معالم القدوة في سيرة الإمام الشافعي
13-01-2017, 03:30 PM
معالم القدوة في سيرة الإمام الشافعي
د.عبدالعزيز بن سعد الدغيثر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أما بعد:


فإن مذهب الشافعي رحمه الله من المذاهب الواسعة الانتشار في شمال مصر والشام وكردستان والدول الشرق آسيوية، وغرب الهند، كما أن له أتباعا في الأحساء وبلاد مكة، وهذا المذهب ينتسب له كثير من علماء الحديث والأصول، وإمامه الإمام المطلبي القرشي محمد بن إدريس الشافعي رحمه، وفي هذه الورقة بيان لأهم معالم القدوة في سيرته التي أهلته للإمامة للمتقين والتجديد للدين.

التعريف به:
اسمه: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان (تابعي) بن شافع(من صغار الصحابة) بن السائب (صحابي فيما قيل) بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف القرشي.
مكان ولادته: غزة.
تاريخ الولادة: 150 هـ

النشأة:
- نشأ يتيما، حيث توفي والده وهو بغزة، فرحلت به أمه (وهي من الأزد) لمكة وعمره سنتان، ونشأ بها، وتعلم الرمي وطلب العربية والشعر وعلوم الشرع على علماء مكة.
- تأهل للفتوى وهو شاب عمره 15 سنة، وقال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي:" أفت يا أبا عبد الله، فقد -والله- آن لك أن تفتي".( مناقب البيهقي: 2 / 243).
- رحل بعد العشرين للمدينة، وقرأ على الإمام:" مالك" الموطأ، وتفقه عليه.
- ثم رحل لليمن في طلب العلم، ثم رحل للعراق، ودرس على كبار طلبة أبي حنيفة وحاورهم.
- كان محمد بن الحسن يصله بالمال، ويتفرس فيه أن يكون فقيها نافعاً للناس، وكتب عنه الشافعي الكثير.( السير 10/14).

المعلم الأول:
تعظيمه للكتاب والسنة:
قال الشافعي:" كل متكلم على الكتاب والسنة، فهو الجد، وما سواه، فهو هذيان".( السير: 10/20).
ويروي الربيع أنه سمع شيخه الشافعي يقول:" إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولوا بها، ودعوا ما قلته".
وقال له رجل: تأخذ بهذا الحديث يا أبا عبد الله؟، فقال:" متى رويت عن رسول الله حديثا صحيحا ولم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب".( مناقب البيهقي: 1 / 472، 473).
وقال الحميدي: روى الشافعي يوما حديثا، فقلت: أتأخذ به؟، فقال:" رأيتني خرجت من كنيسة، أو علي زنار، حتى إذا سمعت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا لا أقول به؟". (حلية الأولياء: 9 / 106).
وقال تلميذه أبو ثور: سمعته يقول:" كل حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني. ويروى أنه، قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي".( السير: 10 /35).
وحصلت قصة فيها حوار علمي بين الشافعي وإسحاق بن راهوية تبين مكانة الشافعي في تعظيم النصوص، فقد روى إبراهيم بن محمد الكوفي قال:" رأيت الشافعي بمكة يفتي الناس، ورأيت أحمد، وإسحاق حاضرين.
فقال الشافعي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وهل ترك لنا عقيل من دار؟) .
فقال إسحاق: حدثنا يزيد، عن الحسن، وأخبرنا أبو نعيم، وعبدة، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: أنهما لم يكونا يريانه، وعطاء، وطاووس، لم يكونا يريانه.
فقال الشافعي: من هذا؟.
قيل: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه.
فقال الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم، ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بعرك أذنيه أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت تقول: عطاء، وطاووس، ومنصور، عن إبراهيم، والحسن، وهل لأحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة". (مناقب البيهقي: 1 / 214).

المعلم الثاني:
حرصه على الابتعاد عن البدع العقدية:
كان الإمام الشافعي رحمه الله حريصا على التخصص في الفقه وأصوله، والابتعاد عن حوار أهل البدع، ونهي محبيه عن علم الكلام، ومن نصائحه لطلابه قوله رحمه الله:" لأن يلقى الله العبد بكل ذنب إلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الأهواء".( آداب الشافعي: 187).
وقوله:" لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه، كما يفرون من الأسد".( حلية الأولياء:9 / 111).
وكان ينصح من دخل في علم الكلام بأن يتركه لما هو أنفع، فقد دخل عليه بشر المريسي فقال لبشر:" أخبرني عما تدعو إليه: أكتاب ناطق، وفرض مفترض، وسنة قائمة، ووجدت عن السلف البحث فيه، والسؤال؟".
فقال بشر: لا، إلا أنه لا يسعنا خلافه.
فقال الشافعي:" أقررت بنفسك على الخطأ، فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار، يواليك الناس، وتترك هذا؟".
قال: لنا نهمة فيه.
فلما خرج بشر، قال الشافعي:" لا يفلح".( مناقب البيهقي: 1 / 204).
قال الشافعي:" مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد".( السير: 10/29).
كان الشافعي ينهى عن الخوض في الكلام. وعن أبي ثور: قلت للشافعي: ضع في الإرجاء كتابا،فقال:" دع هذا"، فكأنه ذم الكلام.( السير:10/30).

المعلم الثالث:
حرصه على صفاء نفوس محاوريه ومناظريه:
كان رحمه الله محاورا نبيلاً، قال عنه يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: " يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا، وإن لم نتفق في مسألة". (السير: 10/16).

المعلم الرابع:
تجرده من هوى النفوس:
يتضح للناظر في سيرته: حرصه على تعليم الناس دون أن ينسب الفضل له، فقد قال تلميذه الربيع، سمعت الشافعي يقول:" وددت أن الناس تعلموا هذا العلم -يعني: كتبه- على أن لا ينسب إلي منه شيء".( الحلية: 9 / 118).
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول:" ما ناظرت أحدا على الغلبة إلا على الحق عندي". وعن الزعفراني عنه:" ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة". (السير: 10/29).

المعلم الخامس:
تقديره للتخصص:
كان الشافعي رحمه الله إماما في اللغة وآدابها، والشعر وأيام العرب وأنسابها، وفروع الفقه وأصوله، وكان يقر لأهل الحديث تخصصهم، فقد ثبت عن تلميذه الربيع: سمعت الشافعي قال لبعض أصحاب الحديث:" أنتم الصيادلة، ونحن الأطباء".( السير: 10/23)
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: قال الشافعي:" أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيا كان، أو بصريا، أو شاميا".( طبقات الحنابلة: 1 / 282).
وروى ابن أبي حاتم عن أبيه قال: أحمد بن حنبل أكبر من الشافعي، تعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث من أحمد بن حنبل، وكان الشافعي فقيها، ولم تكن له معرفة بالحديث، فربما قال لأحمد: هذا الحديث قوي محفوظ؟، فإذا قال أحمد: نعم، جعله أصلا، وبنى عليه.
بل إن علم الرد على المخالفين في العقائد له المختصون به، ولذا فقد ابتعد عن التأليف فيه، فقد ورد عن الربيع أنه قال: قال لي الشافعي:" لو أردت أن أضع على كل مخالف كتابا لفعلت، ولكن ليس الكلام من شأني، ولا أحب أن ينسب إلي منه شيء".( السير: 10/31).

المعلم السادس:
تربيته للطلاب بالحوار:
يتضح من سيرته رحمه الله: أنه مناظر بارع، ومحاور مقنع، وكان ينقل هذه الملكة لطلابه، فقد نقل عن المزني، قال: قلت: إن كان أحد يخرج ما في ضميري، وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي، فصرت إليه، وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه، قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فعلمت أن أحدا لا يعلم علمك، فما الذي عندك؟، فغضب، ثم قال:" أتدري أين أنت؟"، قلت: نعم. قال:" هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون.
أبلغك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بالسؤال عن ذلك؟"، قلت: لا. قال:" هل تكلم فيه الصحابة؟"، قلت: لا. قال:" تدري كم نجما في السماء؟"، قلت: لا. قال:" فكوكب منها: تعرف جنسه، طلوعه، أفوله، مم خلق؟"، قلت: لا. قال:" فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه، تتكلم في علم خالقه؟!".
ثم سألني عن مسألة في الوضوء، فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم أصب في شيء منه.
فقال:" شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه، وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك، فارجع إلى الله، وإلى قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ... إن في خلق السماوات والأرض ... }، فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك"، قال: فتبت".( السير: 10/32).

المعلم السابع:
نهيه عن تقليده:
لم يكن أحد من الأئمة يرضى بأن يقلده تلاميذه، وكلهم يربي طلبته على التفقه من الكتاب والسنة، فقد صح عن الشافعي رحمه الله قال:" كل ما قلته فكان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف قولي مما صح، فهو أولى، ولا تقلدوني".( 9 / 106).
ومن ذلك: أنه يحرص على تخفيف تعصب طلاب مالك رحمه الله لشيخهم جميعا، ولذا فقد كان يجاهر بتخطئة شيخه في البلاد المصرية حتى عظم ذلك على أقرانه من طلاب مالك.
فقد ذكر أبو نعيم في:( حلية الأولياء: 9 / 153) عن أبي الشيخ الحافظ، وغيره من غير وجه: أن الشافعي لما دخل مصر أتاه جلة أصحاب مالك، وأقبلوا عليه، فلما أن رأوه يخالف مالكا، وينقض عليه، جفوه، وتنكروا له، فأنشأ يقول:


أأنثر درا بين سارحة النعم ÷ وأنظم منثورا لراعية الغنم
لعمري لئن ضيعت في شر بلدة
÷ فلست مضيعا بينهم غرر الحكم
فإن فرج
الله اللطيف بلطفه ÷ وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت ودادهم
÷ وإلا فمخزون لدي ومكتتم
ومن منح الجهال علما أضاعه
÷ ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وكاتم علم الدين عمن يريده
÷ يبوء بإثم زاد وآثم إذا كتم

وذكر ابن قتيبة في:( عيون الأخبار: 3 / 114 )عن الربيع، قال: رأيت أشهب بن عبد العزيز ساجدا يقول في سجوده:" اللهم أمت الشافعي، لا يذهب علم مالك"، فبلغ الشافعي، فأنشأ يقول:


تمنى رجال أن أموت وإن أمت ÷ فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
÷ تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم
÷ لئن مت ما الداعي علي بمخلد

المعلم الثامن:
معاهدته لنفسه بكثرة العبادة:
الربيع بن سليمان، قال: كان الشافعي قد جزأ الليل: فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام، وقال الكرابيسي: بت مع الشافعي ليلة، فكان يصلي نحو ثلث الليل، فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا بآية عذاب إلا تعوذ، وكأنما جمع له الرجاء والرهبة جميعا. السير 10/35.

المعلم التاسع:
إحسانه لطلابه ومحبيه:
كان رحمه الله غاية في الكرم والإحسان لتلاميذه ومحبيه، وهذا ما يجعلهم يستمرون في حمل علمه لمن بعده، ومن القصص المروية في ذلك موقفه من الربيع لما تزوج، فقد قال الربيع:" تزوجت، فسألني الشافعي: كم أصدقتها؟، قلت: ثلاثين دينارا، عجلت منها ستة، فأعطاني أربعة وعشرين دينارا.( حلية الأولياء: 9 / 132).
وقال ابن عبد الحكم:" كان الشافعي أسخى الناس بما يجد، وكان يمر بنا، فإن وجدني، وإلا قال: قولوا لمحمد إذا جاء: يأتي المنزل، فإني لا أتغذى حتى يجيء".( حلية الأولياء:9 / 132).

المعلم العاشر:
كتابته لما ينفع الناس ويفيدهم:
لم يكن رحمه الله يكتب الكتب إلا فيما يحتاجه الناس، فقد كتب(الرسالة): لتكون سلاحا بيد أهل الحديث ومعياراً للفقه حتى لا تحصل الفوضى الفقهية التي بدأت بوادرها في العراق بتوسع أهل الرأي في القياس المخالف للنصوص، فقد كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب: أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ، فوضع له كتاب (الرسالة). (تاريخ بغداد: 2 / 64).
وألف الشافعي عدة رسائل وكتباً في الفقه جمعت بعد ذلك في كتاب:( الأم) المطبوع.

المعلم الحادي عشر:
تعدد مواهبه العلمية في تقوية الملكة الفقهية:
من أهم ما يميز الشافعي رحمه الله عن غيره من الأئمة: تنوع مواهبه العلمية، فهو إمام في الشعر والآداب وأيام العرب والأنساب، وحفظ السنة التي كان رواتها في مكة والمدينة، وفهم معاني القرآن عن شيوخه عن شيوخهم إلى طلاب ابن عباس رضي الله عنه، ثم استفاد من كل هذه العلوم للفقه في الدين.
وكان هذا الهدف بارزا له من بداية طلبه لهذه العلوم المتنوعة، فقد قال عن الشافعي رحمه الله:" ما أردت بها -يعني: العربية والأخبار- إلا للاستعانة على الفقه".
وقال المبرد:" كان الشافعي من أشعر الناس، وآدب الناس، وأعرفهم بالقراءات".(مناقب البيهقي: 2 / 48).
ومما يدل على تميزه في علم الأنساب ما حكاه المزني قال:" قدم علينا الشافعي، فأتاه ابن هشام صاحب المغازي، فذاكره أنساب الرجال.
فقال له الشافعي: دع عنك أنساب الرجال، فإنها لا تذهب عنا وعنك، وحدثنا في أنساب النساء، فلما أخذوا فيها بقي ابن هشام".( السير: 10/75).
ووصفه تلميذه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بتبحره في عدة علوم، فقد قال رحمه الله:" الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه".( مناقب البيهقي: 2 / 41 ).


وختاما:
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وفاته العلى: أن يجعلنا ممن يستفيد من سير الصالحين، ويستعين بها في تنشيط همته للاستمرار في طريق العلم: تعلما وتعليما والتزاما ودعوة.


والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.