المجالس العلمية في الأندلس
01-04-2020, 01:07 AM


كانت الأندلس عبر تاريخها زاخرة بكل ألوان الحضارة والرقي، ولا ريب أن كثيرًا من تلك المظاهر الحضارية التي سحرت أوروبا وقتها وإلى الآن هي منقولة من الشرق؛ بغداد ودمشق والقاهرة وبقية حواضر الإسلام..

ولكن ما ميَّز حضارة الأندلس أنها امتلكت بصمة حضارية فريدة أضافتها لما استمدته من الشرق بل وأصبحت تلك المظاهر في أغلب الأوقات كأنها أندلسية خالصة لما فيها من البراعة التي قد تنسي معها منبعها الأصلي..

ومن أهم تلك المظاهر وأجلها "المجالس العلمية" وما ميزها أنها لم تقتصر –كما الشرق- على قصور الخلفاء والأمراء؛ بل تجاوزتها إلى ما دونهم حتى وصلت إلى أن أصبحت من عادات بعض العوام في الأندلس..


المجالس العلمية في قصور الخلفاء والأمراء:

الحكم بن الناصر


أكثر الخليفة الحكم من مجالسة العلماء وآثرهم على من سواهم في تقديرهم واحترامهم، وذلك لاهتمامه الكبير –غير المسبوق- في عصره بالعلم والقراءة والثقافة؛ فقد نُقِل عن الحَكَم أنَّه "جمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من ملوك الأندلس قبله، وذلك بإرساله فيها إلى الأقطار واشترائه لها بأعلى الأثمان، ونفق عليه ذلك فحمل إليه".


المنصور ابن أبي عامر
وأمَّا الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر فكان له مجلسٌ معروفٌ في الأسبوع، وكان يوم جمعة، وهو مجلسٌ حافل، يجتمع فيه أهل العلم الكبار بصورةٍ دوريَّةٍ مدَّة إقامته بقرطبة بقصره في الزاهرة..

كما كان شعراء بلاطه الرسميِّين يختلفون إلى مجالسه ومناظرته ومطارحاته، وكان قد أثبتهم في ديوان العطاء الذي يُسمَّى كذلك بديوان الزمام أو الندماء، وأجرى عليهم الجرايات الثابتة.

وكان لولده من بعده الحاجب المظفر مجالس يُقال فيها البيت الرفيع، والنظم البديع، وله مجالس منادمة، "إلا أنَّه لم يكن فيه للأدب ما كان له من أبيه؛ فقد وصفه ابن حيان بأنه كان مائلًا لمجالسة العجم الجفاة من البربر والإفرنج، منهمكًا في الفروسية، إلَّا أنَّ أصحاب أبيه لم يخل بهم ولاجفاهم، بل أبقاهم على رسمهم".


المجالس العلمية في بيوت العلماء والفقهاء والدكاكين!
هذا وقد أشار ابن الفرضي وابن بشكوال إلى الكثير من المجالس العلمية للعلماء والفقهاء في الأندلس، فقد كان أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الكلاعي المعلم (ت 391هـ=1000م) يجتمع إليه في داره للتفقُّه والقراءة عليه.

وإسحاق بن إبراهيم بن عيسى المرادي من أهل "استجه"، له حلقاتٌ يعقدها في الجامع وكانت له رياسة بـ"أستجة"، وقدرٌ عظيمٌ من الفُتْيَا أيَّّام الأمير عبد الله…

ومن المجالس العلمية الفريدة من نوعها، مجلس الفقيه أحمد بن سعيد بن كوثر الأنصاري (ت 403هـ=1012م) الذي كان يُعقد في داره في طليطلة..

وكان في مجلسه هذا أكثر من أربعين تلميذًا، يدخلون في داره في مجلس قد فرش ببُسُط الصوف مبطَّنات، والحيطان باللبود من كلِّ حول، ووسائد الصوف، وفي وسطه كانون في طوله قامة الإنسان مملوء فحمًا، يأخذ دفأه كل من في المجلس، فإذا فرغ الحديث أمسكهم جميعًا وقُدِّمت الموائد.

وكان من العلماء من يجلس في دكَّانٍ له؛ فهذا إبراهيم بن مبشر بن شريف البكري (ت 395هـ=1004م) كان يُقرئ في دكانه قرب المسجد الجامع بقرطبة، وينقط المصاحف ويُعلِّم المبتدئين.

وكان إبراهيم بن محمد بن حسين بن شنظير الأموي (ت 402هـ=1011م) لم يكن هناك أوقر مجلسًا منه، كان لا يذكر فيه شيءٌ من أمور الدنيا إلَّا العلم، وكان وقورًا مهيبًا في مجلسه سواء، وكانت له ولصاحبه أبي جعفر -أحمد بن محمد بن محمد بن عبيدة الأموي المعروف بابن ميمون (ت 400هـ= 1009م) من أهل طليطلة- حلقةٌ في المسجد الجامع يقرأ فيها كتب الزهد والكرامات وغيرها، ورحل الناس إليهما من الأفاق [1].


[1] صباح خابط عزيز سعيد الحميداوي: الأحوال الاجتماعية والاقتصادية لأعيان الأندلس في عهدي الإمارة والخلافة، دار ومكتبة عدنان، 2014م.
قصة الإسلام