قضية التوحيد والإيمان هي أساس المنهج الرباني في الإصلاح
19-01-2017, 03:27 PM
قضية التوحيد والإيمان هي أساس المنهج الرباني في الإصلاح
رشيد بن أحمد الإدريسي الحسني



الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



من الخطأ الكبير في إصلاح ما يَنْزِلُ بالناس من حوادث: معالجة ذلك بردود الفعل والارتجال، وبتصرفات لا تستند إلى فقه أمين، ولا علم متين، ولا نهج واضح مبين، والنتيجة: (تناقض الجهود)، و(اضطراب الخطى)، ( وظهور الحيرة ).
نعم، فَجْر تَبدى لكنه:(الكاذب لا الصادق)، وجهود تُبْدل بكساء قشيب لكنها عارية في حقيقتها عن ( منهج الله )، على حد قول ابن الطراوة في وصف أبي علي الفارسي النحوي: " ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم "1.
كل يقول أنا الذي ينجي الديا **** ر بوهمه وشعاره المتعجل
كل يقول أنا الذي فإذا الذي **** ليس الذي يا ويح من لم يعدل

ورضي الله عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود لما قال:" إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، قليل سؤاله، كثير معطوه، العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي من بعدكم زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، كثير سؤاله، قليل معطوه، الهوى فيه قائد للعمل، اعلموا أن حسن الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل "2.
قال الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله -:" هذا الحديث قد روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة.
ثم قال: والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان"3.
قلت: هذا في زمانه – رحمه الله – فكيف بزماننا هذا!!؟.
كثيرة هي الأعمال العامة والخاصة التي يقوم بها بعض الناس بحسن نية وبقصد التغيير والإصلاح، لكن يعلوها التمزق حيث يلحظ البصير ارتماءها بين (ضجيج الشعارات)، و(اضطراب الخطوات)، وأقول هذا تحزنا لا من باب ( هلك الناس )4.. فتأمل ولا تعجل.
والسبب في هذا الواقع المؤلم هو (غياب الميزان)، وحقيقة أمره: (المنهج الرباني) الذي يجب أن تُرد القضايا كلها إليه، إنه ( دين الإسلام ) الصافي دون خلط بين العسل والبصل، فاعلم - يا رعاك الله - أن " الباطل يصغر من حيث يكبر، ويقل من حيث يكثر، والسعاية سلاح من لا سلاح له، والكذب كيد من لا كيد له، فمن جبل على الكدر لا يصفو – أبدا –، ( والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ) "5.
فاتبع النهج القويم، ولا يضرنك أن تُرْمَى بـ (السلبية)، أو (الانهزامية)، أو (عدم فقه الواقع)!!؟ إلى غير ذلك من الخطابات التي لا أساس لها علمي، ولا ميزان شرعي، وإنما هو: ترداد للكلام يُسمع من هنا وهناك وهنالك، فـ " اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن في ديننا "6.
فـالمنهج الرباني النبوي المتمثل في:" الإسلام العظيم بقواعده الكلية وبِحُجَجِه المنضبطة: قد أقام مسلكا تعليميا تربويا متكاملا، أُسُّه: الكتاب، وأَسَاسه: السنة، ورُكْنه الركين: فهم السلف الصالحين، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وعلى ضوء هذه القاعدة: يكون النظر التام الشامل لكل ما يطرأ على حياة الناس من مستجدات ومتغيرات ".
نهجان قد ميز الرحمن بينهما **** نهج الضلال ونهج الحق والرشد
لا يجمع الله نهج المؤمنين على **** نهج الفساد ولا صدقا على فند

لا بد إذن من نهج بين واضح نابع من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة في (النظرية والتطبيق)، وفي (التأصيل والوسائل والأساليب)،" فليس لمسلم كائنا من كان: أن يصل إلى افتتاح الدعوة بما يناهضها، فلا تغيير، ولا تحريف، ولا خلط، ولا تنازل عن شيء من دين الله وشرعه.
فمتى رأيت من ركب موجة من تلك الموجات، فاعلم أنه قد حاد عن منهاج النبوة، بقدر ما أخذ به من مخالفة في أمر كلي أو جزئي، وأن هذا شذوذ عن طريق جماعة المسلمين "7.
إن (المنهج الرباني)، أو (المنهج النبوي) في الإصلاح والتغيير: قائم أساسا على (قضية التوحيد والإيمان)/ علما وعملا ودعوة، فالأسس المتينة (للعقيدة الصحيحة) هي: القاعدة الصلبة التي يجب أن يقوم عليها العمل الإصلاحي مع استصحابها في جميع مراحله وأحواله وما يحتاج إليه: في ( الغايات والوسائل )، في ( فهم الواقع وتصوره )، في ( النهج والتخطيط العام للدعوة )، في ( الإشراف والمراقبة )، في ( المتابعة والتوجيه )، في ( الإصلاح والتغيير )، وفي( الممارسة والتطبيق )، بعيدا عن بنيات الطريق، وبمبعدة عن حشو البدع والتزويق، وأخذا بالتأصيل العلمي العتيق، والتقرير السني الدقيق.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:" إن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاءوا به عن الله، وأنها تورث القلب نفاقا، ولو كان نفاقا خفيفا "8، وعليه " فمن تدبر هذا علم يقينا ما في حشو البدع من السموم المضعفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر "9.

فجهد و إصلاح بلا أسس عقدية صحيحة تُستصحب: كسراب بقيعة!!؟.
ودعوة ونهضة بلا أصول إيمانية سديدة يُعمل بها: كجسد بلا روح!!؟.
ونهج وتخطيط بلا قواعد توحيدية متينة نأخذ بها عند النظر: كشجر بلا ثمر!!؟.
ومما يؤلم النفس، ويدمي القلب: أن ترى بعض من كرَّس حياته وجهده في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد القائم على التفريد والتجريد: قد رَسَبَ عند أول اختبار عملي في ذلك: استرواحا بأمور عارضة (!!؟) بحيث صارت بعض الأصول العقدية في الهامش غير مستصحبة في ميادين الإصلاح والتغيير فشُغلنا (بوعد الله عن مطلوب الله)!، و (بما أُريد بنا عما أُريد منا)!، بدعوى:( تحقيق المصلحة!!؟ ).
أوليس الحفاظ على الأسس العقدية الكلية الأثرية: تنصيصا ودعوة وعملا هو:( المصلحة الكبرى)!!؟، ولذا فالواجب:" أن لا نهدم أصل المصلحة شغفا بمزاياها10، كالذي يبني قصرا، ويهدم مصرا!!؟"11.
والقصد: أن المنهج الرباني في الإصلاح دعامته الأساس:( قضية الإيمان والتوحيد)، وأس ذلك: كلمة الإخلاص ( لا إله إلا الله12 )، " فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية، طائعة سالكة سبل ربها ذللا، غير ناكبة عنها، ولا باغية سواها بدلا، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت، فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر، والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول، مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب: أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإذا كان الأمر بالعكس علم: أن القائم بالقلب إنما هو: الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار "13.
واعلم أن ضابط:( قضية الإيمان والتوحيد )، والعاصم من الزلل فيها: قوله تعالى:[ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق].
أي: فإن آمن الناس بمثل ما آمن به أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - ، فقد أصابوا الحق في الطريق، واهتدوا إلى المحجة وسبيل التوفيق.
وإن تولوا عن العقائد والأصول الإيمانية التي كان عليها الصحابة رضوان الله عليهم، فسوف يقعون في حمأة الافتراق، ويسقطون في أتون الشقاق، فنصير بذلك فريسة للعدو بعدما فتحنا له الباب: ليوجهنا كما يريد دون إشفاق.
ومن صور هذا الأخير ما قاله الشيخ محمد أحمد العدوي - رحمه الله - 14 في كتابه دعوة الرسل إلى الله تعالى15 ص: (و):" لو عرف المصلح السياسي أن تحزيب الأمة، وجعلها شيعا تتقاتل في سبيل حزبيتها، وتنسى بذلك التحزب مصالحها ومرافقها هو: سنة عدو الله فرعون، القدوة السيئة في الاستبداد، والمثل الواضح في الطغيان والظلم، لو عرف الناس ذلك، لعلموا أن هذه الوسيلة هي التي يلجأ إليها الغاصب في تثبيت قدمه، وتمكين سياسته، يخلق في الأمة الأحزاب، ويغذي فيها معنى الحزبية بأساليبه الشيطانية، ثم يطلب منها بعد ذلك أن تتحد- إذا هي طلبت إليه مصلحة من مصالحها – فيعلقها على محال، إذ الحزبية لا يمكن أن تزول ما دامت الأمة الغاصبة باسطة سلطانها، فإنها على حساب الحزبية تعيش، وبواسطتها تصل إلى ما تريد.
ففرعون قد فتح هذا الباب للغاصبين، وسن لهم هذه السنة، بل هو عمودهم الفقري، وربهم الأعلى16، يملي عليهم من وحيه الشيطاني ما يستبيحون به إرهاق الناس وإذلالهم: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نسائهم إنه كان من المفسدين ) "17.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

هوامش:
1. انظر: ابن الطراوة النحوي ص88، للدكتور عياد الثبيتي.
2. أخرجه البخاري رحمه الله في الأدب المفرد 2/258 مع الشرح، والإمام مالك رحمه الله في الموطأ 1/173، وأبو خيثمة رحمه الله في كتاب العلم 109، والطبراني رحمه الله في الكبير 9/112- 113، والحاكم رحمه الله في المستدرك 4/482، وصححه ووافقه عليه الذهبي رحمه الله، و حسنه الألباني رحمه الله كما في صحيح الأدب المفرد ص: 212 مع ضعيف الأدب المفرد، والجملة الأخيرة من الأثر أوردها الحافظ رحمه الله في الفتح 10/510 وقال:" وسنده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي "، وقال الشيخ الألباني رحمه الله معلقا على كلام الحافظ :" قلت: ويؤيد ما قال الحافظ مطابقة ما قبلها للواقع اليوم مما لا يعلم إلا بطريق الوحي " صحيح الأدب المفرد ص: 212 مع ضعيف الأدب المفرد/ الحاشية رقم : 1.
3. الاستذكار 6/345.
4. في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:" إذا قال الرجل هلك الناس فهو أَهْلَكُهُم ( وفي ضبط: أَهْلَكَهُم ) " رواه مسلم في صحيحه،و أبو داود في سننه .
قال الإمام أبو داود رحمه الله عقب الحديث :" قال مالك: إذا قال ذلك تحزنا لما يرى في الناس - يعنى في أمر دينهم - فلا أرى به بأسا، وإذا قال ذلك عجبا بنفسه وتصاغرا للناس، فهو المكروه الذي نُهِي عنه".
5. خلاصة الأثر 3/284 للمحبي.
6. رواه البخاري ومسلم عليهما رحمة الله من قول ابن أبي مليكة رحمه الله.
7. حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية ص: 159 للشيخ بكر بن عبد الله رحمه الله.
8. اقتضاء الصراط المستقيم 2/116.
9. نفسه 2/116.
10. وهذه هذه وما يعقلها إلا العالمون..
11. غمز عيون البصائر 4/111 لابن نجيم شهاب الدين الحموي رحمه الله.
12. قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:".. زاد بعض الناس فقال التوحيد أربعة أقسام: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الحاكمية، وهذه الزيادة تعتبر قصورا، فانظر كيف زاد ولكنه نقص، كيف زاد ونقص؟.
نقول: الحاكمية باعتبار الحكم من الخالق من قسم توحيد الربوبية، وباعتبار التزامها من المخلوق من توحيد الألوهية، إذن ما خرجت عن الأقسام الثلاثة فلماذا ننص عليها ؟! ..".( فتاوى الحرم المكي 1418هـ / شريط مسموع برقم: 9).
13. إعلام الموقعين للإمام ابن القيم رحمه الله 1/172.
14. كان رحمه الله من علماء الأزهر.
15. قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله عن هذا الكتاب في حكم الانتماء ص:130- الحاشية عند نقل كلام العدوي رحمه الله أعلاه من طبعة أخرى غير الطبعة التي نقلت منها :" وهذا الكتاب عظيم الفائدة، رحم الله مؤلفه رحمة واسعة ".
16. قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله معلقا :" لو قال: ومربوبهم الأعلى، لكان أولى " حكم الانتماء ص: 131.
17. انظر فلسفة السياسات المعاصرة لأبي العباس الشحري/ القاعدة: 26.