شعوب المشرق مولعة بـ”العبودية المختارة” في صورة الزعيم
30-08-2018, 06:46 AM




نور الدين تويمي باحث عصامي


نعتقد أن هؤلاء الذين اختاروا أن يكونوا عبيدا مسلوبي الإرادة إلا إرادة الطاغية قبل ذلك كانت لديهم قابلية لذلك ومن هنا نستطيع أن نوظف مصطلح القابلية للاستبداد كتوصيف لحالة تسبق مرحلة الاستبداد والاستعباد بكل عنفوانها وتداعياتها. وهي شبيهة بحالة: القابلية للاستعمار، كما ينظر لها “فقيه الحضارة” مالك بن نبي: وكل أوضاع الخلل والانحراف التي تعيشها الأمم والشعوب والحضارات سبقتها حالة استعداد لذلك، والمنظرون الذين يرون أن ما فعله حكم “التغلب والقهر والاستيلاء” منذ تلك اللحظات التي أعلن فيها تحول نظام الحكم الإسلامي من “الخلافة الراشدة” إلى “الملك العضوض” هو إيجاد هذه القابلية بزخم ضخم من التأصيلات والتقعيدات المعتمدة على “النص المؤول” و”النص المبدل” وما إن استقر الوضع للاستبداد حتى ظهرت الانحرافات التي تتبع “الفرعونية الطاغية” مثل الفساد والجبن والأنانية والغفلة والسطحية.
وعند تفشي هذه الأمراض يصبح التغيير صعبا لأن الاقتناع بوجود الانحراف غير متوفر أصلا فكيف يقع التغيير إذا… وإذا دخلت عوامل ذاتية وخارجية على الساحة وحدث التغيير السطحي فإن الأوضاع سرعان ما تعود إلى مربعها الأول بصورة أسوأ مما كانت عليه الأوضاع قبل ذلك.
وأنظر معنا إلى مآلات “الربيع العربي” عندما انتقلت البلدان التي مسها إلى حالة من الفوضى وانعدام الأمن، والمثال النموذج “سوريا” ونعتقد أن التغيير في العالم العربي كان حملا غير مكتمل النمو أسقط قبل أوانه، ولو ترك الأمر لطبيعته لكان حالنا أفضل، لأننا لا نملك أصلا صورة للحاكم عندنا. بعضنا يتصوّره معاوية أو عمر بن عبد العزيز أو المنصور أو الرشيد أو صقر قريش أو صلاح الدين الأيوبي أو سيف الدين قطر أو السلطان سليم العثماني أو محمد الصالح أو سليمان القانوني بكل ما يملكون من سلطة مطلقة، وبعضنا الآخر يراه عبد الناصر أو بومدين أو صدام حسين. ونحن لا نملك أي تصوّر لحدود سلطة الحاكم وحدود حق المحكوم، فلما جاء الربيع العربي استبدلنا حاكما بحاكم دون تصوّر لما ينبغي أن يكون عليه الحاكم الجديد وكأننا استبدلنا قائد جيش بقائد جديد مع بقاء الأوضاع على ماهي عليه: الجنود – العتاد – ميدان المعركة – حدود الحركة – ذهنية التسيير – أرضية المنطلقات – أهداف المسارات.

تركيا والعودة إلى منطق العبودية المختارة:

