الطبقة الحاكمة في أمريكا: تأثير الأثرياء والنافذين في دولة ديمقراطية (3)
28-09-2020, 01:12 PM
وصف تقريبي للطبقة الحاكمة في أمريكا حديثا

(1)

عندما سقط النظام القديم أخيراً نتيجة للانهيار الاقتصادي عام 1929، عاين المفكرون الأضرار وراقبوا المستقبل، انصرف المفكرون لوصف النظام الحاكم في الولايات المتحدة، وطبيعة أركانه. فظهر عدة مؤلفات من مفكرين عارفين عما يكتبون.

فمن كتاب (عائلات أمريكا الستين) حاول مؤلف الكتاب (فيردناند لندبيرج) وضع خارطة للترابطات القائمة بين أجيال النخبة في البلد. كما نشر (ماثيو جوزفسون) في تلك المرحلة كتاب (الرأسماليون الذين جمعوا ثرواتهم من أعمال الاستثمار والاستغلال) مبتكراً عنواناً يلخص السمة الأخلاقية لمؤيدي حكم القلة أولئك، وقد وُجِّه الى معظمهم اللوم نتيجة لكارثة الركود الاقتصادي الكبير، وكان كتابه سرداً تاريخياً لأسلافهم في القرن التاسع عشر. وتوالت الكتابات الواصفة لطبقة الحكم باغتصاب البلاد باقتصادها وشعبها الموزائيكي.

تراجعت حدة الانتقاد بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تنته، فقد نشر (سي رايت ميلز) كتاب (نُخبة السلطة) في أواسط الخمسينات من القرن العشرين، وتتبع فيه تشابك وتفاعل الهرميات العسكرية والصناعية والاقتصادية والسياسية. وكانت الطبقة الحاكمة قد اكتسبت سمعة سيئة خلال الحرب الباردة داخل أمريكا، ولم يستخدم (ميلز) هذا التعبير لكي لا يُتهم بمعاداة الدولة!

(2)

إذا كان وصف الطبقة الحاكمة ملائماً لمرحلة الانهيار الكبير في عام 1929، فإن وصفاً جديداً قد ظهر في نهاية الخمسينات من القرن العشرين، أطلق عليه المفكرون أمثال (شلزينغر) مصطلحا جديداً هو: (المؤسسة الحاكمة)، ويبدو أنه أكثر اعتدالاً من سابقاته.

وقد تكون وراء تلك التسمية، نشاطات مفكرين ورجال أعمال ساهموا في وضع خطة (مارشال) لإعادة إعمار أوروبا، كما وقفوا وراء إنشاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ووضع الخطط لوقف الزحف والتوسع الشيوعي.

وعلاوة على ذلك، فإن المفكرين البارزين في مرحلة ما بعد الحرب بمن فيهم دانيال بيل وديفيد ريسمن و روبرت دال وغيرهم، لم يميزوا هذا المستوى من الهرمية. وعليه فقد مجَّدوا فكرة اللاطبقية أو الطبقية المتوسطة المتجانسة للمجتمع الأمريكي.

كما أعلن دانيال بيل نهاية عصر الأيديولوجيات، لأن الفئات المقموعة من العمال قد اختفت من الوجود في أمريكا. ولم تعد البرجوازية المستبدة تستطيع أن تقوم بدورها السابق. وقد تم ابتكار نظام تقاطعي أكاديمي، رافق اللامركزية في الحكم لإبعاد تغول المركز.

(3)

والسقوط المفاجئ للمؤسسة إبان الهزيمة الكاملة في فيتنام أعاد إشعال التساؤلات الانفعالية حول طرق استخدام السلطة وإساءة استعمالها، في الماضي والحاضر. وقد ظهرت كتابات تقاوم فكرة الحلول الرأسمالية وجنون الاضطهاد، وكان من بين الكُتَّاب: نعوم شومسكي ووليام دومهوف وأوجين جينوفيز وإريك فونر، وباربارا إرنريتش وغيرهم.

