مقاصد السّور وأثر ذلك في فهم التفسير
29-10-2007, 02:19 PM
للشيخ صالح آل الشيخ

-حفظه الله-

والتفسير أبوابه كثيرة ومختلفة، ولكن قلَّت العناية في هذا الزمن بالتفسير؛ لأنّ كثيرين يظنّون أنّهم يعلمون كلام الله جل وعلا، ولا شكّ أنّ الذي يعلم كلام الله جل وعلا، ويعلم معانيه، ويدرك مراميه وإعجازه وبلاغته وما فيه، سيكون ملتذًّا بهذا القرآن مقبلا عليه، يطمئن قلبه وينشرح صدره حين يقبل على هذا القرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، و﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا[الكهف:1]، حمدا كثيرا دائما ما تتابع الليل والنهار، كلّما حمد الله جل وعلا الحامدون، وكلّما غفل عن حمده سبحانه الغافلون.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل ربي جل جلاله -وهو المجيب لمن سأل، والمعطي لمن أقبل- أن يجعلني وإياكم ممن بارك قولهم عملهم، وأن لا يكلنا لأنفسنا طرفة عين، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُلزمنا كلمة التقوى في الحياة والممات، إنّه سبحانه جواد كريم.
كما أسأل ربي جل وعلا أنْ ينفعني وإياكم بما نسمع أو نقرأ من العلم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، وأن يقيمنا على دينه ما أبقانا.
ثم إنّ من أنواع البركة التي يُفيضها الله جل وعلا على خاصة عباده أن يمن عليهم بمحبة العلم، ومحبة تداركه، والإقبال على ذلك، وحقيقة العلم هو العلم بكتاب الله جل وعلا وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذْ لا أرفع بالكلام ولا أعظم قدْرا من كلام ربنا جل وعلا، ولا أعظم ولا أرفع بعده من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، فالموفَّق والمبارَك من علم وعمل واجتهد في ذلك حتى يصيب منه ما كتب الله له، «واعملوا فكل ميسر لما خلق له».
ولهذا وصف الله جل وعلا كتابه بأنه مبارَك، وجعل من أصناف بركته التي أنزلها سبحانه وتعالى أنْ أنزل هذا الفرقان، كما قال سبحانه ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا[الفرقان:1]، وكما قال جل وعلا ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ[ص:29]، وقال أيضا جل جلاله ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ([1]) ونحو ذلك من الآيات التي فيها وصف القرآن بأنه مبارك؛ يعني كثير الخير لمن أقبل عليه، ففيه شفاء الصدور، وفيه شفاء القلوب، وفيه الهداية، وفيه التوفيق لمن أرد الله جل وعلا أن يوفقه.
وفي الآية التي ذكرنا وصف الله جل وعلا كتابه بأنه مبارك وأنه أنزله لأمرين فقال سبحانه في سورة ص (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) واللام هنا هي لام (كي)؛ يعني أن العلة من إنزال القرآن وجعله مباركا أن يتدبر العباد هذا القرآن؛ أن يتدبروا آياته، ثم لكي يتذكر أولوا الألباب، وهذا فيه عِظمُ شأن تدبر القرآن وعِظمُ شأن التذكر حين التلاوة، وهذا إنما يكون بالتدبر، فلا تذكر إلا بتدبر القرآن، ولكن خَصّ الله جل وعلا في التذكر؛ خَص أولي الألباب فقال (وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)، وفي الحقيقة أنّ الذي يتذكر بعد التدبر ويقبل على القرآن هو العاقل وهو ذو اللب؛ الذي بلغ الغاية في ذلك، وقد سئل أحد سادات التابعين في الكوفة، فقيل له -أظنه إبراهيم النخعي- فقيل له: من أعقل الناس؟ من أعقل الناس؟ فقال: أعقل الناس فلان الزاهد. فذهبوا لينظروا من عقله، ولينظروا من أمره، فما وجدوه إلا مقبلا على القرآن، وعلى أمر آخرته، فعُلم أن قصد إبراهيم أنّ أعقل الناس هو من أقبل على أشرف الكلام، وأقبل على أشرف مقصود وهو الدار الآخرة، ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص:83] فحضّ الله جل وعلا في هذه الآية على تدبر القرآن.
وموضوع هذه المحاضرة أثر من آثار تدبر القرآن عند أهل العلم؛ لأنّ الموضوع الذي سنتناوله يبحث في: علم مقاصد سور القرآن وأثر هذا العلم بالمقاصد في فهم التفسير.
ومعلوم أن التفسير إنما هو بتدبر القرآن، فالذي يعلم التفسير لا شك أنه قد تدبر قبل ذلك، فعلم إذا كان عنده أهلية بالعلوم التي ينبغي توفرها في المفسر، والناس بعد ذلك نقلة أو يتلقون ما قاله المفسرون، فلما حضّ الله جل وعلا على تدبر القرآن وجب حينئذ أن يُقبل العباد بعامة وأن يُقبل العلماء بخاصة على هذا القرآن، ليخرجوا كنوزه؛ لأن القرآن حجة الله الباقية إلى قيام الساعة، ويخرج منه بقدر العلوم وبقدر ما فتح الله على عبده يخرج منه من الفهوم ومن العلم؛ ما هو تفصيل وبيان لبعض كلمات المتقدمين من الصحابة والتابعين مما قد لا يدركها كل أحد، وهذه الجملة يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
فإذن علم التفسير من العلوم المهمة، وها أنتم تستقبلون دورة علمية، أو دروسا علمية في هذا المسجد المبارك في علوم شتى؛ من علم التوحيد، والحديث، والمصطلح، ونحو ذلك مما هو معلوم، وعلم التفسير أيضا أنتم بحاجة إليه؛ لأنّ القرآن هو أعظم ما يقبل عليه، فإذا علمت القرآن علمت الشريعة، ولهذا قال طائفة من العلماء: المفسر يحتاج إلى علوم كثيرة:
منها علم اللغة؛ لأن القرآن أُنزل بلسان عربي مبين ﴿حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ[الزخرف:1-4]، واللغة أقسام: منها النحو، ومنها علم المفردات، ومنها البلاغة بأقسامها الثلاثة، منها [الاستقراء]، إلى آخر علوم اللغة.
ثم علم التوحيد الذي هو الأساس، فالقرآن كله في توحيد الله جل وعلا، من أوله إلى آخره كله في التوحيد، وذلك أن القرآن:
jإما أن يكون ما فيه خبرا عن الله جل وعلا؛ وعن صفاته سبحانه وتعالى، وعما يستحقه جل وعلا من توحيده بالعبادة، والبراءة من الشرك وأهله، ونحو ذلك، فهذا واضح بأنه في توحيد الله جل وعلا.
kوإما أن يكون ما فيه خبرا عن أنبياء الله جل وعلا وعن رسله وعن قصصهم، فهذا خبر عن أهل التوحيد، وما جعل الله جل وعلا لهم؛ جعل لهم في الدنيا من الأحوال والعاقبة ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[فصلت:18].
lوإما أن يكون وهو القسم الثالث؛ أمرا ونهيا؛ أمر بأداء الفرائض، ونهي عن ارتكاب المحرمات، وهذا في حقوق التوحيد ومكملاته؛ لأن من وحد الله جل وعلا أطاع الله في أمره وانتهى عن نهيه وتخلص من داعي شهوته وهواه.
mوالأمر الرابع خبر عن الأمور الغيبية، وما يحصل بعد الممات من النعيم والعذاب، ومن الجنة والنار، ومن [الحظور والشرور]([2]) لطائفة، ومن العذاب والنكال لطائفة، فهذا جزاء الموحدين وهذا جزاء المشركين.
وهذا المعنى العام من العلوم المهمة للمفسر؛ لأن سور القرآن لا تخرج عن هذه الأحوال الأربعة، فكل سورة إما أن تتناول هذه الأقسام الأربعة، وإما أن يكون فيه؛ يعني في السورة بعض من هذه الأقسام.