إن الربيع العربي جاء في خضم التفاعل مع العبودية المختارة خاصة بعد تنامي تيارات الإسلام السياسي السلمي التي لا تملك أي صورة للتغيير، اللهم إلا المسحة الأخلاقية التي أضفتها على القائد، فهو نفسه الحاكم المطلق بالعهدات المفتوحة المتفاعل مع الشورى المعلمة لا الشورى الملزمة، وهو نفس التصوّر التي تملكه التيارات السياسية الأخرى من غير الطيف الإسلامي، بدليل أن مؤطري أحزاب هذه التيارات لا تجرؤ على مناقشة قادتها فضلا على أن تستبدلهم.
فالذي يسعى للتغيير الذي يكبح اندفاعية السلطة المطلقة يجب أن يملك حدا أدنى من توزيع السلطات والفصل بينها. وما فعله الرئيس التركي طيب رجب أردوغان في استفتاء سنة 2017 من إعادة تجميع كل السلطات في يده يعطي صورة عن حقيقة العبودية المختارة التي ما زالت الشعوب الإسلامية ترضخ لها ويعطي صورة أدق لمشروع الحاكم المطلق الصلاحية الذي يهيمن على ذاكرتنا التاريخية ومخيلتنا الراهنة.
وقد انتبه لهذه الملاحظة الكاتب الإسلامي الصحفي: فهمي هويدي في مقالة له نشرت في بوابة الشروق مباشرة بعد نتيجة الاستفتاء في تركيا وذلك بتاريخ: 18 أفريل 2017 حيث قال: … لم يكن لدي اعتراض على فكرة النظام الرئاسي… إلا أن ضمانات نجاحه أوفر في مجتمع قوي له مؤسساته المستقلة التي تستطيع أن تضع حدا لنزوع الحكومة القوية إلى الطغيان والاستبداد إذا ما وظفت سلطاتها الواسعة في التغوّل على حق المجتمع. كان في ذهني موقف القضاء الأمريكي الذي أوقف قرارات الرئيس ترامب… وكان تساؤلي هو: هل يستطيع القضاء في تركيا أن يكبح جماح الرئيس أو يخلعه إذا تغوّل أو زلت قدمه؟… إن تحفظي لم يكن منصبا على فكرة النظام الرئاسي وإنما على عدم توفر الظروف المناسبة.

والرئيس أردوغان عندما أجرى الاستفتاء كان تحت مؤثرين: المؤثر الأول: الانقلاب العسكري الفاشل الذي استهدفه فأراد صلاحيات مطلقة ليعزل من يشاء وقت ما شاء ومنعا لأي محاولة انقلابية أخرى.
أما المؤثر الثاني: فهو الشوفينية التاريخية التي يحملها والتي ترى في السلاطين العثمانيين نموذجه الأوفى، بكل ما تمثله السلطة العثمانية من مركزية وديكتاتورية البعيدة كل البعد عن سمت ومنهج الخلافة الراشدة وإن تسمت باسم الخلافة العثمانية.
وقد تابعنا ابتهاج كل التيارات الإسلامية السياسية في العالم الإسلامي بنتائج الاستفتاء الذي كانت نتيجته في درجة مقبول وليس جيد أو جيد جدا %51,3 لصالح النظام الرئاسي و%47,7 ضده. كما يرى الأستاذ فهمي هويدي في مقالته المذكورة آنفا بل وحتى الملكيات المطلقة ابتهجت بذلك، وكان الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود أول المهنئين والأمر في نتيجته لا يخرج عن تأثير فقه الملك العضوض على التيارات السياسية الإسلامية وأنظمة الحكم القائمة في الديار الإسلامية سواء كانت ملكيات أو جمهوريات أو حتى جملوكيات لأن نظام الحكم في الخلافة الراشدة نسخناه بنظام حكم مبتدع لا صلة له بنصوص القرآن ولا بتطبيقاته في الخلافة الراشدة الشرعية المنقلب عليها، وحتى أدبيات التيار الإسلامي السياسي (السلمي والعنفي) في قضايا الحكم والقيادة لم يتأثر بالثقافة السياسية الموجودة في المجتمعات المعاصرة والمسوقة للتوزيع العادل للسلطة بين السلطات الثلاث فضلا عن السلطة الرابعة التي لها رأيها ورقابتها فيما يحدث إنما عادت مسرعة إلى عصور التغلب السائدة في الحضارة الإسلامية منذ سنة 45 هـ (تاريخ اغتيال آخر الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه) وإلى سنة 1924م (تاريخ إلغاء الخلافة العثمانية) وما تبعها من استعمار، ثم أنظمة حكم وطنية (جمهورية وملكية) مطلقة فأخذت من هاتيك العصور أدبيات الحكم المطلق: الأمر – الطاعة المطلقة – البيعة – مجالس الشورى الشكلية – العهدة الدائمة – بل أخذت حتى بعض مظاهر الأمير القادم من التاريخ يركب فرسا أبيضا مزينا بالسرج المذهب. شاهدنا ذلك بجلاء في مواكب المسؤولين والحاكمين الذين استبدلوا الفرس الأبيض بالرولس رويس السوداء المواكبة بدزينة من الدراجات النارية مع إغلاق للطرق وتضييع لمصالح المواطنين فضلا عن عمليات إزالة للشوائب من طرقات الموكب (الأوساخ، المجانين) ولم تتغير الصورة عن أي موكب أميري في التاريخ، وحتى أولئك الذين لبسوا لبوس المعارضة السلمية والعنفية الشرعية وغير الشرعية لم تتغير عندهم الصورة النمطية للحاكم التاريخي وإذا كانوا قد عجزوا عن توفير “رولس رويس” فإن الفرس الأبيض متوفر. رأينا ذلك أيضا في موكب الإرهابي (قادة بن شيحة) أمير الغرب الجزائري باسم: الجماعة الإسلامية الجزائرية لما كان يجول خلال المداشر والقرى وهو يركب فرسا أبيضا، كما فعل ذلك في احتفالية نظمها كمال الدين فخار في منطقة الغابة بولاية غرداية بالجزائر لما أطلق سراحه بعد أول سجن له وتحدث بعض أنصاره عن إمامة الظهور وأنه هو صاحبها.