فقد جادل (فونر) على سبيل المثال، بأن الحزب الجمهوري يحاول إعادة الاسترقاق والاستعباد، لكن هذه المرة خارج الولايات المتحدة، حتى وإن استدعاه ذلك لشن الحروب وسفك الدماء!

ومن جهة ثانية، وغداة الهيمنة الفكرية المحافظة التي واكبت ظهور (رونالد ريجان) فقد ظهرت مجموعة من الكتب تتحدث عن أشخاص بعينهم أمثال: (روكفلر، وغولد، وهاريمن) باعتبارهم رموز لنخبة معينة حاكمة.

وقد حذر الرئيس (جورج دبليو بوش) من أن انتقاد خفض الضرائب عن الأثرياء سيعيد البلاد الى الحديث عن الصراع الطبقي!

(4)

يقول المؤلف: في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، تصورت النُخَب نفسها طبقة متصلبة يقوم مركزها الاجتماعي على النسَب، والاستيلاد، وأشكال متنوعة من الحصرية الاجتماعية. وهي ترث رأس المال الثقافي وتنال الاحترام من أولئك غير المُنعم عليهم من عامة الناس.

ومع الزمن باتت حدود تلك الطبقة غير واضحة، فالوافدون الجدد إليها من خارجها، جعل المؤسسين إليها يتعاملون مع الوافدين بامتعاض وهم يمثلون دور المنفتحين إليهم.

يتساءل الكاتب: ماذا يعني التوق الى حكم الأمة؟
عنى هذا الأمر في بعض الأحيان أن يصبح المرء أحد الحكام السياسيين في أمريكا: النُخبة الفدرالية التي وضعت الدستور وهيمنت على الحياة السياسية في العقد الأخير من القرن الثامن عشر، أو مالكو المزارع الجنوبيون الذين سيطروا على مجلس الشيوخ في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن التاسع عشر ومارسوا سياسة اقتصادية وطنية بإطالة أمد الاسترقاق.

ولكن النُخب الاقتصادية عموما لم تكن قادرة على الحكم بطريقة مباشرة. فقد كان عليهم القتال لترسيخ هيمنتهم في نظام كان ديمقراطياً في الشكل وعدائياً في الغالب لثرواتهم وادّعاءاتهم. وغالباً ما كانوا قادرين على تحقيق أهدافهم بواسطة ممثلين سياسيين لم يشاركوهم الأصل الطبقي، وقد يكونون منفتحين أو لا على المعتقد أو الرشوة. وهكذا، فقد كانت نُخبٌ قليلة قادرة على افتراض أن الحكم السياسي ينجذب إليهم بشكل طبيعي بفضل ثرواتهم أو منزلاتهم الاجتماعية.

(5)

تشكل الهزيمة في فيتنام، وفقدان الولايات المتحدة تفوقها الاقتصادي العالمي في السبعينيات من القرن العشرين، وانتخاب رونالد ريجان عام 1980، والانتقال الصعب الى اقتصاد مرحلة ما بعد الصناعة المعتمد على المعلوماتية، المرحلة الأحدث للأمة في ما يتعلق بأزمة النُخب وتعاقبها.

وتُظهر إحدى الدراسات مُلقية نظرة عامة على مشهد الثروة والسلطة المتبدل في هذا الوقت، ويُظهر كيف أن النخب المرتبطة بالصناعات النفطية، والزراعية، والعسكرية، والمواد الأولية، في المنطقتين الجنوبية والجنوبية الغربية، استقلوا عن البنية السياسية الليبرالية والتحموا حول الحزب الجمهوري مُكرسين دورهم لتحرير الرأسمالية من نظام الدولة.

وقد حذر كثير من المفكرين، من أن هذا النهج الفكري في إدارة الدولة سيجعل من النخب الحاكمة أن تنحى منحىً غريباً في التعصب الديني والاهتمام بالمصالح الشخصية والفئوية الضيقة، مما سينمي من ظهور طبقة ترتد على هذا النهج وتتوسع من خلالها الهوة بين الأغنياء والفقراء.