والعلم الثالث العلم بالسنة لأن السنة مفسرة للقرآن ومبينة له.
والعلم الرابع العلم بالفقه وأحكام الحلال والحرام والعبادات والمعاملات؛ لأن القرآن فيه آيات كثيرة في هذا الباب.
والعلم الذي يليه؛ علم الجزاء يوم القيامة وأحوال الناس فيه، وهذا في القرآن منه الشيء الكثير.
ثم علم أصول الفقه والعلوم المساعدة لأصول الفقه؛ لأن بها فهم كثير من آيات الله البينات.
إذا تبين لك هذا فإن المفسر الذي تكونت عنده حصيلة راسخة من هذه العلوم يمكنه أن يتدبر القرآن، وأن يكون مستخرجا لما فيه من الدلالات والعبر وموضوعات السور ومقاصد الصور، كما سيأتي بيانه، مكتفيا في ذلك بما فسّر به الصحابة والتابعون كتاب الله جل وعلا.
لهذا فإن موضوع هذه المحاضرة هو موضوع في التفسير، والتفسير أبوابه كثيرة ومختلفة، ولكن قلَّت العناية في هذا الزمن بالتفسير؛ لأن كثيرين يظنون أنّهم يعلمون كلام الله جل وعلا، ولا شك أن الذي يعلم كلام الله جل وعلا، ويعلم معانيه، ويدرك مراميه وإعجازه وبلاغته وما فيه، سيكون ملتذا بهذا القرآن مقبلا عليه، يزن قلبه وينشرح صدره حين يقبل على هذا القرآن.
إذن فالوصية في مقدمة هذه الدروس العلمية أن يهتم الجميع في القرآن حفظا وتلاوة، ثم الاهتمام بتدبر القرآن وتفسيره عبر كتب التفسير المعتمدة، وخاصة كلام الصحابة والتابعين وتابعيهم والمأمونين من أئمة أهل العلم والدين والتفسير.
الموضوع كما سمعتَ؛ مقاصد السور، العلم بمقاصد السور لم ينص عليه الأوائل، وإنما اعتبره الصحابة والتابعون –بالاستقراء-، اعتبروه في تفسيرهم، ولكن لم ينص على هذا العلم بهذا الاسم إلا عند المتأخرين، وذلك شأن جميع العلوم، فإن العلوم كانت ممارسة عند السلف، لكن لم تكن التسمية موجودة، فعلم النحو كان ممارسا ولم يكون موجودا، البلاغة كانت ممارسة ولم تكن موجودة، علم أصول الفقه كان ممارسا في بعض الأحكام من القواعد الأصولية ولم يكن موجودا بهذا الاسم، وهكذا في علوم القرآن في أنحاء شتى، ومصطلح الحديث وعلوم أخرى.
فما المقصود بعلم مقاصد السور؟ معلوم أن الله جل جلاله هو الذي تكلم بهذا القرآن وأن القرآن كلامه ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ فالقرآن كلام الرب جل جلاله، ومقاصد السور يُعنى بها عند أهل هذا العلم: الموضوعات التي تدور عليها آيات سورة ما. يعني أن سورة من السور التي في القرآن أو أن معظم السور أو كل السور لها موضوع تدور عليه الآيات والمعاني التي في هذه السورة، إذا عُلم هذا المقصد؛ يعني هذا الغرض هذا الموضوع، فإن فهم التفسير سيكون سهلا، بل سيفهم المرء كلام الأولين، وسيفهم كلام المحققين بأكثر مما إذا أخذ الآيات مجردة عن موضوع السورة كما سيأتي في مثال نستعرضه إن شاء الله تعالى.
وأصلا في بحث مقاصد السور لم يكن بحثه في تاريخ العلم مبكرا، فإنما بحث قبله بُحث يسمى المناسبات، والعلماء اختلفوا في موضوع المناسبات، ويعنون بها مناسبات الآي؛ هل الآية هذه جاءت بعد الآية لمناسبة؟ هل بين الآية الأولى والثانية رابط؟ والثانية والثالثة بينها مناسبة؟ هل هذه الآيات في نظامها بينها وبين موضوع السورة اتصال؟ هذا يبحث في علم التفسير ويبحث في إعجاز القرآن، ولهذا عد طائفة من العلماء أن من وجوه إعجاز القرآن، وهو المنزل آية وبرهان ومعجز للخلق أجمعين، أنّ من وجوه الإعجاز أن يكون للسورة موضوع تدور عليه، وأن يكون بين الآيات ترابط هذه الآية بعد تلك، هذه القصة بعد تلك لغرض معلوم.
لهذا قلّ من يطرق هذا الموضوع من المفسرين أو من العلماء ولعدم كثرة طرقه أسباب منها:
أولا: فيه نوع من الجرأة على كتاب الله جل وعلا، ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أنّ السور ليس لها موضوعات، وإلى أنّ الآيات لا تناسب بينها، وهذا قال به قليلون وغُلطوا في ذلك، فموضوع السورة يحتاج إلى قراءة السورة عدة مرات وتدبر ذلك ومعرفة كلام العلماء في التفسير حتى نفهم هذه السورة ما الموضوع الذي تدور عليه.
السبب الثاني: أن كثيرين من أهل العلم لم يتناولوا التفسير إلا عبر مدرسة تفسير الآيات، ومدرسة تفسير الآيات منقسمة إلى مدرستين؛ مدرسة التفسير بالأثر ومدرسة التفسير بالاجتهاد، وكلها راجعة إلى تفسير الآية وتفسير الكلمات في الآيات، أما الربط بين الآيات فلم يكن من مدارس التفسير المعروفة، ما صار له ذكر ولا قوة عند أهل العلم بالتفسير.
والسبب الثالث في عدم اشتهار هذا الموضوع: أن من تجرأ وكتب فيه من أهل العلم، وقال: إن للآيات تناسب وإن للسور موضوعات. رد عليه طائفة من العلماء وغلطوه بل ورموه بالقول على الله جل وعلا بلا علم، فهاب كثيرون أن يدخلوا هذا المضمار؛ لأجل براءة الذمة، ولأجل ألا يحملوا أنفسهم ما لا يطيقون، وهذا مقصد صائب.
ولغير ذلك من الأسباب.
ولهذا نقول العلماء في موضوع تركيب الآيات، والتناسق بين الآيات، وأن هذه الآية بعد هذه الآية لغرض، وأن هذه القصة بعد هذه القصة لغرض، وأنّ القصة لها موضوع ومقصد، اختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال:
أما القول الأول: وهو أنه لا تناسب بين الآيات، بل تنزل الآية بحسب الوقائع، وتوضع في المصحف بحسب ما يأمر الله جل وعلا جبريل به فيأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ضعها في سورة كذا في موضع كذا، وأنّ هذا بحسب الوقائع وحسب الأحوال، ولا يقتضي ذلك تناسبا بين الآية والآية، وصلة بين الآية والآية.
والقول الثاني: أنّ سور القرآن لا تخلو سورة إلا ولها موضوع، وليس ثم آية وبعد آية إلا وبينها تناسب وصلة، وأنه بين أول السورة وبين ختام السور تناسب، وأنه بين آخر السورة وأول السورة التي تليها تناسب واتساق في الموضوع، وأنه إلى آخر الأسرار واللطائف في علم التفسير، مما جعلوا ذلك لا يخرج عنه شيء البتة، وهذا قول قليلين من أهل العلم منهم البقاعي فيما صنف في نظم السور، والسيوطي وجماعة ممن قبلهم وبعدهم.
والقول الثالث: وهو القول الوسط وهو أعدل الأقوال، أنّ سور القرآن منها سور يظهر للمجتهد؛ يظهر للعالم بالتفسير، يظهر له موضوعها، ويظهر بين آياتها من التناسب، فهذا إذا ظهر لا حرج في إبدائه؛ لأنّ الله جل وعلا جعل القرآن محكما ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[هود:1]، فالقرآن كتاب لو بحثت فيه عن خلل لو بحثت فيه عن عدم اتساق لن تجد ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[النساء:82]، فإذا ظهرت المناسبة وظهر الموضوع فلا مانع أنْ يقال هذه السورة موضوعها كذا، وهذه الآية بينها وبين ما قبلها المناسبة الفلانية، بحسب ما يظهر للعالم بالتفسير وللمجتهد، دون أنْ يكون الهمّ تطلّب ذلك والتكلف فيه؛ لأن التكلف فيه قد يُفضي إلى القول في المسألة بلا علم والاجتهاد فيما لا طائل منه وقد يكون الاختلاف فيه كبيرا.
وهذا القول الثالث هو القول المعتدل الذي سلكه طائفة من العلماء في التفسير والعلماء بالاجتهاد، ومنهم ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وجماعة من المحققين في التفسير، ويظهر لك صوابه فيما إذا نظرت إلى الكتب المؤلفة في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور ونحو ذلك، فإنّ فيها أشياء متكلّفة، وفيها أشياء يتضح حسنها؛ بل إذا نظر ت إليها وتدبرت ما قيل من المناسبات والاتصال بموضوعات السور زادك يقينا بأنّ هذا القرآن إنما هو كلام الله جل وعلا، وإذا قرأت السورة أحسست بتأثير فيها ليس كتأثير من لم يعلم موضوع السورة ولا تناسب الآيات فيما يُذكر.
لهذا نقول إن هذه الأقوال الثلاثة المختار منها الثالث، وهو الذي يهم أن تعتني به من كلام أهل العلم؛ لأنّ فيه الفائدة المرجوّة إن شاء الله تعالى.
المصنفات في هذا الباب كثيرة، حتى زعم ابن العربي المالكي وهو من أهل الأندلس قد اتصل بالمشرق في فترة من عمره، زعم أنه كتب كتابا –زعم بمعنى قال؛ لأنّ زعم لا تعني التكذيب، زعم في اللغة بمعنى القول كما في الحديث الصحيح «أتانا رسولُك يزعم أنّك تزعم أنّ الله أرسلك»، قال العلماء بأن الزعم يستعمل بمعنى القول–، المقصود من هذا أن ابن العربي المالكي صاحب أحكام القرآن، وعارضة الأحوذي، وشرح الموطأ وكتب كثيرة معروفة، زعم أنه كتب كتابا في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور وعرضه على الناس في زمانه، قال: رأيت الناس بَطَلَة لم يقبلوا عليه، ولم يهتموا له مع عظيم علمه وشرف معلومه، قال: فلما رأيت ذلك الإعراض منهم أحرقته وجعلته بيني وبين الله جل وعلا.
وكتب أيضا الرازي في تفسيره بعض المناسبات.
وإلى أنْ وصل الأمر إلى الزركشي؛ فعرض في كتابه علوم القرآن المسمى ”بالبرهان“، كتب فيه أبوابا جيدة بالتناسب والمقاصد، وهي قصيرة لكنها فيها تأصيل لهذه المسألة.
ثم جمع ذلك مع تأمل البقاعي في كتابه الشبيه بالتفسير الذي أسماه”نظم الدرر في تناسب الآيات والسور“ وهو مطبوع في الهند، كتاب كبير في نحو اثني وعشرين مجلدا، والتزم فيه بأنْ يذكر مقصد السورة وأنْ يذكر التناسب بين كل آية والتي بعدها والتناسب بين آخر السورة والتي قبلها إلى آخر ما ذكر، مما جعله متكلفا في كثير من المواضع، حتى قال عن نفسه أنه ربما مكث شهرا في تأمل آية بعد آية ما المناسبة بينها، وعلماء عصره منهم من رد عليه لهذا التكلف الذي تكلفه في كتابه.
ثم السيوطي كتب عدة كتب في ذلك، وذكر في كتابه إعجاز القرآن الذي اسمه ”معترك الأقران في إعجاز القرآن“ ذكر من وجوه إعجاز العلم بالمقاصد، وتناسب الآيات والسور إلى آخر ذلك.
إذن فهذا العلم مكشوف بين علماء التفسير الذين كتبوا في علوم القرآن، ولكن ما بين مجيد فيه، وما بين مقصر في ذلك.
وإذا تأملت هذا الموضوع وجدتَ أنّ كثيرين من المفسرين يقولون هذه السورة فيها الموضوع الفلاني.
مثل ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية مثلا في سورة المائدة بأن هذه السورة كلها مختصة بعلم الأحكام الحلال والحرام والعقود بخاصة، حتى قصص الأنبياء التي فيها لها صلة بالأحكام، وحتى قصة ابني آدم لها صلة بهذا الموضوع.
سورة الفاتحة سُميت أم القرآن؛ لأن مقاصد القرآن التي فيه هي في سورة الفاتحة، وهكذا.
فإذن من أهل العلم من نص على الموضوع والمقصد، ومنهم من عرض له بدون التنصيص عرض له عمليا.
كيف يمكن أنْ يفهم المتدبر أو المفسّر الموضوع؟ يعني إذا أراد أن ينظر كيف يعرف الموضوع؟ الوسائل التي بها يعرف موضوع السورة؟
نذكر من ذلك بعض الأمور:
أولا أنْ ينص العلماء أو طائفة من العلماء المحققين على أنّ هذه السورة في الموضوع الفلاني.
مثلا سورة الإخلاص في توحيد الأسماء والصفات، أو في التوحيد العلمي الخبري.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1] سورة الكافرون في التوحيد؛ توحيد الطلب توحيد العبادة.
سورة الفاتحة في بيان محامد الرب جل وعلا.
سورة النحل في النعم.
سورة الكهف في الابتلاء.
سورة العنكبوت في الفتنة.
سورة البقرة في بيان الكليات الخمس والضروريات التي تدور عليها أحكام الشريعة، وبيان عدو من أعداء الإسلام وهم اليهود.
سورة آل عمران في تكميل ذلك، مع بيان عدو جديد وهم النّصارى، والحوار معهم، ثم مجاهدة المشركين.
سورة النساء في بيان أحكام النساء والمواريث، وخُصّص ذلك في النساء لأجل هضم الجاهلية لحقوق النساء ونحو ذلك، ثم بيان أحكام العدو الثالث وهم المنافقون.
ثم سورة المائدة في بيان أحكام الحلال والحرام والعقود، إلى آخر ذلك مما هو تفصيل لأحكام الكليات الخمس وأحكام الشريعة التفصيلية.
وهكذا في أنحاء شتى، وهذا ينص عليه طائفة من العلماء بأن السورة في الموضوع الفلاني.
إذن نعلم موضوع السورة بأنْ ينص على هذا الموضوع وهذا المقصد للسورة بعض أهل العلم، فيقال هذه السورة في الموضوع الفلاني، وكذلك المناسبات بين الآي بأن ينص بعض أهل العلم المتحققين الراسخين؛ بأن هذه الآية جاءت بعد هذه الآية لأجل كذا فيما بينهما من الارتباط، وهذه السورة بعد هذه السورة لما بينهما من الارتباط وهكذا.
الوسيلة الثانية لمعرفة موضوع السورة والمقصد الذي تدور عليه السورة، المقصد نعني به الغاية أو الموضوع الكلي الذي تدور عليه السورة، أنْ يكون موضوع السورة ظاهر من أولها ثم والمفسر يقرأ يظهر له أن كل السورة مبيني على أولها.
مثل مثلا سورة القيامة ﴿أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ[القيامة:1-2] كل ما فيها ذكر لأحوال القيامة، ثم أحوال الموت، وما يدل أو وسائل الإيمان بيوم القيامة، لهذا بُحث هنا مثلا في سورة القيامة، بُحث عند من اعترض على موضوع السورة بقول الله جل وعلا ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[القيامة:16-19]، قال طائفة من العلماء –طائفة يعني واحد أو أكثر- قال طائفة من العلماء إنّ هذه الآيات لا صلة لها بموضوع القيامة (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)قال ما صلتها بموضوع القيامة؟ ما صلتها بموضوع الموت والعاقبة إلى آخره؟ وطبعا الآخرون ذكروا مناسبة ذلك وبينوه ومما هو ظاهر بين.
نأخذ سورة الواقعة مثلا سورة الواقعة ﴿إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)إِذَا رُجَّتْ الْأَرْضُ رَجًّا(4)وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا(5)فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً[الواقعة:1-7] سورة الواقعة صار موضوعها حول تقسم الناس يوم القيامة ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال. ثم بعد ذلك أدلة تتعلق بهذا الأصل، ثم حال الناس عند النزع، وأين تذهب أرواحهم، فتلحظ من السورة أن الموضوع بين من أولها إلى آخرها، وهذا يتضح لك من أول السورة.
فإذن السبب الثاني أو الوسيلة الثانية لاستخراج المقصد أن يكون موضوع السورة ظاهرا من أولها.
الوسيلة الثالثة لإدراك ذلك: الاستقراء؛ الاستقراء للآي من عالم بالتفسير، إما استقراء كاملا أو استقراء أغلبيا، وقد ذكر علماء الأصول أن الاستقراء الذي يُحتج به على قسمين: الاستقراء الكامل أو الاستقراء الأغلبي؛ لأنه حتى القواعد ما من قاعدة إلا ولها شواذ، فالاستقراء الأغلبي حجة كالاستقراء الكلي في الاحتجاج، لكن في القوة الاستقراء الكلي أعظم من الاستقراء الأغلبي، فإذا استقرأ الآيات واستخرج المفسر موضوعا ولو لم يسبق إلى ذلك، فإن هذه وسيلة ظاهرة من وسائل إدراج المعنى فيما إذا كان مصيبا فيه غير متكلف في ذلك.
وهناك وسائل أخر.
إذا تبين لك ذلك فنأتي إلى ما قد ينشطكم أكثر بعد هذا العرض النظري العلمي المقعّد بعض الشيء، إلى ما ينشط أكثر في بيان مثال لمقصد السورة، ثم النظر في الآيات التي تدور حول هذا المقصد، نأخذ مثالين:
الأول: سورة الفاتحة باختصار.
والثاني: سورة العنكبوت بنوع تطويل.
>أما سورة الفاتحة فهي فاتحة الكتاب، وهي أم القرآن، وتسمى أيضا سورة الحمد، افتتحها الله جل وعلا بحمده، فقال ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]، وحمدُه جل وعلا هو الذي تدور عليه السورة؛ بل أوّل الخلق أبتدئ بالحمد، وآخر ما ينتهي إليه الخلق إلى الحمد، والناس في الأولى والأخرى بل الخلق كله من الناس وغيرهم من المكلفين وغير المكلفين يدورون بين الحمد، وله الحمد في الأولى والآخرة سبحانه وتعالى، خلق السموات والأرض بالحمد ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ[الأنعام:1]، وحين ينتهي الجزاء ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الزمر:75]، قيل؛ يعني قال الوجود، قالت الملائكة، قالت الخلائق بعد أن دخل أهل الجنةِ الجنةَ، ودخل أهل النارِ النارَ، واستقرت الأمور.
فافتتح الله جل وعلا الكتاب بحمده كما أنه حمد نفسه على إنزال القرآن فقال ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)قَيِّمًا[الكهف:1-2].
فإذا كان كذلك، الحمد دارت الحياة عليه والخلق عليه وإنزال الكتب وبعث الرسل عليه، ولهذا صار الحمد هو أعظم ما يُفتتح به الكتاب الخاتم قال جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، لهذا إذا تأملت القرآن وجدت أن الحمد يدور على خمسة معاني:
المعنى الأول: أن يحمد الله جل وعلا على ربوبيته.
والثاني: أن يحمد على ألوهيته.
الثالث: أن يحمد على أسمائه وصفاته.
الرابع: أن يحمد جل وعلا على خلْقِه سبحانه وتعالى وإحداثه وإبداعه الكائنات.
والخامس والأخير: أن يحمد الله جل وعلا على شرعه وكتابه وما أنزل.
الناس الآن؛ يقول فلان، يعني الحمد عندهم بمعنى إيش؟ بمعنى الشكر، فهل يدخل الحمد بمعنى الشكر في أحد هذه العناصر؛ في عدّ هذه الأقسام الخمسة للحمد؟ نعم وهو الحمد على خلق الله جل وعلا للصغير والكبير؛ لأنه ما من نعمة تسدى إليك إلا والله جل وعلا هو الذي خلقها، فيُحمد على ما أدى وعلى ما أرسل.
إذن سورة الفاتحة تدور في موضوعها على أركان حمد الله جل وعلا، والقرآن كله لو استوعب فإنه يدور من أوله إلى آخره على أنواع حمد الله جل وعلا، فإما أن تكون الآية أو السورة في حمده سبحانه على ربوبيته، أو على ألوهيته، أو على أسمائه وصفاته، أو على شرعه وكتابه وما انزل، أو على خلقه وقدره سبحانه وتعالى.
ما معنى الحمد؟ قال العلماء: الحمد هو إثبات أنواع الكمالات للمحمود، إثبات أنواع الكمال للمحمود بحيث إنه فيما أُسس له من الكمال لا نقص له فيه بوجه من الوجوه، والله جل وعلا هو المثبت له أوجه الكمال في ربوبيته، وأوجه الكمال في إلهيته، وهو المثنى عليه بأوجه الكمال في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وفي شرعه وتنزيله وكتابه، وفي قدره سبحانه وتعالى وفي خلقه.
إذا كان كذلك، قال العلماء (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) معناه أن أنواع الحمد لأن الألف واللام هنا للاستغراق؛ الألف واللام تأتي لثلاثة أنواع في التفسير الألف واللام للتعريف للاستغراق للملك وللاختصار.
الأول للتعريف يشملها كأن تقول للاستغراق للملك للاختصار متى تكون الألف واللام للاستغراق إذا كانت يصح أن تضع مكانها (كل).
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذا قلت: كل حمد لله رب العالمين. صح أو لم يصح؟ صح فإذن هي للاستغراق، فإذن هنا نقول الحمد لله رب العالمين هذه مستغرقة لجميع أنواع المحامد لله جل وعلا، أنواع المحامد هذه الخمسة التي ذكرنا. (لله) اللام الثانية هذه إيش؟ اللام للاستحقاق يعني كل حمد لله جل وعلا فهو مستحَق له سبحانه وتعالى، طبعا (الـ) التي في الحمد هذه (الـ) للتعريف واللام هذه لام حرف جر هي التي تأتي للملك ولتمام الملك وللاختصار وإلى آخره.
تأتي إلى (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،([3]) أولا (رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذا جُعل لأي شيء؟ إلى الربوبية، وقد ذكرنا لك أنّ من أركان الحمد؛ يعني ما يثنى على الله به الربوبية، فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ثم (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هذا فيه الصفات، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فيه الصفات وفيه الشرع والكتاب، وفيه أيضا الخلق والأمر، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فيه إيش؟ الألوهية، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه الربوبية، فيه أيضا القدر؛ لأنك تستعين بمن يعين ما يحدث فيملكوته. (نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) من النعم الدينية هو الهداية إلى الصراط المستقيم، فهو المحمود على كل نوع من أنواع الهداية للصراط المستقيم، ثم وصف قال (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وهذا من أنواع النعم التي يحمد عليها، وهي راجعة إلى أحد أركان الحمد، ثم أيضا يفصل في ذلك في الموضوع بأشياء من نظر آخر؛ بأنواع المحامد، وأنواع الصفات، وأنواع العبودية، وأنواع الاستعانة إلى آخر ما هنالك.
هذا عرض موجز لما في هذه السورة من مما يدور حولها ذكره بعض العلماء.
>المثال الثاني سورة العنكبوت؛ سورة العنكبوت سماها بعضهم أو قال بعضهم إنها تدور حول الفتنة، الفتنة ظاهرة في أول السورة قال جل وعلا ﴿الـم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، فالفتنة ذُكرت نصا في أول السورة، الفتنة تكون بأي شيء؟ المرء يفتن بعقله، يفتن بالدنيا، يفتن بوالديه، يفتن بأهله، يفتن بطول المكث وطول العمر، يفتن بعدم وجود العذاب، يفتن إذن عن إدراك الحقيقة بأنواع من الفتن كلها موجودة في هذه السورة.
فإذن في هذه السورة سورة العنكبوت ذكر الله جل وعلا أنواع وأصول الفتن، وذكر كيف ينجو المرء من هذه الفتنة؛ لأن الحقيقة أن الحياة إنما هي ابتلاء وفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍالذي رواه مسلم في الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى «يا محمد إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ» فحقيقة الحياة أنها فتنة، والفتنة هل هي بالشر أو بالخير؟ هي بالشر والخير معا، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].
إذن هذه السورة ذكر الله جل وعلا في أولها (أَحَسِبَ النَّاسُ)، الناس يشمل من؟ يشمل المؤمن ويشمل الكافر، يشمل الكبير ويشمل الصغير، يشمل جميع الطبقات، جميع الطبقات في تعاملها مع الجميع، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) تقول المؤمن، فمتى يصدق الإيمان؟ إذا عرضت لك الفتنة فنجوت منها بشرع الله جل وعلا، فقد تفتتن بنفسك، فيه أناس يفتتن بجماله، يفتتن بحسنه، امرأة تفتتن بما لها بما عندها، رجل يفتتن بماله، أحد يفتتن بوالديه، لذلك تجد في هذه السورة تجد أن في هذه السورة ذكرا لجميع أنواع وأصول الفتن والجواب على ذلك.
خذ مثلا في أولها قال الله جل وعلا ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ [بِي]([4]) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ[العنكبوت:8] لاحظ الوالدان يفتنان؛ يجاهدان للشرك، يجاهدان ليشرك العبد، هذه أليست فتنة؟ فتنة عظيمة، وقد ذكر المفسرون أنها نزلت في قصة سعد بن أبي وقاص لما أرادته أمه على الكفر والشرك، ومع ذلك قال الله جل وعلا أن يصاحب والديه حسنا لكن لا يطيع؛ قال (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقال في أولها (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) هذه فتنة عظيمة، ما المخرج منها؟ المخرج منها في تحقيق شرع الله ألا تطيع في الكفر والشرك أو في معصية الله لكن تصاحب بالحسنى، ومن الناس من تعرض عليه الفتنة فيصاحب والديه لا بالحسنى ولكن عن عقوق، ويكون قد وقع في بعضها، لكن من يصبر على هذا الأمر العظيم، وهو أن يصاحب بالحسنى وألا يطيع، هذا النجاة من الفتنة في هذه الحال.
من أنواع الفتن أن يكون أناس كثير يكفرون بالله جل وعلا؛ لا يؤمنون، فيأتي المرء فيظن أنه وأهل الإيمان قليل، وأنّ الكفار أو المنافقين أو المجرمين أو العصاة، أنهم كثير، كيف هو يستقيم، هذا نوع من الفتنة يعرض على القلوب، وقلّ من الناس من يثبت ينظر الناس كلهم كذا، وفي هذه السورة الخبر، وفيها العلاج فاقرؤوا وتأملوا.
من الفتن أيضا التي ذُكرت في هذه السورة أن الإنسان ينظر إلى طول مكث أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى طول مكثهم في الأرض، إلى طول مكثهم يتمتعون بالقوة، إلى طول مكثهم وهم الذين يسيطرون من أعداء الله من الكفار والمشركين، فربما يحمله ذلك على أن تُزين له الدنيا وأن يصد عن سبيل الله ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[البقرة:212] هذه في سورة البقرة، في هذه السورة في سورة العنكبوت ذكر الله جل وعلا أولا قصة نوح عليه السلام في آيتين، ما مناسبة هاتين الآيتين لموضوع السورة وهو الفتنة؟ قال جل وعلا ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(14)فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(15)وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ[العنكبوت:14-16] قصة نوح في آيتين ما مناسبتها؟ طول هذا المكث تسعمائة وخمسين سنة وهو يدعوهم، والمؤمن قليل كما أنت تعلم في سور أخرى، ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ[هود:40]، قال العلماء: كان المؤمنون ثلاثة عشرة نفسا. وقال آخرون: كانوا بضعة وسبعين من الرجال والنساء. مكث ألف سنة والشرك بالله جل وعلا يعلو، عبادة الأوثان ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهذا ينصحهم يدعوهم ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، ولا مستجيب إلا هذه الفئة القليلة، ألا يحصل للقلوب فتنة؟ يحصل فتنة، ليست مرور عشر، عشرين سنة، خمسين سنة، مائة سنة. مرّت مائة، مائتان، ثلاثمائة، أربعمائة، خمسمائة، ألف سنة إلا خمسين عاما، وثم جاء فرج الله جل وعلا، إذن فقد يفتتن المرء بطول مكث الأعداء، فهذه السورة نبهت المؤمن الصادق، ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ[العنكبوت:11]، وقال في الآية التي قبلها (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا)؛ (الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) متى يعلم؟ إذا عُرضت الفتن فنجى.
فإذن موضوع السورة عندنا الفتنة، حتى قصة النبي كان مرجعها إلى الفتنة بما ينجيك أنت من الفتنة التي تطاولت، بعض الناس يظن أن أمر الله جل وعلا يحصل له كما يريد، لا، حكمة الله ماضية، الله جل وعلا يبتلي كما ابتلى نوح عليه السلام وقومه بأنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يستجب منهم إلا القليل، هذا نوع من الافتتان، المخرج منه في هذه السورة وهو الصبر (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ).
قصة إبراهيم عليه السلام في نوع من الفتنة في من يجازف، في من يحاول في من....([5]) لا يستسلمون، وإنما يكيدون ويتخذون أشياء للمودة وللدنيا، وقال ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ[العنكبوت:25]الآية، فإذن فيه مجادلات إلى آخره، وهذه يحصل فيها نوع افتتان، قلَّ من يصبر على الحق، ويمكث عليه، وأن لا يتأثر في هذه الفتنة في الشبه التي يلقيها المشركون أو التي يلقيها الكفار، وهذه الشبه تتجدد بتجدد الأزمان.
بعدها ذكر الله جل وعلا قصة لوط عليه السلام، وفيها الافتتان بالشهوة؛ الافتتان بشهوة الرجال التي هي مناقضة للفطرة، وأيضا شهوة بأنواعها، والإعلان بها، وأنه لا ضرر منها، ون نهى عنها إنما هو الذي يهجن هو الذي يرد عليه، نهاهم ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ﴾ ولكن قالوا له ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ[العنكبوت:29]، فتنة لأنّ زوجة لوط التي هي في بيته كانت ممن وقعوا في شراك أولئك؛ فهي تدل الرجال على الرجال الذين يأتون لوطا أو نحو ذلك، ﴿[لَنُنَجِّيَنَّهُ]([6]) وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ[العنكبوت:32] هذا نوع من الفتنة من الشهوة، الشهوة ما المخرج منها؟ المخرج منها بأن يعلم الإنسان أنها فتنة، الشهوة التي في جسم الإنسان أرادها الله جل وعلا لبقاء النسل، ولأن يختبر العبد هل يصبر أم لا يصبر، هل يتحمل ويسير على ما أراد الله جل وعلا أم يتبع نفسه هواها ويطلق الحبل على ما يريد، فصارت الفتنة فأوقع الله جل وعلا العقوبة فيمن لم ينتهوا عن نهيه جل جلاله.
من الفتنة أيضا أن يكون الناس في علم، وأن يكون المستمع يعلم، ولكنه لا يأبه بالعلم، الجاهل يُعَلَّم، لكن من يعلم أو المستمع الذي ينتشر فيه العلم، ويعلم الناس الحدود ويستفسرون، ولكن مع ذلك يخالفون، أليست هي فتنة؟ العلم لم يكن إذن في حقهم نعمة بل كان فتنة، لهذا ذكر الله جل وعلا أن عادا وثمودا كانوا علماء؛ علموا وكانوا مستفسرين، ولكنهم مع ذلك خالفوا قال سبحانه ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ[العنكبوت:38]، (زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)، هل كانوا يجهلون؟ لا، كان العلم قاصرا؟ لا، يعلمون ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، والحالة أنهم كانوا مستبصرين على بصيرة، وهذه فتنة عظيمة؛ أن يكون المرء على علم ويترك العلم الموروث عن الرب جل جلاله وعن نبيه صلى الله عليه وسلم.
القوة أيضا فتنة، المجادلة والحوار، الآن يطرح في كثير من الأحيان مباحث الحوار، الحوار مع النصارى، الحوار بين الحضارات، الحوار بين الديانات، الحوار بين المذاهب، الحوار بين الملل، إلى آخره، وهذا الحوار نوع من الفتنة، والآن تبثه بعض القنوات الفضائية؛ لأن فيه تأثيرا على من قلبه ضعيف، يرى ملل ونحل، وهذا يعبد كذا وهذا يعبد كذا، قد يشك ويفتتن، لكن المؤمن الصادق يعلم أن هذا التنوع وهذا التعدد وهذا الاختلاف إنما هو دليل من أدلة أنّ الحق واحد، وأنّ هؤلاء كما قال جل وعلا ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً[الغاشية:3-4] أرادوا الطريق إلى الله جل وعلا فأخطؤوا، لكن موضوع الحوار يحاول المرء أو لا يحاول؟ يجادل أم لا يجادل؟ هذه قد تعرض عن المرء هذه الفتنة، ولكن من الذي يجادل ومن عنده علم، وليس كل أحد، ولهذا ذُكر كما يعلم بعضكم أنّ أناسا جادلوا، إما جادلوا ملحدا، أو جادلوا غير مسلم أو نصراني أو يهودي، أو جادلوا صاحب ملة من الملل أو مذهب من المذاهب الضالة، أو نحو ذلك، فربما غلب، أو ربما كان أقوى فوقع الافتتان في الناس، الله جل وعلا في هذه السورة بين أن الفتنة تقع إذا لم يكن الحوار من عالم وبالتي هي أحسن فقال جل وعلا ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46)وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ[العنكبوت:46-47] إلى أنْ قال جل وعلا ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[العنكبوت:49] –نستمع للأذان-.
نكمل الحديث عن مثال سورة العنكبوت بأثر فهم مقصد أو موضوع السورة على العلم بالتفسير، فذكر جل وعلا النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، لكن ممن؟ ممن هو عالم بالقرآن فقال (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ولهذا من لم يعلم القرآن، وحجج القرآن، وبينات القرآن، والبراهين التي في القرآن، وكيف جاء في القرآن الحوار مع الملحد ومع المتجبر ومع الطاغوت ومع الناس بجميع أصنافهم، من لم يعلم ذلك فإنه لا يصلح للحوار، فليس كل أحد يحاور برأيه وبفكره، وإنما الحوار للعلماء، الحوار كما يسمى أو المجادلة كما في القرآن، هذه إنما هي لأهل العلم الذين يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذن تقع الفتنة؛ الفتنة بالمجادلة، يقول له جادلني، ليش أنت ما تجادل؟ ويبدأ يبقى أحدهم في الجدال والحوار ويبحثون القضايا، هذا نوع افتتان للعامة، فإذن لابد هنا أن ينظر المرء في هذه الحال؛ أن يكون معتزا بدينه، وأن يعلم أن القرآن هو الحق، وأنه الذي كان في صدره فهو الذي على الحق؛ لأنّ القرآن حجة ماضية على الجميع، ولهذا قد يكون المرء لا يعلم بعض الحجج، فإذا كان كذلك فإنه يقول كما قال الله جل وعلا (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وهذا المجادلة الإجمالية ثم التفصيل عند من يعلم القرآن ويعلم الشريعة.
من الفتن التي ذُكرت أيضا في هذه السورة؛ أن يجعل الله جل وعلا الحياة جميلة بلهوها ولعبها وما فيها من الملذات حتى ينسى المرء الآخرة، قال جل وعلا في آخر السورة ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ[العنكبوت:64]؛ لأن كثيرين من الناس افتتنوا بالحياة؛ لهو ولعب ويظن أنها ستمتد ولا يعلم حقيقة الحياة، قال جل وعلا بعدها ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64]، (الْحَيَوَانُ) وهذا صيغة مبالغة من الحياة؛ يعني الدار الآخرة؛ يعني الجنة والنار هي ذات الحياة الباقية الكاملة، فمن أراد قمّة النعيم وكمال النعيم والتلذذ فهو في الجنة في الآخرة، ومن أراد الهرب من المؤذيات فهو المؤذيات كلها في النار، والذي يريد الهرب يهرب من النار، ولهذا قال طائفة من العلماء ما ذكر الله جل وعلا في القرآن -هذه ذكرها ابن الجوزي وجماعة- ما ذكر الله جل وعلا في القرآن من أنواع نعيم الدنيا، لتنظر إلى نعيم الدنيا أو لتتذكر به نعيم الآخرة، فكل مثال في الدنيا للنعيم أو للتلذذ هو حجة عليك في تذكرك نعيم الجنة، وكل مثال في الدنيا لأنواع المؤذيات ولو كانت الحشرة الصغيرة أو كان حرا يسيرا فهو مثال يذكرك الله جل وعلا به لما يكون في الآخرة من النكال ومن العذاب ومن الحرمان، فمن أراد حقيقة الحياة والسعادة فليبحث عن السعادة الأبدية، والحياة الدنيا هذه من اللهو واللعب (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) تحدث فتنة، وما الناس الآن ما افتتن الناس إلا باللهو واللعب بهذه الحياة الدنيا، لماذا قست القلوب؟ لأجل أن الناس أقبلوا على اللهو واللعب، لماذا أعرضوا عن الآخرة؟ لأنهم أقبلوا على اللهو واللعب، لماذا قل نصيبهم من القرآن؟ لأنهم أقبلوا على اللهو واللعب، والجاد العاقل هو الذي ينظر إلى قوله (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
من الفتن التي ذُكرت في هذه السورة وذُكر فيها المخرج من الفتنة؛ الفتنة بالأمن؛ أمن الحرم أمن ما حوله يحصل الأمن سنوات وسنوات وسنوات، فيغتر الناس بأننا لن يصيبنا ما أصاب غيرنا، الزلازل تصيب الآخرين أما أهل الحرم فلا تصيبهم، الموبقات، ضيق المعيشة يصيب الآخرين، النكد يصيب الآخرين أما أهل الحرم فيقولون نحن أبناء الله وأحبَاؤه أو يقولون نحن الخاصة، أو يقولون أو يقولون، قال جل وعلا في بيان هذه الفتنة في آخر السورة ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ[العنكبوت:67] نفس النظر إلى هذا النوع من الإنعام من الله جل وعلا وألاّ يكون هذا الإنعام سببا للافتتان بهذه النعمة وهذا الرخاء الذي جعل اله جل وعلا أهل مكة فيه زمن النبوة وما شاء الله من الأزمان بعده قالوا ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ ما الغرض من هذا؟ ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ[العنكبوت:67]، أفبالباطل يؤمنون بعد هذا الإنعام؟ يؤمنون بالباطل، بالشرك والكفر، وإنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإطاعة الشياطين، أو بما هو دون ذلك من المعاصي والموبقات والآثام، وبنعمة الله هم يكفرون، من الذي أنعم؟ الله جل وعلا ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ[النحل:53]. إذن من الافتتان الذي قد يصيب الله به بعض العباد كما ذكر في هذه السورة أن يظن العبد أن البلاء إنما هو للآخرين، أما هو لن يبتلى، فنقص الرزق يكون لفلان من الناس أما هو لا، المرض يكون لفلان أما هو لا، الإصابة بالأمراض الشديدة -أجارنا الله وإياكم منها- إنما يصاب به الآخرون أما هو صاحب صحة وعافية، السكتة، الغضب، إلى آخره، يصاب به الآخرون أما هو لا يتذكر، قال جل وعلا في بيان هذا المثال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ).
هذه أمثلة من أنواع الافتتان وأنواع البلاء، وما في هذه السورة مما يتصل بهذا الموضوع، ثم يتعانق في هذه السورة الابتداء مع الختام ليدلك على قول من قال من أهل العلم: إن موضوع السورة يتعانق فيه البداية مع النهاية. فقال جل وعلا في بدايتها (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ما المخرج في جميع هذه الحالات؟ الجواب في آخر السورة في آخر آية ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[العنكبوت:69].
موضوع مقاصد السور وأثر ذلك في التفسير له شعب من جهة التنظيم، وله أيضا شعب من جهة التطبيق، وإذا تأملت ما ذكرت من هذين المثالين في سورة الفاتحة وسورة العنكبوت، يكون لك به نظرة ورؤية إلى ما يذكره العلماء في موضوعات السور وما تشتمل عليه، ففهم إذن كما اتضح لك الآن أنّ فهم آيات سورة العنكبوت الآن تقرأها ربما يكون لك تدبر آخر، يكون تأثرك بالسورة وبالنظر إليها آخر، تشوف الآيات غير ما كنت تقرأ سابقا، لماذا؟ لأنه اتصل عندك الموضوع وفهمت هذه الآية ولماذا أتى بقصة النبي فلان، ولماذا أتى بقصة النبي الآخر عليهم جميعا السلام، إلى آخر ما هو معلوم.
فإذن هذا الموضوع وهو موضوع مقاصد السور من العلم النادر العزيز، لكنه مهم لكل طالب علم في التفسير بقدر ما ذكرنا، وهو أن ينص أحد من العلماء على المقصد والموضوع، وأن يكون ظاهرا في دور آيات السورة عليه.
أسأل الله جل وعلا أن يبارك لي ولكم فيما سمعنا، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذي هم أهله وخاصته، وأن يزيدنا منه علما، وأن يذكرنا منه ما نسينا، وأن يجعلنا من المحلين لحلاله، المحرمين لحرامه، المعتقدين لما فيه من الغيب إنه سبحانه جواد كريم.
كما أني في الختام أرجو لكم جميعا بإقبال هذه الدروس العلمية أن تنتفعوا من أصحاب الفضيلة المشايخ الذين يشاركون فيها، جزاهم الله خيرا، وأنا بهذه المناسبة أشكر كل الإخوة في هذا المسجد؛ إمام المسجد الأخ خالد.... وجميع الإخوة الذين معه، وكذلك أصحاب الفضيلة الإخوة المشايخ الذين يشاركون في هذه الدورة على ما يتعبون وما يبذلون في الجلوس للإخوان وفي طلب العلم؛ لأننا في زمن نحتاج فيه بذل الدعوة وإلى بذل العلم إلى جهاد، أما الراحة فهي الوقت واسع للراحة، ولكن نحتاج إلى بذل وبذل كل في مجاله وكل فيما يستطيعه.
أسأل الله لجميع الهدى والتوفيق، وأن يبارك في الجهود، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى إنه سبحانه ولي ذلك.
كما أسأل ربي سبحانه أن يوفق ولاة أمورنا لكل خير، وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تذكرهم بالخير والصلاح وتدلهم عليه، وأن يبارك في ما يعملون من الخير وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
كما أسأله جل جلاله أن يباعد بيننا وبين سبل المضلين، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم إنه سبحانه على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[مقدم المحاضرة] شكر الله معالي الشيخ هذا البيان الضافي الجليل الذي وفى وكفى بإذن الله وجعله في موازين حسناته، وقبل أن نبدأ بطرح الأسئلة أودّ أن أعتذر للإخوة الحضور حيث ما وردنا من الأسئلة أكثر من أن يكفيه الوقت المتاح، هذا من جانب، ومن جانب آخر أن بعض الأسئلة لم تكن في مجال وموضوع المحاضرة، ومعالي الشيخ طلب أن تكون الأسئلة في نطاق المحاضرة حفظا لوقت الذين جاؤوا لسماع هذا الموضوع بالذات.
[الشيخ] الأسئلة الأخرى آخذها الأسئلة التي تلقى أستفيد منها في موضوع محاضرات أخرى يعني أن بعض الأخوة جزاهم الله خيرا يطرح أسئلة جيدة، نجعلها عنصرا أو فقرة في محاضرة أخرى هذه نستفيد منها جزى الله الجميع خيرا. نعم.
[مقدم المحاضرة] يسدي جميع السائلين تحياتهم إلى معاليكم ثم يخبركم الكثير منهم بمحبتهم لكم في الله.
[الشيخ] أحبهم الله.
[مقدم المحاضرة] هناك اقتراح من أحد الأخوة أن تُجعل هذه المحاضرة على شكل كتيب في متناول الجميع.
1/ فضيلة الشيخ ما الأفضل للمبتدئ قراءته من الكتب التي تتناول التفسير، ثم يسأل يقول قلتم في كلامكم أنه يمكن أن يستخرج المعنى بالاستقراء الجزئي للسورة، فكيف يستخرج المعنى للسورة مع عدم الإلمام بالسورة؟
أنا ما قلت هذا، أنا الذي قلته، أنا لم أقل إن المعنى أو المقصد يستخرج بالاستقراء الجزئي، وإنما قلت يستخرج بالاستقراء التام أو الأغلبي، أما الاستقراء الجزئي فليس بحجة، والاستقراء الجزئي هو الذي يقع فيه الناس اليوم، وليس جزئيا قد يكون استقراء لحالتين ثم يحكم، يقول والله كل الناس كذا وكذا، كل الموضوع، كم نظر في الكتاب ؟ نظر صفحتين، كم درس من حالات الناس؟ شاف له حالة حالتين وقال كل الناس وقعوا في كذا، الاستقراء حجة إذا كان كليا أو أغلبيا، ولا يجوز للمسلم أيضا أن يقفو ما ليس له به علم، وأن يقول والله يعمل قضية كلية وهو لا يعرف إلا حالة أو حالتين، وهذا خلاف حتى المنهجية الصحيحة في التفكير، وإذا وجدت في المرء الخلل في المنهجية حتى في رؤية الأشياء يقع من ذلك منهجيته في العلم؛ يكون تصوره للعلم غير صحيح؛ لأنه أصلا يتصور الأشياء باستقراء جزئي، يسرع في الحكم، ويسرع في تقييم الأشياء بما يسمع أو بحالة حالتين يجعلها قضية كلية.
إذن تعقيبا على السؤال إنما ذكرنا أنه يدرس الاستقراء الكلي أو الأغلبي، وعلماء الأصول بحثوا هذا، قالوا أن الاستقراء الكلي أو الأغلبي حجة، الاستقراء الكلي والأغلبي ممن؟ ليس من كل مسلم بل من عالم بالتفسير، والعالم بالتفسير هو الذي عنده العلوم التي ذكرنا، هذا في الغالب لا يخطئ، لهذا العلماء ذكروا أشياء من مقاصد السور، داروا فيها حول استقرائهم وتدبرهم وقراءتهم للسورة أكثر من مرة مع علمهم بالتفسير فاستخرجوا مقصدا وموضوعا ثم فصلوا في ذلك. نعم
2/ لما ذا لا نقول بترجيح قول من قال أن لكل سورة مقصدا، وأن بين كل آية وآية تناسبا على الإطلاق؛ لأن ذلك يدل على كمال القرآن وإعجازه، ولكن نقيد هذا القول بنقطتين:
الأولى: أنه ليس لكل أحد أن يُلِمَّ بجميع المقاصد والمناسبات، فقد يعلم بعضا ويجهل بعضا.
والثانية: نقيده بعدم الجزم بالمقصد والمناسبة بل يقال بأنه اجتهاد وأنه محتمل.
فما رأي فضيلتكم؟
هذا وجيه، لكن السبب الثاني لا نحب أن يدخل الناس فيه؛ لأنه «من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب»، وفي الحديث الآخر «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»، أبو بكر رضي الله عنه يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
فإذن الأصل في هذه كما ذكرت لك لا يكون اجتهادا مجردا، وإنما يكون استقراء كلي أو أغلبي، أما مجرد الاجتهاد ظهر له بادر، بادر الرأي أو عاجل الرأي، وقال هذه السورة موضوعها كذا، هذا فيه تجني على القرآن، ولهذا قد يقال أنه يقال من جهة تنزيل القرآن أن القرآن محكم كل سورة لها مقصد علمها من علمها وجهلها من جهلها من جهلها وأن الآية بينها وبين ما قبلها وبعدها تناسق وتناسب علمه من علمه وجهله من جهله وأن في ذلك دلالة على إعجاز القرآن العظيم، هذا قد يقال من جهة العموم، لكن بالقيد الذي ذكرنا أنه لا يُقبل من كل أحد أن يقتحم هذا الباب. نعم
3/ يقول هل هناك علاقة بين التفسير الموضوعي للقرآن وبين علم المقاصد للسور؟
التفسير عند المتأخرين يعني في القرن الأخير هذا، جُعل منه التفسير الموضوعي، ومنه التفسير التحليلي، هذا تقسيم خاص تعليمي.
ويراد بالتفسير التحليلي كما تقرأ في تفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير؛ يعني الآية وتفسيرها والكلمات وتحليلها لغة ونحوا إلى آخره أو بيان سبب النزول يعني كل آية تأخذ على حدا، تفسير السورة تفسيرا تحليليا.
أما التفسير الموضوعي فيراد به موضوع في القرآن يعني مثلا توحيد الربوبية في القرآن، القرآن في هذا الموضوع توحيد الربوبية، الفتنة في القرآن الوسطية في القرآن، العدل في القرآن، الظلم في القرآن، قصص الأنبياء في القرآن، هذا يسمى تفسير موضوعي، بمعنى أن يأتي إلى موضوع فيجمع كل ما فيه من الآيات، ثم يقسم ذلك تقسيما منهجيا ويتحدث عنه.
لا صلة لهذا بعلم المقاصد لأن مقاصد السور راجع إلى السورة في نفسها، والتفسير الموضوعي يجمع أطراف الموضوع في جميع سور القرآن.
4/ هل القرآن نزل وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم كاملا وبما نرد على النصارى فيقولهم أن الرسول لم يفسره كله والجمع بينه وبين حديث الرسول «تركتكم على المحجة البيضاء ».
ينبغي على القائل أو المتكلم أو الكاتب أو السائل إذا كتب اسم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه صلى الله وسلم عليه تسليما كثيرا، حتى ولو لم يكتب فإنه يصلى عليه والمرء ما يخسر كتابة صلى الله عليه وسلم ولو ألف مرة، لهذا أهل الحديث مما زاد في مقدارهم أنهم يكتبون في الحديث الواحد صلى الله عليه وسلم ويقولونها كذا مرة، وقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من صلى عليّ واحدة صلى الله عليع بها عشرا» ما معنى ذلك؟ يعني من أثنى عليّ؛ يعني من قال اللهم صلي على محمد، دعا لي بأن يثني الله علي في الملك الأعلى مرة واحدة، صلى الله بها عشرا؛ أثنى الله عليه بتلك الصلاة عشر مرات ، اللهم صلي وسلم على محمد كلما صلى عليه المصلون وكلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون. ما هو السؤال؟
هل نزل القرآن وفسّره الرسول صلى الله عليه وسلم.
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، وإنما فسر آيات قليلة، لما؟ لأنّ التفسير يتبع الحاجة، يُفسر بمعنى يبين المعاني، لمن لا يفهم المعاني، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، فقهته العرب فهمت الآي، فهمته الصحابة، إلا في بعض الآيات لم تفهم ففسرها النبي صلى الله عليه وسلم فالمنقول من تفسيره عليه الصلاة والسلام قليل، تفسير الصحابة أكثر من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، لما؟ لأنّ الصحابة نقلوا للتابعين، والتابعون أقلّ علما بالقرآن من الصحابة لا من جهة اللغة، ولا من جهة أسباب النزول، ولا من جهة معرفة علوم القرآن، والعلوم المختلفة التي دار عليها القرآن، ولا من جهة السيرة، والتاريخ وأحوال العرب والجاهلية، إلى آخره، ففسروا القرآن أكثر، تفسيرهم أكثر، التابعون تفسيرهم لمن بعدهم أكثر من تفسير الصحابة لشدة الحاجة، هكذا إلى زمن التأليف والتصنيف كثرت التفاسير رغبة في أن يفهم الناس القرآن ويقبلوا عليه.
فإذن عدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن لوضوحه، وعدم الحاجة إلى تفسيره، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعلمون التفسير، وربما لم يعلموا ففسر بعضهم لبعض أوفسر لهم النبي عليه الصلاة والسلام. نعم
5/ فضيلة الشيخ نأمل إرشادنا إلى أحسن الكتب التي تناولت الحديث عن مقاصد الصور.
ذكرت لك الكتب. نعم.
6/ أرجو إلقاء الضوء على مسألة تفسير الآيات بالكشوفات الكونية الحديثة، وعلاقة ذلك بمقصود الآيات وفهم خطابها.
لو لم ترجو لكان أفضل، لأن هذا الموضوع ما يحتاج؛ لأنه لو تكلمنا في دقيقة أو دقيقتين نظلم هذا الموضوع، وهو موضوع شائك كما تعلمون، الآن كثير من الناس يعرضون المسائل الكونية ويربطونها بالآيات القرآنية، ويجعلون القرآن كتاب كون، كتاب فلك، كتاب زراعة، كتاب رياضيات، كتاب، وهذا ليس بصحيح ، لهذا أنا كما رجى السائل جزاه الله خيرا أنا أيضا أرجوه أن يؤجل جواب هذا السؤال إلى موضوع محاضرة -مستقل- عن تفسير القرآن بالعلوم الكونية أو بالطبيعيات أو بالمكتشفات الحديثة؛ لأنه يحتاج إلى بسط وتفصيل.
7/ ذكرتم أن طالب العلم لابد له من تعلم التفسير، وأن هذا التحصيل مربوط بفهم اللغة ومنها النحو، وللأسف فإن غالبية الناس في وقتنا الحاضر ويعنون من الضعف في النحو حبذا لو تنصحوننا بكتاب في هذا المجال خاص بالمبتدئين في مجال النحو.
المهم أنك تقبل على طالب علم؛ على أستاذ في النحو يعلمك، تكن جاد، النحو سهل، لكن يصعب على غير المقبل هو في الحقيقة سهل، لو أقبلت عليه لكان سهلا، كتب النحو كثيرة دائما نذكر من أوائلها الآجرّومية، وقطر الندى وشرحه، ومنظومة الحريري الملحة، والألفية، وشروح الألفية، ثم يتطور بعد ذلك إلى التسهيل وشروح التسهيل ثم يتطور إلى.....([7]) ثم كتاب سبويه، يعني أن يبتدئ بالنحو بالكتب المختصرة عند المتأخرين، ثم إذا أتمها يرجع إلى المتقدين، وهذه مجالات ومدارك بعضها فوق بعض، وكما قال الله جل وعلا ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ[ آل عمران:163].
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب لي ولكم الخير أينما كنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، إنه سبحانه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.