تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > منتدى التاريخ > منتدى التاريخ العام

> الإمام عبد الحميد بن باديس:رائد من رواد النهضة الجزائرية

موضوع مغلق
  • ملف العضو
  • معلومات
محمد عبد الكريم
مستشار
  • تاريخ التسجيل : 10-05-2007
  • المشاركات : 2,593
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • محمد عبد الكريم is on a distinguished road
محمد عبد الكريم
مستشار
الإمام عبد الحميد بن باديس:رائد من رواد النهضة الجزائرية
22-06-2007, 08:48 PM
مولده و نشأته
هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي بن محمد كحول بن الحاج علي النوري بن محمد بن محمد بن عبد الرحمان بن بركات بن عبد الرحمان بن باديس الصنهاجي. ولد بمدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني 1307 هـ الموافق لـ 4 من ديسمبر 1889 م على الساعة الرابعة بعد الظهر، وسجل يوم الخميس 12 ربيع الثاني 1307 هـ الموافق لـ 5 ديسمبر 1889 م في سجلات الحالة المدنية التي أصبحت منظمة وفي أرقى صورة بالنسبة لذلك العهد كون الفرنسيين أتموا ضبطها سنة 1886 م. نشأ ابن باديس في بيئة علمية، فقد حفظ القرآن وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ثم تتلمذ على الشيخ أحمد أبو حمدان الونيسي، فكان من أوائل الشيوخ الذين كان لهم أثر طيب في اتجاهه الـديـنـي، ولا ينسى ابن باديس أبداً وصية هذا الشيخ له: "اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة"، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا. وقد عرف دائماً بدفاعه عن مطالب السكان المسلمين في قسنطينة

حياته
لمحة وجيزة عن حياة ابن باديس
عبد الحميد ابن بايس هو رائد النهضة الجزائرية ولد سنة 1889 بقسنطينة وقد وهب حياته في خدمة الجزائر وكرس حياته في العلم والمعرفة وبإتصالاته بكبار العلماء وأهم نشاطاته:

-تعليم الصغار نهارا ووعظ الكبار ليلا
-إصدار صحف لتدافع عن حقوق الجزائريين
-رئاسة جمعية العلماء المسلمين وذلك في سنة 1931

في جامع الزيتونة
في عام 1908 م قرر ابن باديس -وهو الشاب المتعطش للعلم- أن يبدأ رحلته العلمية الأولى إلى تونس، وفى رحاب جامع الزيتونة الذي كان مقراً كبيراً للعلم والعلماء يُشبه في ذلك الأزهر في مصر. وفي الزيتونة تفتحت آفاقه، وعبّ من العلم عبًّا، والتقى بالعلماء الذين كان لهم تأثير كبير في شخصيته وتوجهاته، مثل الشيخ محمد النخلي الذي غرس في عقل ابن باديس غرسة الإصلاح وعدم تقليد الشيوخ، وأبــان لــه عـــن المنهج الصحيح في فهم القرآن. كما أثار فيه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور حب العربية وتذوّق جمالها ، ويرجع الفضل للشيخ البشير صفر في الاهتمام بالتاريخ ومشكلات المسلمين المعاصرة وكيفية التخلص من الاستعمار الغربي وآثاره.

تخـرج الشيخ من الزيتونة عام 1912 م وبقي عاماً آخر للتدريس حسب ما تقتضيه تقاليد هذه الجامعة، وعندما رجع إلى الجزائر شرع على الفور بإلقاء دروس في الجامع الكبير في قسنطينة، ولكن خصوم الإصلاح تحركوا لمنعه، فقرر القيام برحلة ثانية لزيارة أقطار المشرق العربي

في المدينة النبوية
بعد أداء فريضة الحج مكث الشيخ ابن باديس في المدينة المنورة ثلاثة أشهر، ألقى خلالها دروساً في المسجد النبوي، والتقى بشيخه السابق أبو حمدان الونيسي وتعرف على رفيق دربه ونضاله فيما بعد الشيخ البشير الإبراهيمي. وكان هذا التعارف من أنعم اللقاءات وأبركها، فقد تحادثا طويلاً عن طرق الإصلاح في الجزائر واتفقا على خطة واضحة في ذلك. وفي المدينة اقترح عليه شيخه الونيسي الإقامة والهجرة الدائمة، ولكن الشيخ حسين أحمد الهندي المقيم في المدينة أشار عليه بالرجوع للجزائر لحاجتها إليه. زار ابن باديس بعد مغادرته الحجاز بلاد الشام ومصر واجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة السلفية، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ الونيسي.


العودة إلى الجزائروصل ابن باديس إلى الجزائر عام 1913 م واستقر في مدينة قسنطينة، وشرع في العمل التربوي الذي صمم عليه، فبدأ بدروس للصغار ثم للكبار، وكان المسجد هو المركز الرئيسي لنشاطه، ثم تبلورت لديه فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين، واهتماماته كثيرة لا يكتفي أو يقنع بوجهة واحدة، فاتجه إلى الصحافة، وأصدر جريدة المنتقد عام 1925 م وأغلقت بعد العدد الثامن عشر؛ فأصدر جريدة الشهاب الأسبوعية، التي بث فيها آراءه في الإصلاح، واستمرت كجريدة حتى عام 1929 م ثم تحولت إلى مجلة شهرية علمية، وكان شعارها: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها"، وتوقفت المجلة في شهر شعبان 1328 هـ (أيلول عام 1939 م) بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحتى لا يكتب فيها أي شيء تريده الإدارة الفرنسية تأييداً لها، وفي سنة 1936 م دعا إلى مؤتمر إسلامي يضم التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة قضية الجزائر، وقد وجه دعوته من خلال جريدة لاديفانس التي تصدر بالفرنسية، واستجابت أكثر التنظيمات السياسية لدعوته وكذلك بعض الشخصيات المستقلة، وأسفر المؤتمر عن المطالبة ببعض الحقوق للجزائر، وتشكيل وفد سافر إلى فرنسا لعرض هذه المطالب وكان من ضمن هذا الوفد ابن باديس والإبراهيمي والطيب العقبي ممثلين لجمعية العلماء، ولكن فرنسا لم تستجب لأي مطلب وفشلت مهمة الوفد.

العوامل المؤثرة في شخصية ابن باديس
لا شك أن البيئة الأولى لها أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان، وفي بلد كالجزائر عندما يتفتح ذهن المسلم على معاناته من فرنسا، وعن معاناته من الجهل والاستسلام للبدع-فسيكون هذا من أقوى البواعث لأصحاب الهمم وذوي الإحساس المرهف على القلق الذي لا يهدأ حتى يحقق لدينه ولأمته ما يعتبره واجباً عليه، وكان ابن باديس من هذا النوع. وإن بروز شخصية كابن باديس من بيئة ثرية ذات وجاهة لَهو دليل على إحساسه الكبير تجاه الظلم والظالمين، وكان بإمكانه أن يكون موظفاً كبيراً ويعيش هادئاً مرتاح البال ولكنه اختار طريق المصلحين.

وتأتي البيئة العلمية التي صقلت شخصيته وهذبت مناحيه والفضل الأكبر يعود إلى الفترة الزيتونية ورحلته الثانية إلى الحجاز والشام حيث تعرف على المفكرين والعلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما دعا إليه من نقاء العقيدة وصفائها. وكان لمجلة المنار التي يصدرها الشيخ رشيد رضا أثر قوي في النظر لمشكلات المسلمين المعاصرة والحلول المطروحة.

ومما شجع ابن باديس وأمضى عزيمته وجود هذه العصبة المؤمنة حوله-وقد وصفهم هو بالأسود الكبار-من العلماء والدعاة أمثال الإبراهيمي والتبسي والعقبي والميلي. وقد عملوا معه في انسجام قلّ أن يوجد مثله في الهيئات الأخرى.



آثار ابن باديس
Abdelhamid Ben Badis (left) and Tayeb El Oqbi( right)شخصية ابن باديس شخصية غنية ثرية ومن الصعوبة في حيز ضيق من الكتابة الإلمام بكل أبعادها وآثارها؛ فهو مجدد ومصلح يدعو إلى نهضة المسلمين ويعلم كيف تكون النهضة. يقول:

إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآثر، وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة.

وهو عالم مفسر ، فسر القرآن كله خلال خمس وعشرين سنة في دروسه اليومية كما شرح موطأ مالك خلال هذه الفترة، وهو سياسي يكتب في المجلات والجرائد التي أصدرها عن واقع المسلمين وخاصة في الجزائر ويهاجم فرنسا وأساليبها الاستعمارية ويشرح أصول السياسة الإسلامية، وقبل كل هذا هو المربي الذي أخذ على عاتقه تربية الأجيال في المدارس والمساجد، فأنشأ المدارس واهتم بها، بل كانت من أهم أعماله، وهو الذي يتولى تسيير شؤون جمعية العلماء، ويسهر على إدارة مجلة الشهاب ويتفقد القاعدة الشعبية باتصالاته المستمرة. إن آثار ابن باديس آثار عملية قبل أن تكون نظرية في كتاب أو مؤلَّف، والأجيال التي رباها كانت وقود معركة تحرير الجزائر، وقليل من المصلحين في العصر الحديث من أتيحت لهم فرص التطبيق العملي لمبادئهم كما أتيحت لابن باديس؛ فرشيد رضا كان يحلم بمدرسة للدعاة، ولكن حلمه لم يتحقق، ونظرية ابن باديس في التربية أنها لا بد أن تبدأ من الفرد، فإصلاح الفرد هو الأساس.

وطريقته في التربية هي توعية هذا النشء بالفكرة الصحيحة كما ذكر الإبراهيمي عن اتفاقهما في المدينة: "كانت الطريقة التي اتفقنا عليها سنة 1913 في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم وإنما نربيه على فكرة صحيحة" (1).

وينتقد ابن باديس مناهج التعليم التي كانت سائدة حين تلقيه العلم والتي كانت تهتم بالفروع والألفاظ - فيقول: "واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية، مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفني الأعمار قبل الوصول إليها" (2). أما إنتاجه العلمي فهو ما جمع بعد من مقالاته في "الشهاب" وغيرها ومن دروسه في التفسير والحديث (3).



