الرأسمالية العالمية بين التصدع وحتمية الانهيار
25-12-2008, 11:41 AM
الرأسمالية العالمية بين التصدع وحتمية الانهيار


الكون بسماواته وأراضيه وما فيهن من عناصر الوجود نظام كامل متكامل، قوامه الاستقامة والعدل، لا العبث واللعب. في حقيقة الوجود هنالك خالق وهنالك خليقة ومخلوق.
الخالق بعلمه ولطفه أبدع وأحكم كل شيء (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) والخليقة بحكم ذلك لن تستقيم إلا باتباع ما يلائم وما يناسب طبيعة ما جبلت عليه من مقتضيات الكينونة والتكوين، كيفا وكما ونوعا.
منذ البداية والرسل تترى، إلى أن أرسل الله خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فآمن من آمن وأعرض من أعرض. ثم كان الذي كان من بني الإنسان، خروج عن المنهج الإلهي وما فيه من عظيم بيان وتبيان، إلا من رحم ربك.
كان الصدام مع الطبيعة والفطرة، لتكون التبعات جد وخيمة، اضطراب فانحراف فشذوذ فانحلال، إلى أن صار الإنسان عدوا لأخيه الإنسان، وكأنه بحق شيطان أو حليف شيطان. وساد الظلم والقهر والطغيان. ليكون الحكم الرباني في نهاية المطاف قسطا وعدلا، الجزاء من جنس العمل. وهذا هو ناموس الفطرة في الكون والوجود.
"
نظام كالرأسمالية قائم في مبدئه على إطلاق العنان للغرائز الحيوانية لا شك سيتصدع ويوصل القائمين عليه إلى السقوط والانهيار
"الاشتراكية الشيوعية
ما أكثر النظم التي تصادمت مع ناموس الفطرة في الكون والوجود، وطبيعة ذلك الوجود، والتي كان آخرها النظام الاشتراكي الشيوعي الذي أنكر وجحد القائمون عليه وجود الخالق وعبثوا بالخليقة واستعبدوا المخلوق.
في السياسة فرض على الجميع أن يولوا أمرهم للطغم الحاكمة، فهي من حيث الحكمة السياسية والإحاطة الإستراتيجية الكل بالكل. لا حرية لأحد ولا رأي ولا وجهة نظر ما دام هنالك حزب حاكم يخطط للعامة والخاصة ويدبر لهم ويفكر بالنيابة عنهم في كل شيء.
وفي الاقتصاد على كل فرد أن يذوب من أجل الجميع، وإلا كان خارجا عن الصف الجمعي، ليستحق من الجميع اللعن والعزل والطرد.
أما في الاجتماع فلا خصوصية لأحد ولا مكانة لفردية مهما كانت عليه من سمات ومزايا فارقة، فالكل وإن اختلفوا ما عليهم إلا أن يكونوا نسخة واحدة لا شية فيها ولا مكان ولا مجال لفروق فردية أو ميول تعبر عن حرية شخصية أو نزعة ذاتية.
هذا الصدام الصارخ مع الطبيعة الإنسانية وما هو مركوز فيها من طبائع وفطرة لا تحتمل إملاءات إلحادية وجاحدة متطرفة كهذه سرع في انهيار المذهب الاشتراكي الشيوعي، وإن اعتنقته واعتقدت به الملايين. وما الحدث منا ببعيد.
فقبل عقدين تقريبا شهد العالم انهيار أكبر كتلة أيديولوجية عرفها التاريخ البشري المعاصر، الاتحاد السوفياتي سابقا.
الرأسمالية الليبرالية
وفي المقابل هنالك النظام الرأسمالي الليبرالي الذي ينادي القائمون عليه بأن على الجميع أن يقروا بمكانة وقدسية الإنسان الفرد، فالمجد والحرية للفرد، والرأي رأي الفرد، فهو الكل بالكل.
وعلى الجميع أن يذوبوا فيه من أجل شهواته وملذاته، لا خصوصية لجماعة ولا مكانة لجماعية مهما كانت عليه من سمات ومزايا فارقة، فالكل مقابل الفرد والحرية الفردية لا يساوي شيئا.
وهنا مكمن الخطر، وهو ما سوف يسرع انهيار مثل هذا المذهب بعدما أخذت ملامح تصدعه بالتجلي والظهور. فها هي الشارات والمؤشرات المنذرة بذلك آخذة في التصاعد والتنامي يوما بعد يوم إلى أن تحين لحظة الانهيار.
عندما تصبح وسائل الإنتاج الحيوية في يد فرد أو مملوكة ملكية خاصة لحفنة من الأفراد، ممن هم أصحاب رأسمال وشركات ربحية بامتياز، وعندما يكون الإنتاج والتوزيع وما يتعلق بالأمر من احتكار وتحديد أسعار تبعا لسياسات العرض والطلب، وتبعا لمفاهيم اقتصاديات السوق الحر، وفي ظل أنظمة مالية فاسدة تقوم على الربا والسمسرة والرشا، وما بينها من بذخ وإسراف وتبذير، عندئذ على البشرية أن تتوقع ما ليس بالحسبان.
الرأسمالية الليبرالية، بسبب طمع وجشع القائمين عليها، دفعت بكل قسوة إلى تحويل الملايين من الآدميين إلى عبيد للآلة ووسائل الإنتاج، ومن هم قائمون عليها من برجوازيين وملاك.
في الأمس القريب ونتيجة للتوسع الكبير وغير المحدود في الإنتاج أخذت الشركات الكبرى بالسعي للسيطرة على العالم من خلال تمويل وتوجيه الحملات العسكرية لاستغلال الأناسي والأراضي، لتامين المواد الخام من ناحية، ولضمان الأسواق وأماكن الاستهلاك من ناحية أخرى.
وهذا ما أفضى في نهاية المطاف إلى فرض حقبة استعمارية أذلت الملايين من أجل آلة السيد المستعمر ومن يقف وراءه ويسانده من طغم مالية حاكمة وأصحاب رؤوس أمول حالمة، ممن لا هم لهم إلا جني المزيد من الأموال والأرباح.
وبعد الاستقلال المزعوم للمستعمرات هنا وهناك، أخذ الرأسماليون من خلال شركاتهم العملاقة الضخمة يمولون الحروب والانقلابات العسكرية في هذا البلد وذك بغية استمرار التبعية والهيمنة والنفوذ، إلى أن صارت الإمبريالية حقيقة شاخصة في واقعنا المعاصر، من أفظع وأبشع حقائق القرن العشرين والحادي والعشرين.
"
الشيوعية حاربت الملكية الفردية لحساب الجماعية المزعومة وانتهت، والرأسمالية ما برحت تحارب الجماعية لحساب الفردية، وكلتاهما لا تلائمان الطبائع والفطرة البشرية السوية
"مثل هذا النظام القائم في مبدئه أصلا على إطلاق العنان للغرائز الحيوانية حتما سيتصدع ويوصل القائمين عليه إلى السقوط والانهيار.
الشيوعية حاربت الملكية الفردية لحساب الجماعية المزعومة وانتهت، والرأسمالية ما برحت تحارب الجماعية لحساب الفردية، وكلتاهما لا تلائمان الطبائع والفطرة البشرية السوية.
البشر شئنا أم أبينا فرديون وجماعيون في آن واحد، لا قوام لأي منهم بما أنه بشر إلا بالاثنتين معا. وإطلاق عنان أي منهما على حساب الأخرى سيفضي حتما بصاحبه إلى ما لا يحتمل أو يطاق.
نعم هذا هو الناموس في حياة البشر، وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة، وما ينطبق على الجماعة ينطبق في حكمه على المجتمعات والشعوب والأمم.
تبعات النهج الرأسمالي العالمي
لقد أدى استبداد الفردية بالرأسماليين إلى إخضاع الدول ورجالاتها والسيطرة على مؤسساتها وسائر نظمها وسلطاتها، إلى درجة أن صار التشريع يسن ويشترى بالمال، وهكذا الرجال التنفيذيون ممن هم مديرون ووزراء، ومن هم رجال قانون وقضاء.
فمنذ أن ظهرت هذه النزعة واستبدت بأصحابها، والعالم مقسم بين الدول الرأسمالية الكبرى وشركاتها الضخمة العملاقة واتحادات الرأسماليين فيها.
وصار المال من أجل السيطرة والتحكم ينتج ويصدر إلى أن عزز الاحتكار وتمركز الإنتاج في دول دون أخرى، ولدى حفنة من الناس دون غيرهم من الأناسي. وصارت هنالك طغم مالية تعطي وتحرم، تبيع وتشتري، وتعلن متى شاءت حروبا وتصنع سلما.
وصارت هنالك بنوك دولية وأممية وإقليمية وقومية ووطنية ومحلية، كلها مربوط بعضها ببعض على أسس نفعية وربوية، وتصب في خزائن من هم رأسماليون فرديون.
وصار القائمون عليها يلعبون أدوارا فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية إلى أن خرجوا علينا بخلطة "العولمة" التي استنزفت الجيوب وأفقرت الأمم والشعوب لينعم بخيراتها من لا يعرف من الحياة إلا قيمها المادية لا غير.
منذ أن طغت الرأسمالية وأحكمت سيطرتها على البشرية وعلى الأسواق العالمية والأمور تتراكم وتتفاقم يوما بعد يوم إلى أن بلغت في تخمتها الذروة، لتتفجر لنا على صورة أزمة مالية عالمية ربما تجر بعد إفلاس وتضخم وركود وكساد إلى حرب عالمية قذرة، قد لا تبقي ولا تذر.
وكل هذا ما كان ليكون لولا النظام الرأسمالي البشع الذي لا يقدس أصحابه إلا المال والثروة وحسب.
أميركا الأنموذج الرأسمالي الكبير
عجيب هو حال أميركا والإنسان الفرد في أميركا الذي يسرف ويبذر دون أن يكون في حساباته رصيد، حتى قارب المعدل العام للدين في واقع حياة الفرد الأميركي ثلاثين ألف دولار.
