يحيى بن أكثم مناقبه ومواقفه في القصاء
26-11-2019, 12:56 PM


قاضي القضاة وحكيم الفقهاء يحيى بن أكثم (159 - 242هـ = 775 - 857م)، كان قاضيًا من القضاة المعدودين في عصره، رفيع القدر، عظيم الشأن، اشتهر بين الناس بعلمه وفضله، ورياسته وسياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء وأصحاب السلطان، وقد علا نجمه زمن المأمون العباسي خاصة، حتى قيل: «غلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعًا».

نسبه ومولده

أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن التميمي الأسيدي المروزي، نسبة إلى قبيلة تميم التي ينتمي إليها، وإلى مدينة مرو عاصمة خراسان التي وُلد فيها. وهو أحد أحفاد أكثم بن صيفي حكيم العرب في الجاهلية. ولد في مرو في خلافة المهدي العباسي سنة 159هـ = 775م.

شيوخه وتلامذته

تلقى العلوم الفقهية والحديث في شبابه عن أشهر علماء القرن الثاني الهجري، فسمع من عبد الله بن المبارك وسـفيان ابن عيينة ووكيع بن الجراح وأبي بكر بن عياش، والفضل بن موسى المروزي وغيرهم، وله رحلة في طلب الحديث ببلاد عدة، منها مكة وبغداد. وقد قيل: إنه سمع من ابن المبارك صغيرًا، فصنع أبوه طعامًا، ودعا الناس، وقال: اشهدوا أن ابني سمع من عبد الله.

أصبح يحيى بن أكثم عالمًا بالفقه، بصيرًا بالأحكام، حتى اشتهر أمره بين الناس وطلبة العلم، فأخذ عنه جمع غفير من مشاهير علماء الأمة، فمن أبرز تلامذته الذين رووا عنه الإمام الترمذي صاحب السنن، وعلي بن المديني إمام المحدِّثين في عصره، ومحمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح، وأبو حاتم الرازي المحدِّث المفسِّر، وإبراهيم بن محمد بن متويه، وأبو العباس السراج، وعبد الله بن محمود المروزي، وغيرهم. وقيل كان حنفيًّا، وقيل شافعيًّا، وقد ذكره الدارقطني في أصحاب الشافعي رضي الله عنه.

اتصاله بالخليفة المأمون

وكان الخليفة المأمون العباسي قد برع في مختلف العلوم والفنون، وكان مجلسه يغصُّ بأهل العلم والفضل، فلما سمع بيحيى بن أكثم، وعرف ما هو عليه من العلم والعقل؛ استدعاه إليه في سنة 202هـ، وامتحنه في بعض المسائل الفقهية، فأخذ بمجامع قلبه، وأمر بألاَّ يُحجب عنه ليلًا ولا نهارًا، فكان أن ولاَّه القضاء في البصرة سنة 202هـ، ثم قلَّده منصب قاضي القضاة في بغداد وجعل في يده تدبير أهل مملكته، فأصبح الوزراء ورجال الدولة آنئذ لا يبرمون شيئًا من أحكامهم إلاّ بعد مطالعة يحيى بن أكثم واستشارته.

وقد توثقت العلاقة بين المأمون وبينه، فكانا يخرجان معًا إلى النزهات، ويزوره يحيى في قصره ويبيت عنده، ويروي أخباره، ويفضي إليه المأمون بأسراره. ولا يُعرف أحد غلب على سلطان الخليفة المأمون وصار من أخلص المقربين إليه إلا يحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن أبي دُؤاد، مع براعة المأمون في العلم.

ولما توجه المأمون إلى مصر في سنة 215هـ صَحِبه القاضي يحيى بن أكثم، فولاه قضاء مصر مدة ثلاثة أيام فقط، ثم خرج مع المأمون وقفلا راجعين إلى بغداد. كما أنه صحب المأمون في زيارته لدمشق.

مناقبه

بيد أن يحيى بن أكثم -مع ما تبوأه من المكانة العلمية ومع ما ينبغي للقاضي الفقيه أن يتصف به من الرزانة والوقار- كان عـذب اللسان، حلو الحديث، حسُن العِشرة، لا يدع الهزل في مجالسه، ولا الدعابة في مسامراته، فقد سئل أحد البلغاء عن يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دُؤاد: أيُّهما أنبلُ؟ فقال: "كان أحمد يَجِدُّ مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوِّه".

وقد عرَّضه هذا المزاح لنقد الحسَّاد وتجريحهم إياه، حتى هجاه بعض الشعراء، بيد أن الإمام أحمد بن حنبل كان يدافع عنه ويُجلُّه وينكر ما ينسب إليه، ويقول: "سبحان الله! من يقول هذا؟ ما عرفتُ في يحيى بن أكثم بدعة قط".

كما تعرض يحيى بن أكثم للرمي بالشناعات والأمور الباطلة والبدع الغليظة وهو منها براء، فلقد نسبوه للاعتزال بسبب منزلته عند المأمون على الرغم من أن يحيى كان من أئمة السنة وقال: "القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه". ورموه بسرقة الحديث ووضعه، وكيف ذلك وقد روى عنه الترمذي والبخاري، وقال عنه أحمد بن حنبل: "ما عرفناه ببدعة"، وأنكر بشدة على من يقول ذلك. ولو صح ذلك عنه ما صار في رتبة قاضي القضاة وأحد أئمة العلم.

وقال طلحة بن محمد بن جعفر: يحي بن أكثم أحد أعلام الدنيا ومن قد اشتهر أمره وعرف خبره، ولم يستتر عن الكبير والصغير من الناس فضله وعلمه ورياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء والملوك، واسع العلم بالفقه كثير الأدب حسن العارضة قائم بكل معضلة، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعًا. وقال الخطيب البغدادي: وكان يحيى سليمًا من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة.

وكانت بينه وبين الإمام أحمد مواقف، قال يحيى بن أكثم: ذاكرت أحمد بن حنبل يومًا بعض إخواننا وتغيره علينا فأنشا أبو عبد الله يقول:

وليس خليلي بالملول ولا الذي *** إذا غبت عنه باعني بخليل
ولكن خليلي من يدوم وصاله *** ويحفظ سري عند كل دخيل

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ذُكر يحيى بن أكثم عند أبي فقال: ما عرفت فيه بدعة. فبلغت يحيى. فقال: صدق أبو عبد الله ما عرفني ببدعة قط.

وكانت له رواية للحديث، أخرج أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه بسنده عن يحيى بن أكثم نا جرير عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت".

قال ابن خلكان: وكان يحيى من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور، رأيت في بعض المجاميع أن أحمد بن أبي خالد الأحول وزير المأمون وقف بين يدي المأمون وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات، فوقف، فقال له المأمون اصعد، فصعد وجلس على طرف السرير معه، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين إن القاضي يحيى صديقي، وممن أثق به في جميع أموري، وقد تغير عما عهدته منه، فقال المأمون: يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذه الوحشة بينكما؟! فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين والله إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة خشي أن أتغير له يومًا فأقدح فيه عندك، فأحب أن يقول لك هذا ليأمن مني، وإنه والله لو بلغ نهاية ماءتي ما ذكرته بسوء عندك أبدًا، فقال المأمون: أكذلك هو يا أحمد قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أستعين بالله عليكما، فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فطنة منكما.

ومع فقهه فقد كان رحمه الله مجاهدًا، وله غزوات وغارات، منها أن المأمون وجّهه سنة 216هـ إلى بعض جهات الروم، فعاد ظافرًا.

موقفه في تحريم المتعة

وقد استطاع بذكائه وقوة حجته رحمه الله أن يحمل المأمون على تحريم زواج المتعة بعد أن كان مقتنعًا به. حينما أمر المأمون يومًا بإباحة نكاح المتعة، دخل عليه القاضي يحيى بن أكثم مهمومًا مغتمًا، فقال له المأمون: مالي أراك متغيرًا؟! فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام. قال: وما حدث فيه؟! قال: النداء بتحليل الزنا. قال: الزنا. قال: نعم المتعة زنى. قال: ومن أين قلت هذا؟! قال: من كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]" إلى قوله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7]. ثم قال: يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟! قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عني الله عز وجل ترث وتورث ويلحق بها الولد ولها شرائطها؟! قال: لا. قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد عن علي بن أبي طالب قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها. فالتفت المأمون إلى الحضور، فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟! قالوا: نعم يا أمير المؤمنين رواه جماعة منهم مالك. فقال المأمون: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة. فنادوا بها.

سيرته في القضاء

كان يحيى بن أكثم مجتهدًا في مجال الفقه والفتوى والقضاء والدعوة الإسلامية، ونهل من منابع العلم الصافي، وكان ذا عقل رشيد ورأي سديد وبصيرة نافذة وحكمة فريدة وسخر. كل ذلك في خدمة الإسلام ونفع المسلمين حتى أصبح إحدى العلامات البارزة في القضاء الإسلامي.

كان يحيى بن أكثم صارمًا في القضاء لا يطعن أحد عليه فيه. وكان يقوم بنفسه باختبار المرشحين لمنصب القضاء، ولا يُقرُّ لهم إلاّ بعد تحققه من صلاحهم وحسن تأهلهم لهذا المنصب الجليل. وقد قيل إنه ولي قضاء البصرة وله عشرون سنة، فاستصغروه، وقيل: كم سن القاضي؟ قال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد؛ الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة، وأكبر من معاذ حين وجه به رسول الله قاضيا على اليمن، وأكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر قاضيًا على البصرة. فجعل جوابه احتجاجًا.

وقال له رجل يومًا: أصلح الله القاضي، كم آكل؟! قال: فوق الجوع ودون الشبع. قال: فكم أضحك؟! قال: حتى يسفر وجهك ولا يعلو صوتك. قال: فكم أبكي؟! قال: لا تمل البكاء من خشية الله. قال: فكم أخفي من عملي؟! قال: ما استطعت. قال: فكم أظهر منه؟! قال: ما يقتدي بك البر الخير ويؤمن عليك قول الناس.

وكلفه يومًا المأمون بامتحان من يريد القضاء، فدخل عليه شاب أراده للقضاء، فامتحنه، وقال له يحيى: ما تقول في رجلين زوَّج كل واحد منهما الآخر أمَّه، فولد لكل واحد من امرأته ولد، ما قرابة ما بين الوالدين؟ فلم يعرفها، فقال له يحيى: كل واحد من الولدين عمِّ الآخر لأمه.

كُتبه

يذكر ابن خَلِّكان أن الكُتب التي ألَّفها القاضي يحيى بن أكثم كانت أجلَّ الكتب في الفقه، فتركها الناس لطولها. ولـه كُتب في "الأصول"، وكتاب سماه "التنبيه"، ولكن هذه الكتب طواها الزمان ولم يُكشف عنها. وقد قال الإمام الحاكم: من نظر في (التنبيه) له، عرف تقدمه في العلوم.

موقفه من قضية خلق القرآن

وكان جريئًا ثابت الرأي في قضية "خَلْق القرآن" التي نادى بها المأمون وحمل الناس عليها، وأوذي من جَرَّائها لفيف من العلماء، فوقف يحيى يعارض المأمون ويتصدى لـه، ويقول: "القرآن كلام الله، فمن قال إنه مخلوق يُستتاب، فإن تاب وإلا ضُرِبت عنقه". ولعل هذا الخلاف مما أثار نقمة المأمون وسخطه عليه في آخر حياته، فأبعده عنه، وأوصى أخاه المعتصم بالله بألاَّ يُقَرِّبه ولا يستوزره، متَّهمًا إياه بخبث السريرة وسوء الطوية.

فلما تولى المعتصم الخلافة بعد وفاة أخيه المأمون سنة 218هـ سار سيرة أخيه في تبني القول بخلق القرآن، وأخذ يمتحن الناس به، وهو يعلم برأي يحيى بن أكثم ومجاهرته برفضه، فعزلـه عن القضاء، فلزم يحيى بيته وانقطع عن الناس، وامتدت عزلته إلى آخر أيام الواثق بالله. حتى إذا آل الأمر إلى المتوكل على الله سنة 232هـ ردّه إلى عمله في القضاء بتزكية من الإمام أحمد بن حنبل، بيد أن المتوكل ما لبث أن عزله سنة 240هـ، واستصفى أمواله، فرحل إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ومعه أخته، وعزم على المجاورة هناك.

وفاته

بقى يحيى بن أكثم مجاورًا بمكة حتى تناهى إليه أن المتوكل رضي عنه وصفا قلبه عليه، فانقلب راجعًا إلى العراق، فما كاد يصل إلى "الرَّبَذة" وهي من قرى المدينة المنورة حتى مرض وأدركته المنية فيها، يوم الجمعة لخمس عشرة خلت من ذي الحجة سنة 242هـ = 857م، وكان آنئذٍ قد بلغ من العمر ثلاثًا وثمانين سنة.

________________

المصادر والمراجع:

- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد وذيوله، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1417هـ.
- ابن عساكر: تاريخدمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ / 1995م.
- ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس (بيروت 1968م.
- بن أبي يعلى الفراء: طبقات الحنابلة، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار المعرفة – بيروت، د.ت.
- الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر، مايو، 2002م.
- محمد كمال: يحيى بن أكثم، الموسوعة العربية العالمية، المجلد الثاني والعشرون، ص474.
قصة الإسلام