*********************************************** ***********


ابن باديس: الإسلام ديننا والعربية لغتنا



سمير حلبي




العلامة عبد الحميد بن باديس

كانت الجزائر أول أقطار العالم العربي وقوعًا تحت براثن الاحتلال، وقُدّر أن يكون مغتصبها الفرنسي من أقسى المحتلين سلوكًا واتجاهًا، حيث استهدف طمس هوية الجزائر ودمجها باعتبارها جزءًا من فرنسا، ولم يترك وسيلة تمكنه من تحقيق هذا الغرض إلا اتبعها، فتعددت وسائلة، وإن جمعها هدف واحد، هو هدم عقيدة الأمة، وإماتة روح الجهاد فيها، وإفساد أخلاقها، وإقامة فواصل بينها وبين هويتها وثقافتها وتراثها، بمحاربة اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها، لتكون لغة التعليم والثقافة والتعامل بين الناس.

غير أن الأمة لم تستسلم لهذه المخططات، فقاومت بكل ما تملك، ودافعت بما توفر لديها من إمكانات، وكانت معركة الدفاع عن الهوية واللسان العربي أشد قوة وأعظم تحديًا من معارك الحرب والقتال، وقد عبّر ابن باديس، عن إصرار أمته وتحديها لمحاولات فرنسا بقوله: "إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدد معين هو الوطن الجزائري".

المولد والنشأة

ولد "عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس" المعروف بعبد الحميد بن باديس في (11 من ربيع الآخِر 1307 هـ= 5 من ديسمبر 1889م) بمدينة قسطنطينة، ونشأ في أسرة كريمة ذات عراقة وثراء، ومشهورة بالعلم والأدب، فعنيت بتعليم ابنها وتهذيبه، فحفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، وتعلّم مبادئ العربية والعلوم الإسلامية على يد الشيخ "أحمد أبو حمدان الونيسي" بجامع سيدي محمد النجار، ثم سافر إلى تونس في سنة (1326هـ= 1908م) وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتلقى العلوم الإسلامية على جماعة من أكابر علمائه، أمثال العلّامة محمد النخلي القيرواني المتوفى سنة (1342هـ= 1924م)، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي كان له تأثير كبير في التكوين اللغوي لعبد الحميد بن باديس، والشغف بالأدب العربي، والشيخ محمد الخضر الحسين، الذي هاجر إلى مصر وتولى مشيخة الأزهر.

وبعد أربع سنوات قضاها ابن باديس في تحصيل العلم بكل جدّ ونشاط، تخرج في سنة (1330هـ= 1912م) حاملاً شهادة "التطويع" ثم رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى بشيخه "حمدان الونيسي" الذي هاجر إلى المدينة المنورة، متبرّمًا من الاستعمار الفرنسي وسلطته، واشتغل هناك بتدريس الحديث، كما اتصل بعدد من علماء مصر والشام، وتتلمذ على الشيخ حسين أحمد الهندي الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر، واستثمار علمه في الإصلاح، إذ لا خير في علم ليس بعده عمل، فعاد إلى الجزائر، وفي طريق العودة مرّ بالشام ومصر واتصل بعلمائهما، واطّلع على الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية لهما.

ابن باديس معلمًا ومربيًا

آمن ابن باديس بأن العمل الأول لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو التعليم، وهي الدعوة التي حمل لواءها الشيخ محمد عبده، في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وأذاعها في تونس والجزائر خلال زيارته لهما سنة (1321هـ= 1903م)، فعمل ابن باديس على نشر التعليم، والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى، ومقاومة الزيف والخرافات، ومحاربة الفرق الصوفية الضالة التي عاونت المستعمر.

وقد بدأ ابن باديس جهوده الإصلاحية بعد عودته من الحج، بإلقاء دروس في تفسير القرآن بالجامع الأخضر بقسطنطينة، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثة العذب، وفكره الجديد، ودعوته إلى تطهير العقائد من الأوهام والأباطيل التي علقت بها، وظل ابن باديس يلقي دروسه في تفسير القرآن حتى انتهى منه بعد خمسة وعشرين عامًا، فاحتفلت الجزائر بختمه في (13 من ربيع الآخر 1357هـ= 12 من يونيو 1938م).

ويُعدّ الجانب التعليمي والتربوي من أبرز مساهمات ابن باديس التي لم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار أيضًا، وتطرقت إلى إصلاح التعليم تطوير ومناهجه، وكانت المساجد هي الميادين التي يلقي فيها دروسه، مثل الجامع الأخضر، ومسجد سيدي قموش، والجامع الكبير بقسطنطينة، وكان التعليم في هذه المساجد لا يشمل إلا الكبار، في حين اقتصرت الكتاتيب على تحفيظ القرآن للصغار، فعمد ابن باديس إلى تعليم هؤلاء الصغار بعد خروجهم من كتاتيبهم.

ثم بعد بضع سنوات أسس جماعة من أصحابه مكتبًا للتعليم الابتدائي في مسجد سيد بومعزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة (1336هـ= 1917م)، ثم تطوّر المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أنشئت في (رمضان 1349 هـ= 1931م) وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس.

وقد هدفت الجمعية إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية والعربية، والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم، ويجدر بالذكر أن قانون الجمعية نصّ على أن يدفع القادرون من البنين مصروفات التعليم، في حين يتعلم البنات كلهن مجانًا.

وكوّن ابن باديس لجنة للطلبة من أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية، للعناية بالطلبة ومراقبة سيرهم، والإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانتهم، ودعا المسلمين الجزائريين إلى تأسيس مثل هذه الجمعية، أو تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر، لأنه لا بقاء لهم إلا بالإسلام، ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم.

وحثّ ابن باديس الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها مما هي فيه من الجهل، وتكوينها على أساسٍ من العفة وحسن التدبير، والشفقة على الأولاد، وحمّل مسئولية جهل المرأة الجزائرية أولياءها، والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلّموا الأمة، رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثمًا كبيرًا إذا فرطوا في هذا الواجب.

وشارك ابن باديس في محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة بتونس، وبعث بمقترحاته إلى لجنة وضع مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس سنة (1350 هـ=1931م)، وتضمن اقتراحه خلاصة آرائه في التربية والتعليم، فشمل المواد التي يجب أن يدرسها الملتحق بالجامع، من اللغة والأدب، والعقيدة، والفقه وأصوله، والتفسير، والحديث، والأخلاق، والتاريخ، والجغرافيا، ومبادئ الطبيعة والفلك، والهندسة، وجعل الدراسة في الزيتونة تتم على مرحلتين: الأولى تسمى قسم المشاركة، وتستغرق الدراسة فيه ثماني سنوات، وقسم التخصص ومدته سنتان، ويضم ثلاثة أفرع: فرع للقضاء والفتوى، وفرع للخطاب والوعظ، وفرع لتخريج الأساتذة.

ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين


من اليسار إلى اليمين: الأستاذ الإبراهيمي، الأستاذ ابن باديس، الأستاذ العقبي

احتفلت فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر في سنة (1349هـ= 1930م) فشحذ هذا الاحتفال البغيض همّة علماء المسلمين في الجزائر وحماسهم وغيرتهم على دينهم ووطنهم، فتنادوا إلى إنشاء جمعية تناهض أهداف المستعمر الفرنسي، وجعلوا لها شعارًا يعبر عن اتجاههم ومقاصدهم هو: "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وانتخبوا ابن باديس رئيسًا لها.

اقرأ حول الجمعية ودورها في حماية الثقافة العربية الإسلامية.
وقد نجحت الجمعية في توحيد الصفوف لمحاربة المستعمر الفرنسي وحشد الأمة الجزائرية ضدها، وبعث الروح الإسلامية في النفوس، ونشر العلم بين الناس، وكان إنشاء المدارس في المساجد هو أهم وسائلها في تحقيق أهدافها، بالإضافة إلى الوعّاظ الذين كانوا يجوبون المدن والقرى، لتعبئة الناس ضد المستعمر، ونشر الوعي بينهم.

وانتبهت فرنسا إلى خطر هذه التعبئة، وخشيت من انتشار الوعي الإسلامي؛ فعطّلت المدارس، وزجّت بالمدرسين في السجون، وأصدر المسئول الفرنسي عن الأمن في الجزائر، في عام (1352هـ= 1933م) تعليمات مشددة بمراقبة العلماء مراقبة دقيقة، وحرّم على غير المصرح لهم من قبل الإدارة الفرنسية باعتلاء منابر المساجد، ولكي يشرف على تنفيذ هذه الأوامر، عيّن نفسه رئيسًا للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

ولكي ندرك أهمية ما قام به ابن باديس ورفاقه من العلماء الغيورين، يجب أن نعلم أن فرنسا منذ أن وطأت قدماها الجزائر سنة (1246 هـ= 1830م) عملت على القضاء على منابع الثقافة الإسلامية بها، فأغلقت نحوا من ألف مدرسة ابتدائية وثانوية وعالية، كانت تضم مائة وخمسين ألف طالب أو يزيدون، ووضعت قيودًا مهنية على فتح المدارس، التي قصرتها على حفظ القرآن لا غير، مع عدم التعرض لتفسير آيات القرآن، وبخاصة الآيات التي تدعو إلى التحرر، وتنادي بمقاومة الظلم والاستبداد، وعدم دراسة تاريخ الجزائر، والتاريخ العربي الإسلامي، والأدب العربي، وتحريم دراسة المواد العلمية والرياضية.

إسهامات ابن باديس السياسية

لم يكن ابن باديس مصلحًا فحسب، بل كان مجاهدًا سياسيًا، مجاهرًا بعدم شرعية الاحتلال الفرنسي، وأنه حكم استبدادي غير إنساني، يتناقض مع ما تزعمه من أن الجزائر فرنسية، وأحيا فكرة الوطن الجزائري بعد أن ظنّ كثيرون أن فرنسا نجحت في جعل الجزائر مقاطعة فرنسية، ودخل في معركة مع الحاكم الفرنسي سنة (1352هـ= 1933م) واتهمه بالتدخل في الشئون الدينية للجزائر على نحو مخالف للدين والقانون الفرنسي، وأفشل فكرة اندماج الجزائر في فرنسا التي خُدع بها كثير من الجزائريين سنة (1353 هـ= 1936م).

ودعا نواب الأمة الجزائريين إلى قطع حبال الأمل في الاتفاق مع الاستعمار، وضرورة الثقة بالنفس، وخاطبهم بقوله: "حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب أمة ترى –أو ترى أكثريتها- ذلك كثيرا علينا…! ويسمعنا كثير منها في شخصيتنا الإسلامية ما يمس كرامتنا"، وأعلن رفضه مساعدة فرنسا في الحرب العالمية الثانية.

