الداخل
01-05-2009, 10:56 PM
بعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والجنوب الأندلسي لُقّب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا، كما كان له كثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس كما سنرى.
ومنذ أن تولّى عبد الرحمن الداخل الأمور في بلاد الأندلس عُرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ= 755 م وتنتهي سنة 316 هـ 928 م وسميت "إمارة" لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية، سواء كانت في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.
بدأ عبد الرحمن الداخل ينظّم الأمور في بلاد الأندلس، كانت هناك ثورات كثيرة جدًا في كل مكان من أرض الأندلس، وبصبر شديد وأناة عجيبة أخذ عبد الرحمن الداخل يروّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وبحسب ما يتوافق معها أخذ يستميل بعضها ويحارب الأخرى.
وفي فترة حكمه التي امتدت أربعة وثلاثين عامًا متصلة، من سنة 138هـ= 755 م وحتى سنة 172 هـ= 788 م كانت قد قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، ثم تركها وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.
تعرضت الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل لعدد كبير من الثورات، تزيد على خمس وعشرين ثورة تغلّب عليها جميعها، ومن هذه الثورات:
ثورة القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري ورزق بن النعمان الغساني
سنة 143 هـ 760 م
يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 143 هـ 760 م
ثورة هشام بن عروة الفهري سنة 144 هـ 761 م
ثورات تتابعت عليه من سنة 144 هـ حتى 146هـ
ثورة العلاء بن مغيث اليحصبي سنة 146 هـ 763 م
ثورة سعيد اليحصبي اليماني سنة 149 هـ 766 م
ثورة أبي الصباح حيّ بن يحيى اليحصبي سنة 149 هـ 766 م
ثورة البربر في الأندلس بزعامة شقيا بن عبد الواحد المكناسي
سنة 151 هـ 768 م
ثورة اليمانية في إشبيلية بزعامة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي
سنة 156 هـ 773 م
ثورة سليمان بن يقظان في برشلونة سنة 157 هـ 774 م
ثورة عبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 161 هـ 777 م
ثورة الحسين بن يحيى الأنصاري سنة 166 هـ 782 م
ثورة محمد بن يوسف الفهري سنة 168 هـ 784 م
ثورة بربر نفزة سنة 170 هـ 786 م
وثورات أخرى كثيرة قامت ضده، لكنه ما لبث أن أخمدها كلها وقضى عليها...

كانت هناك واحدة فقط من هذه الثورات الخمس والعشرين هي التي سنقف عندها؛ وذلك لأهميتها الشديدة في فهم هذا الانفصال الذي حدث للأندلس عن الخلافة العباسية، وهذه الثورة حدثت في سنة 146 هـ= 763 م، أي بعد حوالي ثمان سنوات من تولي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، وقام بها رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي.
كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (وهو الخليفة العباسي الثاني أو المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح) قد راسل العلاء بن مغيث الحضرمي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية، ومن ثم يضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية.
وبالنسبة لأبي جعفر المنصور فهذا يعدّ أمرًا طبيعيًا بالنسبة له؛ إذ يريد ضم بلاد الأندلس - وهي البلد الوحيد المنشق من بلاد المسلمين - إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر بلاد الأندلس، ثم قام بثورة ينادي فيها بدعوة العباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور.
لم يتوان عبد الرحمن الداخل، فقامت لذلك حرب كبيرة جدًا بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن بن معاوية، وكعادته في قمع الثورات انتصر عليه عبد الرحمن بن معاوية، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور، وكان في الحج بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة، وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتل.
وهنا قال أبو جعفر المنصور: قَتْلَنَا هذا البائس - يعني العلاء بن مغيث الحضرمي - يريد أنه قتله بتكليفه إياه بحرب عبد الرحمن بن معاوية، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمع (يعني عبد الرحمن بن معاوية)، الحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر.
ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر لحظةً واحدة في استعادة بلاد الأندلس، بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمّى عبد الرحمن بن معاوية بصقر قريش وهو اللقب الذي اشتهر به بعد ذلك، فقد كان أبو جعفر المنصور جالسًا مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟
فقالوا له كعادة البطانة السوء: بالتأكيد هو أنت...
فقال لهم: لا.
فعدّدوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية
فقال أيضا: لا. ثم أجابهم قائلا: بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه. وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًا بعبد الرحمن بن معاوية، وهو ما يمكن أن نسميه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.
عبد الرحمن بن معاوية والخلافة العباسية
قضية الانفصال الطويل الذي دام بين دولة الأندلس وبين الخلافة العباسية على مرّ العصور تثير في نفوسنا وفي نفوس جميع المسلمين تساؤلات عدّة، لماذا يحاول عبد الرحمن بن معاوية الرجل الورع التقي الذي أقام دولة قوية جدًا في بلاد الأندلس، لماذا ينفصل بالكلية عن الخلافة العباسية؟!
ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطأ فاحشًا بحق الأمويين، وذلك بقتلهم وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، فإذا كان الأمويين في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقّوا الاستبدال فليكن تغييرهم، وليكن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه و سلم.
كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلًا من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صقع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.
كان من المفترض ألا تُفْرِط الدولة العباسية في قتل المسلمين من بني أمية وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ. كما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ما المانع من أن تقيم الحدّ على من يستحق أن يُقتل من بني أمية ثم تترك وتستوعب الآخرين؟!
وما المانع من أن تعطي الدولة العباسية بني أمية بعضًا من الملك، مثل إمارة مدينة أو إمارة ولاية، وهؤلاء كانوا خلفاء وأبناء خلفاء؛ حتى تستوعبوهم في داخل الصف؟!
فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المسارة ويقول لهم حين أرادوا أن يتتبعوا الفارين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري: اتركوهم لا تتبعوهم، ليضمهم إلى جيشه بعد ذلك، فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندًا وعونًا لا نِدّا ومنافسًا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.
وهذا أيضا المثل الأعلى والقدوة الحسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ماذا فعل بعد أن دخل مكة وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها، وماذا قال عن أبي سفيان وهو من هو قبل ذلك؟ ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن دخل متواضعًا وقال: من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن. أليس أبو سفيان هذا كان زعيم الكفر وزعيم المشركين في أحد والأحزاب؟! فلماذا إذن يقول عنه صلى الله عليه وسلم مثل هذا؟! إنما كان يريد صلى الله عليه وسلم أن يخطب وده ويضمه إلى صفه، وبالمثل فعل صلى الله عليه وسلم مع رءوس الكفر في مكه حين قال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟" فقالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فرد عليهم صلى الله عليه وسلم بمقولته التي وعاها التاريخ: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وليس هذا فقط من كرم الأخلاق فحسب، لكنه أيضًا من فنّ معاملة الأعداء، وحسن السياسة والإدارة، فلنتخيل ماذا سيكون الموقف لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الحد وقطع رؤءس هؤلاء الذين حاربوا دين الله سنوات وسنوات؟! بلا شك كان سيُحدث جيبًا من الجيوب داخل مكه، وكان أهل مكه سينتهزون الفرصة تلو الفرصة للانقلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وللانفصال من الخلافة الإسلامية.
لكن العجب العجاب كان في نتيجة ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد ارتدّت جزيرة العرب جميعها، ولم يبق على الإسلام منها إلا المدينة المنورة ومكة المكرمة والطائف، وقرية صغيرة تسمى هجر، فقط ثلاث مدن وقرية واحدة، أي أن مكة التي لم تدخل في الإسلام إلا منذ أقل من ثلاث سنوات فقط قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في تعداد هذه المدن القليلة جدًا التي ثبتت على الإسلام ولم ترتدّ، وبلا شك فهو أثر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم ينسوه، فكان أن استُوعبوا في داخل الدولة الإسلامية، وثبتوا وقت الزيغ.
هكذا لو فعل العباسيون واستوعبوا الأمويين في داخل الدولة العباسية. ولأنهم لم يفعلوا فكان أن اضطر من نجا من الأمويين اضطرارًا إلى الذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.
وواقع الأمر يقول أنه لو كان عبد الرحمن بن معاوية يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يعفى عنه ويعطيه إمارة الأندلس، أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سلّم الأمر إليه لفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه لقتله في الحال هو ومن معه من الأمويين إن كانوا مرشحين للخلافة، وهذا بالطبع ما دفعه لأن يحاول مرة ومرتين وثالثة لأن يبقى على عهده من الجهاد ضد الدولة العباسية، وهو أمر مؤلم جدًا وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون نتيجة العنف الشديد من قبل الدولة العباسية في بدء عهدها، ولا شك أن الدولة العباسية قد غيّرت كثيرًا من نهجها الذي اتبعته أولًا، وتولّى بعد ذلك رجال كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غيّر ما بدأه بالمرة، لكن كانت هناك قسوة شديدة بهدف أن يستتبَّ لهم الأمر في البلاد، فمن يحاول أن يتذاكى على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فستكون العاقبة دائما هي الخسران، وهكذا كان فقْدُ المسلمين لأرواحٍ طاهرةٍ ودماءٍ كثيرةٍ غزيرة وطاقاتٍ متعددةٍ، بل فقدوا الأندلس فلم تعد مددًا للمسلمين طيلة عهدها، فالعنف في غير محله لا يورث إلا عنفًا، وطريق الدماء لا يورث إلا الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلا من سبيل واحد فقط، إنه الطريق المستقيم طريق الله عز وجل [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {الأنعام:153}.
<H1>ذكرنا فيما سبق أنه في خلال الأربع والثلاثين سنة الممتدة من بداية حكم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل وحتى نهايته كان هناك أكثر من خمس وعشرين ثورة في كل أنحاء الأندلس، وذكرنا أيضًا كيف روّض بعضها وقمع غيرها بنجاح الواحدة تلو الأخرى، والتي كان من أهمّها ثورة العباسيين التي قام بها العلاء بن مغيث الحضرمي، وكيف تَمّ القضاء عليها.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يجوز لعَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل أن يقاتل الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟!
وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛ لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد، وقد جاء في صحيح مسلم عن عرفجة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ - أي مجتمع - عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
ومن هنا فقد كان موقف عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل صارمًا مع الثوار؛ وذلك لقمع الانقلابات المتكررة والتي تُضعف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد.
إلا إنه من الإنصاف أن نذكر أنه - رحمه الله - كان دائمًا ما يبدأ بالاستمالة والسلم وعرض المصالحة، ويكره الحرب إلا إذا كان مضطرًا.
وبلا شك فإن ثمن هذه الثورات كان غاليًا جدًا، ففي السنوات الأربع من بداية دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، من سنة 138هـ= 755 م وحتى سنة 142هـ= 759 م سقطت كل مدن المسلمين التي كانت في فرنسا، وذلك بعد أن حكمها الإسلام طيلة سبع وأربعين سنة متصلة، منذ أيام موسى بن نصير - رحمه الله - وحتى زمن سقوطها هذا، وهكذا سنن الله الثوابت، ما إن شُغل المسلمون بأنفسهم إلا وكان التقلّص والهزيمة أمرًا حتميًا...استتبّ الأمر لعَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيًا من أمر الثورات بدأ يفكر فيما بعد ذلك، فكان أن اهتم بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا، فعمل على ما يلي:
أولًا: بدأ بإنشاء جيش قوي
وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:
1) اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية:
أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولّدين، وهم الذين نشأوا - كما ذكرنا - نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس، وكانوا يمثّلون غالبية بلاد الأندلس.
ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمّ إليه كل الفصائل المضرية سواء أكانت من بني أمية أو من غير بني أمية، وضمّ إليه كل فصائل البربر، كما كان يضمّ إليه رءوس القوم ويتألّفهم فيكونون عوامل مؤثّرة في أقوامهم، بل إنه ضم إليه اليمنيين مع علمه بأن أبا الصباح اليحصبي كان قد أضمر له مكيدة، الأمر الذي جعله يصبر عليه حتى تمكن من الأمور تمامًا ثم عزله - كما ذكرنا - بعد إحدى عشرة سنة من تولّيه الحكم في البلاد.
ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة، وهم أطفال نصارى كان قد اشتراهم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل من أوروبا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئة إسلامية عسكرية صحيحة.
وبرغم قدوم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارس غير الرجّالة، مشكّل من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلّت عماد الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.
2) أنشأ - رحمه الله - دُورًا للأسلحة، فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طليطلة ومصانع برديل.
3) نشأ أيضًا أسطولًا بحريًا قويًا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء كان منها ميناء طرطوشة وألمرية وإشبيليّة وبرشلونة وغيرها من الموانئ.
4) كان - رحمه الله - يقسّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الثالث كان يدّخره لنوائب الزمان غير المتوقعة.
ثانيا: أَوْلَى العلمَ والجانبَ الدينيَ اهتمامًا بالغًا:
أعطى عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما، فعمل على الآتي:
- نشْر العلم وتوقير العلماء.
- اهتمّ بالقضاء وبالحسبة.
- اهتمّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قرطبة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميّة.
ثالثا: العناية الكبيرة بالجانب الحضاري (المادي):
ويبرز ذلك في الجوانب التالية:
- اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.
- إنشائه أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس.
- إنشائه الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسسها جده هشام بن عبد الملك - رحمه الله - وقد أتى لها بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، والتي إن كانت تنجح زراعتها فإنها ما تلبث أن تنتشر في كل بلاد الأندلس.
رابعا: حماية حدود دولته من أطماع الأعداء:
بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًا- كما وضحنا سابقا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل بخوض مرحلتين مهمتين:
المرحلة الأولى: كان عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي "ليون" في الشمال الغربي، و"فرنسا" في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشا ثابتة على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وأنشأ مجموعة من الثغور كما يلي: *
- الثغر الأعلى، وهو ثغر "سَرَقُسْطَةَ" في الشمال الشرقي في مواجهة لفرنسا.
- الثغر الأوسط، ويبدأ من مدينة سالم ويمتد حتى طُليْطُلَةَ.
- الثغر الأدنى، وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة "ليون" النصرانية.
المرحلة الثانية: كان - رحمه الله - قد تعلم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمر وبصورة منتظمه كل عام، فقد اشتهرت الصوائف في عهده، حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف، وبصورة منتظمة وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوّاد الجيش، وأيضا كان يُخرّج الجيوش الإسلامية إلى الشمال كل عام بهدف الإرباك الدائم للعدو، وهو ما يسمونه الآن في العلوم العسكريه بالهجوم الإجهاضي المسبق.
<H1> لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرّخون عن عبد الرحمن بن معاوية، وإنا لتعلونا الدهشة ويتملّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنّ خريج الجامعة في العصر الحديث.

ملَك من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيّان الأندلسي، ولنعي ما يقوله عنه، يقول ابن حيان مستعرضًا بعضًا من صفات عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل:

كان عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليّه وعدوّه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد إذا كان حاضرًا، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى. انتهى كلامه - رحمه الله -.

شخصية تُشخِص الأبصار وتبهر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه - رحمه الله -، ومع شدته وحزمه وجهاده وقوته كان - رحمه الله - شاعرًا محسنًا رقيقًا مرهف المشاعر.

ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلا أنه كان يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينه، فلم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم ودون حرّاس، حتى خاطبه المقربون في ذلك وأشاروا عليه ألا يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسطوا معه، ولكن كيف يمتنع عن شعبه وهو المحبوب بينهم والمقرّب إلى قلوبهم؟! ولقد صدق من قال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.

فكان له حقًا أن يأتي إلى هذه البلاد وحيدًا مطاردًا مطلوب الرأس، تجري وراءه قوى الأرض جميعا، فعباسيون في المشرق، وخوارج في المغرب، ومن بعدهم نصارى في الشمال، وثورات في الداخل، ثم يقوم وسط هذه الأجواء بتأسيس هذا البنيان القوي، وهذه الدولة الإسلامية ذات المجد التليد.

ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجة أمام أعين الحاضرين، فقضاها له ثم قال له: إذا ألمّ بك خطب أو حَزَبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك؛ كي نستر عليك، وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا - عز وجهه - بإخلاص الدعاء وصدق النيّة.

إنها لتربية ربّانية لشعبه، فهو يريد - رحمه الله - أن يربط الناس بخالقهم، يريد أن يعلمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولًا سبحانه وتعالى، يريد أن يعلّمهم أنه سبحانه وتعالى يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواصف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحد فيك.

وها هو - رحمه الله - يدخل عليه أحد الجنود ذات يوم كان قد انتصر فيه على النصارى، فتحدّث معه الجندي بأسلوب فيه رفع صوت وإساءة أدب، فما كان منه - رحمه الله - إلا أن أخذ يعلمه خطأه ويقول له: يا هذا، إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه؛ فعليك بالسكينة والوقار؛ فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر فأغضب عليك. فإذا بالجندي وقد وعى أمره يرد عليه ردا لبيبًا ويقول له: أيها الأمير، عسى الله أن يجعل عند كل زلةٍ لي نصرًا لك فتغفر لي زلاتي. وهنا علم عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل أن هذا ليس اعتذار جاهل؛ فأزاح الضغينة من قالمدة الكبيرة التي حكمها القائد عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛لم يؤثر عنه أي خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحسن الخلق، مما يدل على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاق الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلا في مواقف الشدة، وحياة "عبد الرحمن" كلها شدة وحروب وثورات، مما يظهر أخلاقه بوضوح أمام أي باحث في التاريخ، ويحدد ما إذا كانت حسنة أو سيئة...
وكان عبد الرحمن الدَّاخِل خطيبًا مفوها يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان شاعرًا مرهف الحس، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقرطبة جنة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولدت كل نخلة بالأندلس.
قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن معاوية:
يا نخل أنت غريبة مـثـلـي في الغرب نائية عن الأصل
فابكي، وهل تبكي مـكـيسة عجماء، لم تطبع على خيل؟
لو أنها تبكي، إذاً لـبـكـت ماء الفرات ومنبت النـخـل
لكنها ذهلـت وأذهـلـنـي بغضي بني العباس عن أهلي
ومن شعره أيضاً:
أيها الراكب الميمـم أرضـي أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بـأرض وفؤآدي ومالـكـيه بـأرضتمتع عبد الرحمن بن معاوية بفكر عسكري في غاية الدقة والعجب، فحياته كلها تقريبًا، حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحاري والقفار والبحار، ومعاركه، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلّب عليها بلا اسنثناء ليوطد ملكه في بلاد الأندلس دون منازع....
ولولا ذكاؤه العسكري الخارق ما تغلّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل فعلًا من كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته التي طُبعت بطول حياته وعرضها، من هذه الملامح:
مبدأ المباغته والحرص على المبادأة:
فهو يخطط بدقة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يسرع ليباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادة له، والتاريخ يؤكد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرد، هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطور، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعد للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحجة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة، بحيث لم تتمكن القوات المضادة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه، حيث كان للمباغته دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدا المعركة.
ولم يكن حرص صقر قريش على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة وزمانها، وكان في معاركه كلها يجابه قادة على درجة عالية من الكفاءة فكان لا بد من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.
ومن ملامح فكره العسكري أيضًا
الاقتصاد بالقوى والمحافظة على الهدف:
وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعار، وكان لا بد من الموازنة المستمرة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأفضلية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهرأن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في مع كانت حياة القائد العظيم "عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل" وقفًا على الجهاد، وعلى إقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بنيانها وإرساء دعائمها ورد الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها صقر قريش في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أسس البنيان الحضاري...
وفاته
عاش "عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل" تسعة وخمسين سنة، منها تسعة عشر سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وست سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، و34 عامًا في الملك ببلاد الأندلس، وتوفي بقرطبة ودفن بها في جمادى الأولى سنة 172 ه،أكتوبر 788م.

ظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بد من إجراء حساب دقيق لموازين القوى، بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أكدته مجموعة الأعمال القتالية لصقر قريش.
حياة صقر
قدر البين بيننا فافـتـرقـنـا فعسى باجتماعنا الله يقضـي
عبد الرحمن لبه وقرّبه إليه ورفع من شأنه




</H1>
</H1>