أميركا نفسها بحكم نهجها وسياستها الخارجية والداخلية أضحت أكبر بلد مدين في العالم، ويكفينا أن نشهد على ذلك ما نشرته وكالة المخابرات المركزية سي آي أي في كتاب الحقائق العالمية من أن أميركا مدينة بنحو 12 تريليون دولار أميركي.
صحيح أن الناتج القومي الإجمالي لأميركا مع نهاية العام 2007 قدر بـ13.78 تريليون دولار وأن معدل ناتج دخل الفرد الأميركي كما قدر في العام نفسه بلغ حوالي 45.800 ألفا، إلا أن حجم الدين العام الداخلي قد تجاوز 60.8% من حجم الناتج القومي الإجمالي.
وصحيح أن عوائد هذا البلد الرأسمالي العملاق قد بلغت 2.568 تريليون لنفس العام، إلا أن مصاريفه ومدفوعاته قاربت 2.73 تريليون، وما إن انتهى عام 2007 حتى سجل الميزان التجاري عجزا يصل إلى قرابة 847 بليون دولار أميركي.
هذا الوضع المؤلم في واقع حياة أكبر نموذج رأسمالي وأكبر اقتصاد عالمي أدى إلى تبعات وخيمة تجسدت مؤخرا في سلسلة من الأزمات المحلية والعالمية التي من أهمها أزمة القروض العقارية وأزمة القطاع المالي والمصرفي وأزمة تراجع الأسهم والبورصات وأزمة النفط وتراجع أسعاره وأزمة شركات الائتمان وأزمة شركات السيارات وأزمة المساعدات الدولية.
"
الاستهتار داخل الولايات المتحدة بالنظام المالي هو الذي أدى إلى أزمة الائتمان المالي التي يعاني منها العالم
"وعلى الرغم من الإنكار والعنجهية والتعالي في مثل هذا الحال، اضطر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أن يعلن صراحة أن الاقتصاد الأميركي في خطر، وأن هنالك قطاعات رئيسة في النظام المالي الأميركي أضحت مهددة بالإغلاق.
وهذا هو ما دفع الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين للقول بأن ما حدث ليس مجرد انعدام للإحساس بالمسؤولية من جانب بعض الأفراد في أميركا، بل عدم إحساس بالمسؤولية لدى النظام كله الذي يتباهى بالزعامة العالمية.
وتجرأ رئيس الوزراء البريطاني الحليف غوردون براون على القول إن الاستهتار داخل الولايات المتحدة بالنظام المالي هو الذي أدى إلى أزمة الائتمان المالي التي يعاني منها العالم.
وكان وزير المالية الألماني بير شتاينبروك أكثر جرأة عندما حمل أميركا مسؤولية الأزمة أمام برلمان بلاده وقال إن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية الأزمة المالية العالمية الراهنة جراء حملتها الأنغلوسكسونية التي تهدف إلى تحقيق أرباح كبيرة، ومكافآت هائلة للمصرفيين وكبار مديري الشركات.
من وجهة نظر واقعية لقد بدأت الأزمة ولم تنته بعد، وستستمر في اجتياحها للأسواق المالية العالمية دون استثناء، وعلى الرغم من ضخ آلاف المليارات من قبل البنوك المركزية في أميركا وأوروبا وآسيا وغيرها سيخسر الكثيرون ويربح القليلون، ممن يكنزون نقدا وذهبا وفضة، ممن بشرهم وتوعدهم الله بعذاب أليم (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).
ما تواجهه الرأسمالية العالمية اليوم ما هو إلا محق إلهي لكل ما هو ربا. بل إنها الحرب الإلهية على كل من أكلها وأطعمها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
من هنا يجيء تصدع الرأسمالية العالمية، وعليه تبنى حتمية انهيارها ولو بعد حين.
مسألة أن يصاب الملايين بالفقر لصالح جيوب حفنة من الكانزين العالميين في أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا وغيرها من حواضر الرأسمالية مسألة لم تعد تحتمل أكثر، لذا لا مناص من حتمية السقوط والانهيار.
ويبقى السؤال الكبير من سيخلف هذا الانهيار العالمي للرأسمالية الغربية؟ أهم العرب والمسلمون كما يتوهم ويتصور البعض أم غيرهم؟
وللإجابة على مثل هذا السؤال نقول إن المؤشرات الحالية تقول بأن الصينيين والهنود واليهود هم ورثة الرأسمالية العالمية، وهم من سيلعب بالمال والذهب والفضة إلى حين.
ما فقد في الأسواق المالية العالمية هنا وهناك سيكتشف عاجلا أم آجلا بأن كانزيه صينيون وهنود ويهود، ممن يعيشون في شنغهاي وبومباي وموسكو وفرانكفورت وباريس ولندن ونيويورك وتل أبيب وغيرها. أما العرب والمسلمون فلم يحن الوقت بعد ليكونوا البديل.
وإذا كانت المبشرات القرآنية والنبوية المحمدية تقول إن المستقبل للإسلام والمسلمين، فإن الأمر من وجهة نظر مستندة إلى واقع العرب والمسلمين تقول بأن ذلك لم يحن بعد.