أهم التصوّرات عن الربيع العربي:

انقسم المراقبون والملاحظون والفاعلون والمشاركون والنخب بكل أطيافها الفكرية والسياسية بالإضافة للمفعول بهم في نظرتهم لـلربيع العربي بين من يراه ثورة وحراكا شعبيا عفويا قامت به الشعوب تحت ضغط القهر والاستبداد والفساد وبين من يراه حراكا عفويا في بداياته حالة (تونس ومصر) ثم دخل على خطه من حرف مساره بدءا مما حدث في (اليمن وليبيا وسوريا) وبين من يراه تحريكا مفتعلا من دوائر مخططة رأت من مصلحتها إحداثه لتحقيق مزيد من التطوير في وضع اليد على المقدرات في البلدان التي مسّها الحراك الشعبي وأن لا علاقة للشعوب بذلك رغم أنها كانت لديها رغبة في إزالة هؤلاء الكاتمين على أنفاسها.
والمتابع للإصدارات التي سقنا بعض عناوينها آنفا يتأكد من تباين الآراء في التعاطي مع حدث الربيع العربي. وأمامنا الآن قائمة من الكتب باللغة العربية وحدها تتضمن ما يزيد عن 226 عنوان تتحدث عنه مترجمة بدقة لهذا التباين في هذه النظرة إليه فما بالك بما أصدرته الدوائر الغربية لمراكز البحث والدراسة – تقارير مخابراتية – بحوث أكاديمية – تجارب ورؤى شخصية لصحافيين ومراقبين وسياسيين. ولم يحظ موضوع بهذا الكم من الاهتمام كما حظي به موضوع الربيع العربي لأنه أشبه بزلزال مسّ هذه المنطقة من العالم وما زالت هزاته الارتدادية متواصلة ولم تقل درجات هذه الهزات عن درجة الزلزال نفسه إن لم تتفوق عليه، وما يحدث في سوريا دليل على ذلك، وللأستاذ: حسن محمد الزين في كتابه الربيع العربي آخر عمليات الشرق الأوسط الكبير فقرة مهمة تحدث فيها عن هذا الزلزال وعن تباين الرؤى في التعاطي معه وذلك في مقدمة الكتاب قال: (… ولو أجرينا استطلاع رأي الجمهور العربي ونخبه المثقفة والباحثة وسئل عن وعيه بحقيقة ما دار من أحداث بعد عامين على الربيع العربي (2011-2013) لأجاب أنه تلقى كتلة متناقضة ومتناثرة من الإشارات والمعطيات والمشاعر المتعاكسة المختلفة حالت دون تمكنه من تفسير حقيقة ما جرى وما يجري… وقد انعكست تلك التناقضات خلافا في التوصيفات والتسميات التي أطلقت على الحراك العربي الذي بدأ عام 2011 بين من قال أنها ثورات عربية أو انتفاضات عربية، ومن قال إنها صحوات عربية أو صحوات إسلامية، ومن قال ربيع عربي أو ربيع إسلامي ومؤامرة أمريكية لتقسيم العالم العربي سايكس بيكو جديد أو نهضة إثنية عربية رقمية وانتفاضات تحت التأثير أو ربيع أمريكي… إلخ وهو ما يفسر الانقسام المذهل في التحليلات السياسية للربيع العربي بين من قال بنظرية المؤامرة كالكاتب الإعلامي المصري محمد حسنين هيكل وهو من أصحاب الاتجاه القومي العربي أو نظرية الانتفاضات تحت التأثير كالمفكر المصري الدكتور طارق رمضان وهو من الاتجاه الإسلامي، وبين من قال بنظرية العفوية والتلقائية ومنهم شخصيات وتيارات وقوى قومية عربية كموقف مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، ومن ذهب نحو الدافع الإسلامي كتحليل أغلب الشخصيات والتيارات الإسلامية…
بعد دراسة مسحية استقصائية لبيلوغرافيا وعناوين الثورات العربية والربيع العربي بما لا يقل عن 500 كتاب ومقالة صحفية نشرها كتاب عرب لتفسير حراك عام 2011 وجدنا تناقضا وإرباكا كبيرا في نوعية التحليلات السياسية رغم أن كل فريق وتيار حشد لإسناد رؤيته أدلة ومؤشرات وقرائن معقولة وواقعية …)ونزعم في كل ما قرأنا من كتب ومقالات ودراسات لم نر دراسة جامعة للربيع العربي كالدراسة التي قدمها الأستاذ: حسن محمد الزين والتي استشهدنا بمقدمتها آنفا على الرغم من أنها دراسة تعبّر عن وجهة النظر القائلة بأن الربيع العربي ماهو إلا تحريك من الخارج واستندت في إثبات ذلك إلى كمّ هائل من الوثائق والمستندات والأدلة عجزت وجهات النظر الأخرى عن إثبات رأيها بالحجم الوثائقي الموازي لما حفلت به من أدلة دامغة لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها أو القفز عليها ورأينا في هذه الدراسة أن مؤلفها طرح 6 مذاهب أو اتجاهات لتفسير ظاهرة الربيع العربي هي :
الاتجاه الأول: التفسير الإسلامي.
الاتجاه الثاني: أصحاب نظرية المؤامرة.
الاتجاه الثالث: التفسير النهضوي العربي الحداثي.
الاتجاه الرابع: يجمع بين توفر الأرضية العربية الثورية والاختراق الدولي.
الاتجاه الخامس: نظرية تقاسم النفوذ الدولي وتقسيم العالم العربي.
الاتجاه السادس: التفسير الليبرالي العربي.
وهذا التقسيم لا يخرج في حقيقته عن الاتجاهات الثلاثة المذكورة آنفا فهو مثلا: يصنف الاتجاه الأول الذي تبناه التيار الإسلامي ويرى أن ما حدث هي ثورات عربية شعبية بدوافع إسلامية وجاءت مكللة لعقود من المنازلة بينها وبين الأنظمة الطاغوتية مع الاتجاه الثالث الذي يرى ما حدث ثورات عربية شعبية بدوافع قومية بحتة يضاف إليهما الاتجاه السادس الذي يقوده الليبراليون العرب والذي يرى أن ما حدث هو تفاعل للشعوب العربية مع القيم الليبرالية المعولمة.
كما يصنف الاتجاه الرابع في خانة القائلين بأن ما حدث هو ثورات شعبية عفوية دخل عليها الاختراق والتلاعب الأمريكي والغربي وبقي رأي القائلين بأن ما حدث مؤامرة غربية بامتياز وهو الرأي الذي تبناه أصحاب الاتجاهين الثاني والخامس.