شــــــجرة الصنوبر
19-11-2019, 05:49 PM
شجرة الصنوبر
التفت نحوي قائلا "تربية الشجرة مثل تربية الولد...عناية و صبر و صدق و اوجاع حتى تحين ساعة قطاف الثمر"...
راقني هذا التشبيه العبقري وهذه المقارنة الناصعة المتسللة من شفتي الرجل.
حين تقف بين يدي هذا العملاق فليس هناك بد من أن يتحفك بحكمة أو مثل شعبي أو تجربة حياة أو مقولة فلسفية...
هذا الكهل الذي أطل على الستين سنة قد زاول دراساته في جامعة السوربون العريقة. و ليس هنا في جوف الريف...حيث ما تزال ظلال الجهل تخيم على بعض العقول.
امتهن المحاماة هناك في أوروبا. لكنه سرعان ما ترك كل شيء هناك و قفل راجعا الى تراب الوطن عندما خدش كبرياءه شاب من حركة العنصريين حين قال له :
" أنتم الأفارقة تضيقون علينا الأرزاق في بلادنا "....
" ناولني ذلك الفأس من فضلك" هتف بهدوء و هو يمرر يده التي استعمرتها عروق داكنة فوق جبينه العريض.
يده كانت قوية و خشنة تكفي لأن تسحق عمودا من الخرسانة...لقد كنت أتحرج من مصافحته لما أجده من الألم حين يضغط على يدي الناحلة.
في عيد الميلاد الفائت رمقته من سطح البيت و هو يسحب بذراع واحدة ثور جارنا رشيد عندما أوشك أن يغرق وسط البركة.
فرك شاربه الأسود الكثيف و رمى ببصره إلى قمة شجرة الصنوبر...لاحت ابتسامة مقتضبة على شفتيه. ابتسامة الرضى و النصر و الحبور...فقد أمست هذه الشجرة منتصبة تداعب كف السماء و تقارع أقوى العواصف...
هتف في حنان بالغ :" أنظر يا عماد الى جهتك اليمنى"
أرسلت بصري إلى هناك...راقني صف طويل من أشجار البلوط و السرو و الموز...كانت شامخة و تكاد أن تلثم زرقة السماء.
تحاكي صفا من الأجناد المدربين الذين ينتظرون إشارة القائد للانقضاض على العدى...
قطع علي الكهل حبل تأملاتي و بدد سلسلة أفكاري وقال:
" كانت فسائل صغيرة حين غرستها يوم الاحتفال بعيد الثورة".
أرسل الكهل قهقهة عالية و هو يلوح بقبعته الرثة نحو تلك الأشجار...انه يحبها و تحبه و يعرف رائحتها و تعرف رائحته. أخبرني يوما أنه يغرس فسيلة جديدة كلما توفي له ولد...
راعني هذا الاعتراف القاتم و الصادم معا . جسد هذا الرجل يختزن من الوجع ما لا يطيقه أقوى الرجال.
أنجبت له زوجه سبعا من البنين...لكن يد المنايا كانت لهم بالمرصاد دائما.
تخطفتهم الواحد تلو الآخر في هدوء قاتل. الأول صرعته الحمى و الثاني ابتلعته بركة الماء حينما ذهب للسباحة في يوم قائظ .
و الثالث فتك به التهاب السحايا . و الرابع و الخامس و هكذا...كانت تلك المحن تلازم هذا الرجل كأنها ظله. و كل محنة أكبر من أختها...
لكنه كان يتجلل بالصبر و لا يجد الملاذ إلا في غرس فسيلة جديدة و دفن أوجاعه و دموعه و انكساراته وسط هذه الأشجار الشاهقة...
طق طق طق طق...أمسك الفأس بيد خبيرة و راح يكسر تلك الأعواد اليابسة فوق هذا الجذع العملاق.
يتفانى بصدق في عمله الهاديء و لا ينتهي حتى تبدو الشجرة كأحسن ما تكون شبابا و خضرة و قوة و نضارة.
أمسك وعاء مترعا بالمياه و راح يسقي تلك الأشجار واحدة تلو الأخرى في روية و صبر...
كنت أتتبعه بشغف و أحرص على ألا تفوتني تلك التفاصيل اللذيذة...مال الكهل أخيرا إلى الظل .
أخرج صرة من القماش الهندي... فتحها و إذا هي مكتظة بشتى ألوان الطعام و الشراب...
صدح بصوت أجش دون أن يرفع بصره عن الطعام :
" تقدم يا عماد فأنت محظوظ اليوم" .
و ما كاد يضع لقمة في فمه حتى أقبلت جارتنا العجوز " أم قدور" و هي تصيح مسرورة :
" أبشر يا محمد فقد وضعت زوجك منذ قليل توأمين جميلين"...
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 19-11-2019 الساعة 05:54 PM