظل نخلة و ألقى جسده الناحل تحتها.
كان غارقا في بحر من العرقٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِ و بحر من الهواجس التي تنخر صدره . .
أماط العمامة عن صلعته السمراء التي تختزن كل أحداث الدنيا و اسرارها و وجعها .
بسط منديلا مهترءا أمام يديه و راح يلتهم الطعام في نهم شديدٍٍٍِ ِ .
بيض مسلوق و طبق من الباذنجان و شيء من رغيف و قدح من اللبنٍٍٍٍٍ ..كان طعاما متواضعا مثل كل يومٍٍٍٍ .
ثم أسلم رأسه العملاق الى جذع النخلة و راح يحدق في زرقة السماء السخيةٍٍٍٍ .
و استرسل في نهر من الخيالات و الذكرياتٍ المتزاحمة مثل زحام المسافرين في عربة ميترو.
و همس بينه و بين نفسه في وجع:
( هيه أيها الشيخ البائس لقد غدوت وحيدا و تفرق من حولك الجميع )ٍ .
تذكر ولده هشام المهاجر في أمريكا للعمل منذ عقد من الزمن و كفاحه الشرس هناك للظفر بشهادة اقامة دائمة. . .
و تذكر سليم القابع في السجن منذ سنتين بعد أن ضبطته الحكومة و هو يوزع منشورات سرية .
و تذكر ابنته نبيلة المتزوجة في ولاية بعيدة جدا .
و تذكر ابنته المدللة أحلام و خلافها الذي لا ينتهي مع زوجها العربيدٍٍٍ . .
و انقبض قلبه و هو يتذكر خلافه مع أشقاءه ورثة هذا الحقل المترامي الأطراف .
ثم تبددت ذكرياته فجأة و هو يرمق حمامة سوداء حطت فوق بقايا طعامه الزهيد .
راحت الحمامة تلتقط فتات الرغيف في شغف ظاهر . .
و فكر الفلاح قائلا: المسكينة لابد أنها جاءت من سفر طويل . . .
أمسك الفأس مرة أخرى و انتصب واقفا كما الطود و شعر أن واديا من النشاط قد تدفق في شرايينه . .
لم يمض وقت طويل حتى رمق ساعي البريد و هو راكب على دراجته الهوائية فوق الطريق الزراعية . .
وصل الكهل الى الحقل أخيرا و هو يلهث بشدة مثل كلب صيد .
يحكي الناس هنا في الريف أن ساعي البريد هذا يلتهم ثلاثين سيجارة في اليوم . . .
ترجل الكهل عن دراجته العتيقة و تقدم نحو الفلاح و هو يلوح بظرف أصفر بين أنامله . . .و هتف قائلا :
رسالة لك من مصلحة املاك الدولة .
طلب الفلاح من ساعي البريد أن يقرأ له مضمون ذلك الكتاب..
تفحص الكهل سطور الرسالة مليا ثم رفع بصره نحو الفلاح ...و سحب نفسا عميقا من سيجارة لا تفارق شفتبه.
و بعد لحظات من الهدوء هتف بنبرة حزينة جدا :
يا سيدي هذا قرار بضم حقلكم الى ملكية الدولة بغرض انشاء مشروع للمنفعة العامة . . . .
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 28-01-2018 الساعة 10:24 AM