تـــذكرة سينما
02-10-2018, 06:36 PM
ترك سيارته بمحاذاة الرصيف...و لم يحفل بالرذاذ الذي ترسله السماء في سخاء و رفق.
تسلل في هدوء نحو - المصرف الوطني- ليقبض راتب الشهر. لقد تأخر الراتب و أسرف في التأخير كما العادة.
وتمتم محفوظ بينه و بين نفسه :
- هذه الحكومة لن تقبض منها فلسا واحدا حتى تقبض أنفاسك و شبابك و صحتك -
دخل محفوظ بهو البنك و التحق بطابور الانتظار. كان يعج بأصناف الموظفين الكادحين مثله. و فكر في ضجر :
- ما أطول الطوابير في هذه البلاد..طابور في البنك و طابور أمام المخبزة و طابور في المستشفى و طابور عند الحلاق و و و ...-.
تلقف الكهل نقوده الضئيلة في نهم و يمم شطر السيارة...لكنه صاح فجأة :
- أين السيارة يا ناس -
و جعل يسأل المارة كما المجنون. لكن لا أحد رأى السيارة أو علم بمصيرها..
راح الكهل الملتاع يفتش عن مركبته في الأزقة و الحارات القريبة. و أنفق في سبيل ذلك سحابة نهاره.
لكنه عاد بخفي حنين نحو ذلك الرصيف المشؤوم و هو يتجرع الخيبة و الانكسار و الحزن.
و ارتسمت فوق أساريره ابتسامة انتصار كأنه لمح جزيرته المفقودة و هتف بنبرة جريحة :
- هاهي سيارتي الحبيبة شكرا لك يا رب السماوات -
كانت المركبة جاثمة قرب ذلك الرصيف و قد أمست أكثر نقاء و جمالا من ذي قبل...
فتح باب السيارة و التقط رسالة من المقعد الخلفي. .فضها و قرأ بصوت خفيض جدا:
- أعتذر سيدي المحترم لأنني أخذت السيارة بدون اذنك. لكنك قد تعذرني لو علمت السبب. زوجتي كانت على وشك الولادة و رأيت كل الأبواب مسدودة في وجهي. و لم أجد بدا من اقتحام سيارتك لقضاء تلك المصلحة الطارئة.
السماء أرسلت الي وليدا بهي الطلعة أشاع البهجة في قلبي .الشكر لك أولا و أخيرا ثم لسيارتك الخدومة. اخيرا تقبل اعتذاري و تقبل هديتي المتواضعة. قارورة عطر باريسية المنشأ و شيء من الحلوى الشامية و تذكرتي سينما لك و لزوجك. رعاك الله -
التقط محفوظ تلك الهدية و قد تسللت العبرات الى مآقيه و فكر :
- أشكر الأقدار لأنها جعلت سيارتي سببا في مجيء رضيع جميل الى هذا العالم الجميل-
في مساء رائق من مساءات الربيع الحالمة. كان محفوظ في كامل أناقته و قد تأبط ذراع زوجته الشابة و توجها نحو - سينما كاريوكا -
دفع الكهل تذكرتي السينما الى الشباك و التحق هو و زوجته بمقعدين فاخرين على الشرفة.
انطفأت الأنوار فجأة و خيم السكون في أرجاء القاعة و عبثت أدخنة السجائر في الاجواء و بدأت احداث الفيلم الماتعة...
عند منتصف الليل عادا الزوجان الى البيت ...كانا مثل عصفورين سعيدين حينما يحلقان صوب عشهما الدافيء بعد غياب طويل..
رياح باردة داعبت الزوجين الحبيبين في حنو و رفق.
دخلا البيت و أوقدا الأنوار و صاحا مذعورين فجأة :
- مصيبة مصيبة مصيبة لقد سرقونا -
لم يترك اللصوص شيئا في المنزل. لقد بات المكان ساحة للأشباح. و مرتعا للفوضى..
لا تلفزيون و لا مجوهرات و لا غسالة و لا أثاث و لا شيء.
حتى ألبوم الصور سرقوه. كان مليئا بصور و ذكريات جميلة من حفلة الزفاف التي مضى عليها سبع سنوات.
في حجرة النوم المنهوبة لمح محفوظ رسالة فوق السرير. تلقفها بأنامل مرتعشة و فضها و قرأ بصوت متهدج :
- أتمنى أن أحداث الفيلم السينمائي كانت ممتعة -
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 05-10-2018 الساعة 06:26 PM