وكانت الصحف التي يصدرها أو يشارك في الكتابة بها من أهم وسائله في نشر أفكاره الإصلاحية، فأصدر جريدة "المنتقد" سنة (1345 هـ= 1926م) وتولى رئاستها بنفسه، لكن المحتل عطّلها؛ فأصدر جريدة "الشهاب" واستمرت في الصدور حتى سنة (1358هـ= 1939م) واشترك في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل "السنة" و"الصراط" و"البصائر".

وظل هذا المصلح -رغم مشاركته في السياسة- يواصل رسالته الأولى التي لم تشغله عنها صوارف الحياة، أو مكائد خصومه من بعض الصوفية أذيال المستعمر، أو مؤامرات فرنسا وحربها لرسالته، وبقي تعليم الأمة هو غايته الحقيقية، وإحياء الروح الإسلامية هو هدفه السامق، وبث الأخلاق الإسلامية هو شغله الشاغل، وقد أتت دعوته ثمارها، فتحررت الجزائر من براثن الاحتلال الفرنسي، وإن ظلت تعاني من آثاره.

وقد جمع "عمار الطالبي" آثار ابن باديس، ونشرها في أربعة مجلدات، ونشرها في الجزائر سنة (1388هـ= 1968م).

وتوفي ابن باديس في (8 من ربيع الأول 1359 هـ= 16 من إبريل 1940م).

* من مصادر الدراسة:

عمار الطالبي ـ ابن باديس حياته وآثاره ـ الجزائر ـ 1388 هـ= 1968م.

محمود قاسم ـ الإمام عبد الحميد بن باديس: الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1979م.

محمد فتحي عثمان ـ عبد الحميد بن باديس: رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة ـ دار القلم ـ الكويت ـ 1407هـ= 1987م.

أنور الجندي ـ الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1385هـ= 1965م.

************************************************** ********************************************

الإمام عبدالحميد بن باديس

المصلح الثائر

الإمام عبدالحميد بن باديس (1889 1940م)



بقلم: د.مولود عويمر

الإمام عبد الحميد بن باديس رائد من رواد النهضة "العربية الإسلامية" الحديثة، شهدت له أعماله بعبقريته، واعترف بعظمة جهاده كثيرون من أعلام العلماء والمفكرين من أمثال: حسن البنا ومالك بن نبي والدكتور محمود قاسم والدكتور محمد عمارة وغيرهم من علماء الإسلام، وشارل أندري جوليان وشارل روبير أجيرون وجاك بيرك وغيرهم من علماء الغرب. فما العوامل الثقافية والاجتماعية المؤثرة في بناء شخصية ابن باديس؟ وماذا عن منهجه في التغيير؟ ودوره في الحركة التحررية الجزائرية؟ كل هذه الأسئلة نجيب عنها بإيجاز في هذا المقال، مع التعرض أيضاً بصورة مختصرة لآثاره وصدى دعوته في العالم الإسلامي.



مولده و نشأته ولد ابن باديس في ربيع الثاني 1307 ه 4 ديسمبر 1889م. في قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري. وينتسب إلى أسرة غنية ومعروفة في تاريخ الجزائر، وكان جده الأكبر المعز بن باديس ملكاً عادلاً حكم الدولة الصنهاجية خمسين عاماً (406 456ه). درس عبد الحميد مبادئ اللغة العربية على الشيخ حمدان الونيسي وحفظ القرآن على الشيخ محمد المداسي، وصلى بالناس صلاة التراويح وهو مازال شاباً صغيراً. أرسله والده في عام 1908م إلى تونس لتحصيل العلم في جامع الزيتونة العريق. فدرس الأدب العربي على الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وتفسير القرآن على العالم الكبير محمد النخلي، والتاريخ العربي والإسلامي على الأستاذ البشير الصفر. وكان هؤلاء العلماء الثلاثة من خيرة أساتذة الزيتونة ورواد النهضة في تونس(1). وقال ابن باديس عن تأثير الأستاذ الصفر في شخصيته "وأنا شخصياً أصرح بأن كراريس البشير الصفر الصغيرة الحجم الغزيرة العلم هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي و قومي والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جندياً من جنود الجزائر"(2) في عام 1912م تحصل على شهادة التطويع "العالمية" فعاد إلى الجزائر للتدريس والإصلاح.

في 1913م سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والاتصال بعلماء الشرق، فالتقى أستاذه الشيخ حمدان الونيسي الذي صار مدرساً بالمسجد النبوي ومحمد البشير الإبراهيمي والعالم الكبير الشيخ حسين أحمد الهندي وألقى دروساً في مسجد رسول الله ص. لما أراد الاستقرار في الحجاز، نصحه الشيخ الهندي بالرجوع إلى الجزائر لخدمة دينه ووطنه. عند عودته إلى الجزائر في 1914م، مر ابن باديس بالشام واجتمع بعلمائه وأدبائه وزار مصر وعلماءها كالشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية آنذاك فأجازه. وزار أيضاً الجامع الأزهر واطلع على مناهج التدريس فيه.



ابن باديس مربياً



يعتبر ابن باديس التعليم أساس الإصلاح ويرى أن صلاح العلماء شرط لكل تغيير حضاري "لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم(...)، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم(...)، ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه في مادته وصورته"(3) أو بمعنى آخر يجب الاعتماد على القرآن، والسنة، وكتب السلف الصالح، كمقررات أساسية لتعليم النشء دينهم ولغتهم العربية الصحيحة، وتاريخ أمتهم والحفظ وسيلة، والمسجد مكاناً.

اتخذ الإمام عبد الحميد بن باديس الجامع الأخضر مركزاً لنشاطه التربوي وكان يحضر دروسه أكثر من ثلاثمائة طالب. ويدّرس فيه التفسير والحديث والفقه والعقيدة وعلم التجويد والنحو والصرف والحساب والجغرافيا. وكان يحث طلبته على تعلم اللغة الفرنسية إذ صارت مادة مقررة على التلاميذ في جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي يشرف عليها في قسنطينة.

كان ابن باديس متواضعاً مع تلاميذه، يشجع المجتهدين ويقربهم أكثر منه. وهذا ما يؤكده واحد منهم يقول محمد الصالح رمضان "استدعاني الإمام بعد ثلاث سنوات فقط من التلمذة عليه لأعاونه في التدريس لطلابه بقسنطينة مع معاونيه، ثم عينني معلماً في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، ومع ذلك لم أنقطع عن دروسه العامة، وخاصة درس التفسير حتى لقي ربه".

راسل ابن باديس علماء الزيتونة والأزهر للحصول على منح دراسية لطلبته، وقد تدخل العالم المصري الشيخ محمد عبد الله دراز مرات عدة لدى شيخ الأزهر لصالح تلاميذ ابن باديس.(4) فأوفد بعثات طلابية إلى القاهرة وتونس ودمشق. وكان ابن باديس يضع آمالاً كبيرة فيها وينظم حفلة كل عام لاستقبال المتخرجين بتفوق وتكريمهم، يقول محمد الصالح بن عتيق الذي تخرَّج في جامع الزيتونة في منتصف الثلاثينيات "عدت إلى الجزائر(...) أحمل الشهادة وفرح بذلك أهلي، ولكن فرح أستاذنا العظيم كان أكثر، فقد استقبلني مع بعض الإخوان الذين فازوا في امتحان الشهادة استقبالاً رائعاً، فأقام لنا حفلاً مضيفاً(...) وأهاب بنا إلى القيام بالدعوة الإصلاحية وفي الجهة التي نكون بها(...) ولم يكتف رحمه الله بهذا الفضل(...) ونشر أسماءنا في مجلة الشهاب تحت عنوان: "نجوم الجزائر" تشجيعاً لنا وتعريفاً للأمة بنا"(5) ومن أشهر تلاميذ ابن باديس الفضيل الورتلاني، والمبارك الميلي، وسعيد البيباني، وسعيد صالحي، وعبد اللطيف سلطاني، وأحمد حماني، وعلي مرحوم، ومحمد الصالح رمضان، ومحمد الصالح بن عتيق، وباعزيز بن عمر، وسعيد الزاهري، وأحمد بن ذياب، وأحمد بوشمال...

يرى كثير من الباحثين والمؤرخين أن مشروع ابن باديس الإصلاحي امتداد لحركة الإمام محمد عبده، إذ تأثر ابن باديس في شبابه بالحركة السلفية ومدرسة محمد عبده عن طريق أساتذته بجامع الزيتونة وخاصة محمد الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي ما بين 1908-1912م، وخلال زيارته للمشرق العربي في عام 1913م وعن طريق المجلات والصحف الإصلاحية التي كانت تصل إلى الجزائر رغم الرقابة الشديدة التي مارستها السلطة الاستعمارية، إلا أنه لا يمكن إغفال بعض الخصائص التي تتعلق بالوضع الاستعماري للجزائر وجهود ابن باديس دون إجحاف لدور محمد عبده، ويرى الدكتور فهمي جدعان أن مشروع ابن باديس الإصلاحي "جاء نتيجة للظروف التاريخية التي مرت بها الجزائر المستعمرة، ولم يجئ نتيجة تأثر مباشر بأفكار محمد عبده.(6) المشروع الإصلاحي عند ابن باديس يتمثل في المقام الأول في التركيز على تربية النشء كوسيلة لتحضير مستقبل الجزائر وتوعية الشعب الجزائري حتى يقف سداً منيعاً لسياسة الاندماج والاستيطان التي تنتهجها فرنسا في الجزائر. وقد استمد ابن باديس فلسفته من الآية القرآنية: إن الله لا يغير ما بقوم حتى" يغيروا ما بأنفسهم. (الرعد:11). وبهذا الربط بين الإصلاح التربوي المؤسساتي والسياسي، تفادى الإمام عبد الحميد بن باديس الأخطاء المنهجية التي وقع فيها رواد "المشروع التحرري"(7) الذين سبقوه، فقد ركَّز كل من جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي على التغيير السياسي، واهتم محمد عبده خاصة بالجانب التربوي.



نشاطه الصحافي



كان ابن باديس شغوفاً بقراءة الصحف والمجلات العربية كالمنار للإمام رشيد رضا، ومجلة الفتح لمحب الدين الخطيب، وجريدة المؤيد واللواء والجرائد الفرنسية(8) لاديبيش دوكونستونتين ولوتو. وعن هذه الصحف الأخيرة يقول ابن باديس "لا ننكر أننا مع المعجبين(...) بالصحافة الفرنسية الكبرى، ومالها من بديع نظام، ومهرة أقلام، وجرأة وإقدام"(9). وكان على يقين بالدور الفعَّال الذي تمارسه الصحافة في توعية الجماهير والتأثير في أصحاب القرار، وهذا ما جعله يؤسس مطبعة ويصدر جرائد لتحقيق هذه الأهداف ودعم نشاطه التربوي خارج المسجد.

في بداية يوليو 1925 أصدر العدد الأول لصحيفة "المنتقد". وكان شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء". وفي العدد الثاني الصادر في 9 يوليو 1925م، أكد من جديد على استقلالية الجريدة وشرح فلسفتها التي تعتمد على الوفاء للوطن والجرأة في بيان الحق "إننا لسنا لإنسان، ولا على إنسان، وإنما نخدم الحق والوطن...ونكرر القول (إن "المنتقد" لا يباع ولا يشترى". أصبحت هذه الصحيفة منبراً لتوجيه وتوعية الجزائريين وقناة لنقد الوضع الاستعماري المفروض على الجزائر وصوتاً لمناصرة القضايا الكبرى للمسلمين في فترة العشرينيات كثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي ومساندة الشعب الليبي. أوقفت السلطة الاستعمارية صحيفة المنتقد بعد ظهور 18 عدداً، فكان مصيرها كالعروة الوثقى التي أنشأها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأوقفتها السلطات الفرنسية والبريطانية بعد صدور العدد الثامن عشر.

أصدر الإمام عبد الحميد بن باديس جريدة أسبوعية سمَّاها الشهاب ثم حوّلها إلى مجلة شهرية. تحتوي افتتاحية، ومقالات، وفتاوى، وقصصاً، وأخباراً، وطرائف، وتراجم، وعرضاً للكتب، والصحف العربية، والأجنبية، وتنشر مقالات للكتاب والشعراء العرب من مصر ولبنان وتونس والمغرب. في السنوات الأولى، كتب ابن باديس معظم المقالات وقام بتصميمها وكان يوزعها بنفسه، وكان مثله كمثل أبي الأعلى المودودي صاحب مجلة ترجمان القرآن في بداية مشواره الدعوي.

كانت لهذه المجلة شهرة واسعة في العالم الإسلامي، وشهد بفضلها كبار العلماء والمصلحين. كتب الإمام حسن البنا في افتتاحية العدد الأول من مجلة الشهاب التي أسسها في القاهرة في نهاية الأربعينيات كلمة تقدير وجهها للإمام عبد الحميد بن باديس ومجلته الشهاب "قامت مجلة الشهاب الجزائرية التي كان يصدرها الشيخ عبدالحميد بن باديس رحمه الله في الجزائر بقسط كبير من هذا الجهاد، مستمدة من هدي القرآن الكريم وسنة النبي العظيم سيدنا محمد ص. وإنا لنرجو أن تقفو "الشهاب" المصرية الناشئة أثرها وتجدد شبابها، وتعيد في الناس سيرتها في خدمة دعوة القرآن وتجلية فضائل الإسلام، على أن الفضل للمتقدم وفضل السبق ليس له كفاء". وكتب أيضاً في السياق نفسه المفكر السوري الدكتور محمد المبارك في مجلة المجمع العلمي الدمشقية أنه كان يطالع في شبابه في الثلاثينيات مجلة الشهاب الجزائرية التي تصل إلى دمشق مع مجموعة من أصدقائه الطلبة "بلهفة شديدة". وعن تأثيرها في المغرب، يقول الشيخ محمد غازي أحد علماء فاس "مجلة الشهاب الغراء (...) خدمت الإسلام والمسلمين عموماً والإصلاح والمصلحين خصوصاً، تلك الجريدة التي كان الشمال الإفريقي متعطشاً لمثلها منذ زمان.(10)

فرض الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه على عالم الصحافة في فترة العشرينيات والثلاثينيات وصار رائداً من رواد الصحافة العربية الحديثة وأرسى "دعائمها على أسس متينة من الإيمان بالمبدأ والوطنية والتقاليد الصحافية العالية".(11)



جمعية العلماء.. والصراع مع الاحتلال



قاوم ابن باديس المخططات الاستعمارية ميدانياً وفكرياً، ففي عام 1930م ندد بالحفلات الصاخبة التي قامت بها السلطة الفرنسية في العاصمة الجزائرية بمناسبة الذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، واعتبر ذلك إهانة للجزائريين وفكّر في تلك الفترة في تجديد النداء للعلماء والأئمة الجزائريين لتأسيس جمعية قوية لمقاومة الاستعمار والرد على أعوانه من الطرقيين والعلماء الرسميين. فتأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 مايو 1931م. وعُيِّن عبدالحميد بن باديس رئيساً للجمعية، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي نائباً له، ورغم سياسة الإقصاء التي تعرَّضت لها الجمعية، إلا أنها أصدرت صحفاً عدة، تعبِّر عنها مثل: "السنة النبوية"، و"الشريعة المحمدية"، و"الصراط السوي"، و"البصائر".

كان هاجس ابن باديس الأكبر إبطال النظرية الاستعمارية الفرنسية التي أقنعت كثيراً من النخبة الجزائرية بعدم وجود أي أمة جزائرية في التاريخ وارتباط الجزائر عضوياً ومصيرياً بمستقبل فرنسا. وكان على ابن باديس أن يقدم بديلاً فكرياً لدحض هذه الأفكار التي صارت مع مرور الزمن مسلَّمات في الأذهان ومقدسات يحميها القانون والدستور الفرنسي. وفي ضوء هذه المعطيات يجب أن يدرس فكر هذا المصلح حتى لايظلم بغير علم فهماً وتقييماً واتباعاً. لا يرى ابن باديس تناقضاً في دعوته إلى القومية الجزائرية مع عالمية الإسلام إذا قام كل مسلم في وطنه بواجبه نحو دينه وبلاده: "ليس ما ندعو إليه، ونسير على مبادئه من الإصلاح، بالأمر الذي يخص المسلم الجزائري ولا ينتفع به سواه، كلا، فإن صحة العقيدة، واستنارة الفكر، وطهارة النفس، وكمال الخلق واستقامة العمل وهذا هو الإصلاح كله مما يشترك في الانتفاع به جميع المسلمين، بل جميع بني الإنسان. وإنما نذكر المسلم الجزائري، لإشعاره بوجوده، فيعمل لإسلامه وجزائريته، فيكون ذا قيمة ومنزلة في المجموع".

ولكن إذا كان ابن باديس صارماً في مواقفه الوطنية، فلماذا زار باريس في يوليو 1936م مع وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري الذي ضم قادة الحركة الوطنية من السياسيين و العلماء؟ ولماذا التقى رئيس الحكومة الفرنسي وبعض الوزراء والأحزاب الفرنسية؟ لقد انتقد المفكر الجزائري مالك بن نبي هذه المشاركة في كثير من كتبه، إذ رأى فيها انحرافاً لمبادئ "الشهاب"، و"المنتقد". ولكن حقيقة الأمر أن ارتباط ابن باديس بالعمل السياسي لا يعود إلى عام 1936م كما هو واضح مما سبق ومواقفه السياسية التي عبَّر عنها في منشوراته الصحفية لم تشغله عن أعماله التربوية والتعليمية. وشارك في المؤتمر الإسلامي الجزائري لأنه رأى فيه إجماعاً للجزائريين ورافق الوفد الجزائري إلى باريس لتقديم مطالبه مباشرة للسلطة العليا الفرنسية بعد فشل كل المحاولات السابقة مع ممثليها في الجزائر.

حاربت فرنسا جمعية العلماء ووضعت في مسيرتها الدعوية كل العقبات. ففي 16 فبراير 1933م نشر والي العاصمة بياناً هاجم فيه جمعية العلماء واتهمها بالعمالة للجامعة الإسلامية. وبعد يومين أصدر قراراً بمنع العلماء من التدريس والإرشاد في المساجد دون رخصة من السلطة الفرنسية. وبلغ الصراع أوجه في عام 1938م، إذ أصدر وزير الداخلية الفرنسي قانون 20 يناير للتضييق على نشاطات الجمعيات والنوادي الثقافية والرياضية التابعة لجمعية العلماء، وبقرار 8 مارس الصادر من الوزير نفسه، أغلقت مدارس حرة عدة، واعتقل كثير من العلماء بذريعة عدم امتلاك الرخصة.(12)



وفاته و آثاره



توفي ابن باديس في 8 ربيع الأول 1359ه 16 أبريل 1940م، وحضر جنازته نحو 50 ألف شخص، رغم كل العراقيل التي وضعتها سلطة الاحتلال. وقد صرح مصالي الحاج رئيس حزب الشعب الجزائري ورائد الحركة السياسية الجزائرية "أن وفاة هذا الزعيم الروحي تعتبر أكبر كارثة لا على الإسلام وحده، بل على الحزب الوطني أيضاً"(13) واتهمت إذاعة برلين التي كان ينشط فيها كثير من أتباع الأمير شكيب أرسلان، والمفتي أمين الحسيني، السلطة الفرنسية باغتيال الإمام ابن باديس بالسم. وهذا أمر وارد وإن كان يحتاج إلى أدلة قاطعة للتسليم به.

حقق الإمام عبد الحميد بن باديس كتاب "العواصم من القواصم" للإمام أبي بكر بن العربي وطبعه على نفقته الخاصة. ولم يؤلف في حياته كتباً وإنما قام تلميذه محمد الصالح رمضان من بعده بجمع تفسيره وشرحه للحديث النبوي ودروسه في العقيدة، وتاريخه للصحابة تحت هذه العناوين مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، مجالس التذكير من حديث البشير النذير، العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، رجال السلف ونساؤه. وفي عام 1968م، جمع الدكتور عمار الطالبي جزءاً كبيراً من آثار الشيخ ابن باديس ونشرها في الجزائر في أربعة أجزاء. و قد اعترف في مقدمة الجزء الأول من الكتاب أنه لم يعثر إلا على جزء من أعمال ابن باديس. صار من المعلوم لدى المؤرخين أنه لم يؤلف كتباً وآثاره التي لم تحقق بعد هي في معظمها مقالات كتبها في مختلف جرائد جمعية العلماء والدروس والمحاضرات التي ألقاها في المساجد والمناسبات الدينية في الجزائر وخارجها.

نجحت دعوة ابن باديس رغم كل المثبطات والعقبات، في إحياء الإسلام في الجزائر، ونشر اللغة العربية وغرس الروح الوطنية وزرع بذور ثورة التحرير التي أنبتت استقلالاً في يوليو 1962م، وصدق الشيخ محمد البشير الإبراهيمي حين كتب في جريدة البصائر "يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، وتبقى معانيهم الحية في الأرض، قوة تحرك، ورابطة تجمع ونوراً يهدي، وعطراً ينعش".


************************************************** ********************************************


الشيخ عبد الحميد بن باديس

بقلم/ سحر عبده

"ما رأينا التاريخ يسجل بين دفتي حوادثه خيبة للمجاهد، إنما رأيناه يسجل خيبة المستجدي"...الحرية لا تُعطى ولا تُوهب، بل سجل التاريخ أنها تُؤخذ وتُنتزع".
نادى بذلك شيخنا ابن باديس: فقال: "قلِّب صفحات التاريخ العالمي، وانظر في ذلك السجل الأمين هل تجد أمة غُلبت على أمرها، ونُكبت بالاحتلال، ورزئت في الاستقلال، ثم نالت حريتها منحة من الغاصب، وتنازلاً من المستبد، ومنة من المستعبد؟! اللهم كلا… فما عهدنا الحرية تُعطى إنما عهدنا الحرية تُؤخذ.. وما عهدنا الاستقلال يُمنح ويُوهب، إنما علمنا الاستقلال ينال بالجهاد والاستماتة والتضحية".
ولد ابن باديس بمدينة قسطنطينة عاصمة الشرق الجزائري في ربيع الثاني من سنة 1307هـ الموافق ليلة الجمعة 4 ديسمبر عام 1889م ... والده هو السيد محمد المصطفى بن مكي بن باديس كان حافظًا للقرآن الكريم، ويشتغل بالتجارة والفلاحة، يعد من أعيان مدينة قسطنطينة وسراة أهلها، عُرف بدفاعه عن حقوق المسلمين في الجزائر وتوفى سنة 1951...أما أمه فهي السيدة زهيرة بنت علي بن جلول من أسرة اشتُهرت بالعلم والتدين.

نشأة أصيلة

نشأ الإمام ابن باديس في أحضان تلك الأسرة العريقة في العلم والجاه، وكان والده بارًا به، فحرص على أن يربيه تربية إسلامية خاصة؛ فلم يُدخله المدارس الفرنسية كبقية أبناء العائلات المشهورة، بل أرسل به إلى الشيخ المقرئ محمد بن المدَّاسي فحفظ عليه القرآن وتجويده وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة! فنشأ منذ صباه في رحاب القرآن فشب على حبه والتخلُّق بأخلاقه. وفي جامع الزيتونة أخذ ابن باديس العلم من المبرزين من الأساتذة والشيوخ الذين كان لهم بالغ الأثر في تكوينه الفكري واتجاهه الإصلاحي، نذكر منهم:
- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: الذي لازمه فأخذ عنه الأدب العربي وديوان الحماسة لأبي تمام.
- الشيخ محمد النخلي القيرواني: هو العالم الجليل أستاذ التفسير في جامع الزيتونة. يقول عنه ابن باديس: "ذاكرت يومًا الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق من أساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية، فقال لي: "اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة وهذه الأقوال المختلفة وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح .. فو الله لقد فتح الله بهذه الكلمات القليلة لذهني آفاقًا واسعة لا عهد له بها ".
- الشيخ البشير صفر: الذي يعتبر من أبرز علماء تونس ومن القلائل الذين جمعوا بين التعليم العربي الإسلامي والتعليم الغربي مع إتقانه لعدة لغات حية، يقول عنه ابن باديس "إن كراريس البشير هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي وقومي، والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جنديًا من جنود الجزائر".
كما تأثر ابن باديس بالأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا في جوانب من منهجه؛ خاصة استقلاليته في التفكير، وأسلوبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبُعده عن الوظائف.
ومن الأحداث التي أثرت في توجهه ومستقبل عمله التقاؤه بالشيخ أحمد الهندي بالمدينة المنورة، وكان ابن باديس قد عزم على الاستقرار بها، فنصحه الشيخ أحمد الهندي بالعودة إلى الجزائر وخدمة الإسلام والعربية فيها بقدر الجهد. فحقق الله أمنية ذلك الشيخ بعودة ابن باديس إلى وطنه وتفانيه في خدمة الدين واللغة.

نبني على الماء ما لم نعد الأبناء

لم تنقطع نداءات ابن باديس لجمع الطاقات وتوحيد الصفوف وتكاتف الجهود معتمدًا في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) اللذين هما الأساس لكل نهضة تتطلع لها الأمة وفي هذا يقول: "إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة، ولدفع المضرة متساندة في العمل فكرة وعزيمة" فانسابت أشعة الفجر الجديد من تلك النداءات المباركة فأيقظت الأصوات بعد سكوتها، وحركت الهمم بعد سكونها.
ويصف لنا الأستاذ مالك بن نبي (رحمه الله) تلك اليقظة: "لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك، ويالها من يقظة جميلة مباركة".
ومفهوم الإصلاح عند ابن باديس هو: "إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من فساد".
إن ابن باديس عند وضعه لمناهج التعليم لم يكن مذهبه مثاليًا مبنيًا على تصورات نظرية، بل كان مذهبه واقعيًا أملته متطلبات العصر وأولويات المجتمع ومعتقداته.
ويرى ابن باديس ضرورة إعداد المناهج المناسبة لتنشئة أجيال المستقبل وتربيتها التربية الصالحة موضحًا ذلك بقوله: "إن أبناءنا هم رجال المستقبل وإهمالهم قضاء على الأمة إذ يسوسها أمثالهم، ويحكم في مصائرها أشباههم.. ونحن ينبغي منا أن نربي أبناءنا كما علمنا الإسلام، فإن قصرنا فلا نلومنَّ إلا أنفسنا، ولنكن واثقين أننا نبني على الماء ما لم نعد الأبناء بعدة الخلق الفاضل، والأدب الديني الصحيح".
وكان ابن باديس رحمه الله يحرص على الكيف أكثر من حرصه على الكم، يرى التركيز على الفهم وإعمال الذهن وتشغيل قوى المخيلة أكثر من شحن الذاكرة.
أولى ابن باديس تعليم المرأة المسلمة اهتمامًا كبيرًا، مدركًا الخطر المحدق بالأمة إذا تُركت المرأة بغير تعليم، لقد نادى الشيخ ابن باديس بضرورة تعليم البنات وتوفير المكان المناسب لهن دون الاختلاط بالذكور، معطيًا بذلك روحًا جديدًا للتعليم في الجزائر لم تكن معهودة فيها من قبل: "ذلك لأن المجتمع لا ينهض إلا بالجنسين الرجل والمرأة مثل الطائر لا يطير إلا بجناحيه".
ويركز ابن باديس على إعداد المرأة المسلمة للقيام بوظيفة تربية الأجيال: فيشير إلى ذلك بقوله: "إذا أردنا أن نكوِّن رجالاً، فعلينا أن نكوِّن أمهات دينيات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعليم البنات تعليمًا دينيًا، وتربيتهن تربية إسلامية، وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يكوِّنَّ لنا عظماء الرجال.. وشر من تركهن جاهلات بالدين، إلقاؤهن حيث يربين تربية تنفرهن من الدين أو تحقره في أعينهن؛ فيصبحن ممسوخات لا يلدن إلا مثلهن".
وقد أسس ابن باديس عدة مدارس ومعاهد لنشر فكره، كما أسس أيضًا: "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" سنة 1931 كان ابن باديس رئيسًا لها، وعن أهدافها يقول ابن باديس: "إن الجمعية يجب ألا تكون إلا جمعية هداية وإرشاد لترقية الشعب من وهدة الجهل والسقوط الأخلاقي إلى أوج العلم ومكارم الأخلاق في نطاق دينها الذهبي وبهداية نبيها الأمي".
وقد استعان ابن باديس ورفاقه بأدوات العصر لنشر دعوتهم فإلى جانب الدروس والمحاضرات والخطب اتخذوا من الصحافة منبرًا آخر لبيان المفاهيم الإسلامية الصحيحة؛ فقد شارك ابن باديس في تأسيس جريدة "النجاح" ثم اقتحم ابن باديس ميدان الصحافة -بنفس العزم والجد الذي عرف به- بجريدة "المنتقد" مفتتحًا عددها الأول بقوله "بسم الله ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظم المسئولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون" ثم خلفت "المنتقد" "الشهاب" ثم أُسست جريدة "الإصلاح".

الزاهد الصارم

- التواضع والتقشف: اشتهر رحمه الله بالزهد والانصراف عن متاع الدنيا ورغم أن عائلته كانت من سراة قومه إلا أنه في شخصه كان متقشفًا مخشوشنًا متواضعًا تواضع العلماء العارفين.
يروى أنه خرج من مقصورته بجامع "سيدي قمرش" بقسطنطينة ذات يوم فطلب من أحد أصدقائه أن يبحث له عمن يشتري له نصف لتر من اللبن وأعطاه آنية، فرآها ذلك الصديق فرصة لإكرام الشيخ، فذهب بنفسه إلى الشَّوَّاء واشترى له صحنًا من اللحم المختار، وعاد إلى الشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولما قدمها إليه استشاط غضبًا، وقال له في لهجة شديدة صارمة: "ألا تعلم أنني ابن مصطفى بن باديس، وأن أنواعًا مختلفة من الطعام اللذيذ تُعد كل يوم في بيته ولو أردت التمتع بالطعام لفعلت، ولكن ضميري لا يسمح لي بذلك، وطلبتي يستفون الخبز بالزيت وقد يأكله بعضهم بالماء".
- الحلم والتسامح: يروى أن إحدى الجماعات الصوفية المنحرفة التي ضاقت ذرعًا بمواقف ابن باديس أوعزت-بتنسيق مع سلطات الاحتلال- إلى نفر من أتباعها باغتيال الشيخ عبد الحميد ظنًا منها أن في اغتياله قضاءً على دعوته، غير أن الغادر الذي همَّ بهذه الجريمة لم يُفلح في تنفيذها، ووقع في قبضة أعوان الشيخ، وكانوا قادرين على الفتك به إلا أن أخلاق الإمام العالية جعلته يعفو، وينهى أصحابه عن الفتك به متمثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
- الشجاعة في الحق: لئن كان الشيخ ابن باديس في كثير من مواقفه لينًا من غير ضعف فهو في الحق صارم.. وحين تخور العزائم فهو شجاع شجاعة من لا يخاف في الله لومة لائم، ولا غطرسة ظالم متجبر.
تجسد ذلك في مواقف عدة منها: موقفه مع وزير الحربية الفرنسي "دلادييه" أثناء ذهاب وفد المؤتمر الإسلامي إلى باريس في 18 يوليو 1936؛ حيث هدد الوزير الفرنسي الوفد الجزائري وذكرهم بقوة فرنسا وبمدافعها بعيدة المدى قائلاً: "إن لدى فرنسا مدافع طويلة"، فرد عليه ابن باديس: "إن لدينا مدافع أطول فتساءل "دلادييه" عن أمر هذه المدافع؟ فأجابه ابن باديس: "إنها مدافع الله".
- الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق: "سُئل - رحمه الله - مرة عن مسألة فقهية فأفتى فيها بغير المشهور، ولما تبين له الصواب رجع إليه ونبه على ذلك الخطأ وأورد الصواب في مجلة "الشهاب"، وقد كان يكفيه أن يوضح تلك المسألة للسائل فحسب، لكنه علل صنيعه قائلاً: "أردت أن تكون لكم درسًا في الرجوع إلى الحق".
- حسن استغلاله للوقت: كان مدركًا قيمة الوقت وضرورة استغلاله والاستفادة من لحظاته، وتظهر نظرته واضحة في تفسيره لقوله تعالى: " أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْر ِإِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" [الإسراء آية 78]، فيقول: في ربط الصلاة بالأوقات تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات ونجعل لكل عمل وقته، وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته وتطرد أعماله ويسهل عليه القيام بالكثير منها، أما إذا ترك أعماله مهملة غير مرتبطة بوقت فإنه لابد أن يضطرب عليه أمره ويشوش باله، ولا يأتي إلا بالعمل القليل ويحرم لذة العمل وإذا حرم لذة العمل أصابه الكسل والضجر فقل سعيه، وما كان يأتي به من عمل على قلته وتشوشه بعيدًا عن أي إتقان".
ومن أقواله أيضًا "عمر الإنسان أنفس كنز يملكه ولحظاته محسوبة عليه وكل لحظة تمر معمورة بعمل مفيد فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها، فالرشيد هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين فعمَّر وقته بالأعمال، والسفيه من أساء التصرف فيه فأخلى وقته من العمل". بهذه النظرة الصائبة للوقت نجح ابن باديس في استغلاله أحسن استغلال فكان يلقى من الدروس في اليوم الواحد ما يعجز عنه غيره.
يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر ويظل طيلة نهاره يعلم طلبته الدين وعلوم العربية ولا يقطع دروسه إلا لصلاة الظهر ولتناول الغداء ثم يستمر إلى ما بعد العشاء!!
وكان رحمه الله مع أخذه بكل ما يستطيع من الأسباب في تأدية رسالته يلتجئ إلى الله بثقة لا توهب إلا لأولى العزم من الرجال.. ففي إحدى ساعات الشدة والعسرة قال لأحد طلبته: "يا بني! إن جميع الأبواب يمكن أن تغلق أمامنا ولكن بابًا واحدًا لن يغلق أبدًا، هو باب السماء".
وفي مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359هـ الموافق 16 أبريل 1940م أسلم ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها متأثرًا بمرضه بعد أن أوفى بعهده وقضى حياته في سبيل الإسلام ولغة الإسلام، وقد دُفن رحمه الله في مقبرة آل باديس بقسطنطينة بعد حياة أوفى فيها بعهده: "إني أعاهدكم على أن أقضي بياضي على العربية والإسلام كما قضيت سوادي عليهما وإنها لواجبات.. وإنني سأقضي حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن وهذا عهدي لكم" من آثار ابن باديس العلمية
من آثار ابن باديس العلمية

جُمع كثير من آثاره العلمية بعد وفاته نذكر منها:

1 - تفسير ابن باديس: جمع في كتاب تحت عنوان "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير".

2 - مجالس التذكير من حديث البشير النذير.

3 -العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

4 - كتاب "رجال السلف ونساؤه.

5 - حقق ابن باديس كتاب "العواصم من القواصم" للإمام ابن العربي.



************************************************** ********************************************

عبد الحميد بن باديس (الإمام المجاهد)

[09/09/2003]










• "عبد الحميد بن باديس" في سطور.

• توطئة.

• المولد والنشأة.

• الرحلة في طلب العلم.

• الرحلة إلى الحجاز.

• جهوده الإصلاحية في التربية والتعليم.

• جمعية التربية والتعليم الإسلامية.

• جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

• "ابن باديس" والصحافة.

• "ابن باديس" والسياسة.

• وفاة "ابن باديس".

• آثار "ابن باديس".

• أهم المراجع.



• "عبد الحميد بن باديس" في سطور:
- ولد في مدينة قسطنطينة بالجزائر سنة 1307هـ = 1889م.
- تلقى تعليمه في بلده بعد أن حفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة.
- رحل إلى تونس سنة (1326هـ = 1908م) والتحق بجامع الزيتونة.
- حصل على الشهادة العالمية بعد أربع سنوات، ثم سافر لأداء فريضة الحج، والتقى هناك ببعض العلماء، كما زار في طريق العودة مصر وسورية.
- بعد عودته إلى الجزائر ألقى دروسًا في التفسير وغيرها من المدن الكبرى هناك.
- أنشأ جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أسهمت في بناء المدارس التي عنيت بالثقافة العربية.
- تولي رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أدت دورًا عظيمًا في إيقاظ الأمة ونشر الثقافة العربية الإسلامية، ووقفت ضد الاحتلال الفرنسي وأذنابه.
- توفي ابن باديس بعد حياة غير طويلة سنة 1359هـ = 1940م.

• توطئة:
عبد الحميد بن باديس




"إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد...، في لغتها، وفي أخلاقها، وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج ولها وطن معين هو الوطن الجزائري".
بهذا الكلام النفيس عبر "ابن باديس" عن موقف الأمة التي ينتمي إليها ضد المحتل الفرنسي، الذي سعى إلى طمس هوية الأمة، ومحاربة ثقافتها بلا هوادة وبكل وسيلة ممكنة، وتجريد الشعب الجزائري من شخصيته العربية الإسلامية، ودمجه قهرًا في البوتقة الفرنسية، وهدم عقيدة الأمة وقتل روح الجهاد فيها، وتجفيف منابع الثقافة الإسلامية بإغلاق المساجد والزوايا والكتاتيب، وحرق المكتبات، ومصادرة الأوقاف الإسلامية التي كان التعليم يعتمد عليها، ومحاربة اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها لتكون لغة التعليم والثقافة.
كان الاحتلال الفرنسي شديد الوطأة، غايةً في التعصب والتطرف، ولولا أن في الجزائر بقيةً من إيمان وإصرار لنجح المحتل الغاصب فيما سعى من أجله، لقد دافعت الأمة بكل ما تملك وبما توافر لديها من إمكانات عن وجودها، وقاد العلماء الجزائريون حركة المقاومة والنهوض بالحياة الفكرية والدينية، وأشعلوا جذوة الحمية والحماسة في صدور الجزائريين، وكان الشيخ "عبد الحميد بن باديس" أبرز هؤلاء العلماء المُصلحين.

• المولد والنشأة:
استقبلت مدينة قسطنطينة- عاصمة الشرق الجزائري- مولد "عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس" في (11من ربيع الآخر 1307هـ = 4 من ديسمبر 1889م)، ونشأ في أسرة كريمة ذات عراقة وثراء ودين، فأبوه كان حافظًا للقرآن، ويُعد من أعيان المدينة، وعُرف بدفاعه عن حقوق المسلمين في الجزائر، وينتمي إلى أسرة مشهورة في الشمال الإفريقي تنحدر من العائلة الصنهاجية التي سطعت في القرن الرابع الهجري، واشتهر من رجالها "المعز بن باديس" (398-454هـ = 1008- 1062م)، الذي انفصل بالدولة الصنهاجية عن الدولة الفاطمية، وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة.

وفي هذا الجو المعطر بعبق التاريخ والدين حرص الوالد على تربية ابنه "عبد الحميد" تربيةً إسلاميةً خالصةً، فلم يدخله المدارس الفرنسية مثلما تفعل العائلات الكبيرة، بل أرسله إلى من يقوم بتحفيظه القرآن وتجويده، فأتمَّ ذلك وهو في الثالثة عشرة من عمره، ثم انتقل إلى العالم الكبير "حمدان الونيسي" بجامع سيدي محمد النجار، وتلقى منه العلوم العربية والإسلامية، واستطاع هذا العالم الجليل أن ينفذ إلى نفس تلميذه، ويطبع حياته العملية بطابع روحي وأخلاقي لم يفارقه طوال حياته.

• الرحلة في طلب العلم:


المسجد النبوي الشريف


وبعد هجرة الشيخ "حمدان الونيسي" إلى المدينة المنورة سنة (1326هـ = 1908م) أراد "ابن باديس" أن يلحق به هناك، لكن والده منعه من ذلك لصغر سنه، وبعث به إلى تونس لاستكمال دراسته في جامع الزيتونة، وكانت منارة العلم في الشمال الإفريقي، وتلقى العلم في الزيتونة على جماعة من كبار العلماء البارزين، فلازم العلامة "محمد الطاهر بن عاشور"، وأخذ عنه الأدب وقرأ عليه ديوان الحماسة، وكان له تأثير كبير عليه عبر عنه "ابن باديس" بقوله: "بث فيّ روحًا جديدة في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت مني الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها، كما أعتز بالإسلام".

وحضر دروس التفسير التي كان يلقيها الشيخ "محمد النخلي القيرواني"، وكانت دروسه تُحيي القلوب وتبث فيها الحياة، فالقرآن عنده كتاب حياة وكتاب نهضة ومدنية وعمران، وهدايةً للسعادة في الدنيا والآخرة، وسمع دروس التاريخ من الشيخ "البشير صعز"، وهو من العلماء التونسيين القلائل الذين جمعوا بين التعليم العربي والتعليم الغربي، مع إتقانه عدة لغات حية.
وقضي "ابن باديس" في جامع الزيتونة أربع سنوات ينهل من العلم، ويجدّ في تحصيل العلم، ويلازم الشيوخ والأئمة حتى أجيز بالتدريس، ومكث بعد تخرجه سنةً أخرى للتدريس بالجامع، ثم عاد إلى الجزائر، وكله عزم على بعث نهضة علمية جديدة، فألقى دروسه في الجامع الكبير بقسطنطينة وفي الجامع الأخضر، وعاد بالناس المحرومين إلى رياض القرآن الوارفة الظلال.

• الرحلة إلى الحجاز:
لم يمكث "ابن باديس" طويلاً بعد عودته من تونس، واتجه شطر الحجاز سنة (1332هـ = 1913م) لأداء فريضة الحج، وهناك التقى بشيخه "حمدان الونيسي"، وأقام بالمدينة المنورة، واشتغل بتدريس الحديث، كما التقى بالشيخ "حسين أحمد المدني" عالم الهند الكبير، وتتلمذ عليه، ونصحه نصيحةً غاليةً بالعودة إلى الجزائر وخدمة الإسلام فيها، واستثمار علمه في الإصلاح، فلا خير في علم ليس بعده عمل، وكان شيخه "الونيسي" قد أشار عليه بالإقامة في المدينة، وقطع كل علاقة له بوطنه، وكان الخير كله في نصيحة شيخه "حسين المدني"، كما التقى في المدينة المنورة بالشيخ "البشير الإبراهيمي" رفيق دربه في الذَّود عن الإسلام واللغة العربية في الجزائر.

وقد ألقى "ابن باديس" خلال الأشهر الثلاثة التي قضاها هناك دروسًا في المسجد النبوي، وفي طريق العودة زار سورية ومصر التي التقى فيها بالعالم الكبير "محمد نجيب المطيعي" والشيخ "أبو الفضل الجيزاوي".

• جهود "ابن باديس" الإصلاحية في التربية والتعليم:
بعد عودة "ابن باديس" من رحلة الحج استأنف ما كان قد بدأه من قبل، فألقى دروسه في تفسير القرآن بالجامع الأخضر، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثه العذب، وعرضه الجذاب، ونظراته الدقيقة، وفكره المتّقد، واتخذ "ابن باديس" من هذا المسجد مدرسةً لتكوين القادة وإعداد النخبة التي حملت مشعل الإصلاح، وأخذت بيد الأمة إلى الطريق المستقيم، وكان يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر، ويقضي نهاره معلمًا الأطفال الدينَ وعلوم العربية حتى بعد صلاة العشاء، ثم يستأنف دروسَه في تفسير القرآن الكريم من التاسعة مساءً حتَّى منتصف الليل للكبار، وداعيًا إياهم إلى الالتزام بالدين وتغيير ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم.

وقاوم "ابن باديس" بعض أصحاب الطرق الصوفية في الجزائر الذين اتخذهم الاستعمار الفرنسي وسيلةً للسيطرة على عقول الشعب الجزائري، ووصفهم بأنهم ابتدعوا أعمالاً وعقائد من عند أنفسهم، معتقدين أنهم يتقربون بها إلى الله، وكان أدعياء التصوف في الجزائر يصرفون الناس عن العمل ويحببون إليهم التواكل، وينكرون عليهم حرية الإرادة، ومن ثمَّ حرص "ابن باديس" في دروسه ومقالاته على أن يبعث في النفوس أن الله وهبها العقل المميز والإرادة الحرة.

وقد امتد نشاطه إلى العاصمة ووهران وتلمسان، التي كان يفد إليها كل أسبوع مرةً لإلقاء دروسه في التفسير، وظل "ابن باديس" يفسر القرآن في حلقات متصلة حتى انتهى منه بعد خمس وعشرين سنة، واحتفلت الجزائر بختمه احتفالاً قوميًا في قسطنطينة في (13 من ربيع الآخر 1357هـ = 12 من يونيو 1938م).

وبعد عدة سنوات من نشاط "ابن باديس" التعليمي، تمكَّن من إنشاء مكتب كان نواةً للتعليم الابتدائي فوق مسجد سيدي بومعزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة (1336هـ = 1917م)، ثم تطوَّر هذا المكتب إلى مدرسةٍ عصريةٍ كبيرةٍ تتسع لأعداد كبيرة من الأطفال.

• جمعية التربية والتعليم الإسلامية:
وفي سنة (1349هـ =1931م) أسس جمعية التربية والتعليم الإسلامية؛ بهدف نشر الأخلاق الفاضلة والمعارف الدينية والعربية، والصنائع والحرف اليدوية، واستعان في سبيل تحقيق ذلك بإنشاء مدرسة للتعليم وملجأٍ للأيتام، ونادٍ للمحاضرات، ومصنع لتعليم الحرف، وكانت الجمعية ترسل النابغين من طلابها الذين واصلوا التعليم لاستكمال دراستهم في بعض جامعات الدول الإسلامية، واعتمدت الجمعية في أنشطتها على تبرُّعات المحسنين ومصروفات القادرين من الطلاب.

وقد جمعت مدارس الجمعية بين التربية الإسلامية التي تحافظ على دينهم ولغتهم، وبين تثقيفهم بالثقافتين العربية والفرنسية وتعليمهم الحِرف، ولما كان "ابن باديس" واعيًا لضرورة تعليم المرأة وأهمية وظيفتها في المجتمع فقد نص قانون جمعية التربية على أن تُعفى البنات من مصروفات التعليم، ويتعلَّمن بالمجَّان، أما البَنون فلا يُعفى منهم إلا غير القادرين.

ولم يكتف "ابن باديس" بجهده التعليمي، بل أنشأ لجنةً من أعضاء جمعية التربية والتعليم تُعنى بالطلبة، وتساعد المحتاجين منهم من الصندوق المالي المخصص لهذه المهمة، وكان يموَّل من تبرعات الأسخياء والمحسنين الذين شجعتهم أعمال الشيخ وجهوده التعليمية على التبرع لرعاية الطلاب.

• جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:
مرّ قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر، فاحتفل الفرنسيون سنة (1349هـ = 1930م) بهذه المناسبة، وكان هذا استفزازًا كريهًا للأمة، وإظهارًا لروح صليبية بغيضة، وأدَّى هذا إلى شحذ همة علماء المسلمين في الجزائر، وإشعال الحمية في قلوبهم، وإثارة الغيرة على الدين والوطن السليب، فدعوا إلى قيام جمعية تحشد القوى والطاقات كلها تحت راية واحدة؛ لمواجهة الأخطار التي تحدق بالأمة، وفي الوقت نفسه كان الجو مهيأً لقيام هذه الجمعية، بعد ازدياد الأصوات المطالِبة بالإصلاح، ونموّ الوعي الديني لدى الناس، ونجاح المدارس التي أنشأها "ابن باديس".

وأثْمرت هذه العوامل عن ظهور جمعية العلماء المسلمين في سنة (1350هـ = 1931م)، وجعلت شعارها "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وانتخب العلماء الشيخ "عبد الحميد بن باديس" رئيسًا للجمعية، وأدركت الجمعية أهمية التربية والتعليم في تحقيق أهدافها والمحافظة على كيان الأمة في مواجهة جهود مستميتة من المستعمر الفرنسي للقضاء على الهوية الإسلامية؛ ولهذا اهتمت بإنشاء المدارس التي تُعنى بالمناهج العربية الإسلامية، وحثت الأمة على إرسال أبنائها إلى مدارسها؛ بهدف تعليم أكبر عدد ممكن من أبناء الأمة تعليمًا صحيحًا.
ووجهت عنايتها إلى التعليم في المساجد، فكما لا مسجد دون صلاة، فكذلك لا مسجد دون تعليم؛ ولذا وضعت الجمعية برامج واسعةً لنشر التعليم الديني والثقافة العربية للصغار والمبتدئين، واستكمال ثقافة من درسوا باللسان الفرنسي، كما عنيت بإرسال الوعاظ إلى القرى لنشر الوعي الإسلامي بينهم.

وقد حرصت الجمعية على وحدة نسيج الأمة الجزائرية، فوقفت ضد دعاة التجنُّس، وهم فئة من الجزائريين تربت في مدارس الاستعمار، تدعو إلى التجنس بالجنسية الفرنسية، والتخلي عن أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية؛ بغية الحصول على بعض الحقوق السياسية، ولما ارتفعت أصوات هؤلاء مطالبين الحكومة بتسهيل التجنس أصدرت جمعية العلماء على لسان رئيسها الفتوى الشهيرة بتكفير من يتجنَّس بالجنسية الفرنسية، ويتخلَّى عن أحكام الشريعة، وكان لهذه الفتوى صداها، فسدَّت بابًا للفتنة في المجتمع الجزائري.

وقد حققت الجمعية رغم مضايقات الاحتلال نجاحًا كبيرًا في تصحيح عقائد الجزائريين وتطهيرها من شوائب الشرك، والرجوع بهم إلى منابع الإسلام الأصيلة، وتظهر أهمية ما قام به "ابن باديس" وإخوانه من العلماء الغيورين في مجال التربية والتعليم إذا علمنا أن فرنسا سعت منذ أن احتُلت الجزائر إلى القضاء على منابع الثقافة الإسلامية بها، فأغلقت نحوًا من ألف مدرسة ابتدائية وثانوية وعالية، كانت تضم نحو مائة وخمسين ألف طالب، ووضعت قيودًا على فتح المدارس، وقصرتها على تحفيظ القرآن فقط، مع عدم التعرض لتفسير آيات القرآن، وخاصة الآيات التي تدعو إلى التحرُّر، ومقاومة الظلم والاستبداد، ومنعت تدريس تاريخ الجزائر والتاريخ العربي الإسلامي، والأدب العربي.

• "ابن باديس" والصحافة:
أدرك "ابن باديس" أهمية الصحافة باعتبارها من أهم الوسائل لنشر أفكاره الإصلاحية بين قطاعات الشعب المختلفة، فأصدر جريدة المنتقد سنة (1345هـ = 1925م) ورأس تحريرها، لكن المحتل عطلها، فأصدر جريدة الشهاب في السنة نفسها، وعمد "ابن باديس" إلى استغلالها في توسيع دائرة نشاطه التعليمي، ليشمل أكبر عدد ممكن من الناس، فخصص افتتاحياتها لنشر مختارات من دروسه في التفسير والحديث، تحت عنوان: "مجالس التذكير"، واستمرت الشهاب في الصدور حتى سنة (1358هـ = 1939م)، كما اشترك في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل "السنة" و"الصراط" و"البصائر".

• "ابن باديس" والسياسة:
خاض "ابن باديس" المعترك السياسي- على الرغم من انشغاله بالتربية والتعليم-، وبذل جهودًا مُضنيةً من أجل الارتفاع بشأنهما، وكان شجاعًا رابط الجأش يجهر بالحق متى علمه واستيقنه، لا يهاب أن يعلن رأيه وإن أغضب المحتلين أصحاب الحول والقوة في الجزائر، فجاهر بعدم شرعية الاحتلال الفرنسي وأنه استبدادي غير إنساني، يتناقض حتى مع ما تزعمه فرنسا من أن الجزائر فرنسية.

ودعا إلى عقد مؤتمر إسلامي في الجزائر سنة (1355هـ = 1936م)؛ للحيلولة دون تنفيذ مؤامرة إدماج الشعب الجزائري المسلم في الأمة الفرنسية المسيحية، التي كان ينادي بها بعض نواب الأمة الجزائريين، ورجال السياسة الموالين لفرنسا، ونجح "ابن باديس" ورفاقه في القضاء على هذه الفكرة الخبيثة، وإفشال فكرة الاندماج مع فرنسا التي خُدع بها بعض الجزائريين.
ولما لاحت نُذر الحرب العالمية الثانية سعت فرنسا إلى كسب تأييد مختلف القطاعات السياسية في الجزائر، فأبدى الخاضعون لسلطانها تأييدهم، ولما عرض هذا الأمر على جمعية العلماء المسلمين رفضته بأغلبية أصواتها، وقال "ابن باديس" كلمته الشهيرة: "لو كانت الأغلبية في جانب موالاة فرنسا لاستقلْت من رئاسة جمعية العلماء"، وأنه لن يوقّع على البرقية ولو قطعوا رأسه.

• وفاة "ابن باديس":
نجحت دعوة "ابن باديس" في إحياء الروح العربية الإسلامية في الجزائر، وفجرت طاقات الجهاد في النفوس ونبَّهت الغافلين، وتجمَّعت لديه خصائص فكرية ونفسية مكَّنته من القيام بجلائل الأعمال، فكان متضلعًا في علوم التفسير والحديث والفقه، مُلمًا بمشكلات مجتمعه، عارفًا بما يُصلحه، مؤثرًا في غيره، سمحًا متواضعًا، شجاعًا صارمًا في الحق، وقد أثمرت دعوته ثمارها فتحررت الجزائر من بين براثن الاحتلال الفرنسي، وإن ظلت حتى الآن تعاني من آثاره.

وفي أيامه الأخيرة مرض مرضًا شديدًا فوافته المنية، في (8 من ربيع الأول 1359هـ = 1940م) عن واحد وخمسين عامًا.

• آثار "ابن باديس":
انشغل "ابن باديس" ببناء الإنسان وإنقاذ الأجيال التي ولدت في أحضان الاستعمار عن تأليف الكتب، ومعظم إنتاجه الفكري مقالات ودروس ألقاها في المساجد والمدارس، سلُم لنا بعضها وفُقد معظمها الآخر، وقد جُمع كثير من آثاره بعد وفاته، منها:
- تفسير "ابن باديس"، نشره الأستاذان "محمد الصالح" و"توفيق محمد"، نقلاً عن مقالاته، وطُبع سنة 1948م.
- مجالس التذكير من حديث البشير النذير، طبعته وزارة الشئون الدينية بالجزائر (1403هـ= 1983م).
- العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
- رجال السلف ونساؤه، وهي مجموعة من المقالات ترجم فيها "ابن باديس" لبعض الصحابة، وقد جمع "عمار الطالبي" معظم آثار "ابن باديس" ونشرها في الجزائر في أربعة مجلدات سنة (1388هـ = 1968م).

• أهم المراجع:
- أنور الجندي – الفكر والثقافة المعاصرة في شمال أفريقيا – الدار القومية للطباعة والنشر – القاهرة – 1385هـ = 1965م.
- عمار الطالبي – ابن باديس حياته وآثاره – الجزائر – 1388 هـ = 1968م.
- محمد فتحيي عثمان – عبد الحميد بن باديس: رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة – دار القلم – الكويت 1987م
- محمود قاسم – الإمام عبد الحميد بن باديس: الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية – دار المعارف – القاهرة 1979م
- مصطفى محمد حميداتو – عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية – كتاب الأمة– الدوحة 1418هـ
- نبيل أحمد بلاسي – الاتجاه العربي والإسلامي ودوره في تحرير الجزائر – الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1990م
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية أبو حيدر
أبو حيدر
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 08-01-2007
  • الدولة : الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية
  • المشاركات : 2,603
  • معدل تقييم المستوى :

    20

  • أبو حيدر is on a distinguished road
الصورة الرمزية أبو حيدر
أبو حيدر
شروقي
رد: الإمام عبد الحميد بن باديس:رائد من رواد النهضة الجزائرية
22-06-2007, 09:15 PM
بارك الله فيك محمد
ابن باديس رحمه الله جهبذ من جهابذة العلم
وبطل من أبطال الجزائر........

إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى ** وذنبك مغفورٌ، وعِـرضُـك صَيِّنُ

لسـانُـكَ لا تـذكـر به عـورة امـرئٍ ** فـكُـلُّـكَ عـوراتٌ وللناس ألسنُ

وعـيـنـكَ إن أبـدتْ إليـكَ مـساوئاً ** فَصُنْها وقُلْ: يا عينُ للناس أعينُ

وعاشِر بمعروفٍ وسامح من اعتدى ** وفارقْ ولكن بالتي هي أحسنُ
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية أبو عبد الله
أبو عبد الله
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 13-04-2007
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 474
  • معدل تقييم المستوى :

    17

  • أبو عبد الله is on a distinguished road
الصورة الرمزية أبو عبد الله
أبو عبد الله
عضو فعال
رد: الإمام عبد الحميد بن باديس:رائد من رواد النهضة الجزائرية
22-06-2007, 09:29 PM
لا تَكُنْ وَلِيًّا لِلَّهِ فِي الْعَلانِيَةِ وَعَدُوَّهُ فِي السَّرِيرَةِ
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية عيسى ورود
عيسى ورود
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 28-02-2007
  • المشاركات : 689
  • معدل تقييم المستوى :

    18

  • عيسى ورود is on a distinguished road
الصورة الرمزية عيسى ورود
عيسى ورود
عضو متميز
رد: الإمام عبد الحميد بن باديس:رائد من رواد النهضة الجزائرية
22-06-2007, 10:04 PM
واستسمحك هذه الاضافة:

شعب الجزائر مسلم
شعب الجزائر مسلم----------والى العروبة ينتسب
من قال حاد عن اصله---------او قال مات فقد كذب
او رام ادماجا له---------------رام المحال من الطلب
يانشئ انت رجاؤنا -----------وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها------------وخض الخطوب ولا تهب
وارفع منار العدل والا---------حسان واصدم من غضب
واذق نفوسالظالمين--------السم يمزج بالرهب
واقلع جذور الخائنين --------فمنهم كله العطب
واهزز نفوس الجامدين------فربما حيي الخشب
من كان يبغي ودنا ----------فله الكرامة والرحب
او كان يبغي ذلنا------------- فله المهانة والحرب
هذا نظام حياتنا------------- بالنور خط وباللهب
حتى يعود لقومنا -----------من مجدهم ماقد ذهب
هذا لكم عهدي به ----------حتى اوسد في الترب
فاذا هلكت فصيحتي -------تحيا الجزائر والعرب

شعر/عبد الحميد بن باديس
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية bassem1231
bassem1231
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 21-03-2007
  • الدولة : الجزائر الحبيبة
  • المشاركات : 1,124
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • bassem1231 is on a distinguished road
الصورة الرمزية bassem1231
bassem1231
عضو متميز
رد: الإمام عبد الحميد بن باديس:رائد من رواد النهضة الجزائرية
23-06-2007, 08:38 AM
مشكور اخي الكريم على الافادة و بارك الله فيك
اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا و لا مبلغ علمنا
  • ملف العضو
  • معلومات
محمد عبد الكريم
مستشار
  • تاريخ التسجيل : 10-05-2007
  • المشاركات : 2,593
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • محمد عبد الكريم is on a distinguished road
محمد عبد الكريم
مستشار
  • ملف العضو
  • معلومات
محمد عبد الكريم
مستشار
  • تاريخ التسجيل : 10-05-2007
  • المشاركات : 2,593
  • معدل تقييم المستوى :

    19

  • محمد عبد الكريم is on a distinguished road
محمد عبد الكريم
مستشار
رد: الإمام عبد الحميد بن باديس:رائد من رواد النهضة الجزائرية
23-06-2007, 01:30 PM
=محمد عبد الكريم;34818]السلام عليكم
-شكرا ...للجميع، وخاصة الذين مروا من هنا
-شكرا الأخ عيسى على الاضافة....بارك الله فيك
فقط للتوضيح،انا لم أكن اقصد تكرار الموضوع،........ وانما شخصية الامام عبد الحميد بن باديس هي من أكثر الشخصيات التاريخية الجزائرية،التي أثارت الكثير من الجدل حولها ، بين المثقفين الجزائريين، فهو يعتبر بدون اي نقاش رائد من رواد الحركة الوطنية الجزائرية ان لم يكن هو "الرائد"، لكل الرواد، ولكن عرف النقاش حوله الكثير من المد والجزر بين الاخوان الذين يعتبرونه ، في صفهم،..والسلفيين الذين يعتبرونه امتدادا شرعيا لمشروعهم، والحركة العروبية الاسلامية الجزائرية الخالصة التي تعتبره الأب الروحي لها، وبعض انصار الحركة الوطنية ذات الاتجاه السياسي الثوري اليساري وحتى بعض الوطنيين ،التي لا تعترف للشيخ بكل هذه الهالة التي ينسبها له محبوه،....من هذا المنطلق آثرت، ان أعرض سيرته وقصته ،من وجهات نظر مختلفة، بطريقة تجعل الباحث،يعرف هذه الشخصية العظيمة بدقة اكثر..........................وشكرا للجميع
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية عيسى ورود
عيسى ورود
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 28-02-2007
  • المشاركات : 689
  • معدل تقييم المستوى :

    18

  • عيسى ورود is on a distinguished road
الصورة الرمزية عيسى ورود
عيسى ورود
عضو متميز
رد: الإمام عبد الحميد بن باديس:رائد من رواد النهضة الجزائرية
23-06-2007, 02:16 PM
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد عبد الكريم مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
-شكرا ...للجميع، وخاصة الذين مروا من هنا
-شكرا الأخ عيسى على الاضافة....بارك الله فيك
لا شكر على واجب أخي


www.binbadis.net/
موضوع مغلق
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع


المواضيع المتشابهه
الموضوع
أهل البدع وشمس الدين..ومصطلح الحشوية
الساعة الآن 04:29 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى