تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > المنتدى الحضاري > سير الانبياء و أعلام الامة

> محمد صلى الله عليه وسلم الذكرى تنفع المؤمنين

 
أدوات الموضوع
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية sousou76
sousou76
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 19-04-2016
  • المشاركات : 220
  • معدل تقييم المستوى :

    9

  • sousou76 is on a distinguished road
الصورة الرمزية sousou76
sousou76
عضو فعال
محمد صلى الله عليه وسلم الذكرى تنفع المؤمنين
11-12-2016, 09:59 AM
وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضِياءُ
ميلاد نبينا وحبيبنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أهم حدث في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله الكون، إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وقد وُلِدَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الاثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، والمُجْمَع عليه أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وُلِدَ عام الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم .
لقد كان الناس في مكة قبل الإسلام يعيشون في ظلمات الشرك والجهل، وقد أخبرنا الله ـ عز وجل ـ عن أحوالهم قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }(الجمعة الآية: 2)، وكذلك أخبرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أحوال الناس قبل أن يوحي الله إليه فقال: ( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب ) رواه مسلم .
ويصور لنا جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أحوال الناس في مكة قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول للنجاشي ملك الحبشة: " أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار " .

أحداث سبقت مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

الأمور العظيمة يسبقها من الإشارات والأحداث ما يكون مؤذنا بقربها، وعلامة على وقوعها، ولم يطرق البشرية حدث أعظم من ميلاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي ساق الله على يديه الخير للبشرية بأسرها، وقد سبق مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحداث عظيمة سجلت في السيرة النبوية وفي تاريخ البشرية، ومنها :
حفر عبد المطلب لزمزم، فقد كانت زمزم عينا يشرب منها النّاس، وكانت العرب تعظّمها لأنّها من شعائر دين إبراهيم الخليل ـ عليه السّلام ـ، وقد جهل النّاس مكانها، وانطمست معالمها، فأراد الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يجعل حفرَ بئر زمزم على يد عبد المطّلب جدّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ليشير إلى أنّ الله ـ تعالى ـ اصطفى بني هاشم بهذا الفضل المبين، الذي فيه إحياء لأمر من شعائر النّبيّين، وما كان ذلك إلاّ مقدّمة لمولد واصطفاء وبعثة النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، ولذلك روى ابن إسحاق والبيهقي في " دلائل النبوّة " حديث عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الذي فيه حفر عبد المطّلب لزمزم .

ومن الأحداث الهامة التي سبقت ميلاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ حادثة عام الفيل، الذي ولد فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وهذه الحادثة مشهورة ثابتة بالكتاب والسنة: قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }( سورة الفيل من الآية 1: 5 ) .
قال الماوردي: " آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة ظاهرة، تشهد مباديها بالعواقب، فلا يلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بحق, وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل " .
وقال ابن كثير: " هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم وخيب سعيهم وأضل عملهم، وردهم بشرِّ خيبة، وكانوا قوماً نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كان عليه قريش من عبادة الأصنام، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ".
وقال ابن عبد البَرِّ: " وُلِدَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعْدَ قُدومِ الفِيلِ بِشَهْرٍ، وقيل بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وقيل بِخَمْسِينَ يوما " .
وقد أكثر المؤلفون في السير والتاريخ في ذكر الحوادث والمبشرات التي اقترنت بميلاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفيها الكثير مما لم يصح، وقد قال الشيخ صفي الرحمن في كتابه الرحيق المختوم: " وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك الطبري والبيهقي وغيرهما، وليس له إسناد ثابت، ولم يشهد له تاريخ تلك الأمم مع قوة دواعي التسجيل " .


مولد نبي الهُدَي ونشأته :

في يوم الاثنين من ربيع الأول من عام الفيل أضاء الكون وشرف بميلاد سيد الخلق، وخاتم المرسلين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعن قيس بن مخرمة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل ) رواه البيهقي، وعن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئِل عن صوم يوم الاثنين، فقال: ( ذاك يوم وُلِدْتُ فيه، ويوم بُعِثْتُ ـ أو أنزل عليَّ فيه ) رواه مسلم .
وقد فقد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أباه قبل مولده، فوُلِدَ يتيما، وعلى عادة العرب أرسله جدُّه إلى البادية ليسترضع في بني سعد، وكانت حاضنته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي، فلم يزل مقيمًا في بني سعد يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم، حتى ردوه إلى جده عبد المطلب وهو في نحو الخامسة من عمره، ولم تلبث أمه آمنة أن توفيت في الأبواء ـ بين مكة و المدينة ـ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تجاوز السادسة بثلاثة أشهر، وقد عاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رعاية جده عبد المطلب، وكان يحبه ويعطف عليه، فلما مات عبد المطلب كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الثامنة من عمره، فقام عمه أبو طالب بكفالته، فكان خير عون له في الحياة بعد موت جده، وكان أبو طالب سيدًا مطاعًا في قومه، مع ما كان عليه من الفقر، وكان يحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حبا شديداً، ويؤثره على أبنائه، وقد عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برعي الغنم، مساعدةً منه لعمه، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟، فقال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) رواه البخاري، وسئل - صلى الله عليه وسلم -: أكنت ترعى الغنم؟ فقال: ( نعم، وهل من نبي إلا رعاها ) رواه البخاري، ثم بعد ذلك اشتغل - صلى الله عليه وسلم ـ بالتجارة .

وفي ليلة مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأت أمه نوراً خرج منها أضاء لها قصور الشام، فقد روى ابن هشام في السيرة النبوية، وابن كثير في البداية والنهاية، وصححه الألباني: " جاء نفر من الصحابة - رضي الله عنهم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك، قال: ( نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر ) .
قال ابن رجب: " وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض وأزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(المائدة الآية: 15 : 16)، وقال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف الآية:157) ".
وعن حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: ( والله، إني لغلام يفعةٌ ، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كلَّ ما سمعت، إذ سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمةً (حصن ) بيثرب: يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك مالك؟، قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به ) رواه البيهقي وصححه الألباني .
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل، قال لي حبر من أحبار الشام: " قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فأرجع فصدقه واتبعه " .

لقد كانت مكة في شهر ربيع الأول من عام الفيل على موعد مع أمر عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية كلها، وسيظل يشرق بنوره على الكون كله، إنه ميلاد النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي كان مولده ميلاد أمة سعدت بميلادها الأمم، إذ هدى الله به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح الله به أعينًا عميًا، وقلوبًا غُلفًا، إنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خليل الرحمن، وصفوة الأنام، أعظم الناس أخلاقًا، وأصدقهم حديثًا، وأحسنهم وأكثرهم عفوًا، خير من وطئ الثرى، سيد ولد آدم، أول من تنشق عنه الأرض، وأول من تُفتح له الجنة، قال عنه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: " ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كأن الشمس تجري في وجهه "، وسئل البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ: " أكان وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل السيف؟، قال: لا، بل مثل القمر " .
وقالت أم معبد في بعض ما وصفته به: " أجمل الناس من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب "،
وفي حديث ابن أبي هالة: " يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر " .
وقال عنه حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ :

وأفضل منك لم تر عيني وأحسن منك لم تلد النساء
خُلِقْتَ مبرءا من كل عيب كأنك خُلِقْتَ كما تشاء

وقال عن مولده عمه العباس ـ رضي الله عنه ـ :

وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ فِي الضِّيَاءِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ

وقال أحمد شوقي :
وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياء وفمُ الزمانِ تَبَسُّمٌ وثناءُ
الروحُ، والملأ، الملائِكُ حوله للدين والدنيا به بُشَراءُ
بك بشر اللهُ السماءَ فزينت وتضوعت مسكا بك الغبراءُ
يوم يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضَّاء

رضاعة النبي صلى الله عليه
في صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل ، وُلِد أفضل الخلق ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة المكرمة ، في أشرف بيت من بيوتها ، فقد اصطفاه الله من بني هاشم ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفى قريشاً من سائر العرب ، قال ـ صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله خلق الخلق ، فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين ، فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً ) رواه أحمد .
فكان نسبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أطهر الأنساب ، وتمتدّ أصول هذه الطهارة حتى تصل إلى آدم عليه السلام .

وقد تُوفي والده ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل مولده ، وتولى أمره جدّه عبد المطلب ، الذي اعتنى به وشمله بعطفه واهتمامه ، وكانت أول من أرضعته ثويبة أََمَة عمه أبي لهب ، فمن حديث زينب ابنة أبي سلمة أن أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ أخبرتها أنها قالت : ( يا رسول الله ، انكح أختي بنت أبي سفيان ، فقال : أو تحبين ذلك؟ ، فقالت : نعم ، لست لك بمخلية ، وأحب من شاركني في خير أختي ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن ذلك لا يحل لي ، قالت : فإنا نُحدَّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة ، قال : بنت أم سلمة ؟ ، قلت : نعم ، فقال : لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي ، إنها لابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ) رواه البخاري .

ومن مرضعاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ : حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية من بني سعد ، الذي كان استرضاعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في باديتها ـ بني سعد ـ شأنه شأن سادات قريش ، يرضعون أولادهم في البوادي ليقووا أجساما ، ويفصحوا لسانا .

وخلال طفولته في رعاية حليمة السعدية وقعت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آيات وإرهاصات دلت على بركته وفضله ، وأشهر ما روي في ذلك حديث حليمة السعدية ـ رضي الله عنها ـ الطويل المشهور الذي رواه كافة أهل السير ، والذي فيه أنه بمجرد حلول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها لإرضاعه ورعايته ، امتلأ ثديها باللبن ، فارتوى منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وابنها ، بعد أن كان يبكي من الجوع لجفاف ثدي أمه ، ولا ينام هو وأهله ، وامتلأ ضرع ماشيتها باللبن بعد أن كانت يابسة ، وأصبحت راحلتها نشطة قوية تسير في مقدمة الركب ، بعد أن كانت عاجزة تسير في مؤخرة الركبان ، وحيثما حلت أغنام حليمة تجد مرعاً خًصْباً فتشبع ، ولا تجد أغنام غيرها شيئا ، وكان ينمو نمواً سريع لا يشبه نمو الغلمان .
ولذلك تحايلت حليمة لإقناع والدة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بضرورة رجوعه إلى البادية بحجّة الخوف عليه من وباء مكة ، وقد أحب أهل بيت حليمة هذا الطفل المبارك ، وأحسنوا في معاملته ورعايته وحضانته ، حتى كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم .

وتعد حادثة شق الصدر التي حصلت له ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثناء وجوده في بني سعد من إرهاصات النبوة المبكرة ، ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل .
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه (جمعه وضمه) ، ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره (مرضعته) ـ فقالوا : إن محمداً قد قُتِل ، فاستقبلوه وهو منتقع (متغير) اللون . قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره ) رواه مسلم .
وبهذه الحادثة الكريمة نال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرف التطهير من حظ الشيطان ووساوسه ، ومن مزالق الشرك وضلالات الجاهلية ، مع ما فيها من دلالةٍ على الإعداد الإلهيّ للنبوّة والوحي منذ الصغر ، وقد دلت أحداث صباه وشبابه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثماً ، ولم يسجد لصنم رغم انتشار ذلك في قريش .

وقد زعم بعض المستشرقين أن حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير قوله تعالى : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } (الشرح:1) ، وأنه لو كان لها أصل فهي تشير إلى نوع من الصرع ، وهذا الذي زعموه سبقه إليهم المشركون حين اتهموا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنون ، فنفى الله عنه ذلك فقال : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ }(التكوير:22).
وكذلك ذهب أصحاب المدرسة العقلية ـ من المسلمين المتأثرين ببعض المستشرقين ـ إلى تأويل حادث شق الصدر ، فمنهم من قال أنها أسطورة ، ومنهم من قال أنها أمر معنوي ، وغير ذلك مما قالوه وزعموه .

ومن أوجز ما قيل في حادثة شق الصدر في الرد على مثل هؤلاء، كلام ابن حجر فبعد أن عرض لذكر الروايات الدالة على شق الصدر وتكرره قال : " وجميع ما ورد من شق الصدر ، واستخراج القلب ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة ، مما يجب التسليم به دون التعرض لصرفه عن حقيقته ، لصلاحية القدرة الإلهية ، فلا يستحيل شيء من ذلك " .
ومما ينبغي على المسلم أن يعلمه أن ميزان قبول الخبر إنما هو صحة الرواية ، فإذا صحت فلا يجدي البحث بعد هذا لصرف الكلام إلى غير حقيقته .

لقد كانت رضاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطفولته ملفتة للنظر ، فيها من الأحداث والإشارات ما يشير إلى علو منزلته وفضله وبركته ، وعناية الله به وحفظه ، لأن الله ـ عز وجل ـ قدَّر من الأحداث ما يسلط به الضوء عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ رضاعته بل منذ ولادته ، لأن هذا الطفل سيكون فيما بعد هادي البشرية ، وخاتم النبيين ، ورحمة الله للعالمين ..

جولة في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم
للعظماء شأنهم المبكر منذ ولادتهم ، فكيف إذا كان العظيم هو محمد صلى الله عليه وسلم ، سيد الخلق ، وأفضل الرسل ، وخاتم الأنبياء ، الذي أحاطته الرعاية الربانية ، والعناية الإلهية منذ الصغر ، بحيث تميّزت طفولته عن بقيّة الناس ، وكان ذلك من تهيئة الله له للنبوّة .
ففي صبيحة يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل ، الذي يُوافق العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة 571م ، وُلد أكرم الخلق - صلى الله عليه وسلم – في مكة المكرمة ، وفي أشرف بيت من بيوتها ، فقد اصطفاه الله من بني هاشم ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفى قريشاً من سائر العرب ، قال – صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله خلق الخلق ، فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين ، فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً ) رواه أحمد .
ونسبه – صلى الله عليه وسلم – من أطهر الأنساب ، حيث لم يختلط بشيءٍ من سفاح الجاهليّة ، وتمتدّ أصول هذه الطهارة حتى تصل إلى آدم عليه السلام ، قال – صلى الله عليه وسلم – : ( خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء ) رواه الطبراني .
وقد نشأ - صلى الله عليه وسلم – يتيماً ، حيث توفّي والده عند أخواله في المدينة قبل مولده ، فتولى أمره جدّه عبد المطلب ، الذي اعتنى به أفضل عناية ، وشمله بعطفه واهتمامه ، واختار له أكفأ المرضعات ، فبعد أن أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب ، دفع به إلى حليمة السعدية ، فقضى النبي – صلى الله عليه وسلم – الأيّام الأولى من حياته في بادية بني سعد ، ليلقى من مرضعته حليمة كل عناية ، مع حرصها على بقائه عندها حتى بعد إكمال السنتين ، لما رأت من البركة التي حلّت عليها بوجوده – صلى الله عليه وسلم - ، حيث امتلأ صدرها بالحليب بعد جفافه ، حتى هدأ صغارها وكفّوا عن البكاء جوعاً ، وكانت ماشيتها في السابق لا تكاد تجد ما يكفيها من الطعام ، فإذا بالحال ينقلب عند مقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى زاد وزنها وامتلأت ضروعها باللبن ، ومن أجل ذلك تحايلت حليمة لإقناع والدة النبي – صلى الله عليه وسلم – بضرورة رجوعه إلى البادية بحجّة الخوف عليه من وباء مكّة .
وهكذا أمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – سنواته الأولى في صحراء بني سعد ، فنشأ قوي البنية ، سليم الجسم ، فصيح اللسان ، معتمداً على نفسه ، حتى كانت السنة الرابعة من مولده ، حين كان - صلى الله عليه وسلم – يلعب مع الغلمان وقت الرعي ، فجاءه جبريل عليه السلام مع ملك آخر ، ، فأمسكا به وشقّا صدره ، ثم استخرجا قلبه ، وأخرجا منه قطعة سوداء فقال جبريل : " هذا حظ الشيطان منك " ، ثم غسلا قلبه وبطنه في وعاء من ذهب بماء زمزم ، ثم أعاده إلى مكانه ، والغلمان يشاهدون ذلك كلّه ، فانطلقوا مسرعين إلى مرضعته وهم يقولون : " إن محمداً قد قُتل، وأقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يرتعد من الخوف ، فخشيت حليمة أن يكون قد أصابه مكروهٌ ، فأرجعته إلى أمّه ، وقالت لها : " أدّيت أمانتي وذمّتي " ، ثم أخبرتها بالقصّة ، فلم تجزع والدته لذلك ، وقالت لها : " إني رأيت خرج مني نورٌ أضاءت منه قصور الشام " .
وبهذه الحادثة الكريمة ، نال -صلى الله عليه وسلم- شرف التطهير من حظ الشيطان ووساوسه، ومن مزالق الشرك وضلالات الجاهليّة ، مع ما فيها من دلالةٍ على الإعداد الإلهيّ للنبوّة والوحي منذ الصغر .
ومكث النبي – صلى الله عليه وسلم - في مكّة يتربّى في أحضان والدته ، ولما بلغ عمره ست سنين توفيت أمه في قريةٍ يُقال لها " الأبواء " بين مكّة والمدينة ، فعوّضه جدّه عبدالمطلب حنان والديه ، وقرّبه إليه وقدّمه على سائر أبنائه ، وفي يومٍ من الأيام أرسل عبدالمطلب النبي – صلى الله عليه وسلم – للبحث عن ناقة ضائعة ، فتأخّر في العودة حتى حزن عليه جدّه حزناً شديداً ، فجعل يطوف بالبيت وهو يقول :
رب رد إلي راكبي محمدا رده رب إلي واصطنع عندي يدا
ولما عاد النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له : " يا بني ، لقد جزعت عليك جزعاً لم أجزعه على شيء قط ، والله لا أبعثك في حاجةٍ أبداً ، ولا تفارقني بعد هذا أبداً " .
واستمرّت هذه الرعاية طيلة سنتين حتى توفّي عبدالمطلب وللنبي – صلى الله عليه وسلم – ثمان سنين ، فكفله عمّه أبو طالب وقام بحقه خير قيام ، وقدمه على أولاده ، واختصّه بمزيد احترام وتقدير ، ولم يزل ينصره ويبسط عليه حمايته ، ويُصادق ويُخاصم من أجله طوال أربعين سنة ، حتى توفّي قبيل الهجرة بثلاث سنين .
ومن هنا نرى كيف توالت الأحزان في طفولة النبي - صلى الله عليه وسلم – وتركت أثرها في قلبه ، وهو جزءٌ من التقدير والحكمة الإلهيّة في إعداد هذا النبي الكريم ؛ حتى لا يتأثّر بأخلاق الجاهلية القائمة على معاني الكبر والاستعلاء ، فكانت تلك الأحزان سبباً في رقّة قلبه واكتسابه لمكارم الأخلاق ، حتى صدق فيه وصف خديجة رضي الله عنه : " يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم ، ويُقري الضيف ، ويُعين على نوائب الحق " .

عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالرعي والتجارة
العمل والسّعي لطلب الرّزق من متطّلبات تعمير الأرض وإصلاحها، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك:15)، قال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئا، إلا أن ييسره الله لكم، ولهذا قال: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فالسعي في السبب لا ينافي التوكل". وعلى الرّغم من أن الأنبياء جميعا كانوا يحملون أعظم مهمّة وهي تبليغ النّاس دين الله، إلا أنهم كانت لهم حرف ومهن يتكسبون منها, فقد عمل نوح عليه السلام بالنجارة، وكان داود عليه السلام حدادًا يصنَع الدروع، واشتغل موسى عليه السلام برعى الغنم، وقد رعَىَ نبينا صلى الله عليه وسلم الغنم في صغره في بادية بني سعد، وفي فتوته بأجياد في مكة على قراريط، وهو أجر زهيد يتكسب به ويعف نفسه، ثم عمل بالتجارة في شبابه.

رعْي النبي صلى الله عليه وسلم الغنم:

أول ما اتجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم من العمل هو رعي الغنم في بني سعد مع إخوته من الرضاعة ثم رعاها في مكة، وعمل نبينا صلى الله عليه وسلم برعي الغنم ليس أمراً خاصاً به دون الأنبياء، بل كان ذلك له ولإخوانه من الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بَعَث الله نبياً إلَّا رَاعيَ غنمٍ، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله! قال: وأنا) رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنم النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أكنْتَ ترعى الغنم؟ قال: نعم، وهل من نبي إلا رعاها) رواه البخاري.
قال ابن عبد البر:"وفي هذا الحديث إباحة التحدث عن الماضين من الأنبياء والأمم لسيرهم وأخبارهم، وفيه أن التحرف في المعيشة ليس في شيء منها إذا لم تنه عنه الشريعة نقيصة، وفيه أن الأنبياء والمرسلين أحوالهم في تواضعهم غير أحوال الملوك والجبارين، وكذلك أحوال الصالحين". وقال الطيبي: "يريد أن الله تعالى لم يضع النبوة في أبناء الدنيا وملوكها، لكن في رعاء الشاء وأهل التواضع من أصحاب الحرف، كما روى أن أيوب كان خياطاً، وزكريا كان نجارا. وقد قصَّ الله تعالى من نبأ موسى وكونه أجيرا لشعيب في رعي الغنم ما قص"، وقال ابن الجوزي: " كأنه يشير بهذا إلى أن الأنبياء لم يكونوا ملوكا، وإنما كانت النبوة عند المتواضعين من أصحاب الحرف".
وقال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة، لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها. وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء".

عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة:

كانت خديجة رضي الله عنها ذات شرف ومال كثير، تستأجر الرجال ليتجروا بمالها، فلما بلغها (قبل البعثة النبوية) عن محمد صلى الله عليه وسلم صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، عرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار. فقبِل وسافر معه غلامها ميسرة، وقدما الشام، وباع النبي صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد من السلع، فلما رجع إلى مكة ودخل على خديجة رضي الله عنها وخبرها بما ربحوا سرت بذلك، إذ ربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت للنبي صلى الله عليه وسلم أجره التي كانت اتفقت معه عليه.
وكذلك عمِل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة قبل البعثة مع عمه أبي طالب، فعندما عزم أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم على الرحيل إلى الشام لغرض التجارة، تعلق به النبي صلى الله عليه وسلم راغباً في صحبته ليتعلم بعض طرق التجارة وأسرارها، ورقَّ له قلب عمه وقال: والله لأخرجن به معي, ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً. ولم تنقطع صلة النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة بعد عودته من الشام، بل كان يتاجر في بعض أسواق مكة، كسوق عكاظ ومجنة وذي المجاز، التي كان التجار يقصدونها للبيع والشراء التجارة فيها.

لقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم ـ عملياً وقولياً ـ من خلال سيرته وأحاديثه الشريفة إلى أهمية عمل المسلم وسعيه على رزقه، فقد عمل برعي الغنم والتجارة، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يده) رواه البخاري. وقال: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه) رواه البخاري.
مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة
الكعبة بيت الله الحرام، وقبلة المسلمين، تهوى إليها أفئدتهم، ويطوفون بها في حَجهم، ويتطلعون للوصول إليها من كل أرجاء العالم، وهي أول بيت وضع للناس لعبادة الله وتوحيده، يقول الله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ } (آل عمران:96)، وسأل أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أول مسجد وضع في الأرض؟، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( المسجد الحرام، فقلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: وكم بينهما؟ قال أربعون عاما، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصل، فإن الفضل فيه ) رواه البخاري .

أول من بنى الكعبة المشرفة إبراهيم الخليل وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ، كما قال الله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} (البقرة:127) .

ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمساً وثلاثين سنة ـ قبل بعثته بخمس سنوات ـ اجتمعت قريش لتجديد بنائها لما أصابها من تصدع جدرانها، وكانت لا تزال كما بناها إبراهيم ـ عليه السلام ـ رضما(حجارة) فوق القامة، فأرادوا هدمها ليرفعوها ويسقفوها ولكنهم هابوا هدمها، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام يهدمها وهو يقول : اللهم لم نزغ، ولا نريد إلا الخير.. فتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد غادياً يهدم، وهدم الناس معه حتى انتهوا.. وكانوا قد قسموا العمل وخصوا كل قبيلة بناحية، واشترك سادة قريش وشيوخها في نقل الحجارة ورفعها ..

وقد شارك النبي - صلى الله عليه وسلم ـ في بناء الكعبة، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : ( لما بُنيت الكعبة ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعباس ينقلان الحِجارَةَ، فقال العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اجعل إزَارَك على رقبَتِكَ يَقِيكَ الحِجارةَ ، - وفعل ذلك قبل أن يُبْعثَ - فَخَرَّ إلى الأرض ، فطمَحَتْ عيناه (أمد نظره) في السماء ، فقال : إزاري ، إزاري ، فشدَّه عليه ) رواه البخاري .

وقد تم تقسيم العمل في بناء الكعبة بين القبائل، وتولت كل واحدة منها ناحية من نواحي الكعبة، فجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود دبَ الشقاق بين قبائل قريش ، فكل يريد أن ينال شرف رفع الحجر إلى موضعه ، وكادوا أن يقتتلوا فيما بينهم ، حتى جاء أبو أمية بن المغيرة المخزومي فاقترح عليهم أن يحكّموا فيما اختلفوا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد الحرام ، فوافقوا على اقتراحه وانتظروا أول قادم ، فإذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما إن رأوه حتى هتفوا : هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمد ، وما إن انتهى إليهم حتى أخبروه الخبر فقال : ( هلمّ إليَّ ثوبا )، فأتوه به فوضع الحجر في وسطه ثم قال : ( لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ) ففعلوا ، فلما بلغوا به موضعه ، أخذه بيده الشريفة ووضعه في مكانه ..
فحاز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشرف الذي كادوا يقتتلون عليه جميعاً، وهذه من أول المقدمات للتكريم، ومن اعترافات قريش له ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه الأمين ..
وفي ذلك إظهار لشرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كافة رجالات قريش، فقد كان محبوبا منهم كلهم، وكانوا لا يرتابون في صدقه إذا حدث، وفي عدله إذا حكم، وفي أمانته وكريم وعظيم أخلاقه إذا عومل ..

ومن ثم فإن رضاء جميع العرب في مكة بحكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قضية وضع الحجر الأسود، وشهادتهم له بأنه الصادق الأمين، تكشف عن مدى الحقد والكبر والعناد الذي امتلأت به أفئدة هؤلاء أنفسهم بعد أن جاءهم بالرسالة من عند الله، وأخذ يبلغها إليهم، ويدعوهم إلى الله، فقابلوه بالعناد والإيذاء، وقالوا : { لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }(الزخرف: من الآية31)، وصدق الله ـ عز وجل ـ حيث قال عنهم وعن أمثالهم ممن يكذبون رسول الله ولا يؤمنون به : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (الأنعام: من الآية33) ..

إن اشتراك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بناء الكعبة وتجديدها، بين لنا حكمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد كانت طريقة حله للنزاع والخلاف موفقة وعادلة وحكيمة، ومن ثم رضي بها الجميع، وحقنت دماء كثيرة، وأوقفت حروباً طاحنة ..

وقد حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشاركته في بناء الكعبة أمران: إنهاء الخصومة ووقف القتال المتوقع بين قبائل قريش، والثاني: حصوله هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ على شرف وضع الحجر الأسود بيديه الشريفتين في مكانه من البيت .. وهذا من توفيق الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبيان لفضله وعلو منزلته ..

لقد كشفت حادثة تجديد وبناء الكعبة عن مكانة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الوسط المكي من قبل بعثته، ومن ثم فلا غرابة في أن يُسْند إليه الحكم في خلاف قريش فيمن يرفع الحجر الأسود ويضعه مكانه .. فقد شبَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول ابن هشام في السيرة :
" .. والله تعالى يكلؤه ويحفظه ، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته ، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأكرمهم حسبا ، وأحسنهم جوارا ، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما ، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين ، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة " ..



فاطمة رضي الله عنها ـ ضَحِكٌ وبُكَاء ـ
وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي الحدث الأهم في سيرته، لأن وفاته ليست كوفاة سائر الناس، ولا كسائر الأنبياء، إذ بموته ـ صلى الله عليه وسلم ـ انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض، وقد نبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عظم هذه المصيبة التي حلت بالمسلمين فقال: ( يا أيها الناس: أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعَزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ) رواه ابن ماجه .
قال السندي: " ( فليتعزّ ) ويخفِّف على نفسه مؤونة تلك المصيبة بتذكّر هذه المصيبة العظيمة، إذ الصّغيرة تضمحلّ في جنب الكبيرة ،فحيث صبر على الكبيرة لا ينبغي أن يبالي بالصّغيرة ".

اصبر لكـل مصيـبة وتجلَّد واعلـم بأن المـرء غير مخلَّـد
واصبر كما صبر الكرام فإنها نُوبٌ تنوب اليوم تكشف في غد
أوَ ما ترى أن المصائب جمـة وترى المنيـة للعبـاد بمرصـد
فإذا أتتك مصيبة تشجى بها فاذكر مصـابك بالنبي محمـد

ولفاطمة ـ رضي الله عنها ـ موقف مع أبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه الذي تُوفي فيه، أظهر علو منزلتها، وشدة حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها، وحبها له، وفيه كذلك معجزة نبوية .

بكاء وضحك :

أسرَّ النبي - صلى الله علي وسلم ـ خبر انتقاله إلى الرفيق الأعلى، لابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ وحدها، صراحة ومشافهة دون غيرها فبكت، ثم أَسرَّ إليها ثانية بعد حُزنها على سماع خبر فِراقه، بأنها ستكون أول أهله لحوقًا به، فَسُرَّتْ بذلك وضحكت .
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( كنَّ أزواجُ النبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ـ عنده لم يُغادِرْ منهنَّ واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تُخطئُ مِشيتُها من مِشيةِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا، فلما رآها رحَّب بها فقال: مرحبًا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه ـ أو عن شماله ـ ثم سارَّها (أسرَّ لها بكلام) فبكت بكاءً شديدًا، فلما رأى جزَعَها سارَّها الثانية فضحكتْ، فقلتُ لها: خصَّكِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بين نسائه بالسِّرار ثم أنت تبكِين؟، فلما قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألتُها: ما قال لك رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم؟، قالت: ما كنت أُفشي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سِرَّه، قالت فلما تُوُفِّيَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلتُ: عزمتُ عليكِ بما لي عليك من الحقِّ، لما حدَّثتِني ما قال لك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟، فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارَّني في المرةِ الأولى، فأخبَرَني أنَّ جبريل كان يُعارِضُه القرآن في كلِّ سنة مرةً أو مرتين، وإنه عارضَه الآنَ مرَّتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتَّقي الله واصبِري، فإنه نِعمَ السَّلَف أنا لك، قالت: فبكيتُ بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزَعي سارَّني الثانيةَ فقال: يا فاطمة ! أما ترضَي أن تكوني سيَّدة نساء المؤمنِين، أو سيدة نساءِ هذه الأمة؟، قالت: فضحِكتُ ضحِكي الذي رأيتِ ) رواه البخاري .
وفي رواية مسلم : ( فقالت عائشة: فقلتُ لفاطمة: ما هذا الذي سارَّكِ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبكيت، ثم سارَّك فضحكت؟، قالت: سارَّني فأخبرني بموتِه ، فبكيتُ، ثم سارَّني فأخبَرَني أني أول من يتبعُه من أهلِه فضحكتُ ) .
لقد كانت فاطمة - رضي الله عنها- تشاهد وتشعر بالألم والمعاناة التي يشعر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه الذي توفي فيه، وقد دفعها ذلك كما في رواية البخاري أن تقول: " واكرب أباه "، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( لما ثقل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: واكرب أباه، فقال لها ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ليس على أبيك كرب بعد اليوم ) رواه البخاري .

معجزة نبوية :

وذلك في إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمر غيبي مستقبلي لم يحدث بعد، وهو إخبار ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بأنها أول من يلحقه بعد موته، وذلك في قولها ـ رضي الله عنها ـ عما أسرها وأخبرها به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ثم سارَّني فأخبرني أني أول من يتبعُه من أهله، فضحكتُ ) .
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: " وفي الحديث إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما سيقع، فوقع كما قال، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة ـ عليها السلام ـ كانت أول من مات من أهل بيت النبي صلى ـ الله عليه وسلم ـ بعده حتى من أزواجه " . وقال: " هذه معجزة ظاهرة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل معجزتان، فأخبر ببقائها بعده، وبأنها أول أهله لحوقا به، ووقع كذلك، وضحكت سرورا بسرعة لحاقها، وفيه إيثارهم الآخرة وسرورهم بالانتقال إليها والخلاص من الدنيا " .

فائدة :

لقد كانت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ أصغر بنات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ كانت زينب الأولى، ثم رُقيَّة الثانية، ثم أم كلثوم الثالثة، ثم فاطمة الرابعة، وهي أطول أولاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صُحبة له وأحبهن إليه .
قال ابن حجر : " كانت فاطمة أصغر بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحبَّهنَّ إليه " .
وكانت ـ رضي الله عنه ـ أكثر الناس شبها برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( ما رأيت أحدا من الناس كان أشبه بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلاما ولا حديثا ولا جلسة من فاطمة، قالت: وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا رآها أقبلت رحب بها، ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ رحبت به ثم قامت إليه فقبلته ) رواه البخاري .
وقد قال عنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ابنتي بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها ) رواه مسلم . ومعنى بضعة مني: قطعة مني.
وعن المسور بن مخرمة ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني ) رواه البخاري .
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها: ( يا فاطمة، ألا ترضَينَ أن تكوني سيدة نساءِ المؤمنين، أو سيدة نساءِ هذه الأمة ؟ ) رواه البخاري، وفي رواية أخرى للبخاري: ( أما تَرْضَيْنَ أن تكوني سيدة أهل الجنة، أو نساء المؤمنين ؟ ) .
قال ابن حجر: " وأقوى ما يستدل به على تقديم فاطمة ـ رضي الله عنها ـ على غيرها من نساء عصرها ومن بعدهن ما ذكر من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنها سيدة نساء العالمين إلا مريم، وأنها رزئت ( أصيبت ) بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون غيرها من بناته، فإنهن متن في حياته، فكن في صحيفته، ومات هو في حياتها فكان في صحيفتها " .

وقد توفيت ـ رضي الله عنها ـ بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بستة أشهر، وهى في الثالثة والعشرين من عمرها، ولم يكن لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ عقب ( أي أحفاد ) إلا من ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ .
إنها ـ فاطمة الابنة الحبيبة، الرفيقة الشفيقة، المواسية لأبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أم الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وزوج علي ـ رضي الله عنه ـ، وابنة خديجة - رضي الله عنها ـ، وهي أكثر الناس شبها برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

اللهم الرفيق الأعلى
لما أكمل الله الدين وأتم النعمة على المسلمين، واستقر الأمر لدولتهم، أجرى الله على نبيه صلى الله عليه وسلم سنته الماضية في خلقه: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } (آل عمران: 185)، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يودع الحياة بأقوال وأفعال دالة على ذلك .

عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فَرَط (شفيع)، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها . قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري .
وعن جابر رضي الله عنه قال: ( أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وعليه السكينة وأمرنا بالسكينة، ثم قال: خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) رواه النسائي.

رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع في ذي الحجة، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفرًا من العام العاشر، فبدأ بتجهيز جيش أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما، وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة ابتدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرضه الذي قبضه الله فيه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( رجع إلىَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه، قال: بل أنا وارأساه . قال: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك، قلت: لكني أو لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه ) رواه أحمد .
قال الحافظ ابن رجب: " كان ابتداء مرضه - صلى الله عليه وسلم - في أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما على المشهور " .

وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول: ( ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع (المرض) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) رواه مسلم .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها ) رواه البخاري .

مكث النبي صلى الله عليه وسلم أياماً والمرض لا يفارقه، لكنه يخرج للصلاة، ويعود إلى فراشه، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس، فاتبعته حتى قام على المنبر، فقال: إني الساعة قائم على الحوض، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة، فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي وأمي بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، قال: ثم هبط من المنبر فما رئي عليه حتى الساعة ) رواه ابن حبان .

وقبل الوفاة بخمسة أيام اشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأن يحضروا أدوات الكتابة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما حُضِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا . قال عبيد الله (الراوي):فكان ابن عباس يقول: إن الرَزيَّة (المصيبة) كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لاختلافهم ولغطهم ) رواه البخاري .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى بالناس مغرب هذا اليوم وقرأ بالمرسلات، فعن أم الفضل بنت الحارث قالت: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله ) رواه البخاري .
وعند العشاء اشتد المرض عليه صلى الله عليه وسلم بحيث لم يستطع الخروج، وكان صلى الله عليه وسلم قد استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذِنَّ له .

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ( دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس؟، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المِخضب (إناء)، قلت: ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء (يقوم) فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلي الناس؟، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر- وكان رجلا رقيقا ـ: يا عمر صل بالناس، فقال عمر: أنت أحق بذلك، فصلى بهم أبو بكر في تلك الأيام، ثم إن رسول الله وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين ـ أحدهما العباس ـ لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكرذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد . قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم؟، قال: هات، فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئا، غير أنه قال: أسمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس؟، قلت: لا، قال: هو علي ) رواه البخاري .

ازدادت شدة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يغمى عليه في اليوم الواحد مرات عديدة، وقبل أن يفارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا أوصى بالأنصار خيرا، وأمر بإحسان الظن بالله، قال جابر رضي الله عنه: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: أحسنوا الظن بالله عز وجل ) رواه مسلم .
كما أوصاهم صلى الله عليه وسلم بالصلاة وما ملكت أيمانهم، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه ) رواه أحمد .
وأمرهم صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين من جزيرة العرب، ونهاهم عن اتخاذ القبور مساجد، وكان يقول : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . تقول عائشة: يحذر مثل الذي صنعوا ) رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر: " وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم " .
وأعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه في اليوم السابق لوفاته ، وتصدق بما كان معه من دنانير، وقال: ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وما تركنا صدقة ) رواه البخاري .

وبدأت ساعة احتضاره صلى الله عليه وسلم فأسندته عائشة رضي الله عنها إلى صدرها وكانت تقول: ( إن من نعم الله علىَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي في بيتي وفي يومي وبين سَحْرِي ونَحْرِي (على صدري)، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته فأمرَّه (استاك به)،وبين يديه ركوة أو علبة - شك الراوي- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قُبِض فمالت يده صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في سكرات الموت وساعة احتضاره يدعو قائلا: ( اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى ) رواه أحمد .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: إنه لم يُقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخَّيَّر، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، قلت: إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه و سلم قوله: اللهم الرفيق الأعلى ) رواه البخاري .

وكانت وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة، وله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة، وكما كان يوم مولده أسعد وأشرق يوم طلعت عليه الشمس ، كان يوم وفاته أشد الأيام وحشة وظلاما ومصابا على المسلمين، بل والبشرية جمعاء.
عن أنس رضي الله عنه قال: ( لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وقال: ما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا ) رواه أحمد .

إن كل مصيبة دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون، إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وانقطعت النبوات، فهو أول انقطاع عُرَى الدين ونقصانه، ومن ثم ففي موته صلى الله عليه وسلم غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحلُّ بأمة الإسلام جمعاء .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس ـ أو كشف ستراً ـ فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس أيما أحد من الناس ـ أو من المؤمنين ـ أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ) رواه ابن ماجه .

لقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون قضاؤه في تجرع الموت بشدته وآلامه أمرا عاما لكل أحد، مهما كانت درجة قربه من الله، حتى يدرك الناس أنه لو كان أحد سلم من الموت لسلم منه خير البشر وأفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه ، فعانى صلى الله عليه وسلم من آلام الموت وسكراته، كما عانى من قبل إخوانه من الأنبياء، قال الله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } (الزمر:30)، وقال: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } (الأنبياء 35:34) .
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية رقيّة
رقيّة
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 17-12-2016
  • الدولة : الجزائر الحبيبة
  • المشاركات : 347
  • معدل تقييم المستوى :

    8

  • رقيّة is on a distinguished road
الصورة الرمزية رقيّة
رقيّة
عضو فعال
رد: محمد صلى الله عليه وسلم الذكرى تنفع المؤمنين
17-12-2016, 01:52 PM
شكرا جزيلا على هذا الكم الهائل من المعلومات
موضوعك مميز أختي سوسو أحسنت
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 05:51 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى