مكان إقامة المسلمين بالحبشة
09-03-2017, 09:46 AM




يبدو أن المسلمين أكملوا حياتهم في المكان الجديد الذي وضعهم فيه النجاشي رحمه الله عند حدوث الثورة، وأتوقع أن يكون هذا المكان هو المدينة الساحلية التي نزلوا فيها أولًا؛ وذلك أن تجهيز النجاشي رحمه الله للسفن لا يمكن أن يكون في النيل لكون السفن في هذه الحال ستأخذهم إلى أماكن داخلية غير آمنة، فتحتَّم أن تكون سفنًا في البحر الأحمر، وتحديدًا عند باب المندب، وهي المنطقة القريبة من اليمن، حيث يمكن للمسلمين أن يعبروا إلى جزيرة العرب بالسفن بسهولة، وهذه المدينة الساحلية يمكن أن تكون موجودة في دولة إريتريا أو جيبوتي الآن؛ حيث إن مملكة الحبشة في ذلك الوقت كانت تشمل كل هذا الساحل الشرقي من إفريقيا، ولعلها كانت تصل في الشمال إلى أجزاء كبيرة من السودان.

ويُؤَكِّد احتمال معيشة المسلمين في هذه المدينة الساحلية أمران:

أما الأول فهو أبيات شعرية لعثمان بن مظعون رضي الله عنه، أحد المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يُعاتب فيها أمية بن خلف كبير قومه على إيذائه له، واضطراره إلى الخروج من مكة إلى الحبشة، وفي هذه الأبيات إشارات إلى أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه والمهاجرين كانوا يسكنون في مدينة ساحلية على البحر، وقد نقل هذه الأبيات ابن إسحاق في سيرته..

قال عثمان بن مظعون رضي الله عنه:

أَتَيْمَ بْنَ عَمْرٍو لِلَّذِي جَاءَ بِغْضَةً[1] *** وَمِـــــنْ دُونِهِ الشَّرْمَانِ وَالْبَرْكُ أَكْتَعُ[2]

أَأَخْرَجْتنِي مِــــــــنْ بَطْنِ مَكَّةَ آمِنًا *** وَأَسْكَنْتنِي فِي صَرْحِ بَيْضَاءَ تُقْذَعُ[3][4]

في هذه الأبيات يتعجَّب عثمان بن مظعون رضي الله عنه من تيم بن عمرو، وهو جمح أصل قبيلة عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ويقصد به أمية بن خلف كبير جمح الذي أخرجه من مكة ليسكن في هذه المدينة التي يصفها في شعره، وكان من صفات هذه المدينة قول عثمان: «وَمِنْ دُونِهِ الشَّرْمَان»، والشرمان تثنية لكلمة «شرم» وهي لجَّة البحر، أو الشقِّ في البحر بمعنى الخليج[5]، أو التقاء الماء العذب بالمالح بمعنى أن هناك مصبًّا لأحد الأنهار هنا في ساحل البحر[6]، وفي كل الأحوال فهو يتحدَّث عن مكان على البحر، وكذلك في قوله: «صَرْحِ بَيْضَاءَ»، فالصرح هو القصر أو القلعة والبيضاء اسم مكان؛ ولكن روى هذا البيت الزبير -كما نقل السهيلي[7]- بتبديل كلمة «بيضاء» وجعلها «بيطاء»، والبيطاء هي السفينة، فكأنه يتحدَّث عن قلعة تسمى السفينة، ولا يخفى أنها غالبًا موجودة على البحر.

أما كلمة: «وَالْبَرْكُ[8] أَكْتَعُ». فقالوا: إن البرك هو اسم مكان، وأحسب أن مقصود عثمان بن مظعون رضي الله عنه هو: «برك الغماد»، وهو موضع في الجزيرة العربية تجاه اليمن[9]، ويبدو أن المدينة الساحلية الحبشية التي كان يسكنها المهاجرون تقع في مواجهة نسبية لمنطقة برك الغماد العربية[10].

فهذه إشارات تكفي للتدليل على أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه يقصد مدينة ساحلية.

أما الأمر الثاني الذي يُؤَكِّد هذا الأمر فهو قصة هجرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه هو وأصحابه من اليمن، فقد رواها أبو موسى نفسه، وفيها من الاستدلالات ما يُؤَكِّد أن المسلمين كانوا يعيشون على البحر في هذه المرحلة.

يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِاليَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ، أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ -إِمَّا قَالَ: فِي بِضْعٍ، وَإِمَّا قَالَ: فِي ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي-، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإِقَامَةِ، فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا»[11].

في هذه الرواية نجد أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه خرج وأصحابه في سفينة مهاجرًا إلى المدينة؛ ولكن هاج الريح بالسفينة فألقتهم على ساحل الحبشة، «فوافق» جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هناك؛ أي قابله قدرًا دون ترتيب، فأخبره جعفر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بالمقام في الحبشة، فأقام أبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم مع جعفر رضي الله عنه.

ومن الواضح في هذه الرواية أنه لو كان جعفر وأصحابه رضي الله عنهم يسكنون في وسط الحبشة لما قابلهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قطُّ؛ لأنه كان لزامًا على أبي موسى الأشعري أن يتوغَّل في داخل أرض الحبشة مسافات طويلة حتى يصل إلى جعفر رضي الله عنه، وهذا غير معقول؛ لأن الحبشة ليست بُغيته، إنما ألقته الريح عليها دون قصد، والمنطقي أن ينتظر هدوء الريح ثم يُبحر من جديد شمالًا في اتجاه المدينة؛ وعليه فإن جعفرًا رضي الله عنه كان يسكن في أقرب نقاط الحبشة من اليمن؛ أي عند باب المندب تقريبًا؛ لأن الرياح لن تأخذ سفينة أبي موسى الأشعري من الشرق إلى الغرب في كامل عرض البحر الأحمر في إحدى أماكنه الواسعة؛ بل لا بُدَّ أن هذا حدث في منطقة ضيقة قريبة من اليمن، وهي باب المندب.

وإنما سعينا لهذا التحليل لعدة أغراض؛ منها التحقيق التاريخي للحدث، الذي قد ينبني عليه نتائج من الناحية الأثرية أو الجغرافية، ومنها تفسير رواية هجرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، التي اختلف حولها العلماء في تحديد وقتها، وكيفية مقابلته لجعفر رضي الله عنه، ومنها توضيح أخْذ المسلمين بأسباب الأمان وحرص النجاشي رحمه الله على ذلك، ولهذا سكنوا في هذه المنطقة البحرية، وبهذا يمكن معرفة كيف كان يُفَكِّر المسلمون، وكيف كانوا يتعاملون مع الأحداث.

وعمومًا بعد هذين الموقفين الصعبين في قصة النجاشي رحمه الله مع شعبه هدأت الأمور، ولم يتعرَّض المسلمون إلى مضايقات كبيرة، حتى رجعوا مرَّة ثانية إلى بلادهم..

والسؤال: متى رجع المسلمون إلى بلادهم؟

وهذا هو موضوع المقالة القادمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ

[1] البِغْضَة: البغضاء وهي شدَّة الكره. الزبيدي: تاج العروس 18/247.

[2] أكتع يجيء في التوكيد إتباعًا، فيقال: جاء الجيش أجمع أكتع. المعجم الوسيط 2/775.

[3] قال السهيلي: وَقَوْلُهُ: تُقْذَعُ؛ أَيْ تُكْرَهُ، كَأَنَّهُ مِنْ أَقَذَعْتُ الشَّيْءَ إذَا صَادَفَتْهُ قَذِعًا، وَيُقَالُ أَيْضًا: قَذَعْتُ الرَّجُلَ إذَا رَمَيْته بِالْفُحْشِ؛ يُرِيدُ أَنَّ أَرْضَ الْحَبَشَةِ مَقْذُوعَةٌ، وَأَحْسِبُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَصْحِيفًا، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ الزُّبَيْرِ وَرِوَايَتِهِ وَأَنَّهُ بِيَطَاءَ بِالطَّاءِ وَتُقْدَعُ بِالدَّالِ. وَتُقْدَعُ بِالدَّالِ؛ أَيْ تُدْفَعُ. انظر: السهيلي: الروض الأنف 3/141.

[4] ابن هشام: السيرة النبوية 1/332.

[5] انظر: ابن منظور: لسان العرب، 12/321، والشَّرْمُ: الْبَحْرُ، وَقَالَ: الشَّرْمَان بِالتَّثْنِيَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْبَحْرَ الْمِلْحَ وَالْبَحْرَ الْعَذْبَ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن: 19] وَالشَّرْمُ مِنْ شَرَمْتَ الشَّيْءَ إذَا خَرَقْته، وَكَذَلِكَ الْبَحْرُ مِنْ بَحَرْتَ الْأَرْضَ إذَا خَرَقْتهَا، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْبَحِيرَةُ لِخَرْقِ أُذُنِهَا. انظر: السهيلي: الروض الأنف 3/141.

[6] نهر بركة (خور بركة) هو النهر الوحيد الذي يصبُّ في البحر الأحمر، وهو نهر موسمي ينبع من مرتفعات إريتريا الغربية، وترقد مدينة طوكر (السودانية) بالقرب من دلتا هذا النهر، انظر: عمر خليل علي موسى: الجزر والمراسي البحرية السودانية: هذا الكم المهمل من السيادة، صحيفة سودانايل الإلكترونية، بتاريخ 15 سبتمبر 2010: www.sudanile.com، ونهر بركة طوله 630كم ينبع من إريتريا من الجزء الغربي من الهضبة وينتهي في الساحل الشمالي للسودان، وفي مواسم الأمطار الغزيرة يصبُّ في البحر الأحمر. انظر: "إريتريا" موقع ويكيبيديا: http://ar.wikipedia.org.

[7] السهيلي: الروض الأنف 3/141.

[8] الْبَرْكُ: ما اطْمَأَنَّ من الأرض واتسع ولم يكن مُنْتَصِبًا كالجبال. انظر: السهيلي: الروض الأنف 3/141.

[9] قال ياقوت الحموي: بِرْكُ الغِمَادِ: بكسر الغين المعجمة، وقال ابن دريد: بالضم، والكسر أشهر، وهو موضع وراء مكة بخمس ليالٍ مما يلي البحر، وقيل: بلد باليمن دُفن عنده عبد الله بن جدعان التيمي القرشي... وقيل: هو موضع في أقاصي أرض هجر. انظر: معجم البلدان 1/399، 400، وقال البلادي: الْبَرْكُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ كَافٌ... عُثْمَانُ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي بِلَادِ الْأَحْبَاشِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَعْنِي «الْبِرْكَ» بِكَسْرِ الْبَاءِ، فَهُوَ مَوْضِعٌ قَدِيمٌ مَعْلُومٌ بَيْنَ حَلْيٍ وَالْقُنْفُذَةِ عَلَى السَّاحِلِ الشَّرْقِيِّ لِلْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَكَانَ يُسَمَّى «بِرْكَ الْغِمَادِ»... وَهُوَ الْيَوْمَ مَعْرُوفٌ بِهَذَا الِاسْمِ بَلْدَةُ مَرْفَأٍ عَلَى السَّاحِلِ، جَنُوبَ مَكَّةَ عَلَى قَرَابَةِ (600)كم، وَلَهَا وَادٍ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَالْبِرْكُ: نَبَاتٌ ذَكِيُّ الرَّائِحَةِ قَدْ يُوضَعُ مَعَ الشَّايِ كَالنَّعْنَاعِ. انظر: البلادي: معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ص42.

[10] وهذا يدعم ترجيح المكان بأنه مدينة طوكر السودانية لأنها تقابل موضع برك الغمام على الخريطة.

[11] البخاري: كتاب الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، (2967)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وأهل سفينتهم رضي الله عنهم، (2502).

د.راغب السرجاني